ا


الضائع من الموارد الخلقية
د. علي الوردي


ان هذا الموضوع الذي أحاول البحث فيه اليوم يختلف في طبيعته عن المواضيع الاخرى التي دعتكم هيئة الدراسات العربية الى الاستماع اليها .ان موضوعنا يتصل بالاخلاق .والاخلاق كما تعلمون من الامور النسبية التي يختلف الناس في تقديرها وهي ليست اذن كالموارد الصحية او التقنية او الاقتصادية من حيث اتفاق الناس في الغالب على ما يستحسن منها وما يستقبح .
فلقد اتفق الناس مثلا على ان الامراض بشتى انواعها شر يصيب الانسان وان السلامة منها خير يسعى الانسان نحوه ويحاول الحصول عليه بكل جهده ولكنهم لم ينظروا في الاخلاق بمثل هذه النظرة الثابتة قد يصح القول بأن كل ثقافة بشرية تتخذ لنفسها نظاما في الاخلاق خاصا بها وهي تنظر الى اخلاق الاخرين بشيء من الريبة والاحتقار .
ولهذا وجب علينا قبل البحث في الضائع من الاخلاق العربية ان نعرف ما هو الاساس الذي تبنى عليه البحث إنا بعبارة أخرى يجب ان نعرف ما هي الاخلاق قبل ان نعرف ما هو الضائع منها .
وفي سبيل اتخاذ ركيزة استند عليها في طرق هذا الموضوع سأحاول المقارنة بين اخلاق البداوة والحضارة . ولي سبب يدعوني الى ذلك حيث وجدت ان المجتمع العربي قد اختص من بين كثير من المجتمعات الاخرى بكونه شديد الصلة بالبداوة من ناحية وكونه موطن أعرق الحضارات في التاريخ من الناحية الاخرى .
ويؤسفني في هذا الصدد ان ارى بعض الباحثين العرب لايهتمون بهذه الناحية من نواحي مجتمعهم اهتماما كافيا فقد وجدتهم يدرسون مجتمعهم على نمط ما اعتاد الغربيون ان يدرسوا مجتمعاتهم به مع العلمان المجتمع العربي يختلف عن المجتمعات الغربية في تراثه الثقافي والحضاري . وهو إذنفي حاجة الى منهج للدراسة خاص به .
يجب ان لاننسى قبل كل شيء ان البلاد العربية تقع في أعظم منطقة صحراوية في العالم .سرحوا النظر فيها من مراكش غربا حتى العراقشرقا تجدوا البادية شاملة لها متغلغلة فيها الى درجة تلفت النظر .
وقد امتلا تاريخ هذه البلاد بالموجات البشرية التي كانت ترمي البداوة بها الى السهول الخصيبة منها جيلا بعد جيل.
ليس من الجائز لنا إذن ان نهمل أثر هذه الصحراء في تكوين المجتمع العربي إننا لا نلوم الغربيين إذا اهملوا أثر القيم البدوية في مجتمعاتهمذلك ان بلادهم خالية من الصحراء تقريبا وليس فيها تراث بدوي يتغلغل في أعماق النفوسمنها أما نحن العرب فالقيم البدوية تكاد تؤلف جزءا لايستهان به من نظامنا الاجتماعي .وفي رأيي إننا لانستطيع أن نفهم الاخلاق العربية في وضعها الراهن قبل ان ندرس اخلاق اجدادنا البدو وكيف كانوا ينظرون في شؤون الحياة .

شخصيةالمجتمع البدوي:

دعونا الان ندرس المجتمع البدوي وهنا اقول بان الابحاث الاجتماعية الحديثة ترى بأن أي مجتمع من المجتمعات البشرية هو كالفرد يملك شخصية خاصة به وهذه الشخصية المجتمعية تعرف في الاصطلاح العلمي باسم (culture) .
واذا درسنا البداوة في هذا الضوء خرجنا من ذلك بنتيجة قد تختلف عن النتائج التي توصل اليها السواح او المستشرقون الذين درسوا البداوة في عصرنا الحاضر. ومشكلة هؤلاء الدارسين انهم كانوا يصفون الصفات التي اكتشفوها في المجتمع البدوي جنبا الى جنب من غير ان يتحروا عن العامل المشترك الذي يختفي وراءها. أنهم بعبارة اخرى كانوا كمن يدرس احد الافراد فيذكر صفاته المختلفة دون ان يذكر طابع الشخصية الذي يؤلف من تلك الصفات نظاما حركيا متماسكا.
تقول الأستاذة روث بندكت في كتابها المعروف (patterns of culure) ان الصفات في اي مجتمع هي كالعناصر التي يتألف منها المركب الكيماوي إذ هي تتفاعل وتترابط فيما بينها بحيث يظهر من جراء ذلك شيء جديد يختلف في صفاته عن صفات العناصر المكونة له. وهذا هو ما اطلقنا عليه اسم الشخصية المجتمعيةاو ال(culure) .
وهنا نسأل : ما هو الاساس الذي تقوم عليه شخصية المجتمع البدوي؟للجواب على ذلك ينبغي أن نقارن بين الشخصية البدوية والشخصية المناقضة لها اي الشخصية الحضرية ومن الممكن القول في هذه المناسبة ان الشخصية الحضرية تقوم على (الانتاج) بينما تقوم الشخصية البدوية على (الاستحواذ) وشتان بين أخلاق الانتاج واخلاق الاستحواذ كما تعلمون.
نحن نعرف بوجه عام ان الفرد الحضري العريق في حضارته يصعب عليه ان يعيش من غير مهنة او نوع من الانتاج يحاول الحذق فيه. وقد يكون الانتاج ماديا او يكون فكريا ،انما هو على كل حال براعة تنال بالجهد والمران في معظم الاحيان وكلما حسنت براعة الفرد الحضري في مهنة التي اختص بها راج سوقه وارتفع مستوى معاشه بالنسبة الى أقرانه الذين يعيشون في مثل ظروفه .
أما البدوي فله شأن اخر .ان يعيش في صحراء لاتعرف من شؤون الانتاج الا قليلا وليس فيها سوى العشب ينبتهنا وهناك بأمر الله .قال القران يخاطب سكان الصحراء {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْوَمَا تُوعَدُونَ }الذاريات22 وهو يشير بذلك الى المطر الذي ينزل من السماء حيث ينبت به العشب الاخر وتكثر الغدران وتمتلىء الابار وعند هذا ينعم البدو بالشبع والري دون ان يحسبوا لغدهم حسابا.
ومشكلة البدو الكبرى انهم لايستطيعون ان يقتسموا مواطن العشب والماء فيما بينهم او يسجلوا حقوقهم فيها على صكوك كما يفعل المتحضرون في أموالهم .فمواطن العشب والماء قليلة بالنسبة الى عددهم المتنامي وهم مضطرون إذن ان يتنافسوا ويتنازعوا عليها بحد السيف وليس البادية مكان للضعيف الذييدعوا الى مبادىء العدالة والمساواةيقول الشاعر البدوي :
ونشرب ان وردناالماء صفوا............................. ويشرب غيرنا كدرا وطينا
وجاء في أمثالهم الدارجة (الحق بالسيف والعاجز يريد شهود). وجاء كذلك قولهم (الحلال ما حلباليد) .
والذي يجلس اليهم يستمع الى احاديثهم يجد انهم يقيسون الرجولة الكاملة بقياس الغلبة والاستحواذ وهم اذ يمدحون رجلا يقولون عنه انه (سبع) ياخذ حقه بذراعه ولايقدر احد عليه ومن أكبر العار على احدهم ان يُقال عنه انه صانع او حائك فذلكيعني في نظرهم انه ضعيف يحصل على قوته بعرق جبينه كالنساء ولايحصل عليه بحد السيف ومن هنا أطلقوا على العمل اليدوي اسم (المهنة) والمهنة مشتقة من المهانة كما لايخفى.
مقاييس الحضارةإن الحضري العريق في حضارته لا يستسيغ هذه القيم البدوية فهو قد نشأ منذ طفولته على قيم أخرى وهو يقدر الناس بمقدار براعتهم في مهنهم وما يربحون منها وهو يعد البدو مجرمين سلابين لا يؤمن جانبهم .أنه ينسى ان البدو ينظرون اليه بعين الاحتقار كما ينظر هو اليهم فهو في نظرهم جبان ذليل لاكرامةله ولا حق له في الحياة .
زار الدكتور فاضل الجمالي قبيلة عنزة في صحراء الشام ودهش حين راهم يؤمنون بالله ويصلون له ويصومون بينما هم لايتوانون عن النهب والغزوعندما تحين الفرصة المناسبة .فسالهم عن هذا التناقض فيهم فكان جوابهم أنهم لم يكلفوا أنفسهم مشقة التفكير في هذا السؤال من قبل .
مشكلة الدكتور الفاضل أنه يقيسهم بمقياس الحضارة التي نشأ فيها وهو ينسى ان لهم مقاييسهم الخلقية الخاصة بهم فهم يتخيلون الله مثلهم يحترم الرجل الشجاع القادر على النهب ومما يدل على ذلك انهم يتصدقون على ارواح امواتهم من المال الذي ينهبونه في غارتهم المجيدة وهم يعدون(غارى الضحى) أجل الغارات وأقربها الى الله لانها تجري في وضح النهار وتدل على جراة القائم بها وبسالته .
يغضب البدوي اذا قيل له (حرمك الله من غارة الضحى !) وقد سأل الأستاذ عباس العزاوي أحد البدو قائلا له : أصحيح انكم تنفقون الخيرات على موتاكم مما تكسبون من غارة الضحى ؟ ولماذا يغضب البدوي من القول له : حرمك الله منغارة الضحى، فاجاب البدوي قائلا :
( وهل احل من غارة الضحى فهي على وجه نهاروكيف تحرمني من مثل هذه الغارة)ولا يجوز لنا ان نلوم البدو على أخلاقهم هذه فالاخلاق في الواقع ليست سوى صورة من صور تكيف الانسان لمحيطه ولو نشا أحدنا منذطفولته بين البدو لما استطاع ان يتخذ لنفسه اخلاقا اخرى وقد أخطا المفكرون والقدماءالذين كانوا يستنبطون قواعد الاخلاق من عقولهم المجردة ثم يفرضونها على الناس إن الانسان لايفهم المثل العليا التي جاء بها الفلاسفة الحالمون انما هو يجري في سلوكه على نمط ما يحترمه المجتمع عليه ولو احترم المجتمع قردا لصار جميع الناس يحاولون ان يكونوا قرودا والعياذ بالله !.
غلطة بعض المستشرقين :

وجد بعض المستشرقين الذين درسوا البدو أن الرجل منهم يحب المال حبا جما ولايقدر غير الدراهم والدينار اما المعنويات فلا قيمة لها في نظره ومن هؤلاء المستشرقين الاستاذ أوليري ، فقد قال في كتابه Arabia before Mohammed إن البدوي يعد نموذجا للنزعة المادية حيث يتملك الطمع مشاعره وليس لديه مجال للخيال والعواطف والدين (وهو ينظر الى الأمور نظرةمادية وضعية ولايقومها الا بما تنتج من نفع عاجل) .
أني اعتقد ان هذا الراي الذي جاء به أوليري لا يخلو من غلو فهو ينظر الى الحقيقة الاجتماعية من جانب واحد ويهمل الجوانب الاخرى منها .الواقع إننا في الوقت الذي نرى البدوي فيه أعتدائيا نهابا نجده كذلك كريما شهما أبيا وفيا الى درجة لايستطيع الحضر ان يدانيه فيها .
إن البدوي يطلب المال حقا .. ولكنه لايطلب المال من أجل المال فالمال عنده من علامات الرجولة والغلبة. وهو لايبالي ان يسخو بالمال حالما يصل الى يده ومن هنا جاء وصف البدوي بأنه (نهاب وهاب) إنه نهاب عندما يكون النهب رمزا للقوة وهو وهاب عندما يكون الوهب رمزا لها كذلك .
ولذلك تجده من أحرص الناس على الفلس الواحد حين يؤخذ الفلس منه اغتصابا وعنوة بينما هو من أسخى الناس حين يُستغاث به او يؤتى الى مضيفها و يطلب منه العون وهو قد يبذل في سبيل ذلك حياته علاوة على المال.
والبدوي كذلك صادق صريح لايحب الرياء والمرواغة او الختل .ولعله يعد المراوغة بشتى انواعها ضعف الا يلائم طبيعة الشجعان الغالبين ان يقتلك او ينهبك ولكنه لا يداجيك او يخون امانتك او ياكل دينك وقد ياتي من اقصى البادية ليؤدي لك ما عليه من دين في الوقت الذي ربما كنت قد نسيته او يئست منه لطول المدة وهو لايقسم بالله كذبا ولو كان في هذا القسم منجاة له من التهلكة فاذا اقسم لك مثلا بـ(العود والرب المعبود وسليمان بن داود) كانذلك منه حجة لاتمارى وهو الاغلب صادق فيما اقسم عليه مخلص فيه .

عندما يتحضرالبدوي :

تلك هي شخصية البدوي بما فيها من محاسن ومساوىء وهي قائمة كلها على اساس الغلبة والاستحواذ والشجاعة ولي ان اقول ان هذه الشخصية تظل محافظة على محاسنها ومساوئها ما دامت باقية في الصحراء وهنا نسأل هل في ميسور البدوي ان يظل قابعا في صحرائه القاحلة زمنا طويلا ؟انه شجاع باسل يحمل السيف البتار ويرى في الأمصار المجاورة أُناسا متحضرين قد شبعوا من الخام والطعام وهم في الوقت ذاته جبناء ****ون فهل يتركهم يرتعون في النعيم الذي لا حق لهم به ام يغزوهم وينهب اموالهم ؟.
شهد التاريخ سللسة طويلة من الغزوات البدوية التي اجتاحت الامصار المجاورة للصحراء ولا شأن لنا بهذه الغزوات من الناحية السياسية فأمرها معروف ولها الباحثون المختصون فيها إنما نريد هنا ان نبحث فيها من الناحية الاجتماعية ولاسيما ما له من صلة بموضوع الاخلاق الذي نحن فيه .
يذهب ابن خلدون الى القول بأن البدو يكاد لا يستولون على الامصار المتحضرة ويعتادون على ترفها وملذاتها حتى ينسوا بالتدريج خصالهم القديمة وياخذون باكتساب الخصال الحضرية وابن خلدون يقصد من ذلك انهم ينسون خصالهم البدوية جميعا بما فيها من محاسن ومساوىء.
وأني اكاد اعتقد ان هذا الراي الذي جاء به ابن خلدون صحيح في نطاق العصور القديمة التي عاش فيها ابن خلدون او قرا تاريخها اما في العصور الأخيرة فقد لايصدق هذا الراي كل الصدق والأستدراك عليه لايخلو من صواب .
وفي رايي ان العصور الاخيرة تختلف عما سبق فيطبيعة السلاح الذي كان مستخدما في القتال بين البدو والحضر. فقد كان الناس يستخدمون السيف قديما كما هو معروف ولهذا كان البدوي منتصرا في معظم الأحيان التي يغزو فيهاالامصار المتحضرة ان البدو ابرع في قتال السيف من المتحضرين ومعنى هذا انهم كانوا يستولون على الامصار ويؤسسون فيها الممالك حيث يؤلفون فيها الطبقة الحاكمة اما في العصور الاخيرة فقد ذهب زمان السيف وحلت محله الاسلحة النارية والبدو لايستطيعون ان ينتجوا هذه الاسلحة او يحذقوا فنها كما يحذقه المتحرون ولهذا شعروا بالعجز عن اجتياح الامصار المجاورة على منوال ما كانوا يفعلون قديما فهم لايكادون يتحرشون بالحضر حتى يجدوا المدافع الضخمة قد صوبت عليهم وقذفتهم بشواظ من نار لقد ادركوا ان بسالتهم القديمة لا تجديهم كثيرا إزاء فوهات المدافع وطلقات النار.
وقد لاحظت من دراستي لترايخ العراق في العهد العثماني ان القبائل البدوية اخذت تاتي الى العراق عن طريق التغلغل التدريجي بدلا من طريق الفتح الحربي . وقد حاولت بعض القبائل بتأثيرالمذهب الوهابي ان تغزو العراق بحد السيف غير مرة فباءت بالفشل واستطاعت الحكومةالعثمانية على ضعفها ان تردهم على أعقابهم بعد المذبحة التي قاموا بها في كربلاء في أواخر القرن الثامن عشر واستطاع محمد علي بعد ذلك ان يهاجم عاصمتهم في صميم الصحراء ويضرب حركتهم ضربة قوية قاصمة وتلك كانت معركة لم تشهد جزيرة العرب لها مثيلا في تاريخها الطويل حيث لم يتمكن من قبل اي جيش حضري ان يغزو الصحراء او يتغلغل فيها فاتحا .
خلاصة ما اردت قوله في هذا الصدد ان الصراع بين البدو والحضر قد اتخذ فيالعصور القديمة شكلا جديدا إذ صارت قبائل البدو تتسلل الى الامصار المجاورة خلسة فتستقر فيها دون ان تحاول الاستيلاء عليها .

أخلاق العشائر العراقية :

أريد ان اتحول الان الى دراسة اخلاق العشائر بعد تحضرها في العصور الاخيرة ومما تجدرالاشارة اليه بان معظم دراستي في هذا الصدد قد تركزت حول عشائر العراق ومعنى هذا ان بحثي سيكون جزئيا غير شامل ولكني ارجو ان يكون على اي حال ذا نفع لاخواني الباحثين في البلاد العربية الاخرى إذ قد يستطيعون به مقارنة وضع العراق من الناحية الخلقية بوضع غيره من البلاد ولعلهم يجدون بينهما شيئا من الشبه او الخلاف على اي حال .والامر الذي اود ان الفت انظاركم اليه هو ان القبائل البدوية التي استقرت في العراق في العصور الاخيرة لاسيما في العهد العثماني اخذت تفتقد كثيرا من محاسنها القديمة بينما هي ظلت محافظة على المساوىء إنها فقدت الصدق والأمانة والصراحة مثلاولكنها بقيت متمسكة بالعصبية القبلية والثأر والاعتداد بالغلبة والفخار بالغزو والنهب .وهذا امر غريب يلفت النظر فما هو السبب الذي جعل المحاسن البدوية تضعف تجاه الظروف الحضرية الجديدة في الوقت الذي تظل فيه المساوىء صامدة لابد أن يكون وراء ذلك عامل اجتماعي يؤدي الى هذه النتيجة التي لاتخلو من ضياع خلقي كبير فما هو ؟الذي اميل اليه ويميل اليه بعض زملائي من الباحثين العراقيين هو أن نظام الحكم الذي كان يسود العراق في العهد الاخير له يد في هذا الضياع الخلقي .وهنا يجب ان لاننسى انالحكومة العثمانية لم تكن حكومة بالمعنى الصحيح فهي لم تكن تعنى بالمحافظة على الامن والنظام في البلاد كما هو شأن الحكومات الراقية ولم يكن همها في حكم الناس الا ان تجبي منهم الضرائب والمغارم وليفعلوا بعد ذلك بأنفسهم ما يشاؤون.وكانت سياسة الحكومة تجاه العشائر أنها تتركهم يتقاتلون ويتناهبون فيما بينهم والمعروف عنها أنها كانت تشجع فيهم هذا القتال والتناهب أحيانا في سبيل إضعافهم على طريقة (فرق تسد).ومما زاد في حدة هذا النزاع العشائري أن الاراضي في العراق كانت ولا تزال دائمة التبدل من حيث جودة انتاجها وسهولة ريها فكثيرا ما تكون البقعة من الأرض جيدة في اول امرها ثم تسوء بعد ترسُب الاملاح فيها فتضطر العشيرة الى التحول منها الى ارض اخرى ولايتم هذا طبعا الا بعد قتال مرير حيث تستحوذ العشيرة القوية على الاراضي الصالحة بعد ان تطرد عنها اصحابها الاولين ولم يعرف العراق حتى عهد متأخر نظاما ثابتا مسح الاراضي او تسجيل الحقوق فيها فكانت العشائر إذن تتقاتل على الاراضي الجيدة في العراق كما كان الاسلاف يتقاتلون في الصحراء على العشب والماء .والذي يدرس تاريخ اي عشيرة عراقية يجد انها لم تستقر في ارض معينة مدة طويلة فهي اماطاردة او مطرودة تبعا لقوتها وعصبيتها وميلها الى الغزو والاستحواذ وهذا يؤدي بابناء العشيرة طبعا الى الاحتفاظ بعاداتهم القديمة التي تساعدهم على البقاء في هذا المعترك العنيف.وفي الوقت الذي نجد فيه العشائر العراقية تتقاتل وتتناهب فيما بينها وتحس بالعزة المتطرفة إزاء من يريد انتهاك حرمتها نراها تتخذ إزاء الحكومة موقفا لذل والمسكنة ولي ان اقول بان الفرد العشائري أصبح من جراء ذلك ذا وجهين فهو أبي باسل يشعر بكرامته وعزته عندما يلتقي بأمثاله من ابناء العشائر وتجده عند ذاك من اكثر الناس غضبا وعصبية وحرصا على اخذ الثأر إنما هو لايكاد يلمح جباة الحكومة او جلاوزتها قادمين عليه حتى يتقمص شخصية أخرى حيث يمسي بها خنوا يتحمل الصفعات والاهانات دون ان يثور او يحقد .اخذ الفرد العشائري بفقد بالتدريج صفات الصراحة والإباء والأمانة وغيرها من الصفات التي كانت معروفة عند اجداده في الصحراء انه يرى جباة الحكومة واقفين له بالمرصاد يحصون عليه أغنامه وحاصلاته الزراعية وهو مضطر ان يكذب عليهم ويحلف بالله وبجيمع أنبياه واوليائه زورا لكي يدرا عنه قسطا من الضريبة المفروضة عليه ولو انه اتبع سبيل الصدق في معاملة الحكومة لما بقي لديه ما يكفي أطفاله طعاما ولباسا .من الاحاديث المروية عن النبي محمد إنه مر ذات يوم ببعض دورالانصار في المدينة فوجد فيها محراثا فقال : (ما دخلت هذه دار قوم الا دخلهم الذل)وقد حار المحدثون في تفسير هذا الحديث وحاول ابن خلدون تفسيره بقوله إن الذين يمتهنون الزراعة يقعون تحت وطأة القهر من الحكام وفرض الضرائب والمغارم عليهم وهذا يؤدي بهم الى اعتياد الذل وما يتبعه من خلق المكر والخديعة .واعتقد ان هذا الحديث ينطبق على العشائر العراقية انطباقا كبيرا فهم قد وقعوا تحت وطأة الحكومة العثمانية زمنا طويلا وتعلموا من جراء ذلك ان يراوغوا ويكذبوا وان يكونوا اولي شخصيتين يواجهون باحداها جلاوزة الحكومة ويواجهون بالاخرى اقرانهم من ابناء العشائر .واستطيع ان اقول بأن العشائر العراقية لم تغير من اخلاقها هذه بعد قيام الحكم الوطني في العراق ومما يؤسف له ان الحكومة الوطنية الحاضرة قامت على أنقاض الحكومة البائدة وأعيد استخدام الموظفين القدامى فيها على نطاق واسع فاصبح الفرد العشائري لايجد فرقا كبيرا بين الماضي والحاضر .ومما زاد في الطين بلة ان الحكومة الوطينة فرضت على ابناء العشائر نظام التجنيد الاجباري بعدما كانوا معفيين منه في العهدالعثماني وبدا الفرد العشائري يشهد ضباط التجنيد قادمين عليه بالاضافة الى جباة الضرائب فصار يستعيذ بالله منهما ومن كل موظف ترسله الحكومة اليه ان العشائر اليوم تخاف من كل افندي ومن كل من يتصل بالافندي بصلة قريبة او بعيدة فهي قد اعتادت ان لاترى الافندي الا في الشر ولذا فهي لاتقدر على مصارحته او الصدق معه في شيء ولوكان الصدق نافعا لها .حدث لي مرة ان ذهبت مع جامعة من الطلاب الى قرية ريفية في سبيل ان ندرس احوالها الأجتماعية فظن اهل القرية اننا جواسيس ارسلتنا الحكومة لتحري اخبارهم وايقاع الشر بهم وكانت المراوغة واضحة في اجوبتهم وهم لايصدقون بنا ولواقسمنا بالايمان المغلظة لهم واليمين لافائدة منه في نظرهم إذ هم قد اعتادوا كما قلنا الحلف بالله وبجيمع انبائيه وأوليائه كذبا عند الحاجة ولايقتصر هذا الامر على الفلاحين وحدهم انما هو شائع بين سكان المدن لا سيما الاميين منهم وهذا هو السبب الذي جعل الاحصاءات التي تقوم بها الحكومة او اية لجنة من الخبراء مغلوطة لايمكنالاعتماد عليها ومن المفارقات التي يتفكه الناس بالحديث عنها في هذا الشأن ان نفوس العراق قد يبلغ عددها العشرة ملايين مثلا عندما يكون هناك توزيع للسكر او القماش بالبطاقات ولكن هذا العدد قد ينخفض الى الثلاثة ملايين تقريبا عندما يسجل الناس فيسبيل التجنيد الاجباري ومعنى هذا ان الناس يكذبون بالزائدة تارة وبالناقصة تارةاخرى اما الرقم الصحيح فلا يعلمه الا الله العلي الخبير .
أثر الاقطاع في الاخلاق وبعد أن تحدثنا عن أثر الحكومة في تفكيك الاخلاق لدى العشائر العراقية ننتقل الى اثر الاقطاع فيها ومن الجدير بالذكر هنا ان امر الاقطاع بدأ يستفحل في العراق أخيرا وصار له من الأثر في تفكيك الاخلاق ما يناهز اثر الحكومة ان لم يفقه أحيانا .
ويجوز لي ان اقول بان الاقطاع في العراق حديث النشأة فهو لم يكن في العهد العثماني على الحال التي نشهدها اليوم والسر في ذلك هو ما قامت به الحكومة الحاضرة من مسح الاراضي وتسجيل الحقوق فيها ولست أنكر بان الحكومة ارادت بهذا المسح والتسجيل خيرا ولكنه انقلب الى شر من بعض النواحي .
كان شيخ العشيرة في الماضي زعيما لقومه يقودهم في الحرب ويرعى شؤونهم في السلم إنه كان كما يقول علماء الاجتماع متبوعا لا مسيطرا ومشيخته مستمده من طاعة العشيرة له واحتراما إياه. فإذا ظلم قومه او استغلهم في مصلحته الخاصة نفروا منه واتبعوا احد منافسيه من اخوته اوابناء عمه والشيخ اذن مضطر ان يكون حسن السيرة كي يحتفظ بزعامته في عشيرته.
ولم يكن للشيخ من حق في نتاج الارض الا ما يمكنه من القيام بواجبات الزعامة المتعارف عليها وقد يصح القول ان ابناء العشيرة كانوا يستثمرون الارض على اساس تعاوني تحتزعامة الشيخ . وهم يشعرون بانهم شركاء في الأرض غير مأجورين والى هذا اشار المستر كوك في كتابه (التحدي والاستجابة في الشرق الأوسط) حيث قال بأن شيوخ العشائر كانوا في العهد الماضي يقومون بوظيفة الاوصياء المشرفين على الاراضي المزروعة بشكل تعاونيأما الان بعد ان مسحت الاراضي وسجلت باسماء الشيوخ فقد تبدل الحال تبدلا كبيرا أخذ الشيخ يشعر بأن الارض أصبحت ملكا خاصا له ، وهو قادر على استغلالها والتمتع بثمراتها ما دامت الحكومة راضية عنه ومنهنا صار يترك ارضه بيد وكلائه ثم يذهب إلى العاصمة يسكن فيها ويتزلف الى حكامها وقديذهب في المساء الى الملاهي ليبذل على غانياتها ما كافح الفلاحون في جمعه طيلة العام .
إن الشيخ صار بعبارة أُخرى بمثابة السيد الاقطاعي الغائب عن أرضه وبعدت الشقة بينه وبين اتباعه فلقد اهمل وظيفته الاجتماعية القديمة في القبيلة ولعله اخذ يشمئز من زيارة قريته او مقابلة القذرين من سكانها إنه اعتاد على حياة الترف والبذخ في المدن يأنف ان يسكن القرية الوضيعة التي كان يألفها المرحوم ابوه....
واتخذ بعض الشيوخ لانفسهم جلاوزة يسوسون رعاياهم ويجيبون منهم المغارم على شكل لم يعهده الريف العراقي من قبل وهؤلاء الجلاوزة العشائريون يُعرفون في منطقة العمارة ب(الحوشية ) وفي الفرات الاوسط يعرفون باسم (الصبيان) وفي المنتفق يسمون بالـ(الغلمان)
وامسى الفلاح يعاني منهم اشد مما يعاني من جلاوزة الحكومة وجباتها فهم قادرون على تعذيبه او حبسه او قتله إذا امتنع عن اداء ما يطلب منه وليس هناك منقانون يضبط سلوكهم تجاهه سوى إرادة الشيخ واذا كان للشيخ في ملاهي العاصمة غانية تستنزف ماله وقعت وطأة هذا العشق الخبيث على عاتق الفلاح .
لا حاجة بنا الى القول بأن هذا الوضع يؤدي الى كثير من التفسخ في أخلاق الفلاح العراقي . إنه مضطر ان يتظاهر امام الجلاوزة بالمسكنه والبراءة ولكنه في اعماق نفسه يضمر شيئا اخر فلقد سرق قسطا من الانتاج قبل مجيئهم حتى اذا جاؤوه اخذ يقسم بالله وبجميع القديسين على أنه لم يسرق ولن يسرق ابدا.
من النادر جدا ان نجد فلاحا عراقيا غير سارق ومن النادر كذلك ان نجد فلاحا لا يحلف بالايمان المغلظة في سبيل البرهنة على براءته منالسرقة .
إننا نسميها سرقة وهو يسميها حقا مشروعا ولا لوم عليه في ذلك فهو يريدان يعيش واذا لم يلجأ الى السرقة مات هو وأطفاله من الجوع.
ومن الطرائف التي تروى في هذا الصدد ان (سيدا) من اولاد الرسول امتلك ارضا وجمع الفلاحين للعمل فيها واخذ الفلاحون يخونونه ويسرقون منه كدأبهم مع الاخرين واكتشف السيد خيانتهم فدعا الله بأن ينزل عليهم العقاب الشديد وشاءت المصادفة ان يموت كبيرهم في اليوم التالي فهرب الفلاحون جميعا من ارض هذا السيد الذي يستجيب الله لدعائه عاجلا وشاع خبره بين العشائر فلم يجرأ احد منهم ان يعمل معه في زراعة الارض واضطر السيد أخيرا الى ترك ارضه والى اتخاذ وسيلة اخرى للعيش .
ادرك انه يستطيع ان يكون (قديسا) بين ابناء العشائر ولكنه لا يستطيع ان يكون صاحب ارض يعمل فيها الفلاحون فالفلاحون غير قادرين على زراعة ارض من غير ان يسرقوا من انتاجها شيئا .
وهنا ينبغي ان نذكر ان طبيعة السرقة لدى الفلاح العراقي تختلف من تلك التي اعتاد عليها جده البدوي في الصحراء فالبدوي يسرق بحد السيف وهو لا يحب ان يسرق عن طريق الخيانة والختل إذ ان ذلك فينظره ديدن الضعفاء الجبناء اما الفلاح فالسيف لا يجديه شيئا ولا بد له اذن من اتخاذ طريق الخفاء والكذب في السرقة اذا اراد ان يعيش.
أثر المرابين في الاخلاق وبعد الاقطاع يأتي المرابون وهؤلاء منتشرون بين العشائر العراقية على نطاق واسع فاينما تجولنا في الاسواق الريفية وجدنا أصحاب الحوانيت فيه يعتمدون على الربا الفاحش في مقايضاتهم مع الفلاحين .
وقد ورث الفلاح العراقي من جده البدوي صفة تجعله يفكر في يومه ولا يحسب حساب غده إنه لا يزال يعد الاهتمام بشؤون الغد دليلا على ضعف الانسان وعلى قلة ثقته بشجاعته وقوة سيفه ولهذا أصبح شعاره (أصرف مافي الجيب ياتيك ما في الغيب) وتراه يذهب الى أصحاب الحوانيت يشتري منهم بالدين كلما يحتاج إليه وهم يستغلون تلك الصفة فيه فيفرضون عليه الاسعار كما يشتهون حتى إذاحل موعد الوفاء وجد نفسه عاجزا عن الاداء فيعيد تسجيل الدين عليه بعد إضافة الربا عليه ويتراكم المبلغ عليه مرة بعد مرة حتى يصبح في النهاية أضعاف ما كان عليه في أول الامر .
يروي احد الثقاة ان فلاحا في الفرات الاوسط استدان من احد المرابين مبلغا ضئيلا ليشتري بها ثلاث دجاجات في سبيل ان يذبحها لضيف نزل عنده وصار المبلغ يتراكم عليه مرة بعد مرة حتى اضطر الفلاح أخيرا ان يبيع ثورا لدفع ثمن الدجاجات الثلاث .
ويحدث من أمثال هذه القصة في الريف العراقي عدد لايحصى وكلها تدل علىمدى الضغط الذي يرزح الفلاح العراقي تحت وطاته من قبل الدائنين والمرابين ومن الممكن القول ان ذلك يؤدي الى خلق عقدة نفسيه في الفلاح تجاه كل وعد يعد به او دين يستدينه وهو مجبور ان يتخلى عن خلق الوفاء الذي اشتهر به جده البدوي .
ومن المعروف عن اهل الريف في العراق انهم من اكثر الناس مماطلة وتسويفا في اداء الديون على خلاف ما هو معروف عن بدو الصحراء وكثيرا ما نراهم ينكثون بعهودهم او ينكرون ديونهم كلما وجدوا الى ذلك سبيلا .
ومما ساعد على استفحال هذه العقدة فيهم أنهم ينظرون الى كل صاحب حانوت من اهل السوق نظره احتقار وزراية وكانهم يعدونه رجلا سافلا لا كرامة له ولا شهامة ولهذا فهم لايجدون حرجا في النكاية والعبث به.
وصاحب الحانوت يرد لهم الصاع صاعين ولا يتردد عن إقامة الدعوى عليهم في المحاكم وتسليط سيف القانون عليهم وتصبح الحرب بينه وبينهم سجالا فهم يماطلونه ويتهربون منه وهو يركض وراءهم يحمل ورقة الحجز او يرسل عليهم الجلاوزة ...
ومن الامثال الشائعة في الريف العراقي قولهم (الدين رزق)
وأحسب هذا القول إشارة الى انهم يستسهلون اخذ الدين ويستصعبون وفاءه فالدين رزق ساقه الله اليهم وهو قد أصبح ملكا لهم وليس من الهين عليهم ان يرجعوه من تلقاء انفسهم وهم في الوقت ذاته يشعرون بالغبن حين ياكل احد الناس دينا لهم عليه .
حدثني صديقي انه كان ذات يوم في احد المجالس الريفية يستمع الى احاديث القوم وجرى بينهم حديث رجل منهم فاخذوا يمدحونه قائلين بانه رجل(سبع) يستطيع ان ياخذ حقه من غيره بالقوة بينما لايستطيع احد ان ياخذ منه الحق الواجب عليه .
يخيل لي ان العلاقة بين الدائن والمدين صارت تعد في الريف كالعلاقة بين الغالب والمغلوب في الصحراء حيث يختزي الرجل ان يكون مغلوبا ويفخر انيكون غالبا ومن دواعي الرجولة في نظره ان يكون قويا في اخذ الدين الذي له وفي الامتناع عن اداء الذي عليه .
وقد لاحظت ان هذه الصفة قد انتقلت عن طريق العدوى الى بعض سكان المدينة لاسيما اولئك الذين هم من اصل ريفي او بدوي فتجد احدهم يبذل كثيرا من ماله على الولائم ومواطن الكرم المالوفة بينما هو يستصعب أداء الدين القليل الذي عليه وهو قد ينافس اقرانه في باب المقهى او المطعم ثم يخاصم الحمال والبقال على فلسين استحقا عليه .

دافع الربح والأخلاق :

أشار الدكتور متى عقراوي في كتابة العراق الحديث الى ان ما يعرف لدى الغربيين بدافع الربح قد صار يسيطر على اخلاق العشائرالعراقية وقد أدى ذلك بهم الى تفسخ اخلاقهم حيث اخذوا يتعاطون الخداع والمواربة والكذب في سبيل الربح .
وفي رأيي ان هذا التفسخ الخلقي لم ينشأ فيهم بدافع الربح وحده إنما هو يرجع ايضا الى ما ورثوا من البداوة من احتقار للمهنة والعمل اليدوي .
المعروف في الريف العراقي ان كثيرا من ابناء العشائر يستنكفون من القيام بكل عمل يؤدي بهم الى البيع والشراء فهم يمتنعون عن زراعة الخضر او تربية الجاموس اوصيد السمك بالشبكة انهم يعلمون بأن هذه الاعمال تؤدي بهم الى امتهان البقالة والبقال بينهم محتقر غاية الاحتقار اذ هو في نظرهم ناقص الرجولة وهم لذلك لايجالسونه ولايزوجونه من بناتهم او يتزوجون من بناته .
رايت ذات مرة في إحدى القرى العراقية رجلا من ابناء العشائر يحمل شئيا من الخضر ليبيعه في القرية فأخذ الناس يسخرون منه ويطلقون عليه لقب ( **** ) ولم يجد الرجل مناصا من الهرب تجنبا للعار وقد سال الدكتور شاكر سليم احد الوجهاء في قرية الجبايش عن السبب الذي جعلهم يحتقرون زراعة الخضر فقال بما معناه : إن هذا الرجل يحمل بضاعته بين الناس من اجلبيعها وهذا عيب ! .
وهم يحتقرون الحائك كما يحتقرون البقال سئل احدهم عن سر احتقارهم للحياكة فاجاب بان الحياكة منذ قديم الزمان سرقوا اقراط الحسين وشهدوا على مريم العذراء زورا وبهتانا .
ارجح الظن ان الحاكة لم يفعلوا هذا ولا ذاك كل مافعلوه انهم عاشوا بين قوم يكرهون العمل اليدوي والمهنة التجارية بشتى انواعها .
وهنا نقف قليلا لنتسائل عن هذه القيم كيف تستطيع ان تصمد ازاء الظروف الحضرية الجديدة التي أخذت تسود الريف العراقي شيئا فشيئا ؟ وهل يستطيع ابناء العشائر ان يمتنعوا عن احتراف التجارة او الأعمال اليدوية في الوقت الذي امسوا فيه في ضيق اقتصادي قاهر ؟.
لا ننكر ان كثيرا من اهل الريف ضلوا متمسكين بقيمهم القديمةعلى الرغم مما يعانون من فقر وحرمان وتراهم يصبرون على الضيق ويقاسون شظف العيش دون ان يتنازلوا الى تعاطي المهن المحتقرة ولكن هؤلاء بدأوا يقلون شيئا فشيئا بتأثيرالظروف الحضرية التي أخذت تحيط بهم وتضيق عليهم الخناق .
إن الانسان بوجه عام يحب ان يكون محترما بين قومه وهو يفضل ان يكون فقيرا محترما على ان يكون غنيامحتقرا ولكن هذا له حد يقف عنده والحاجة الاقتصادية قد تدفع الانسان احيانا الى تحطيم القيود والسدود وقد حدث هذا فعلا بين اهل الريف العراقي فصاروا يستهينون بقيمهم القديمة تدريجا وشرعوا يحترفون الاعمال المربحه على الرغم من حقارتها الاجتماعية انهم بعبارة اخرى صاروا يفضلون المال على الجاه وهذا يؤدي بطبيعته الى شيوع شيء من الاستهتار الخلقي فيهم كما لايخفى .
يقال في علم النفس ان الانسان اذا اجترا على اقتراف الحرام مرة سهل عليه ان يقترفه مرة ثانية وثالثة وهذا هو مايجري عند بعض اهل الريف لا سيما اولئك الذين اخذوا في الاونة الاخيرة يهاجرون الى المدن وهم اليوم كثيرون .
لقد تذوق هؤلاء طعم الحرام ووجدوا فيه لذة واقصد بالحرام الخروج على القيم الموروثة وكل ربح يجنونه من ذلك يدفعهم الى التمادي فيه حتى ينتهي بهم المطاف اخيرا الى قلة المبالاة بجميع القيم القديمة منها والجديدة وقد يصدق عليهم قول القائل : انهم ضيعوا المشيتين !
لقد اخذ دافع الربح يسيطر على سلوكهم ولكنهم يفهمونه على خلاف ما يفهمه التاجر في البلاد المتمدنة فالتاجر المتمدن يقيم تجارته على اساس ارضاء الزبون وهو يسير في ذلك على المبدا القائل : ( الزبون على حقدائما ) اذ هو يدرك ان نجاح تجارته مستمده من رضا الزبائن عنه ومن حسن سمعته بينهم .
أما عند أصحابنا فدافع الربح يحفزهم الى غش الزبون واستغلاله دون اهتمام بمايأتي به الغد منه. إنهم ينظرون الى الزبون كما كان أجدادهم البدو ينظرون الى القرين المبارز ويجب ان لا ننسى ان الزبون قد يكون مثلهم في هذا الخلق ولهذا تتخذ المساومة بينهم وبينه صورة المبارزة والمصاولة حيث يحاول كل فريق ان يخرج من الصفقة غالبا ويتألم اذا خرج منها مغلوبا والذي يتجول في الاسواق العراقية يجد هذه العبارة مكتوبة على بعض حوانيتها ( المباع غير مرجوع والدين ممنوع والعتب مرفوع والرزق علىالله الكريم ! ) .ولست ادري كيف يمكن ان يكون الله كريما على رجل لايبيع بالدين ولايرجع ما يباع ثم لايقبل العتب علاوة على ذلك .
ان هذه العبارة تذكرنا بالمفهوم البدوي في امر الرزق فالرزق ياتي من السماء ولا اهمية بعد ذلك ان يرضى الزبائن عنك او يغضبون وليس من النادر في الاسواق العراقية ان يقع الشجار بن البائع والمشتري فالبائع الغالب لايحب ان يتنازل عن ربح اكتسبه بسيف المساومة وكذلك لايحب المشتري المغلوب ان يظل مغلوبا وقد ينتهي الامر بينهما الى الصفعات واللكمات احيانا مع الاسف الشديد .
ولايقتصر اثر هذا الخلق على مجال البيع والشراء وحده بل يتعداه ايضا في بعض الاحيان الى مجال المهن اليدوية فانت اذ تستاجر صاحب مهنة للقيام بعمل ما ثم تغفل عنه تراه قد تكاسل في عمله او حاول الغش فيه والظاهر ان نزعة المغالبة التي ورثها من البداوة لا تتركه يعمل كما تقتضيه مصلحته الدائمة ان يعمل وهو لايبالي بعدئذ ان يأتي بأغلظ الايمان ليبرهن لك انه كان في عمله امينا والله شاهد على مايقول !.

الضائع من اخلاق المدن :

كان حديثي يدور في معظمه حول الضائع من أخلاق الريف في العراق ومما تجدر الاشارة اليه إن أهل الريف هناك يؤلفون اكثرية السكان ومن الممكن القول ان حوالي الستين بالمئة من سكان العراق يعيشون في الريف اويتصلون به على وجه من الوجوه.
بقي علينا ان نتحدث عن الضائع من اخلاق اهل المدن وكي نفهم ذلك يجب ان نرجع بابصارنا الى العهد العثماني وهو العهد الذي كان العراق رازحا تحت وطاته حتى الحرب العالمية الاولى ولا يزال كثير من أهل العراق يعيشون فيه بذاكرتهم وما ورثوا منه من قيم اجتماعية .
وموضوع البحث في أحوال المدن العراقية في العهد العثماني موضوع طويل معقد لامجال الان للاسهاب فيه يكفي هنا ان نقول بان اهل المدن يومذاك لم يكونوا مطمئنين الى مقدرة الحكومة على صيانة ارواحهم وأموالهم فاضطروا من جراء ذلك الى اتخاذ نوع من التكتل القبلي فيما بينهم ليدرؤوا به عن انفسهم بعض شرور النهب والقتل اللذين كانا شائعين في ذلك العهد ومن هنا اصبحت المحلة في المدينة كأنها قبيلة لها شيخها الخاص بها ونخوتها وتاريخها المملوء بمفاخرالرجوالة والبطولة .
ومر زمن على العراق كان القتال فيه ينشب بين محلات المدينة كما كان ينشب بين عشائر الريف او قبائل الصحراء واذا قتل من احدى المحلات شخص على يد احد من محلة اخرى قامت المحلة تطالب بثأرها و تحتكم فيه الى الخبراء في العرف العشائري.
وتحولت النخوة العشائرية في المدينة الى نخوة محلية فكان الناس ينادون ابن محلتهم (ابن طرفنا) والمفروض في الرجل ان يدافع عن ابن طرفه او ياثر له سواء اكان ظالما او مظلوما .
وكانت التربية تؤكد على هذه النعرة المحلية في المدن فكان الاطفال يمارسون العصبية المحلية اثناء لهوهم في الازقة وأعظم لهو عندهم ان يحارب اطفال المحلة اطفال المحلات الاخرى ويكاسروهم ويدور حديث الاطفال عادة حول البطولات التي كسبتها محلتهم تجاه غيرها ومن الصعب على طفل ان يذهب الى محلة اخرى من دون حماية اذ ليس من النادر ان يستضعفه الاطفال , ومن الممكن ان يؤلف الأطفال فيما بينهم عصابة يهاجمون بها البساتين ليسرقوا منها الفواكه وهم يجدون لذة كبيرة في السرقة اذ هي تدل في نظرهم على البطولة وهم يحتقرون الطفل الذي لايسرق ولايعتدي فهو (****) او (مكفخ) وقد يقع تحت وطأة الأقوياء منهم فيذلونه او يستغلونه او يلوطون به .
واذا كبر هؤلاء الأطفال وبلغوا مبلغ الرجال ظلوا ينظرون الى الحياة بمنظار القوة والضعف او بمنظار الرجولة والخنوثة وترى الناس عند ذاك يحترمون الرجل المعتدي الجبار الذي يسطو على البيوت ويسفك الدماء ويقضي وقتا طويلا في السجن.
وكان في كل محلة رجال جديرون بلقب البطولة والمحلة تعتز بهم وتعدهم من مستلزمات فخارها ازاء المحلات الاخرى والبطل سفاك بالنسبة لأعدائه وأعداء محلته ولكن في الوقت ذاته من اكثر الناس شهامه بالنسبة لأصحابه وأبناء محلته ولايكاد يستنجد به احد حتى يسرع الى نجدته بعد ان يفتل شاربه طبعا .
أعرف رجلا مسنا من ابناء الجيل الماضي وطالما جلست اليه استمع الى مايحدثني به عن ذكريات الايام الماضية انه ينظر الى الشبان المائعين الذين يمرون امامه فيطلق الحسرة تلو الحسرة على تلك الايام المجيدة التي كان الرجل فيها رجلا بمعنى الكلمة وليس هو كرجال هذا الزمان الذين لا يستطيعون ان يذبحوا دجاجة .. ويمشطوا شعرهم ثم يتغنجوا كالنساء .
انه يقول في اسف وحرقة (الرجال ماتوا ) وهو يعني بالرجال اولئك الذي كانت قلوبهم عامرة بالنخوة والرجولة اذ هم لايسمعون صوت الاستغاثة من صديق لهم حتى يشهروا خناجرهم معه دون ان يسألوه عن السبب انهم كما قال الشاعرالبدوي القديم :
يسالون اخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وروى لي صاحبي عن رجال ذلك الزمان ان جماعة منهم سطوا ذات ليلة على بيت واخذوا يجمعون منه الاواني وبعض الاثاث فاحست بهم ام البيت وهي خائفة فايقظت ولدها قائلة له : قم ساعد خوالك على حمل ما سرقوا وسمع رئيس اللصوص قولها فامرهم ان يتركواالسرقة من هذه المراة لانهم صاروا إخوانها وأخوال ولدها وليس من الجائز في شرعة الرجولة والفروسية ان ينهب الرجل اخته وابناء اخته.
تلك هي اخلاق الرجال في تلك الايام وها هو ما قاله لي صاحبي في تمجيد الرجال الماضين انه يذكر شهامتهم وينسى انهم لصوص ولعله يرى اللصوصية من مفاخرهم ايضا اذ هي تدل على الشجاعة وشدة البأس والجبان هو الذي لا يستطيع ان يسرق او يسطو على البيوت .

الاخلاق في وضعها الاخير:

ذلك ما كان عليه وضع الاخلاق في المدن العراقية قبل الحرب العالمية الاولى يوم كان العراق رازحا تحت وطأة الحكم العثماني ولست انكر ان هذا الوضع بدأ يتغير بتأثير الظروف الجديدة ولكن الذي يجب ان اعترف به ايضا ان بقية من القيم القديمة لا تزال مشهودة هنا وهناك لا سيما في المناطق التي لم تتأثر بالظروف الجديدة تأثرا كبيرا وهذا امر ليس من السهل غض النظر عنه والقيم الاجتماعية بوجه عام لا يمكن ان تزول من قلوب الناس فجأة انها متغلغلة في اعماق اللاشعور وهي تصّرعلى الصمود هناك زمنا طويلا حيث تؤثر في توجيه السلوك على الرغم من تبدل الظروف الملائمة لها . والذي يتجول اليوم في المحلات القديمة من المدن العراقية يجد الناس لايزالون يتفاخرون ويتنابزون على نمط ما اعتادوا عليه في زمن مضى ولاتزال المقاهي عامرة بروادها وهم يتحدثون عن السبع وال**** وعن الغالب والمغلوب بشكل لا يختلف في اساسه عن حديث اهل البادية ونراهم يتمسكون بعقيدتهم الدينية تمسكا شديدا ويقدسون الانبياء والاولياء تقديسا لا حد له وهم قد يعتدون على من يشك في صحتةعقيدتهم او يستهينون بالانبياء والاولياء ولكنهم في الوقت ذاته لايحترمون من يقتدي في اخلاقه بسيرة الانبياء والاولياء ولو فرضنا ان رجلا منهم اراد ان يلتزم بتعاليم الانبياء فيرد الاذى بالعفو والسيئة بالحسنة لعدوا ذلك منه خنوثة وضعفا ورمقوه بنظرات الاحتقار وتجد احدهم يظهر الخشوع والتقوى ويذرف الدموع حين يحدثه الواعظون عن مخافة الله ولكنه لا يكاد يجتمع الى اقرانه حتى يأخذ بالحديث عن غزواته وفتكاته وكيف غلب فلانا او خدع فلانا او (كسر) عين فلان وهو يضحك عند ذلك بملء شدقية فخارا .
انهم لايسألون عن الفائدة العملية التي يجنيها الرجل مما فعل المهم عندهم ان يكون الغالب على اية صورة فذلك في نظرهم من معالم الرجولة فيه وتتضح هذه النزعة فيهم في مسألة الانحراف الجنسي فقد شهدنا في الغرب ان الناس هناك يعاملون المنحرف جنسيا بشيء من العطف باعتباره مريضا يحتاج الى علاج وهم لايفرقون في ذلك بين المنحرف السلبي او المنحرف الايجابي والمعروف في بعض الامم الراقية انهم يستنكرون الانحراف الايجابي اكثر مما يستنكرون الانحراف السلبي حيث يعدون الاول منهم سببا والثاني نتيجة .
اما عند اصحابنا فهم ينظرون في هذا الامر على عكس ما ينظر فيه أولئك فهم يحتقرون المنحرف السلبي كل الاحتقار بينما هم ينظرون الى المنحرف الايجابي بعين الاحترام احيانا انه بحسب مفاهيمهم غالب والويل كل الويل لمن كان في هذا المجال مغلوبا اذ يبقى في عرفهم (مكسور العين) تجاه غالبيتهم فلا يجرأ ان يرفع عينه عليهم امدا طويلا .
وهم ينظرون الى الزنى بمثل هذه النظرة المزدوجة فمن الفخار للرجل ان يكون زانيا بنساء غيره ومن العار عليه ان تكون احدى نسائه مزنيا بها ويقع عبء ذلك على المرأة في معظم الاحيان فقد ورث الناس من البادية امر احتقار المرأة وعادة قتلها عند الاشتباه بسلوكها ولكنهم تركوا ما كان عليه البدو من شهامة وعفة واباء ولهذا اصبح قتل المرأة في العراق ظاهرة اجتماعية تلفت النظر ولا يكاد يمر يوم دون ان تسمع عن رجل قتل احدى قريباته غسلا للعار ثم سلم الى الشرطة خنجره الملطخ بالدم .
خلاصة الامر على اي حال ان الاخلاق في العراق لا تزال تحمل في ثناياها بعض قيم البداوة في احترام الغالب واحتقار المغلوب ولكنها قيم ممسوخة حيث خرجت من محيطها الاول وفقدت وظيفتها الاجتماعية انما بقيت توجه السلوك كالعقدة النفسية من غير ان يكون هدف لها يلائم محيطها الجديد.

ملاحظات ختامية :
يجب علي قبل ان اختم البحث ان اورد بعض الملاحظات التي اراها ضرورية له وهي اربع :
الملاحظة الاولى :
اني كما قلت سابقا قد حصرت الموضوع ضمن اطار الصراع بين البداوة والحضارة ومما يجدر ذكره ان هذا الاطار لا يستوعب جميع الضائع من الموارد الخلقية فهناك نواح اخرى منه لعلها اهم مما ذكرته ولكن مقصدي من هذا التركيز اوالحصر هو لفت النظر الى ناحية وجدتها مهملة لدى كثير من اخواني الباحثين الاجتماعيين في البلاد العربية واتمنى ان تتاح الفرصة لي او لغيري فندرس الضائع من الاخلاق العربية من حيث صلتها بصراع الاديان والمبادىء او من حيث صلتها بالمدنية الغربية التي اخذت تتغلغل في العالم العربي وتؤثر في مختلف شؤونه الاجتماعية .
الملاحظة الثانية :
ان بحثي هذا يمثل الجانب القائم من اخلاقنا ولعله لايخلو من مبالغة او غلو وعذري في ذلك اني مكلف من قبل هيئة الدراسات العربية ان ادرس الضائع من الموارد الخلقية لو كنت مكلفا بدراسة غير الضائع منها لربما كان بحثي على غير هذا الذي رايتم وهناك ناحية اخرى اود ان الفت انظاركم اليها هي ان زمان الغرور القومي قد ولى وحل محله زمان الفحص عن الادواء الاجتماعية والتحري عن الحقائق مهما كانت مُرة ومن الضار بنا ان نبقى نمدح انفسنا ونعد قومنا خير الاقوام واخلاقنا احسن الاخلاق وحيث نطلع على ما يكتب الباحثون الغربيون عن معائب مجتمعهم والضائع من اخلاقهم لوجدناهم يأتون منها بأفظع مما جئت به والمجتمع الذي ينكر وجود مرض فيه هو كالمسلول الذي ينخر المرض في رئته وهو يابى ان يستمع الى ما ينصحه به الطبيب .الملاحظة الثالثة :
اني ركزت بحثي في المجتمع العراقي وحده واخشى ان يغضب مني اخواني اهل العراق ويخيل لي ان بعضهم سيسمعون بخبر هذه المحاضرة فيقولون عني انت تعمدت فضح العراق امام البلاد الاخرى وليس من العسير ان اتصور احدهم يقول لي ( لقد فضحتنا يا اخي ) الواقع اني اعتز بالعراق واتشرف بانتسابي اليه ولكني مع ذلك اتبع في بحوثي المبدأ الصوفي القائل ( اللهم افضحنا ولا تسترنا) وغاية املي ان يسيرالباحثون الاجتماعيون في البلاد العربية الاخرى على هذا المبدأ فيعمدوا الى فضح قومهم امام الناس دون حياء ولا حياء في العلم ولست اشكل اننا لو درسنا احوال البلاد العربية الاخرى لوجدنا فيها من الفضائح والادواء الاجتماعية ما لايقل عن تلك التي شهدناها في العراق على وجه من الوجوه .

الملاحظة الرابعة :
اني خصصت بحثي في وصف الداء دون ان اصف الدواء وفي رأيي اننا ما دمنا قد عرفنا على وجه التقريب الاسباب التي ادت الى ظهور الداء فالمسؤولية في هذا الصدد تقع على عاتق الحكومة اذ هي تستطيع ان تضع الخطة الرصينة التي تجعل الناس ينسون تراثهم البدوي وينهمكون في اقتباس القيم الجديدة التي تقوم عليها الحضارة العالمية .
انها تستطيع مثلا ان تقضي على الاقطاع في الريف وتنشر فيه الملكية الصغيرة وتمنع عنه اذى المرابين عن طريق الجمعيات التعاونية والتسليف الزراعي بحيث تجعل الفرد الريفي يحس بان نزعة الاستحواذ والغلبة التي ورثها من الماضي لا تجديه في الحياة الملائمة شيئا وان الاهتمام بالانتاج واكتساب الاخلاق الملائمة لهو السبيل الوحيد الذي يؤدي به الى النجاح والكرامة .
يحدثنا الاستاذ حليم نجار في كتابه ( تراثنا الاجتماعي واثرهفي الزراعة ) عن قرية صغيرة قرب معرة النعمان في سوريا ان الفلاحين فيها يملكون الارض ويستغلونها لانفسهم أي ان الملكية الصغيرة شائعة فيها بينما القرى المجاورة لها تعيش تحت نظام الاقطاع يقول الاستاذ نجار ان اخلاق تلك القرية تستلفت النظر حيث يتصف اهلها بعزة النفس وكرم الخلق وصدق المعاملة بالاضافة الى النشاط والمثابرة والطموح اما سكان القرى المجاورة الذين لايختلفون في دينهم او علمهم او جنسهم عن اهل تلك القرية فاخلاقهم تناقض تلك التي ذكرناها اننا لا نستطيع اصلاح اخلاق الناس عن طريق المواعظ والنصائح على منوال ما كان القدماء يفعلون قديما الاخلاق وليدة الظروف الاجتماعية التي تحيط بها وما لم تتغير تلك الظروف فاننا لا نأمل ان تتغير الاخلاق كما نهوى وبهذا يصدق قول القائل ( غير معيشة المرء تتغير اخلاقه)

انتهى