المرحلة الثانية


المرحلة الثانية


المرحلة الثانية

المرحلة الثانية من
(محاور في المقام العراقي)



2009



محاور في المقام العراقي
دراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شأن
غناء وموسقى المقام العراقي
يـكـتبها في حلقات

مطرب المقام العراقي
حسين اسماعـيل الاعـظمي

الاردن / عمـَّان
كانون الثاني January 2009
اليكم أعزتي القراء في الصفحات التالية
المرحلة الثانية من (محاور في المقام العراقي) التي تم نشر تسعة عشر محورا في المرحلة الاولى من العام الماضي 2008 ، وها نحن نستهل عامنا الجديد 2009 بالمحور رقم (1) والمحور رقم (2) والمحور رقم (3) والمحور رقم (4) والمحور رقم (5) والمحور رقم (6) والمحور رقم (7) والمحور رقم (8) والمحور رقم (9) والمحور رقم (10) والمحور رقم (11) والمحور رقم (12) والمحور رقم (13) والمحور رقم (14) والمحور رقم (15) والمحور رقم (16) تكملة لمحاور المرحلة الاولى واستهلالاً للمرحلة الثانية .. وهذا المحور رقم (17) مذكــِّراً ، في حال فقدان أية حلقة من حلقات المحاور في مرحلتها الاولى والثانية أن تكتبوا إليَّ لأرسلها إليكم
***
أو الذهاب الى موقع كوكل google والبحث عن (محاور في المقام العراقي) او (محاور في المقام المرحلة الثانية) حيث تجدون كل المحاور منشورة في المواقع والشبكات الالكترونية مع الشكر والتقدير لكل اخوتنا واصدقائنا في هذه المواقع والشبكات


المرحلة الثانية
من المحاور المقامية


المحور رقم

(17)


Hussain_alaadhamy@yahoo.com


00962795820112




المحور رقم
(17)
*****
تكملة للمحور رقم 16

محمد القبانجي
(1901 – 1989م)
(مطرب العراق الاول في القرن العشرين) *

- الابداع سمة من سمات الفطرة
- أَصالة القبانجي
- الصدق وعلاقات العمل الفني
- فهم الأَداء وقدرة المُؤدّي
- العَلاقة بين التَّجربة والإِستفادة منها
- الصِّدق مرة أُخرى
- منهجُ الطَّريقة القبانجية
- موقفُ القبانجي من النقد
- في النَّقد المقامي المعاصر
- ثقافة ُالمُغنيّن

************

1 - الابداع سمة من سمات الفطرة
إن الابداع والابتكار سمة من سمات الفطرة الخصبة والتفكير الخصب .. وهذه الخصوبة في الفطرة والتفكير هي التي نستمدها في الحقيقة من الحياة التي نعيشها ومن تجاربها .. لذا فإن الأزمة التي مرَّ بها المؤدون في الحقبة التي ظهر بها محمد القبانجي عملت بقوة على خلق فجوة جمالية في الاداء ما إنفكت تتسع وتكبر حتى كادت أن تفصل بين القبانجي وسابقيه بصورة كاملة .. ويعود السبب في ذلك الى الرؤية الجديدة للتراث والموروث التي ميَّزت هذه الحقبة بالذات للانطلاق من القديم وسط حياة جديدة ومحاكاة الحاضر وسط رؤية مستقبلية ثاقبة تواكب التطور بصورة تتضاعف باستمرار..
من زاوية اخرى ، إنَّ الأَداءَ والأُسلوبَ مهما كانت قيمتُهما ، عملان إبداعيان من حيث المبدأ ، لأنه في الأقل يمثل تذوق فنان يعيش فعلا ًفي هذه الحياة ، فهو لا بد أن يعبـِّر من زاوية ما عنها مهما كان بعيداً عن روح المعاصرة ، أو مهما كان قريبا أو متطابقا في تقليد غيره ، إذن فهناك نسبة من الابداع مهما كانت ضئيلة ..! وأي شيئ ينفي ذلك ، هو إلغاء لوجود المؤدي أو إلغاء للاداء برمته أو إلغاء لإحساسنا بالحياة التي نعيشها ..! ولكننا لا نريد أن يتباعد المؤدي عن روح العصر الذي يعيش فيه ، ولا نريد له أن يبقى مؤدياً يعتمد على الذاكرة الموروثة ، الذاكرة الفطرية العفوية المستقاة أصلا من البيئة والنشأة .. بعد أن أتاحت حياتنا الجديدة المزيد من الوسائل التي تساعد على الانفلات من سيطرة التراث ، بواسطة التطور التكنولوجي الذي تطور بسرعة مذهلة وأتاح مجالاً واسعاً لتدخل العقل والتفكير .. وهذا محمد القبانجي في مقام الصبا بأبيات شعرية لعبد الغفار الاخرس ..



صورة / المطربة الشهيرة سليمة مراد

أتراك تعرف علتي وشفائي
يا داء قلبي في الـهوى ودوائي
ما رق قلبك لي كأن شكايتي
كانت لمسمع صخرة صمـــاءِ
لو كنتُ أَدري غدرَكم بمُحِبِّكم
ما كنت أُمكِّنكم على أَحشــائي
لام النصيح فما سمعت ملامه
وصددت عنه لشقـوتي وعنائي

إن الذاكرة الموروثة أمست اليوم ، لا تكفي أبداً ، لتلبية حاجات الانسان المعاصر ، الجمالية والذوقية والعقلية ، وإن الاعتماد عليها تأخر فكري وكسل ينذر بخلق فجوة من شأنها أن تلغي وجودنا وإحساسنا كأفراد معاصرين بعيدين عن روح الحياة السريعة التي نعيشها ، فلا بد أن نألف الحياة ونقترب منها لنرتد إليها ..

2 - أَصالة القبانجي
لقد كان القبانجي بأُسلوبه الجديد المعاصر وعقله النيـِّر ، قويَّ المواجهة مع سابقيه ومعاصريه من القدماء بعد أن أدركَ نهايات مسيرتهم الفنية .. إن القبانجي لم يحذف شيء من المقام ليستبدله بشيء آخر ، أي أنه لم يغيِّر شيئاً .! ولكنه طوَّر وأضاف وعمَّق الاساليب الادائية من حيث انها مسارات لحنية عريقة حافظ علبها شأنه في ذلك شأن أسلافه ، وزاد على ذلك حين إستحدث مقامات جديدة من سلالم موسيقية لم تكن تؤدى كمقامات من حيث الشكل ، بل كانت تؤدى من خلال بعض الاغاني التراثية ، فجعل منها مقامات لها شكل مقامي يندرج في صلب التعبير الادائي للمقامات العراقية ولكن بروح ادائية معاصرة وهو الأهم في كل هذا الابداع .. ومن هذه المقامات المبتكرة ، مقام الكرد ومقام القطر ومقام الحجاز كار ومقام الهمايون ومقام الحويزاوي ومقام النهاوند ومقام اللامي وغيرها .. واليك عزيزي القارئ الكريم القصائد والزهيريات التي كان القبانجي قد غناها في هذه المقامات ، وهذا مقام الكرد في هذا الزهيري لمحمد الحلي المعروف بإبن الخلفة ..

جربتهم ما وفوا بالغانمـات إمعــاي
وإمعاي خانوا على عهد التخبرة إمعـاي
إلهم لسن كالعقارب لاسعـات إمعـاي

من لسعهم ما يطيــــب الجرح لو عظن
عاشرتهم ما شفت واحـد طلـــع علظن
مكرود يلي تريد إمن المـــــضل علظن

وبمكرهم ذوبوا شحم الكـلاي إمعاي

وفي مقام – الحجاز كار – المُغنّى بهذا الزهيري ..

أدفن غرامي بلب إحشاشـــتي وادم
وابجي دمه والدموع إدمـــوع بالوادم
إن كان لني أضل إبحســـرتي وادم

أهرب عن ديار قومي هايــم يونس
وشلي بدار الخلية إلمابـها يونس
أحزان يعقوب عندي ووحــشة يونس

وآلام ايوب تتبع حـــــسرة آدم

ومقام القطر – بزهيري لجَواد كاظم السباك ..

نار الغضا لوعت مني الضمــــير إبجاي
والغير منهم شرب كاس الــــوداد إبجاي
تميت أعالج بروحي كالغـــــريق إبجاي

وانوح من بلوتي نوح الحمــــام إبغُرُب
أرعى وحوش الفلا هايم صـــباح وغُرُب
ماهي مُرُوَّة تخَلُّونا بـــــــدار الغُرُب

أبجي على شوفكم ما تسمعــــون إبجاي

ومقام النهاوند بهذا الزهيري نظم الحاج زاير الدويج ..

من يوم فركاك جسمي من صــدودك عود
هيهات بعدك يسليني نديـــــم او عود
كلما أعذل النفس روحي تكـــــلي عود

لي صاحب قط محد قــــــال بي لوله
لا والذي بالمـهد جبـــــريل إله لوله
لو ما يقولون واعرف بالحــــكي لوله

كنت احكي وياك لكن بالــــزبيبة عود

مقام الهمايون المُغنّى بهذه القصيدة للشاعر عبد الغفار الأَخرس ..

طهـِّرْ فؤادكَ بالرَّاحات تطهيـــرا
ودُمْ على نهبــك اللذات مسرورا
بادرْ الى أخذ صفو العيش مبتهـجاً
فما أود لوقت الأنس تأخــــيرا
فالواشي يعذلني والوجد يعــذرني
والصَّبُّ ما زال معـذولاً ومعذورا
يا أيها الرشأ المظل بناظــــره
قد عاد هاروت من جفنيك مسحورا
لقد نُصرتَ على كسر القـلوب به
مالي أرى جفـنك المنصور مكسورا
كأن صورته في العين إذ جُليــتْ
من فضَّةٍ قـِّدرت بالحسن تـــقديرا

مقام الحويزاوي المُغنّى بهذه القصيدة ..

أدار الكأس مترعة شرابا
وأهداها لنا ذهباً مذابا
وقد غارت نجوم الصبح لمَّا
رأته وهو قد كشف النقابا
ونحن بجنة لا خلد فيها
ولا واش نخاف به العقابا
أدرها يا غلام عليَّ صرفاً
وأرشفني بريقك الرضابا
وطاف بها على الندمان يسعى
كأن بكفه منها خضابا
وغنتنا على الاغصان ورق
نهز لهن اعطافا طرابا
وخل اليوم عنك حديث سلمى
فلا سلمى أُريد ولا الربابا

وقد غنى القبانجي مقام الحويزاوي مرَّة اخرى ، في ستوديو جميل بشير عام 1956 ولكنه حصل على شهرة كبيرة عندما غناه في حفلة مؤتمر الموسيقى العربية الثاني الذي عقد في بغداد عام 1964 التي تم تصويرها في التلفزيون .. بقصبدة من كتـــاب ألف ليلة وليلة ولكنها منسوبة الى العباس المبرد ، وكذلك منسوبة الى مجنون ليلى ..

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم
فحملوها وسارت بالهوى الإِبلُ
يا حادي العيس عرِّج كي أودِّعَهم
يا حادي العيس في ترحالك الأَجلُ
إني على العهد لم أَنقض مودتهم
يا ليت شعري بطول البعد ما فعلوا
لمل علمت بان القوم قد رحلوا
وراهب الدير بالناقوس منشغلُ
شبكت عشري على رأْسي وقلتُ له
يا راهب الدير هل مرَّت بك الإِبــلُ
فحن لي وشكى وأنَّ لي وبكى
وقال لي يا فتى ضاقت بك الحيـلُ
إنَّ البدور اللواتي جئت تطلُبها
بالأَمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا

وبالرغم من أَنَّ القبانجي سبق أَن غنى مقام اللامي على شكل أُبوذية ضمن تسجيلاته بألمانيا في عشرينات القرن العشرين بهذه الأُبوذية ..

علامه الدهر شتتــــــــنا وطرنا
بعد ذاك الطرب بالهـــــــم وطرنا
ألف يا حيف مكضينـــــــا وطرنا
ليالي اللي مضت متعـــــــود ليّا

ولكنه في ستوديو جميل بشير ايضا عام 1956 غنى هذا المقام مكمِّلاً مقومات شكله كمقام بالقصيدة أَدناه .. ثم أعاد غناءَه في مؤتمر الموسيقى العربية ببغداد عام 1964 ..

متى يشتفي منك الفؤاد المعذَّبُ
وسهم المنايا من وصالك أقربُ
أما منك إنصافٌ أما منك رحمةٌ
أما منك إسعافٌ أما منك مهربُ
أغارَ الهوى عمداً عليَّ فصادني
وأصبحتُ في أشراكه أتقلـَّبُ
كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يهينُها
تذوق شرابَ الموتِ والطفلُ يلعبُ
فلا الطفل ذو عقل يرقُّ لحالها
ولا الطير مطلوق الجناح فيهربُ



صورة / مطرب العصور المقامية محمد القبانجي يتقلد وسام المجلس الآسيوي
بريشة الفنان الكبير ابراهيم العبدلي

كرَّس القبانجي كل جهوده على توضيح الجمل الادائية للمقام ونظمها بصورة تدل على ذوق رفيع وكذلك عمل على توضيح الكلمة المغناة التي كان يسودها الادغام والغموض في لفظها وأعطى قيمة كبيرة لعنصري الفن والجمال في ادائه واهتم كثيراً بتفاعل المؤدي والسامع والعلاقة الضــــمنية الصريحة بينهما ..
لقد ربط محمد القبانجي الاداء المقامي بالحياة ، وبذلك كشف لنا عن اصالته .. لقد كان يسعى الى الاصالة فعلاً ، لأنه وعى ذاته من حيث موقفه من الحاضر وربطه بالماضي ، ورغم كل هذه الابداعات القبانجية التي ظهرت في النصف الاول من القرن العشرين ، لابد لنا أن نتجاوزها ونعي حاضرنا الذي يتيح لنا فرصاً أوسع للابداع من الزمن الذي ظهر فيه القبانجي ، خاصة ونحن ودعنا السنوات الأخيرة من القرن العشرين واستقبلنا القرن الواحد والعشرون ، وطبيعي أن وسائلنا الآن المتوفرة في عصرنا الراهن في الدراسة والتعليم واسعة جداً أكثر من أي وقت مضى وهي بازدياد مضطرد ، فلا سبيل للِّحاق بركب الحضارة والتقدم ، ولا سبيل الى الابداع الحقيقي في هذه الحقبة بغير الدراسة والمعرفة والاطلاع وترسيخ المباديء الابداعية العقلية .. لأن المعرفة غير التقليد وغير المحاكاة الجامدة ، إننا حين نفهم ماضينا جيداً ، نستطيع أن نكون على إستعداد لفهم المستقبل في الحقبة الزمنية التي نعيشها ..
عندما نتجاوز أصالتنا فلا بد أن نؤسِّس أصالة جديدة نابعة من أصالتنا القديمة أو أصالتنا الحقيقية ..!!
إن الوعي بالاصالة*19 الذي تمتع به محمد القبانجي ، يظهر غايته ويكشف إدراكه للمشكلة التي يواجهها في عمله الفني ، وهذا الوعي هو الذي كان السبب في مواجهة القبانجي الفاعلة للجيل السابق له ، إن بعضاً من أبناء جيله الذين سيطرت عليهم الافكار التقليدية سيطرة كبيرة ، غلب عليهم التقليد والنقل العفوي ..
إن جانباً كبيراً من مفهوم القبانجي للاداء المقامي ، مفهوماً تعبيرياً تطريبيّاً جمالياً .. لأن ما نلاحظه عند سماعنا لمقاماته التي أدّاها ، إنه يهتم بهذا الجانب كثيراً ، وقد قيل عنه انه قال يوماً (ان القضية قضية تطريب) (*20) وهو بذلك قد بلور هذا المفهوم بانجازاته التي تفوَّق بها على جميع أقرانه .. تفوَّق لأنه كان يدرك بالفطرة , ان الجمال ليس آلياً أو أُسلوب تلقائي للانفعالات ..! بل انه أدرك الطبيعة الحقيقية للتعبير عن هذه الجماليات ، وبذلك إستطاع أن يعيَ ميـِّزات الافعال الجمالية وان يعيَ ذاتَه في ادائه لموضوعها .. فضلاً عن إدراكه العميق بالعلاقة بين المبدع والحياة ، والذات والموضوع .. لذا فإنه بهذا الادراك قد تميـَّز عن كل أقرانه المؤدين من السابقين أو اللاحقين ، وكان لابد لهذا الادراك ولهذه العلاقات من أن يعيد التوازن المفقود بين الذات والموضوع ، ويكشف بالتالي عن الصلة الحميمية بين التجربة الادائية وصياغتها وكذلك يوازن بين الانفعال والفكر ..

3 - الصدق وعلاقات العمل الفني
إن التعابير الاصيلة التي تميـَّز بها المؤدون السابقون والتي إتسمت بالتعبير عن صدق مشاعرهم وتصوير معاناتهم وهمومهم ومشاكلهم بأصدق ما يمكن ، التي وصلت عند بعضهم حد السذاجة ، لذا فإن أهم ما ميـَّز هذه الحقبة ، هو النظر من جديد الى مفهوم الصدق*(21) هذا ، وطبيعي أَنَّنا لانقصد المعنى الحِرَفي للصدق ، بل ان هذا الصدق يحدث مع التجربة الخالصة ، فهي حبكة اذن .! يتوازن فيها الصدق والتجربة والابداع ، حبكة لابد ان يكون فيها إحكام في العلاقات ..
يتجلَّى الصدق التعبيري في غناء المقامات العراقية في تسجيلات محمد القبانجي ، الذي يعكس التاريخ الحقيقي لبلده العراق في الفترة المظلمة بعد سقوط العباسيين 656هـ 1258م في مقامه الشهير – مقام المنصوري – المغنى بهذه القصيدة المُخَّمسة .. لكاظم الازري والتخميس لراضي القزويني ، وهو أشهر منصوري ، بل هو أَعظم ما غناه محمد القبانجي ..


كيف يقوى على الجفا مستهام عنك لم يلهه نديم وجام
بك أقسمت والهوى أقسام إي وعينيك ما المدام مدام
يوم تجفو ولا النداما نداما
كم أقاسي ما لا تقاسي برضوى من غرام على الجوانح يقوى
مع إنّي على الجفا لست أُقوى كلما رمتُ أن أبثك شكواي
تلجلجت هيبةً واحتراما
أين من خمرة الحلال التي في أكؤس الطلا بذوق نزيف
ياغني اللمى عن التعريف ما لمن يترك المدامة في
فيك حلالاً ويستحلُّ الحراما


ان القبانجي في هذا المقام بالذات ، يعكس حقيقة الهموم والمعاناة التاريخية للشعب العراقي ، فإلى أين يجب ان يتأمل المواطن العراقي من أجل إكتشاف ومعرفة ما فعله الغزاة المجرمون بآبائنا وأَجدادنا ..!؟ إلى أين يجب أن يتأمل العراقي ، كم أن هذه الاقوام الغازية والمحتلة فرضت العصور المظلمة على العراق ..!؟ إلى أيِّ مدىً يجب على المواطن العراقي أن يتأمَّلَ، كم أَنَّ سبعة قرون عاشها العراقيون في ظل هذه الاقوام المجرمة التي فرضت الجهل والتخلف والفساد والاعتداء والظلم والاغتصاب والتشتت على كل البلاد ..!؟
ان هذه الاقوام عدوٌّ رئيسي بالنسبة للعراقيين ، كما انها شيئ أسوأ ..! إنها الاقوام المتعددة التي توصف بالاجرام والارهاب والوحشية على مدى تاريخها .. وهكذا يكشف لنا محمد القبانجي في مقامه الشهير – المنصوري – من خلال تعابيره المذهلة ، مازجاً العقل والفطرة في ادائه ، حقيقة هذه المراحل التاريخية ، حقيقة هذه الاقوام المجرمة التي يوضح فيها ذروة الاستنكار والاستهجان والعتب والشكوى والاحتجاج من القدر الذي كتب على هذا البلد الحضاري الذي يمثل اقدم حضارات الانسان ..!! والذي إبتلي بهذه الاقوام ..!



صورة / محمد القبانجي في ريعان الشباب


وهكذا تأتي التعابير الصادقة عن التاريخ ، عاملاً مساعداً بصورة مباشرة في بناء العلاقات وتقويم الاداء ونجاحه وإعطاء الصورة الحقيقية الصادقة للاحداث الماضية ..
إن إدراك ربط هذه العلاقات غالباً ما يأتي من خلال التثقيف والدراسة ، لأن الإلهام أو الموهبة أو الفطرة لا تكفي لوحدها ، فلا بدَّ من تدخل العقل والفكر ونقد ما نؤدي والعمل المتواصل والاجتهاد والتمرين المستمر .. لذلك نفهم ان الاداء الغنائي موهبة وطموح وتمرين متواصل ودراسة وفكر وحبكة وإدراك ..! ولا تكون هذه الحبكة عند أُستاذنا القبانجي بالمعنى الذي يلغي الانفعال والتوتر الانساني ، بل هي مرادفة لسيطرته على تجربته ووسائل تعبيرها .. فكان لابدَّ أن تكون انجازاته الابداعية ذات قيم فنية عالية .. فلا بدَّ إذن ، الاهتمام بطرائق الاداء وتعدُّد الاساليب ، زيادة في الثراء وإغناء المادة التراثية ، لنبني من خلالها إبداعات وافكار وجماليات جديدة لصور متعددة ، لأن الافكار والابداعات الناجحة ذات الاحاسيس العميقة تفقد جمالها اذا جرَّدتها من جمال الصورة ، إذن لابد ايضاً من توافق المحتوى مع جمال الشكل .. وبالعكس اذا لم يكن هذا التوافق جيداً ، فإن كثير من التفكير والإِحساس يضـيع لهذا السبب ..

4 - فهم الأَداء وقدرة المُؤدّي
إن ضبط هذه المقومات والمستلزمات لتنمية الاداء الغنائي وفهمها ، تساعد الناقد الموسيقي كثيراً على فهم التجربة الادائية ، لأن المفهوم الصحيح للاداء الناجح هو إدراك هذه العلاقات للعناصر ببعضها وبالتالي يكون تفاعل الذات مع موضوعها وكشف موقفها من الحياة المعاشة ..
إن كل هذه المقومات رهينة ، بكل جوانبها ، بقدرة المؤدي ..! وأي إختلال في توازن المؤدي ينتج عنه إختلال في حبكة ترابط العلاقات ومتطلبات العمل الناجح في الأداء الفني .. ومن الأسباب التي تؤدي الى إختلال توازن المغني مثلا ً .. الإِسهاب أو الإسراف في جمل أَدائية لا تتحمل التكرار والإِعادة ، فيكررها زيادة عن اللزوم ، أو تكرار وإعادة لبعض كلمات القصيدة الشعرية المغناة بلا داعي لذلك .. والطامة الكبرى أَنَّ المؤدي في بعض الأَحيان لا يفهم كنه القصيدة في مضامينها الشعرية واللغوية ، فنلاحظ إختلال أكيد في تصوير معاني القصيدة من خلال الاداء .. إضافة الى أن بعض المغنين يغلب عليهم الغموض في توضيح مفردات القصيدة لفظياً ..! مما يشغل السامع ويجتهد في فهم الكلمات ، في حين ان العمل سائر دون توقف ، وكل ذلك وغيره الكثير من الاسباب التي تؤدي بالعمل الادائي الى عرض صور متنافرة او غامضة تحتاج الى كثير من التعديل والتوضيح ..
صورة / الناقد الموسيقي الكبير عادل الهاشمي في اليمين وحسين الاعظمي يوم 28/1/2001

إن الاداء الاصيل مهما كانت تعابيره ، فهو نقيض لليأس ، فاليأس صمت .. وذروة القوة أن تدفعك المعاناة الى متسع الحياة ، إن التعابير الحزينة التي يتصف بها اداء المقام العراقي بصورة عامة ، تعابير مهذبة تنم عن أصالة حقيقية صادقة ، وهي تعابير تفاؤلية ليست هروبية ولا إندحارية ، إنها تعابير حزينة لذيذة تنقلنا في جو عالم من الاحلام والتأملات تعبـِّر عن نظرة جديدة تأملية لحياةٍ أفضل وأُفقٍ مستقبليٍّ أوسع تفاؤلاً ..



صورة / محمد القبانجي في شبابه

5 - العَلاقة بين التَّجربة والإِستفادة منها
إذا كان المؤدي يدرك طبيعة العلاقة بين تجربته الادائية واستفادته المباشرة من هذه التجربة ، هذه التجربة التي يستجمع فيها المؤدي ما في مقدوره حين يقدم عملاًً فنياً ناجحاً .. هذه العلاقة التي إن إستطاع المؤدي أن يجعلها وثيقة ، فإنه يعني أن العلاقة ستكون هي الاخرى وثيقة بين الانفعال والفكر ..! وفي الحقيقة ، لا يمكن لنا ان نجرِّد الانفعال عن الفكر ولا الفكر عن الانفعال ، لأن في فصلهما يتحقق التناقض ..! وخلال العملية الادائية ، لا بد للمؤدي أن يفكر بأحاسيسه ، لأن الاحاسيس هي التي تجعلنا قريبين من الحياة ، فالفن الغناسيقي إبداع وابتكار ، وهذا الابداع لا يمكن ان يكون عقلياً بحتاً ، بل ينبع من خلال الاحاسيس الفطرية الممتزجة بالتجربة الحية الخالصة ، ومن ثم يهذبها العقل ويبلورها لتظهر في صورتها الأخيرة ، فالفنان المؤدي يفكـِّر إذن في أُسلوب الاداء وتنميته ليدب الحياة في العمل الفني ككل .. وعندما تتلاقى وتتمازج هذه الانفعالات مع الفكر ، فقد لا يكون هناك شيئاً منطقياً .! لأنهما أصبحا كلا ًواحداً ..! واذا تمكنَّا أن نعيَ ونفهمَ هذه الحقائق فإننا نستطيع ، بطبيعة الحال ، أن نفهمَ معنى الابداع ، ونفهم ايضاً أن الذات تدرك موضوعها ، ومن تمازجهما تتحقق الوحدة في العمل الفني لأنها نتاج للتفاعل ..

6 - الصِّدق مرة أُخرى
يمكننا هنا أن نعود الى صدق المؤدين السابقين في أدائهم ، حيث أصبح هذا الصدق نسبة الى حياتنا المعاصرة ، أمراً قاصراً في موضوع الاداء ، لأنه قد لا يتفق مع موضوع الابداع الذي أمسى يتميــَّز بمضامينه الفكرية رغم جذوره العفوية .. !
لقد كان لسان حال المؤدين السابقين قد قال بكل قوة .! إن الصدق هو مقياسنا الوحيد في النجاح الادائي ، وهو أمر صحيح نسبة لظروف الحقبة ، ولكنه الآن اصبح أمراً متخلفاً بدائياً .! لأن الاداء الغناسيقي الفني قد اصبح في وقتنا الراهن أقرب الى واقع الحياة من الصدق لوحده ، ولا أكون مغالياً إن قلت ان الاداء بمقوماته ومستلزماته الفنية ، هو الذي يخلق الصدق ..!
لقد أدرك القبانجي من خلال تجربته الحياتية والفنية وفطرته الثاقبة ، إن الاداء الغناسيقي الحديث أمسى يختلف في مفهومه عن الأساليب الادائية التقليدية بما تقدمه حياتنا المعاصرة من إمكانات ووسائل في التركيز على حبكة العمل الفني .. لابدَّ للناقد إذن ، أن يحلـِّـل كل جزء من بناء العمل الفني لأنه قد يكتشف أشياء تحتاج الى تدارك أو تصحيح ، وهو أمر يكاد أن يكون أكيداً ، فالاداء أو العمل الفني برمَّـته كوحدة متكاملة ، بحر كبير فيه مفارقات وظلال يساعدنا عليها الناقد الموسيقي ليحقق مقومات النجاح .. وفي كل هذه العملية نحتاج الى ذوق مدرَّب ذي ثقافة معاصرة وخيال رحب ..

7 - منهجُ الطَّريقة القبانجية
عندما بدأ القبانجي مسيرتَه الفنية مطلع القرن العشرين ، كان من الضروري أن يبحثَ عمـَّا يدعمُ منهجَه الأَدائيّ الجديد ، طامحاً في جعل هذا المنهج أصيلٌ له مقومات الأصالة ، والحق يقال ، إن القبانجي كان أصيلاً حقاً ، في موقفه البطولي ضد الهجمات الشعواء التي أُثيرت ضد منهجه الابداعي الجديد ، وكان موقفاً شجاعاً في سبيل تثبيت هذا المنهج .. كان شامخاً فعلاً ، إستطاع أن يكون حلقة الوصل الفاعلة بين الأقدمين من المؤدين والمحدثين ، وينتقل بهم الى أُفق جديد رحب .. وذلك سعي واضح من أجل تأصيل مفهومه الادائي الجديد ، كطريقة وأُسلوب للتميُّز عن تلك الاساليب الادائية التي كانت سائدة ، وأعتقد أنه من المؤكد أن الرائد القبانجي ، كان لابد له أن تناولَ بالتفحيص والتمحيص المناهج الادائية القديمة للمؤدين الذين سبقوه للاستفادة منها ليكون بالتالي حلقة الوصل الفعالة بين السابقين واللاحقين ..
إن الأصالة تسير بنا الى مناهج متقدمة ، أما إفتقادها يؤدي بنا الى الإتكاء على مناهج متخلفة مبعثرة .. إن فهم العمل الادائي الغناسيقي يعد أهم واجبات المؤدي ، وبالتناظر فإن فهم الناقد الموسيقي للعمل الفني فهماً تحليلياً يعد من أهم واجباته النقدية ، إن هذا الفهم والادراك الذي قدَّمه لنا الرائد القبانجي عبر عدة عقود من السنين ، في حياة حافلة بالانجازات الفنية ، خاصة عندما أُتيحت فرصة تسجيل المقامات العراقية بصوته على اسطوانات – الحاكي ، الكرامافون – لأول مرَّة ونشرها في أوساط إجتماعية أوسع بكثير من ذي قبل ، كانت فعلاً فاتحة عهد جديد للاداء المقامي وعلى كل الاصعدة ..
مرت السنوات تلو السنوات ومحمد القبانجي متربع على عرش الاداء المقامي ، رغم التغيـِّرات المستمرة في الحياة ، فقد ظل القبانجي مواكباً لها ، معاصراً لجميع سماتها الذوقية والجمالية ، ولاشك ان الفرصة التي اتيحت له في العشرينات من القرن العشرين عندما بدأ يسجل تلك المقامات الكثيرة لصالح الشركات الاجنبية ومشاركته في المؤتمر الموسيقي العربي الاول عام 1932 بالقاهرة ، قد ساعدته بالتأكيد في التعرف على العالم الخارجي والاستفادة من الملاحظات والمشاهدات ومن ثم إمتلاك أُفق فكري رحب وواسع ..!! ولاشك ايضاً ، أن إستجابته المخلصة للواقع المعاش المتغيِّـر قادته الى مرحلة أُخرى ، بل مراحل أُخرى ركـَّز فيها على نشر تطلعاته الادائية في الجمال والذوق والقواعد التقليدية وتوضيح اللفظ ومخارج الحروف والنطق بالكلمات وفهم معاني الشعر المُغنى والتعابير المذهلة وتماسك علاقات البناء اللحني للمقام المغنى التي ألبسها لباساً جديداً بحق ، إبتداءً من مقاماته في العشرينات والتسجيلات التي أعقبتها .. وبالتالي يمكن لنا أن نحدِّدَ بعض النقاط التي إعتمد عليها منهج القبانجي في الغناء المقامي الذي تطور وتبلور ليصبح طريقة غنائية لها أتباع كثيرون أسميناها بـ – الطريقة القبانجية –



صورة / محمد القبانجي

1 – توازن الاهتمام بين شكل ومضمون المقام العراقي ..
2 - توضيح النطق بالكلمات والاهتمام بمخارج الحروف نسبياً ..
3 - محاولة مواءمة فهم معاني الكلام المغنَّى لتناسب المسارات اللحنية المعبـِّرة عنها ..
4 - بناء جمل لحنية مقامية ذات علاقات سُلـَّمية متينة بديناميكية أدائية متماسكة أكثر من السابق ..
5 - الخروج لأول مرَّة عن طوق المحلية والتأثر بموسيقات خارجية أُخرى في الشكل والمضمون ..
6 - عملية تعريق تعابير ما تأثر به القبانجي من جمل غنائية وأدخلها في صلب المقامات (أي ألبسها روحاً عراقية)
7 - المنحى الابداعي في التجديد وتطور النواحي الفنــــية في الاداء المقامي ..
8 - تطور الطابع الدرامي لفن الغناء والدور الجديد والمهم في تقوية وتفاعل هذا الغناء بالمتلقي الذي هو حصيلة العمل الفني بأجمعه ..

8 - موقفُ القبانجي من النقد
إن الفنون بصورة عامة ، إنعكاس للحياة المعاشة وتطورها ، وهذا الانعكاس يكون إيجابياً في الأعمِّ الأغلب .. أما بالنسبة الى الحركة النقدية التي عاصرت ظهور القبانجي وبعض المؤدين الآخرين وما آلت اليه ، فالمعلومات تخبرنا أن إنقساماً في الاتجاه الفكري والجمالي لهذه الحركة قد حصل بصورة واضحة فيما بين النقاد والمتخصصين والجماهير والوسط المقامي برمـَّته ، بسبب التطلعات الجديدة التي ظهرت على الساحة الادائية للمقامات العراقية ، فقد ظهرت فئة مؤيدة للمباديء التجديدية والتطلعات المعاصرة التي إتسمت بها تلك الحقبة فعلاً التي ساهم القبانجي على تنميتها ودعمها مادياً ومعنوياً في سبيل إثبات صحة منهجه واتجاهاته الجمالية مقترنة بالتجديد والابداع .. وفئة أُخرى ظلَّ هاجس العودة الى الجماليات القديمة مسيطراً عليها ، ولا بد من الاشارة الى ان القبانجي إستطاع بذكائه المفرط ان يشغل الاوساط منذ ظهوره ولحد الآن ..! ويخيَّل اليَّ أن له ضلعاً كبيراً في تنشيط هذه الحركة النقدية التي أسهبت في الحديث عن إنجازاته الادائية الفنية ، وهذا يعني ان القبانجي في هذه الحقبة من ظهوره قد ساهم في جعل الحركة النقدية هي الاخرى حركة ديناميكية جديدة تعمل بنشاط لكثرة التغيُّرات والمفارقات في الطرح رغم أهدافه الذاتية فيها ..! هذا الفهم الجديد للنقد الموسيقي له بدايات تجلـَّت في دراسة وتحليل الاداء المقامي لدى المؤدين المقاميين السابقين واللاحقين للقبانجي ، وللقبانجي نفسه ، وبالرغم من الحركة الديناميكية الجديدة للنقد الموسيقي والمقامي ، فما زلنا ازاء قلَّة لا يستهان بها من تأثر بعض النقاد بالذوق الخاص الذي لا يعتمد على المــفاهيم التحليلية الدراسية المنطقية ..
صورة / حسين الاعظمي في اليمين والناقد الموسيقي الكبير عادل الهاشمي في اليسار

سيبقى الانسان بحاجة ماسَّة الى التعبير عن ذاته والتنفيس عن آلامه وهمومه ومعاناته الخاصة ، فعلى المؤدين جميعاً في الغناء والموسيقى او الفنون الاخرى ، ألا يسرفوا في الاهتمام بالمضمون على حساب الشكل ، لأن الغناءَ والفنَّ عامّةً لايمكن أن يكونَ ذا تأثير ولا يمتلك الروعة المطلوبة إلا إذا توازنت العملية الادائية بين شكل ومضمون العمل الفني .. وعليه فإن هذه الاحكام لا أعتقد أنها تؤثر على الاسس المنطقية السليمة للعمل الفني اذا تم إستحضار كل المقومات المطلوبة لنجاح العمل .. ثم هي ايضاً لا تعكس اي تغيـُّر جذري في التفكير النقدي ، بل العكس صحيح ، إنها تصدر عن نزعة إصلاحية ، تدعُ الى توازن جميع الظروف المحيطة بنتاج العمل الفني وتبقى الاصالة الحقيقية في النقد المقامي المعاصر تكمن فيما أنجزه النقاد في هذا الموضوع ..


صورة / مطرب الاجيال محمد القبانجي في صورة تخطيطية


9 - في النَّقد المقامي المعاصر
إن أصالة النقد المقامي المعاصر ، ومضامينه التحليلية للاعمال والنتاجات الادائية المقامية ، سواء في غناء أو عزف المقامات العراقية ، يبدأ من إنجاز المؤدين المقاميين الكبار السابقين الصادقين في تعابيرهم الادائية الذين خلـَّفوا نتاجات غنائية وموسيقية مقامية ، أثـَّرت بصورة كبيرة في كل الاجيال التي أعقبتهم حتى يوم الناس هذا ، سواء عن طريق التدوين التاريخي المكتوب او عن طريق التسجيلات الصوتية المسموعة .. امثال رحمة الله شلتاغ واحمد الزيدان ورشيد القندرجي وخليل رباز وحمد بن جاسم ابو حميد وجميل البغدادي وعباس كمبير ويوسف حريش وغيرهم .. ومن الاجيال اللاحقة محمد القبانجي ونجم الشيخلي وجميل الاعظمي ويوسف حريش ورشيد الفضلي وسليمة مراد وعبد الهادي البياتي وحسقيل قصاب وحسن خيوكة وسليم شبث وفلفل كرجي ويوسف عمر وناظم الغزالي وغبرهم .. أما قبل الحقبة التي سبقت هؤلاء الكبار ، فإن الشكل الغناسيقي للمقام العراقي لم يكن قد تبلور بالكامل وبالصورة التي وصلتنا الآن كما يبدو ، وبناءاًعلى ذلك ، لم تكن وجهات النظر النقدية في تلك الحقبة الزمنية السابقة سوى آراء ووجهات نظر تراثية عفوية تبدأ بين الجماهير المستمعة الى المقام العراقي إضافة الى جمهور حفلات المقاهي البغدادية التي كان المقام العراقي يؤدى فيها بصورة واسعة كنافذة ربما كانت الوحيدة ليصل الى أسماع الجماهير ، حيث لم يفكر أحد في توثيق وجهات النظر النقدية هذه ، وإن وثــِّقت فهي قليلة جداً نظراً لتلك الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والفنية بطبيعة الحال .. ويبدو لنا ان الشكل الغناسيقي للمقامات هذا ، قد وصل الى ذروة تبلوره واستقراره في شكله ومضمونه الذي يعرف به حالياً من حيث عناصر تكوينه ومساراته اللحنية التقليدية ، في الحقبة التي ظهر فيها هؤلاء الكبار من المؤدين والتي تمتد الى أكثر من مئتي سنة سابقة ..! ولعل إبتكار جهاز التسجيل الصوتي الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين ، قد عمل بصورة حاسمة على تثبيت هذه الأُصول الشكلية لغناء المقام العراقي ، وأمست هذه التسجيلات الصوتية في غناء المقامات العراقية بأصوات مغني تلك الحقبة وما بعدها ، مرجعاً لكل المغنين الذين عاصروا حقبة ظهور هذا الابتكار الصوتي وكل اللاحقين لهذه الحقبة .. لذا فإننا نادراً ما نحظى الآن بجهد أو إبداع أصيل للشكل المقامي كأصالة الجهود السابقة لروَّادنا الاوائل الذين أرسوا دعائم هذه التقاليد الادائية في مساراتها اللحنية والقواعد والعناصر التي يتكون منها شكل ومضمون المقام العراقي .. وفي هذا الصدد ، أعتقد أن الحقب التي تلت الحقبة الاولى في التسجيل والتوثيق والارشفة إستمرت تدريجياً بالاضمحلال في الابتكار والابداع والتأسيس للاشكال المقامية .. وكل ما نجد فيها محاكاة اداء تلك المسارات اللحنية المخضرمة .. ولكنها في الوقت نفسه كانت الحقبة الحديثة والمعاصرة من زاوية اخرى ، ثورة جديدة في الابداع التعبيري الفني للاداء المقامي ، وأعتقد ايضاً أن ردود الفعل المستمرة في التطور المستمر للعلوم التكنولوجية قد عملت على تنمية الشعور الغريزي والعفوي ، وحتى الهواجس اللاواعية لدى المواطن للمحافظة على هذه الاسس التقليدية وهذه المسارات اللحنية المتعارف عليها خوفاً من تهجينها من خلال التطور المخيف للاجهزة الصناعية والتكنولوجية ، منذ أن ظهر للوجود جهاز التسجيل الصوتي الذي إمتلك فيه الانسان لاول مرة ناصية نظام الاعادة والتكرار لهذه التسجيلات وانتشارها ، الأمر الذي جعل منها أساساً تقليدياً صارماً ومرجعاً نموذجياً في بقاء هذه المسارات اللحنية التي نعني بها الشكل المقامي ( form ) التي أصبحت لا مناص في الاستمرار بتقليدها والاعتماد عليها كموروث لا ينبغي التلاعب به ، وتلك مفارقة لا بد من تأملها .! إذ أن المتوقع من إبتكار جهاز التسجيل الصوتي أن يظهر هذه المكونات التقليدية أو يعمل على تشتيتها أو تهجينها ، بيْد أنها على العكس تماماً عملت على تثبيت هذه الاسس التقليدية وجعلها نظاماً وقالباً ثابتاً لا ينبغي تجاوزها ..!! ولكن تطورها المضطرد ونحن قد ودَّعنا القرن العشرون أعاد خشية الناس على موروثاتهم التي قد تدمرها أو تهجنها هذه التطورات التكنولوجية المذهلة المستمرة ..
إن نقدنا الحديث والمعاصر ، لا يمكن له أن يكون أصيلاً إلا بالانتباه الى جهود النقاد الغناسيقيين الاوائل ، خاصة في الاداء التراثي ، الذين كثيراً ما جابهوا تيارات مضادة متنوعة الاتجاهات والجوانب ، ونظراً لما نعيشه من ظروف نستطيع من خلالها أن نعبـِّر عن آرائنا النقدية بكل حرية سواء في الفن او الفكر والابداع .. الخ فلا بدَّ أن نتخذ موقفاً يتضمن نفياً للمباديء المتخلفة ، وتأييداً وإصراراً للمباديء والمفاهيم المتقدمة او التقدمية ، ليتوحد هذا النقد مع حركة الابداع والتطور والابتكار في الفن كموقف موحد .. وبذلك نستطيع أَن نكوِّنَ من هذه النظرة ، نظرة جديدة الى الاداء المقامي المعاصر ، يكون فيه المقام العراقي أو التراث الغنائي عموما مرتبطا بمبدعيه ومؤديه .. وعليه لابُدَّ أَن نحصلَ على أَداء وجداني له خصوصية مُميـَّزة وإمكانية كبيرة في إنجاز ديناميكية أدائية جديدة مستقلة عن الموروث والتحرر من سطوته ..!




صورة / الناقد الموسيقي الكبير عبد الوهاب الشيخلي (1928 – 2007)

كان ينبغي على النقد في حقبة روَّادنا النقديين مطلع القرن العشرين ان يخوضَ المعاركَ ويجابه بكل صلابة الاساليب الادائية القديمة التي فرغت من محتواها حقاً .. يلغي مباديء ومفاهيم ويُؤَكِّد أُخرى ويدعمها ، ورغم أن ذلك كان يحتاج الى جهد ومشقة كبيرين ، فقد كان من ناحية اخرى يحتاج الى صمود النقاد والاصرار على مواقفهم ، ولكن هذه الجهود النقدية رغم تذبذبها كانت أساساً متيناً للحركة النقدية المعاصرة سواء في فنون الموسيقى والغناء او الفنون عامة ، التي أثمرت عن ظهور نقاد جيِّدين في الموسيقى والغناء رفدوا الساحة َالغناسيقية َعلماً وتقويماً على مدى القرن العشرين كجلال الحنفي وعبد الكريم العلاف وعبد الوهاب بلال وعبد الوهاب الشيخلي وهلال عاصم وحمودي الوردي ووحيد الشاهر وسعاد الهرمزي وعادل الهاشمي وحميد ياسين وحامد العبيدي واسعد محمد علي وسعدي حميد ود.هيثم شعوبي وفائز الحداد وفلاح المشعل وسامر المشعل وغيرهم .. ويبدو أَنَّنا نستطيع أن نشيرَ الى الناقد المجتهد عادل الهاشمي أكثر من غيره بمستواه وانتظامه واستمراره في الكتابة النقدية دون انقطاعات تذكر منذ أكثر من أربعين عاماً مضت ..

10 - ثقافة ُالمُغنيّن
لسبب في ضعف الثقافة الموسيقية والعلمية والثقافة العامة ايضاً ، لكثرة من المغنين ، فإن الارتباك في بناء العلاقات الادائية أمر وارد في اداءاتهم الغنائية ، مثل تصوير المعنى الشعري للكلام المُغنّى او علاقة الذات بالموضوع او ديناميكية الاداء او علاقة التحولات السلَّمية داخل المقام الواحد وتماسكها ... الخ كل هذه الامور مربكة هي الاخرى ..!
وفي غمرة ذلك الجهد والمشقة النقدية ، غابت أشياء مهمة وظلت قضايا ملحة دون حلول مقنعة ودون مناقشة جادة لها ..






الهوامش
- *– منح اللقب الفني للقبانجي : انظر مضمون الامر الاداري الصادر يوم 12/10/2003 بعدد 14 في نهاية مقدمة الكتاب ص الذي ينص على حصول محمد القبانجي لهذا اللقب الفني ..

- الاصالة .. Originality 19 -
القدرة على الابداع والابتكار في انتاج ادوات او مخترعات او اعمال فنية او ادبية , وبعبارة اخرى هي امتياز الشيء او الشخص على غيره بصفات جديدة صادرة عنه – ( الاعظمي , حسين اسماعيل , المقام العراقي الى اين ؟ , ط1 اولى , بيروت , 2001 , ص 99.
- 20* القضية قضية تطريب : قيلت عنه من قبل اصدقائه ، انظر كتابي الاول / المقام العراقي الى اين.؟ / موضوع عن القبانجي في ص143 الى ص 148 ولاحظ ص145

- 21* الصدق : مفهوم واسع له عدة معاني تختلف باختلاف المسائل التي يهتم بها الباحثون عند التعرض لمعنى الصدق ، وفي ميدان البحث يقصد بالصدق ان يقيس الاختبار ما وضع لقياسه ، أي ان الاختبار الصادق يقيس الظاهرة التي يزعم انه يقيسها ولا يقـيس شيئا اخر بدلا منها او بالاضافة اليها ..



ملاحظة / كل الاغاني ونوطاتها التي وردت في هذا المحور موجودة في كتابي الموسوم (المقام العراقي باصوات النساء) الصادر في كانون الثاني January 2005 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر .. وكتابي (الطريقة القبانجية في المقام العراقي واتباعها) الصادر في بيروت عن نفس المؤسسة مطلع عام 2009