آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة في الشعر الأندلسي والمغربي

  1. #1
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية جمال الأحمر
    تاريخ التسجيل
    10/07/2008
    المشاركات
    1,626
    معدل تقييم المستوى
    17

    الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة في الشعر الأندلسي والمغربي

    الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة في الشعر الأندلسي والمغربي


    بقلم: الأستاذ الدكتور الربعي بن سلامة*

    *عميد كلية الآدب واللغات ـ جامعة منتوري قسنطينة




    إذا كان جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تنبض قلوبهم بحب البقاع المقدسة، فيتشوقون إليها وتهفو نفوسهم إلى زيارتها لأداء فريضة الحج أو العمرة أو هما معا، فإن للأندلسيين والمغاربة وضعهم التاريخي/ الجغرافي الذي يجعل شوقهم وحنينهم إلى تلك البقاع أكثر تميزا وأكثر حرارة من أشواق الآخرين؛ فالأندلسيون يشعرون بأنهم أبعد من غيرهم عن مركز العالم الإسلامي، وبأنهم مفصولون عنه ببحر متلاطم الأمواج، وبأنهم محاطون بأمم تناصبهم العداء وتنتظر ضعفهم أو غفلتهم للانقضاض عليهم. وإذا أضفنا إلى هذا الوضع التاريخي الجغرافي طبيعة المواصلات آنذاك وصعوبتها في البر والبحر ـ وعرفنا أن مفهوم " الاستطاعة " يعني فيما يعنيه القدرة على تحمل أعباء الرحلة ماديا ومعنويا، وهي متطلبات وتكاليف لم يكن باستطاعة معظم الناس تحملها، وأمام شعور بعضهم بالعجز عن أداء هذا الواجب الشرعي ـ فإنه لا يبقى لهم إلا الأمل والتمني؛ اللذان يحولان دون الاستسلام لليأس والقنوط، ويحافظان على جذوة الأشواق ويؤججان مشاعر الحنين لدى المؤمنين الذين لا يجوز لهم أن يقنطوا من رحمة الله، لأنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.

    وقد جمعت الظروف التاريخية بين الأندلسيين والمغاربة في الكثير من الأحيان، كما قربت بينهما الجغرافيا، ولذلك نراهم يشتركون في الكثير من ملامح هذا الغرض الأدبي؛ الذي ظهر عندهم في العديد من المناسبات كما ظهر من خلال الرحلات التي كان المغاربة والأندلسيون يحرصون على تدوينها، بعد عودتهم من البقاع المقدسة، ليمكنوا مواطنيهم من الاستمتاع بزيارة تلك البقاع بخيالهم ومشاعرهم، بعد أن عجزوا أو حالت الظروف بينهم وبين القيام بتلك الرحلة الحلم، وسيتضح لنا هذا بعد أن نستعرض بعض النماذج من أشعار الأندلسيين والمغاربة.


    أولا: الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة في الشعر الأندلسي

    الأندلسيون كغيرهم من المسلمين يؤمنون بأن الحج ركن من الأركان التي يجب على كل مسلم تأديتها متى استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن الظروف التي ذكرنا بعضها تحول بين بعضهم وبين أداء هذا الواجب المقدس؛ الذي يلح عليهم مرتين كل سنة، إذ كان من عادة الأندلسيين أن يحتفلوا بالمولد النبوي الشريف، وهي مناسبة ترحل فيها عقولهم ومشاعرهم إلى تلك البقاع التي شهدت مولد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحتضنت معجزاته، وشهدت فجر رسالته التي أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، ولكن مناسبة توديع الحجاج وتشييع مواكبهم كانت أكثر إثارة لهذا النوع من المشاعر لدى المتخلفين ـ وخاصة العاجزين منهم ـ الذين تشتد بهم الأشواق ويجرفهم الحنين فتسافر قلوبهم وترحل أرواحهم مع الراحلين، ولا يبقى لهم إلا تلك الأجساد المحطمة التي أضناها الشوق وحالت الظروف بينها وبين الرحيل مع تلك المواكب المحظوظة.

    ومن أوائل ما لدينا من شعر هذا الغرض تلك القصيدة التي خاطب بها الشاعر عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي ( ت 521 هـ) مكة المكرمة:(1)

    أمكـةُ تفديكِ النفوسُ الكرائمُ ** ولا برحت تنهل فيك الغـمائمُ
    وكُفَّتْ أكُفُّ السوءِ عنْك وبُلِّغتْ ** مُناها قلوبٌ كي تراكِ حوائمُ
    فإنـك بيت الله والحـرمُ الذي ** لِعِزَّتـه ذلَّ المـلوك الأعاظمُ
    وقد رُفـعت منك القواعد بالتقى ** وشادتْكِ أَيْدٍ برّةٌ ومـعاصمُ
    وساويت في الفضل المقامَ كلاكُما ** تُنالُ به الزلفى وتُمْحى المآثمُ

    وبعد أن دعا لمكة المكرمة وأشاد بمكانتها وعدد بعضا من فضائلها؛ التي من بينها أن زيارتها تمحو الآثام، انتقل إلى الحديث عن مشاعره الخاصة فقال:

    أَلَهْفي لأِقْدار عـدتْ عنكِ همتي ** فلم تنـهض مني إليْكِ العزائمُ
    فياليت شِعْري هلْ أُرى فيك داعيًا ** إذا ما دعتْ لله فيكِ الغمائمُ
    وهلْ تَمْحُوَنْ عنِّي خطايا اقترفتُها ** خُطًى فيكِ لي أو يَعْمَلاتٌ رواسمُ
    وهل لي من سقيا حجيجكِ شَرْبةٌ ** ومن زمزم يُرْوي بها النفسَ حائمُ
    وهـل لي في أجر الملبـين مَقسِمٌ ** إذا بُذِلتْ للناس فيـكِ المَقاسِمُ
    وكم زارَ مغناكِ المعظّمَ مًجـْرِمٌ ** فحُطتْ به عَنـْه الخطايا العظـائمُ
    ومن أيْنَ لا يُضْحِي مُرَجِّيكِ آمنا ** وقد أمنت فيك الْمَهَا والحمائمُ
    لئِن فاتني منـكِ الذي أنا رائم ** فإن هـوى نفسي عليك لدائمُ
    وإنْ يحْـمني حامي المقادير مُقدمًا ** عليك فإني بالفـؤاد لقـادم
    عليكِ سلام الله ما طاف طائـف ** بكعبتكِ العُـليا وما قام قائمُ

    ولا يخفى ما في هذه القطعة من أشواق عبر عنها الشاعر بالعديد من الوسائل منها قوله: "ألهفي لأقدار عدت عنك همتي" وقوله: "فيا ليت شعري "كما عبر عنها بالعديد من أدوات الاستفهام، التي تكررت في النص، ومنها "هل أُرى" و"هل تمحون عني" و"هل لي من سقيا" و"هل لي في أجر الملبين" فهذه الاستفهامات التي تكررت أربع مرات في أربعة أبيات متتالية لم تستخدم في محلها لأنها لم تكن تهدف إلى استفهام عن شيء مجهول وإنما استخدمت لغرض آخر هو تأكيد التمني وإبراز التلهف إلى زيارة تلك البقاع التي تُغْفر لزوارها الذنوب وتُحط عنهم الأوزار.

    ومن الشعراء الذين أضناهم الشوق إلى بيت الله الحرام وتعذر عليهم الوصول إليه، يحي بن بقي أبو بكر المعروف بالسلاوي؛ الذي يقول: (2)

    يا حُداة العيس مَهْلا فعسى ** يبلغُ الصبُّ لديـكم أمَلا
    لا أخاف الدهر إلا حاديا ** ظَلْتُ أخشاه وأخشى الجَمَلا
    أودعوني حُرَقاً إذ ودّعوا ** غادروا القلب بها مشتـعلا
    آهِ من جسم غدا مُستوْطنا ** وفـؤادٍ قد غدا مـُرتحِلا
    شُعْبة شَرْقا وأخرى مَغْرِباً ** منْ لـهذين بأن يشـتملا
    يا رجالا بين أعـلام مِنًى ** إلثِموا الأستار واسعَوْا رَمَلا
    وقفوا في عرفاتٍ وقفة ** تمـحو عن ذي زلة ما عمِلا
    وإذا زرتمْ ولاحتْ يثربٌ ** فاكْحلوا بالنور منها المُـقلا
    تُرْبـةٌ للوحي فيها أثرٌ ** غـودِرَ البدْرُ بـها قد أفـلا
    كيف أنتمْ سمح الله لكمْ ** كيْفَ ودعتمْ هـناك الرُّسَلا
    كيف لم تنضج قلوبٌ حُرقا ** كيف لمْ تجر عيونٌ هَمَلاَ؟
    لَيْتَ أني تربَةُ الوادي إذا ** مرتِ العيسُ لثمتُ الأرْجُلاَ
    لَوْ بوادي الدَّوْم مرت إبلي ** كنت أوطأتُ جفوني الإبلا
    يا رسـول الله شكوى رجُلٍ ** عذّرَ الدهـرُ عليه السبلا
    ليس بي أن أفـقد الأهل ولا ** أفـقد المالَ معا والخَوَلا
    إنـما بي حين يدنو أجلي ** لستُ ألقاكَ وألقى الأجـلا

    ويبدو أن ابن بقي قد قال هذه القصيدة بمناسبة توديع موكب الحجاج؛ الذي لم يسعفه الحظ في أن يكون واحدا من أفراده، ولكنه حينما ودع الوفد ودع معه روحه التي رحلت مع الحجاج وتركت جسمه يحترق على نار الشوق إلى تلك البقاع التي لم يسعد برؤيتها، ولذلك نراه يتتبع الحجاج وهم يؤدون مناسك الحج، منسكا منسكا، ويزورون مشاعره مشعرا مشعرا.

    وهنا تشتد به الأشواق فتفقد الأماكن عنده أبعادها الجغرافية وطبيعتها الترابية، وتفقد المطايا طبيعتها الحيوانية لتكتسب أبعادا وقيما نفسية عاطفية تجعل الشاعر يتمنى أن لو كان ترابا تطؤه مطايا الحجاج وأرجلهم، ولو قدر لتلك المطايا أن تحمله إلى تلك البقاع لكانت جديرة بأن يوطئها جفونه، ولكن أسلوبه في قوله: " ليت أني تربة الوادي " وفي قوله " لو بوادي الدوْم مرت إبلي " يوحي بأن رجاءه كان قليلا لأنه استهل أمنيته بـ ( ليت) وهي لا تعدو أن تكون واحدة من أدوات التمني، والتمني طلب لما يرجى تحققه، وختمها بـ ( لو) وهي إلى اليأس أقرب منها إلى الأمل، لأنها حرف امتناع لامتناع. و لكنه وهو يقر بهذا العجز لا يستسلم لليأس، وإنما يفتح لنفسه بابا آخر من الأمل حين يجأر بالشكوى إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمنا بأنه الشفيع المشفع الذي لا ترد شفاعته ولا يخيب من استجار به.

    ومثله الأديب الرحالة محمد ابن جبير البلنسي الذي اشتد به الشوق إلى البقاع المقدسة يوم عرفات، فخاطب الحجاج مهنئا، ولكنه لم يستطع مفارقتهم بقلبه فتتبعهم بروحه وخياله وهم يؤدون مناسكهم، حيث يقول: (3)

    يا وُفـودَ الله فُـزْتُمْ بالمُنى ** فهـنيئا لكم أهـل مِنَى
    قدْ عرفـنا عرَفاتٍ معكمْ ** فلهذا برح الشـوقُ بـنا
    نحن بالمغرب نُجري ذِكْركمْ ** فغروبُ الدمع تَجْري هُتُنا
    أنتم الأحباب نشكو بُعدكم ** هل شكوتم بُعدَنا من بَعْدِنا؟
    علّنا نلـقى خيالا منكم ** بلذيذ الذكر وهْـنًا عَلـّنا
    لو حنا الدهرُ علينا لقـضى ** باجتـماعٍ بِكم بالمنحنى
    لاحَ برْقٌ مَوْهنا من أرْضكمْ ** فلعَمْري ما هَنَا العيشُ هُنا
    صَـدَع الليْلَ وميـضٌ وسنا ** فأبَيـْنا أنْ نذوقَ الوَسَنا
    ما عنا داعي الـهوى لمَّا دعا ** غَيْرَ صبٍّ شفّـه برْحُ العنا
    كمْ جنَى الشوقُ علينا من أسًى ** عادَ في مرضاكم حُلو الجنَى
    ولَكَمْ بالخيف من قلبٍ شَجٍ ** لمْ يزلْ، خوْفَ النوى، يشكو الضنى
    ما ارتَضَى جانـحة الصدرِ لهُ ** سكَنًا مُنـْذُ به قَدْ سَـكَنا
    فَتُـنادِيهِ على شَحْـطِ النوى ** مَـنْ لنَـا بِقَـلْبٍ مَلّنا
    سرْ بنا يا حادِيَ العِيسِ عَسى ** أنْ نُلاقِي يوْمَ جمْعٍ سِرْبَنَا
    شِمْ لنا البرْقَ إذا هبّ وقـلْ ** جَمَعَ اللهُ بِجَمـْع شَمْلَنا

    ولا يختلف ابن جبير كثيرا عمن سبقوه، فأسلوبه يعتمد كثيرا على وسائل وأدوات التمني؛ التي لا يرجى من ورائها شيء كثير. ويبدو أن ابن جبير كان يدرك ذلك جيدا، ولكنه كان يتمتع بتباريح الأشواق لأنها تمكنه من العيش بخياله بين تلك الربوع التي تهفو إليها قلوب المؤمنين من مشارق الأرض ومغاربها، ويبدو استمتاعه بهذا الألم العذب واضحا من قوله:

    كمْ جَنَى الشوْقُ علينا من أسًى ** عاد في مرْضاكم حُلو الجَنَى

    حيث اعتمد في تصويره لكمية الأسى الذي تسببه الأشواق على (كَمْ) الخبرية التي توحي بأن هذا الأسى أكبر من أن يُتَصور أو يحتمل، ومع ذلك يجد فيه ابن جبير متعة كبرى لأنه يمكن روحه وخياله من قطع المسافات وقطع الفيافي لمعايشة الحجاج والتنقل معهم بين تلك المشاعر المقدسة.

    ومن الشعراء الذين هاجتهم الذكرى بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف واشتد بهم الحنين إلى البقاع المقدسة؛ ابن زمرك شاعر الحمراء الذي قال في إحدى مولدياته: (4)

    لو كنت أعطى من لقائك سولا ** لم أتخذ برق الغـمام رسولا
    أو كنت أبلغ من قبولك مأملي ** لم أودع الشكوى حبا وقبولا

    وبعد مقدمة شبه غزلية، ينتقل إلى وصف ركب الحجاج وما تركه رحيلهم في نفسه من لواعج الشوق والحنين، فيقول:

    من ينـجد الصبر الجميل فإنه ** بعد الأحـبة قد أجد رحـيلا
    كيف التجمل بعدهم وأنا الذي ** أنسيت قيسا في الهوى وجميلا
    من عاذري والقلب أول عاذل ** فيـمن أفنـِّد لائما وعذولا
    أتبـعت في دين الصبابة أمة ** ما بدلوا في حبـهم تبـديلا
    يا موردا حامت علـيه قلوبنا ** لو نيل لم تجر المدامـع نيلا
    ما ضر من رقت غلائله ضحى ** لو بات ينقع للمحب غليلا
    كم ذا أعلل بالحديث وبالمنى ** قلبا كما شاء الغرام علـيلا
    أعديت واصلة الهديل بسحرة ** شجوا وجانحة الأصيل نحولا
    وسريت في طي النسيم لعـلني ** احتل حيا بالعقـيق حلولا
    هذا ووجدي مثل وجدي عندما اسـ ** ـتشعرت من ركب الحجاز رحيلا
    قد سددوا الأنضاء ثم تتابعوا ** يتـلو رعيل في الفـلاة رعيلا
    مثل القسي ضوامر قد أرسلت ** يذرعن عرض البلاد ميلا ميلا
    مترنحين على الرحال كأنما ** عاطين من فرط الكلال شمـولا
    إن يلتبس عَلَمُ الطريق عليهمُ ** جعلوا التشوّق للرسول دليلا
    يا راحلين وما تحمل ركبُـهمُ ** إلا قلوب العاشقـين حُمولا
    ناشدتكم عهد المودة بيـننا ** والعـهد فينا لم يزل مسئولا
    مهما وصلتم خير من وطئ الثرى ** أن توسعوا ذاك الثرى تقـبيلا
    يا ليت شعري هل أعرِّس ليلة ** فأشمّ حولي إذخرا وجليلا
    أو تروني يـوما مياه مجنّة ** ويشيم طرفي شامة وطفـيلا
    وأحط في مثوى الرسول ركائبي ** وأبيت للحرم الشريف نزيلا

    وهو هنا لا يختلف عمن سبقوه باعتماده على أسلوب يفصح بأن أشواقه كانت قوية جارفة، ولكنه يوحي بأن أمله في الوصول إلى تلك البقاع كان ضعيفا؛ فإذا كان قوله " كم ذا أعلل بالحديث وبالمنى " يعطينا صورة عن شدة ما يعانيه من تلك الأشواق، فإن قوله بعد ذلك: " يا ليت شعري هل أعرس ليلة " يوحي بأن أمله لا يعدو أن يكون نوعا من التمني، والتمني كما معروف طلب لما لا يرجى تحققه.

    ولم يكن الشعراء فقط هم الذين يتشوقون إلى البقاع المقدسة، وإنما كان الشوق والحنين إليها مما يشترك فيه جميع الأندلسيين ـ خاصة أولئك الذين عجزوا عن أداء فريضة الحج لأي سبب من الأسباب ـ ومن بين الأندلسيين الذين حال العجز والمرض بينهم وبين زيارة تلك البقاع رجل من أهل قرطبة يقال له عبد الله بن عبد الحق الصيرفي؛ الذي طلب من ذي الوزارتين محمد بن أبي الخصال أن يكتب على لسانه رسالة يشكو فيها عجزه وقلة حيلته إلى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويرجو شفاعته. وقد أورد المقري أنه " كان عليل الجسم، ولما وصلت رسالته القبر الشريف، برئ من زمانته ونصها: (5)

    " بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد. إلى البشير النذير، والسراج المنير، المخصوص بالتعزير والتوقير، والبيت المقدس بالتطهير. خاتم النبيين. وسيد المرسلين، والشفيع إلى رب العالمين، من عتيق هداه، وزائره بمحبته وهواه، المستكشف ببركته لبلواه، المستشفع بشفاعته في دنياه وأخراه،

    كتابُ وقيذٍ من زمانته مشفي ** بقبر رسول الله أحمد مستشفي
    له قدم قد قيد الدهرُ خطوها ** فلم يستطع إلا الإشارة بالكف
    ولما رأى الزوار يبتدرونه ** وقد عاقه عن قصده عائق الضعف
    بكى أسفا واستودع الركب إذ غدوا ** تحية صدق تفعم الركب بالعرف
    فيا خاتم الرسل الشفيع لربه ** دعاء مهيض خاشع القلب والطرف
    عتيقك عبد الله ناداك ضارعا ** وقد أخلص النجوى وأيقن بالعطف
    رجاك لضر أعجز الناس كشفه ** ليصدر داعيه بما شاء من كشف
    لِرِجْلٍ رمى فيها الزمان فقصرت ** خطاها عن الصف المقدم والزحف
    وإني لأرجو أن تعـود سوية ** برحمة من يحـيي العظام ومن يشفي
    وأنت الذي نرجوه حيا وميتا ** لصرف خطوب لا تريع إلى صرف
    عليك سلام الله عـدة خلقه ** وما يرتضيه من مزيد ومن ضـعف

    ولم يكن العامة من الناس فقط هم الذين يرسلون رسائلهم ليعبروا عن عجزهم وقلة حيلتهم، وإنما كان ملوك الأندلس أيضا يفعلون ذلك، فيعبرون كغيرهم عن أشواقهم إلى زيارة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعتذرون عن تأخير الزيارة، غالبا، بانشغالهم بالدفاع عن دينه وحماية ضعفاء أمته من العدوان الصليبي.

    ومن الشعراء الذين كتبوا إلى المقام النبوي على ألسنة ملوكهم الشاعر الكاتب لسان الدين بن الخطيب الذي كتب رسالتين؛ الأولى على لسان السلطان أبي الحجاج يوسف بن نصر والثانية على لسان ولده السلطان محمد الخامس الغني بالله، وقد احتوت كلتاهما شعرا ونثرا، ولكننا سنكتفي هنا بالجانب الشعري من الرسالة الأولى؛ التي استهلها بقوله: (6)

    إذا فاتني ظل الحمى ونعـيمه ** فحسبُ فؤادي أن يَهُـبَّ نسيمُه
    ويقنـعني أنِّي به متكنـف ** فزمزمُه دمـعي، وجسمي حطيمُه
    يعود فؤادي ذكرُ من سكن الغضا ** فيُقْعِدُهُ فوق الغضا ويقيمه
    ولَمْ أرَ شيْئا كالنسيم إذا سرى ** شفى سَقَمَ القلب المشوق سقيمُهُ
    نـعللُ بالتذكار نفْسا مشوقـة ** ندير عليـها كأسَهُ ونُديمـُهُ
    وما شفني بالغور قدٌ مرنّح ** ولا شاقني من وحش وجرَةَ ريمـُهُ
    ولا سهرت عيـني لبرق ثنية ** من الثـغر يبدو موْهنا فأشيمُه
    براني شوقٌ للنبي محـمد ** يسومُ فـؤادي برحُهُ ما يسـومه
    ألا يا رسول الله ناداك ضارعٌ ** على النأي محفوظُ الوداد سليمه
    مشـوقٌ إذا ما الليل مد رواقه ** تهمُّ به تحت الظلام هُمـومُه
    إذا ما حديث عنك جاءت به الصّبا ** شجاه من الشوق الحثيث قديمه

    وهي طويلة، ومنها أيضا قوله:

    وكان بودي أن أزور مُبـوَأ ** بك افتخرت أطلاله ورسـومه
    وقد يُجهد الإنسانُ طرف اعتزامه ** ويُعوزه من بعد ذاك مرومُه
    وعذريَ في تسويف عزمي ظاهر ** إذا ضاق عذر العزم عمّن يلومه
    عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا ** جلالقة الثغر الغريب ورومه
    أجاهد منهم في سبيلك أمـةً ** هي البحرُ يُعـيي أمرُها من يرومه
    فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى ** لريع حماه واستبيح حريـمه
    فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته ** فمجدك موفور النوال عميمه
    وأنت لنا الغيث الذي نستدرُّه ** وأنت لنا الظل الذي نستديمه
    ولمّا نأت داري وأعوز مطمعي ** وأقلقني شوقٌ يشب جحيمه
    بعثتُ بها جهدَ المقل معولا ** على مجدك الأعلى الذي جلّ خِيمُه

    . . . . . . . . . . . . . . . ** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    وهو كما نرى، هنا، لا يختلف في أشواقه إلى البقاع المقدسة عن عامة المسلمين، وإن كانت ظروفه مختلفة عن ظروفهم؛ لأنه مسئول عن حماية المسلمين والدفاع عنهم في الأندلس وهي مسئولية لا تقل عن فريضة الجهاد، بل إن بعض علماء الأندلس قدم فرض الجهاد على فرض الحج، ومنهم لسان الدين بن الخطيب الذي كتب على لسان سلطانه رسالة في تفضيل الجهاد على الحج، وقد توجه بها إلى أحد الشيوخ ـ بعد أن سمع بتردده وحيرته بين الرحيل لأداء فريضة الحج والرحيل للمرابطة في الثغور الأندلسية المهددة ـ يحثه فيها على تغيير وجهته من الحج إلى مواطن الجهاد في الأندلس لأنها أولى (7)
    ثانيا: الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة في الشعر المغربي

    لم يكن المغاربة يختلفون كثيرا عن الأندلسيين في هذا الغرض، وهذا لا يعود ـ في تقديرنا ـ إلى اشتراكهما في العقيدة فقط، وإنما يعود أيضا إلى اشتراكهما في الجغرافيا؛ إذ يقع كلاهما في أقصى غرب العالم الإسلامي، كما يعود إلى اشتراكهما في المسار التاريخي في العديد من الحقب، بل إنهما كانا يشكلان وحدة سياسية واحدة خلال عهد المرابطين والموحدين، وقد استمرت العلاقة بينهما قوية خلال معظم العهود بعد ذلك؛ فالأندلسيون كانوا دائما يفزعون إلى جيرانهم المغاربة حينما يشتد عليهم ضغط النصارى من الشمال، وفضلا عن كل هذا فإن معظم مواكب الحجاج الأندلسيين كانت تمر عبر المغرب حيث ينضم إليهم الحجاج المغاربة ليصبحوا موكبا واحدا، ولهذا فإننا لا نستغرب إذا رأينا المغاربة ـ كالأندلسيين ـ تشتد بهم الأشواق وهم يودعون تلك المواكب من الحجاج الذين أسعفهم الحظ وأسعدهم بزيارة البقاع المقدسة، أو رأيناهم والحنين يجرفهم بمناسبة المولد النبوي إلى تلك البقاع التي ولد وتربى فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلى تلك الربوع التي أشرق فيها نور رسالته وتجلت فيها معجزاته قبل أن تنتشر ويشع نورها على مشارق الأرض ومغاربها.

    وقد كانت الأماكن المقدسة عند المغاربة ـ كما كانت عند الأندلسيين ـ تفقد في معظم الأحيان أبعادها الجغرافية والهندسية لتكتسب تحت وهج الحنين أبعادا روحية؛ وبذلك يصبح كل هواء قادم من الشرق، بل كل نسمة كافية لإنعاش نفوسهم الملتهبة بحر الأشواق، وتصبح تربة الحجاز بلسما يشفي من جميع الأسقام. وتتحول بعض الحيوانات عن طبيعتها، بعد أن يفيض عليها الشعراء من أحاسيسهم ومشاعرهم، وخاصة تلك المطايا التي تحمل الحجاج إلى البقاع المقدسة والتي تستغني عن حداتها بعد أن تصبح هي أيضا مسكونة بالأشواق التي تجتذبها وتهديها، والحنين الذي يدفعها ويحدوها.

    ومن شعراء المغرب الذين تحدثوا كثيرا عن البقاع المقدسة؛ الثغري التلمساني الذي حركت أشواقه إحدى ليالي المولد النبوي التي كان يُحْتَفلُ بها في أيام أبي حمو فقال في قصيدة مطلعها: (8)

    شرف النفوس طلابها لعلاها ** ولباسها التقوى أجل حلاها

    ومنها في التعبير عن غبطته لمن فازوا بزيارة البقاع المقدسة وسعدوا بأداء مناسك الحج بين ربوعها:

    لله قوم أيقـظوا عزماتـهم ** فكأنـها شهب تضيء دجاها
    وصلوا السرى بالعيس تنفخ في البرى ** وفلوا بأيدي اليعملات فلاها
    وإلى الحمى قبل الحمام سرت بهم ** ظعن يسر الظاعنين سراها
    نجب هـواها في الحجاز ووردها ** ماء العذيب فخلها وهواها
    تغنيك شدة شوقـها عن سوقها ** فاخلع براها فالغرام براها
    أو ما تراها كالقسي ضوامرا ** والركب مثل النبل فوق ذراها
    دأبوا على السير الحثيث وحثهم ** شوق يذود عن الجفون كراها
    حتى بدا القمر الذي لولاه ما ** بدت النجوم ولا بدا قمراها
    قمر بيـثرب أشرقت أنواره ** حتى أضاءت أرضها وسـماها

    ولا يخفى ما في هذه الأبيات من امتزاج بين الشاعر وموضوعه؛ الذي يبدو واضحا فيما تحمله تلك النجب من أشواق وحنين إلى أرض الحجاز ، وهو ما جعلها تستغني عمن يقودها أو يدفعها.

    ومما قاله أيضا في إحدى المولديات ، تلك القصيدة التي استهلها بقوله: (9)

    تذكرت صحبا يـمموا الضال والسدرا ** فهاجت لي الذكرى هوى سكن الصدرا
    وإخوان صدق أعملوا السير والسرى ** إذا ما بدا عذر لهم قطعوا العذرا
    سروا في الدجى يفلون ناصية الفلى ** وعند صباح القوم قد حمدوا المسرى
    غدت نكرات البـين معرفـة بهم ** وآهـلة تلك المـجاهل لا قـفرا
    وتوديعهم أذكى الجوى في جوانحي ** لقد أودع التوديع في كبدي جمرا
    يضيء الدجى من عزمهم فكأنهم ** كواكب تسري للحمى كي ترى البدرا

    وقد كان موقف توديع مواكب الحجاج من أكثر المواقف وأشدها إثارة للأشواق وتأجيجا لمشاعر الحنين التي لا يستطيع الشعراء كبتها أو التغلب عليها إلا بإخراجها في تلك القصائد والمقطوعات التي تفيض صدقا وإخلاصا.

    وبعد أن يستفيق الثغري من ذكرى توديع المحظوظين السعداء من رفاقه، يعود للتعبير عن لهفته إلى اللحاق بهم، فيقول:

    أيا جيرة الوادي بحقكم متى ** يقول لي الحادي هنيئا لك البشرى
    أحل بأرض حلها خير مرسل ** غدا تربها مسكا وحصاؤها درا

    وعلى الرغم من قوة حنين الشاعر وشدة شوقه؛ التي حولت المكان عن طبيعته بعد أن جعلت تربته مسكا وحصاه درا إلا أن هذا الحنين كان مغلفا بما يشبه اليأس، كما يبدو من صيغة التمني المبنية على الاستفهام في قوله: " متى يقول لي الحادي هنيئا لك البشرى؟ "

    وقد يشتد الشوق ببعض المغاربة ويعجزون عن زيارة البقاع المقدسة بأجسادهم فيستعيضون عن الزيارة بتلك الرسائل التي يكتبونها لتنوب عنهم في تأدية التحية، ومن خلالها يعبرون عن عجزهم ويرجون قبول عذرهم.

    " وممن سلك هذا الوادي، وأرسل ـ إذ غلبه الشوق ـ دموعه الغوادي، ذو البيان الذي قل له الموازي، الشيخ أبو زيد الفازازي، فإنه كتب إلى الحجرة الطيبة، على ساكنها أفضل السلام والصلوات الواكفة الصيبة، بما نصه: (10)

    يا سيد الرسل المكـين مكانه ** ومقدما وهـو الأخير زمانه
    والمصطفى المختار من هذا الورى ** فمحله عالي المحل وشأنه
    ومن النبوءة والطهارة والهدى ** شرف حواه فؤاده ولسانه
    عنوان طرس الأنبياء وختمهم ** والطرس يكمل حسنه عنوانه
    فالدهر خلق أحـمد إصباحه ** والخلق جفن أحـمد إنسانه
    ناداك عـبد أخرته ذنـوبه ** والشوق تلفـح قلبه نيـرانه
    وفدت عليك ركاب أرباب التقى ** والمذنب الخطاء كف عنانه
    لما تـخلف للتخلف مذنبا ** في الـمذنبين وغره إمكانـه
    كتب الكتاب لعـله إذ لم يزر **باللحـظ قبرك أن تزور بنانه
    ووراء أضلاعي فؤاد قيده ** ألف الذنوب وسجنه أشجانه
    لكن حبك شافع و مشـفع ** يغـشى محبك أمـنه وأمانه
    وعليك يا خير الأنام تحـية ** كالروض صافح روحه ريحانه
    مـمن يزورك خطه وكلامه ** إن لم يزرك لذنبه جثمـانه

    " وممن بلغ في هذا غاية الآماد الكاتب ابن الغماد، فإنه قال يتشوق إلى ذلك الجناب المنيع، ويترجي التيسير وحسن الصنيع: (11)

    شوقي إلى خير الخلق متصل ** يا ليت شعري هل أدنو وهل أصل
    وهل أزور ثراه وهو خير ثرى ** استنشق المسك منه ثم أكتحل
    وهل أرى روضة حل الكمال بها ** من كل أرض إليها تجهد الإبل

    ومنها:

    في كل عـام أرجي زورة معكم ** فتنهضون وشأني دونكم ثـقل
    لو خف ظهري لكان الجسم مرتحلا ** لكن قلبي أمام الركب مرتحل
    يحدو به وجده والشوق سائـقه ** وكيف يدنو كلال منـه أو ملل
    وا حسرتا فاز غيري بالوصال إلى ** أرض الحبيب ودوني سدت السبل
    متى ينادي بي الحادي يبشرني ** بشراك ـ يا مغربي ـ انزل فقد نزلوا
    إنزل بطيبة طاب العيش قد ظفرت ** به يداك فـلا خوف ولا وجل
    عبد له أنا إن نادى وبـشرني ** وأنت حر إذا بلـغت يا جـمل
    قلبي بحب رسـول الله مشتغل ** يا ويح قلب له عن حبـه شغل

    والقاسم المشترك بين معظم الذين لم يتمكنوا من زيارة البقاع المقدسة هو أنهم يردون السبب في عجزهم إلى كثرة ما ارتكبوه من ذنوب؛ فالذنوب هي التي أثقلت أجسامهم وأفقدتها الخفة اللازمة للقيام بهذه الرحلة المقدسة، كما يشتركون ـ رغم توهج أشواقهم ـ في نوع من الأمل المغلف باليأس، وهذا ما نراه بوضوح عند ابن الغماد الذي وردت في قصيدته عبارة واحدة يمكن اعتبار الأمل فيها حقيقيا، وهي قوله: " في كل عام أرجي زورة معكم " ولكننا، باستثناء هذا الرجاء، نجد قصيدته محشوة بذلك النوع من أساليب التمني التي ـ وإن عبرت عن تأجج الأشواق ـ لا تحمل الكثير من الأمل أو الرجاء الذي ينتظر وقوعه، من مثل قوله: " يا ليت شعري هل أدنو وهل أصل " وقوله: " وهل أزور ثراه وهو خير ثرى " وقوله: " لو خف ظهري لكان الجسم مرتحلا " وقوله: "

    وا حسرتا فاز غيري بالوصال إلى ** أرض الحبيب ودوني سدت السبل

    ولا يخفى ما في عبارة " سدت السبل " من قرب لليأس و بعد عن الأمل، ومثل هذا يمكن أن يقال بالنسبة لأدوات الاستفهام التي استخدمها الشاعر للتعبير عن أمانيه؛ والتي لا يرجى من ورائها شيء كثير.
    ومن الشعراء الذين أكثروا القول في هذا الحديث الشجي ابن الخلوف القسنطيني؛ الذي تكررت أشواقه إلى تلك البقاع وترددت سبع مرات في " ديوان جنى الجنتين في مدح خير الفرقتين "، وهو لا يختلف عن غيره من الشعراء في الكيفية التي يعبر بها عن أشواقه، بحيث نراه وهو يستعين بكل مظاهر الطبيعة ليحملها بعضا من أشواقه، أو يشركها أحاسيسه ومشاعره ليخفف عن نفسه أو ليوسع من دائرة معاناته، وهذا ما نراه في القصيدة التي استهلها بقوله: (12)

    عليك توكلي ولك افتقاري ** ومنك تطلبي وبك انتصاري

    وبعد التضرع إلى الله سبحانه وتعالى، وبعد مدح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاطبه قائلا:

    بودي لو شققت لك الفيافي ** وخضت إليك أفئدة البحار
    وسرت على ذرى الريح اعتجالا ** وصرت على الطائر في مطار
    لأشهد روضة حوت المـعالي ** فحق لـها بأن تسبي الدراري
    وألـثم تربة ضمت عظاما ** تـعاظم قدرها عن ذي افتخار
    وأرشف من كؤوس الفوز راحا ** يبـرِّدُ روحها حر الأواري
    وأقضي في حـماها كل حج ** بتـطواف، وسعي، واعتمار
    وأرمي في ذُراهـا من دموعي ** جـمارا لا تُقايس بالجمار

    وبعد أن أدى بعضا من مناسك الحج عبر هذه الرحلة الخيالية التي لم تتجاوز التمني، التفت ليقسم بالمطايا التي تنقل الحجاج وليشركها بعضا من أحاسيسه، ويجعلها تتشوق مثله إلى تلك البقاع، فقال:

    يـمينا بالمطي وقد دعاها ** إلى أوطانـها داعي القرار
    تجوب البيد في ليل بهيمٍ ** تناعس نجمُه عن كل ساري
    وترفل في رداء التيه لما ** فَلتْ بيد السرى قوْد السحاري
    مطايا كالقسي رمت سهاما ** بخطوٍ حين عن عوْج العثار
    تحنُّ إلى العُذيْبِ وساكنيه ** حنين فقيده حسن اصطباري
    وتمرح في الفلا طربا وشوقا ** إلى تلك الـمعالم والديار
    فما تلوي أخادعها لوردٍ ** ولا يخلو لها مرعى الضمار
    وإن تبلغ المسعى وتسعى ** إلى ربع الحبيب على الشفار
    وأولي ثانيا قسما صدوقا ** على وفـق اختبار واختيار
    لأقتعدن أسنمة المهاري ** أشق بوخدها شقق القـفار
    وأرسلـها بأرْقال إلى أن ** أنوِّخـها بحي بـني نزار
    هناك تقر عيني أن تراها ** تلذ العيش في أهـنى قرار
    وحينئذ أصيرها حراما ** على شق الفيافي والقـفار

    فمطايا ابن الخلوف هنا، كمطايا معظم من سبقه من الشعراء، لا تقنع بنقل راكبها إلى البقاع المقدسة وإنما تتقمص أحاسيسه ومشاعره، لتصبح مثله في حنينها إلى تلك البقاع، وهذا يهون عليها أتعاب الرحلة، بل يحول تعبها إلى مرح وطرب يدفعانها إلى الإسراع، ويهديانها في الفيافي، كما نرى في قوله:

    وتمرح في الفلا طربا وشوقا ** إلى تلك المعالم والديار

    ومرحها وطربها هنا، لا يعدوان كونهما امتدادا لمرح وطرب الشاعر نفسه. وهذا دون شك نوع من الامتزاج بين الشاعر وموضوعه.

    ولا يختلف ملوك المغرب عن ملوك الأندلس في التعبير عن أشواقهم إلى البقاع المقدسة، فيما يرفعونه من قصائد أو رسائل، وفيما يقدمونه بين يديها من اعتذارات؛ فهم في حنينهم وحديثهم عن الأشواق لا يختلفون عن الشعراء العاديين إذ نراهم، وهم يودعون ركب الحجاج، تجتاحهم الأشواق وتهفو بهم أجنحة الحنين إلى تلك البقاع التي لم يسعفهم الحظ بزيارتها، كما نراهم وأرواحهم ترحل مع الحجاج لتترك أجسادهم محطمة في المغارب، ولكنهم حين يصلون إلى مفصل الاعتذار يختلفون عن عامة الناس، إذ نراهم ـ في معظم الأحيان ـ لا يكتفون بالاعتذار عن الذنوب كالعامة، وإنما يضيفون أعذارا تختلف عن أعذار العامة؛ فهم ملوك أنيطت بهم مهمة الجهاد والدفاع عن المسلمين، ولذلك فإنهم ما تخلفوا عن ركب الحجاج إلا لحفظ الشريعة المحمدية في أوطانهم، وإخماد الفتن التي تشتت وحدة المسلمين وتضعف صفوفهم في مواجهة المتربصين بهم من الصليبيين.

    ومن هؤلاء الملوك أبو حمو موسى الثاني الملك الزياني الذي استهل إحدى مولدياته بقوله: (13)

    نام الأحباب ولم تنـم ** عيني بـمصارعة الندم

    وفيها يقول:

    أدعوك إلـهي معتذرا ** في ضـوء الصبح وفي الظلم
    قلبي انفطرا والدمع جرى ** والركب سرى نحو العلم
    قلـبي بنواه أسـير هواه ** فيا شـوقاه إلى الخـيم
    سرت الإبـل لما ارتحلوا ** قلبي حـملوا في ركبهم
    حملوا خلدي أفنوا جلدي ** تركوا جسدي رهن السقم
    حط العـشاق ركائبـهم ** بين العلمـين وبالحرم
    وغدا الـمشتاق بزفرته ** في مغـربه يبـكي بدم
    قد قيـدني ما قلدني ** من أمر حكـيم ذي حكم
    وصروف الدهـر تعارضني ** عما أبغيه من القسم
    ساروا وذنـوبي تقعدني ** فـقرعت السن من الندم
    وبكيت الدمع على زللي ** ومزجت الدمع بفيض دم
    بدت الأنوار على السمار ** من الأقـمار بذي سلم
    زاروا الهادي بهوى بادي ** وحدا الحادي عزما بهم
    شدوا عزموا فازوا غنموا ** لما قدمـوا لحمى الحرم
    طافوا بالبيت وقد وقفوا ** ودعـوا إذ ذاك لربـهم
    غـفرت بالبيت ذنوبهم ** عند الإقرار بذنـبهم
    جسمي بتلمسان دنف ** والقلب رهـين بالحرم
    ولأني أميـر الخلق فلم ** أسطع سيرا من أجلهم
    فأقمت أصلح ما أفسدت ** بالغرب الفتن الدهم
    وبعثت رسالة مكتئب ** لشفيع العرب مع العجم

    وإذا استثنينا عنصر الاعتذار بالمسئولية فإن أبا حموا لا يختلف عن غيره من بقية الشعراء في شوقه وحنينه، ولا يختلف عنهم في أسلوبه الذي يغلب عليه اللون اليائس؛ و الذي تكرر في العديد من قصائده، ومنه على سبيل المثال قوله: (14)

    وأصبو إلى أرض الحبيب ومن بها ** متى ما سرى عرف النسيم الحجازي
    فيا ليت شعري والديار قصية ** متى تسمح الأيام لي بلقا الحي

    وتتضح قلة رجائه، وربما يأسه من اعتماده على ( ليت ) و ( متى ) إذ لا يعدو الاعتماد عليهما أن يكون نوعا من التمني الذي لا يرجى تحققه.

    ويتكرر مثل هذا عنده في قصيدة أخرى، حيث يقول: (15)

    مشوق تزيا بالغرام وشاحا ** متى ما جرى ذكر الأحبة باحا
    تعذبه أشجانه وهـو صابر ** ويبدي اشتـياقا زفرة ونواحا

    . . . . . . . . . . . . . . .**. . . . . . . . . . . . . . . .

    ألا ليت شعري هل أزور بطيبة ** ربوعا بها حل الهدى وبطاحا

    وتأخذ الأماكن المقدسة في شعر الحنين عند أبي حمو ـ كما هي عند غيره من الشعراء ـ أبعادا روحية تخرجها عن طبيعتها الجغرافية أو الفيزيائية. وهذا ما نراه في القصيدة التي استهلها بقوله: (16)

    ألفت الضنى وألفت النحيبا ** وشب الأسى في فؤادي لهيبا

    حيث يقول:

    وأضحى من الشوق جسمي عليلا ** وأمسى من الهجر قلبي كئيبا
    أحن إلى الفجر عند الطلوع ** وللشمس حين تروم الغروبا
    إذا هبت الريح من طـيبة ** تعطرت الأرض مسكا وطيبا
    فأصبو إليـها ومن أجلها ** أحب الصبا وأحب الجنـوبا
    تـهب النواسم من أرضها ** فيزداد نار اشتياقي لهـيبا
    حنينا وشوقا إلى الـمصطفى ** إلى من به الله يـمحو الذنوبا
    فيا حادي العيس نحو الحمى ** إذا جئت ذاك الجناب الرحيبا
    وزاد الهوى حين زال النوى ** وجئت اللوى واعتمدت الكثيبا
    لقبر التهـامي لبدر التمام ** لخيـر الأنام شفـيعا حبيـبا
    فبـلغ إليه سـلامي عليه ** فإن لديـه لسقـمي طبيـبا

    فظواهر الطبيعة لم تعد عنده عادية في تأدية وظائفها اليومية؛ فلم يعد طلوع الفجر أو غروب الشمس أو هبوب النسمات من ظواهر الحياة العادية، وإنما اكتسبت ـ بفعل الأشواق ـ أبعادا وجدانية ودلالات روحية، وما ذلك إلا لأنها قادمة من جهة المشرق حيث تلك البقاع التي تهفو إليها نفوس المسلمين وقلوبهم.

    ومن ملوك المغرب الذين كتبوا إلى الحضرة النبوية أبو زكريا الحفصي صاحب تونس؛ الذي بعث إلى الروضة الشريفة برسالة زاوج فيها بين الشعر والنثر مزاوجة مراوحة استهلها بالنثر ثم انتقل إلى الشعر ليعود إلى النثر مرة أخرى، ثم انتقل ثانية إلى الشعر قبل أن يختم بالنثر، وسنكتفي هنا بالإشارة إلى ذلك العذر المشترك الذي يقدمه الملوك بين يدي رسائلهم ـ في أغلب الأحيان ـ وهو أن تأخرهم عن زيارة البقاع، رغم شوقهم لرؤية ساكنها، إنما يرجع إلى انشغالهم بالجهاد للدفاع عن شريعته وحماية أمته، وهذا ما نراه في هذين المقتطفين من تلك الرسالة الطويلة، حيث يقول في أولهما: (17)

    سلام كعرف الروض باكره القطر ** إذا ما خطا قطر تداوله قطر
    تحية من قد قسم الشوق قلبه ** ففي طيبة شطر وفي تونس شطر
    أطارت قسي الشوق أفلاذ صدره ** فلله ما أودى به ذلك الأطر
    كأن النوى لم تصم غير جوانحي ** فوا كبدي لو در لي ذلك الشطر

    أما في المقتطف الثاني، وهو نثري، فيقول:

    " على أني يا رسول الله لم آل جهدا في طاعتك التي بها نهتدي، ولا أغفلت فريضة جهاد أروح عليه وأغتدي، فمتى أحسست نبأة بادرت إليها، فقد قلت صلى الله عليك جهاد يوم خير من الدنيا وما عليها، فإن تأخرت عن زيارتك إقداما فقد أعملت في عضد سنتك أقداما، وإن لم أنتبه فإني يقظ لما جئت أنت به، وإن لم أرد من تلك الشريعة، فإني بان دفاعي عن شريعتك بكل ذريعة، في بلاد تجادع أفاعيها، ويصم واعيها، ولا يجاب إلى شقاق واختلاق داعيها، فقد صارت المواسط تغور فتنتها وتنجد، وتركع فيها المواضي إلى محاريب السنابك وتسجد، وقد أوى كثير من بلاد الإسلام إلى ذمة الصليب، ولم يأخذ أهلها من الرأي والأناة بنصيب، فوقفت دونها لا رغبة عن مهوى أفئدة العباد، ورعيت هدونها لا تثاقلا عن بيت سواء العاكف فيه والباد، ورابطت أطرافها لا عجزا عن البيت العتيق. . . ."

    وهو هنا لا يختلف في حنينه عن الشعراء والكتاب العاديين؛ فأشواقه قوية وحنينه جارف ممزق؛ ولكنه رغم انشطار قلبه بين طيبة وتونس نراه يقدم واجب الدفاع عن الشريعة وحماية ديار الإسلام امتثالا للسنة النبوية التي تقدم الجهاد في سبيل الله عن كل ما سواه.
    * * *

    وإذا كانت النماذج التي استعرضناها لا تمثل كل شعر أو أدب الحنين إلى البقاع المقدسة في المغرب والأندلس فإنها كافية لإعطائنا فكرة موجزة عن هذا الموضوع، والخلاصة التي يمكن الخروج بها مما تقدم هي أن شعر الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة يشكل ظاهرة بارزة في الشعر المغربي والأندلسي، وهو ـ في تقديرنا ـ استجابة طبيعية لظروف المغاربة والأندلسيين، حاول من خلالها الشعراء أن يعبروا عن ارتباطهم بتلك الأماكن؛ التي يشكل حبها والحنين إليها جزءا هاما من مشاعر كل مسلم، وقد عبر الشعراء عن أشواقهم إلى تلك الأماكن بشكل امتزجت فيه الذات بالموضوع في كثير من الأحيان، واكتسبت فيه تلك الأماكن ـ مع كل ما يرتبط بها أو يوصل إليها ـ أبعادا وصفات خرجت بها في الكثير من الأحيان عن طبيعتها ، وتجاوزت حدودها الجغرافية / الهندسية أو الطبوغرافية، ولذلك فهي ـ في تقديرنا ـ جديرة بدراسة متأنية معمقة أو ببحث مستقل يبرز جمالياتها وبعدها الإنساني. وعلى الرغم من أهمية المنهج النفسي في تحليل مثل هذه الصور فإن القراءة الظاهراتية، ـ كما يرى غاستون باشلار ـ (18) قدتكون أنسب من غيرها لتحليل صور تلك الأماكن المقدسة باعتبارها نتاجا مباشرا لنبضات قلب وروح الإنسان في ظرف معين.

    --------------------------


    http://www.difaf.net/modules.php?nam...ticle&sid=1346


  2. #2
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية جمال الأحمر
    تاريخ التسجيل
    10/07/2008
    المشاركات
    1,626
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة في الشعر الأندلسي والمغربي

    تجاوز بعض الشعراء هنا حد العقيدة الصحيحة والتوحيد؛ إذ نجد منهم من قال:

    فيا خاتم الرسل الشفيع لربه ** دعاء مهيض خاشع القلب والطرف
    عتيقك عبد الله ناداك ضارعا ** وقد أخلص النجوى وأيقن بالعطف
    رجاك لضر أعجز الناس كشفه ** ليصدر داعيه بما شاء من كشف
    لِرِجْلٍ رمى فيها الزمان فقصرت ** خطاها عن الصف المقدم والزحف
    [...]
    وأنت الذي نرجوه حيا وميتا ** لصرف خطوب لا تريع إلى صرف

    إن توجيه الدعاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك، بل الدعاء لا يوجه إلا لله، فإذا وجهه العبد للمخلوقين من الغائبين أو الأموات، فماذا ترك من دعاء يوجهه لله؟!


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية مرزاقة عمراني
    تاريخ التسجيل
    13/08/2009
    المشاركات
    426
    معدل تقييم المستوى
    15

    افتراضي رد: الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة في الشعر الأندلسي والمغربي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    امر من هنل لالقاء التحية على الدكتور الاحمر جمال.

    و على استاذي، الأستاذ الدكتور الربعي بن سلامة،

    و أهنئه بمناسبة الدخول الجامعي، و لأقولك عيدكم

    مبارك أستاذي و كلّ عام و أنتم بألف خير.


  4. #4
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية جمال الأحمر
    تاريخ التسجيل
    10/07/2008
    المشاركات
    1,626
    معدل تقييم المستوى
    17

    Arrow رد: الشوق والحنين إلى البقاع المقدسة في الشعر الأندلسي والمغربي

    أختنا مرزاقة عمراني

    1- أشكرك على المرور القرائي الكريم لهذا الاختيار الذي عرفتم قيمته.

    2- ومرحبا بك طالبة كانت تدرس عند هذا الباحث الذي أتحفنا بهذا البحث الجميل فاخترناه دون غيره من النصوص، في إطار الموضوعات الأندلسية.

    3- أرجو ألا تنزعجي من بطء أمور الدخول الجامعي. ها قد شارف شوال على التصرم وما من محاضرات فضلا عن التطبيقات والأعمال الموجهة.

    تحية أندلسية حية...السلام عليكم


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •