المرحلة الثانية


المرحلة الثانية


المرحلة الثانية

المرحلة الثانية من
(محاور في المقام العراقي)



2009



محاور في المقام العراقي
دراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شأن
غناء وموسقى المقام العراقي
يـكـتبها في حلقات

مطرب المقام العراقي
حسين اسماعـيل الاعـظمي


الاردن / عمـَّان
كانون الثاني January 2009
اليكم أعزتي القراء في الصفحات التالية
المرحلة الثانية من (محاور في المقام العراقي) التي تم نشر تسعة عشر محورا في المرحلة الاولى من العام الماضي 2008 ، وها نحن نستهل عامنا الجديد 2009 بالمحور رقم (1) والمحور رقم (2) والمحور رقم (3) والمحور رقم (4) والمحور رقم (5) والمحور رقم (6) والمحور رقم (7) والمحور رقم (8) والمحور رقم (9) والمحور رقم (10) والمحور رقم (11) والمحور رقم (12) والمحور رقم (13) والمحور رقم (14) والمحور رقم (15) والمحور رقم (16) والمحور رقم (17) تكملة لمحاور المرحلة الاولى واستهلالاً للمرحلة الثانية .. وهذا المحور رقم (18) مذكــِّراً ، في حال فقدان أية حلقة من حلقات المحاور في مرحلتها الاولى والثانية أن تكتبوا إليَّ لأرسلها إليكم
***
أو الذهاب الى موقع كوكل google والبحث عن (محاور في المقام العراقي) او (محاور في المقام المرحلة الثانية) حيث تجدون كل المحاور منشورة في المواقع والشبكات الالكترونية مع الشكر والتقدير لكل اخوتنا واصدقائنا في هذه المواقع والشبكات


المرحلة الثانية
من المحاور المقامية


المحور رقم

(18)


Hussain_alaadhamy@yahoo.com


00962795820112


اعزائي القراء الكرام
استميحكم عذرا ، اذ اتعبتكم معي خلال عامي 2008 و 2009 في قراءة ما نشرته وعممته لجميع الاصدقاء مشروع (موسوعة المقام العراقي) التي انوي اكمالها بعد حين من الآن ، ومن ثم طبعها ان شاء الله ، تحت العنوان الرئيسي المنشور في الانترنيت – محاور في المقام العراقي - وبعد تثبيت ملاحظاتكم واضافاتكم القيمة التي وردتني في رسائلكم الموقرة الكثيرة جدا ، مستفيدا من هذه الملاحظات ووجهات النظر النقدية البناءة .. شاكرا من اعماقي مواصلة اخوتنا واصدقائنا في معظم المواقع والشبكات الالكترونية التي ساهمت بصورة فعـّالة وكبيرة جدا ، في ايصالها اليكم ونشرها في كل انحاء العالم .. فلا يسعني في هذه اللحظات وانا اختتم معكم المرحلة الثانية 2009 بالمحور رقم (18) من هذه المحاور المقامية .. إلا أن اقف اجلالاً وتكرمة لكم اخواتي واخوتي واصدقائي الاكارم ولكل العاملين في جميع المواقع والشبكات الالكترونية التي ساهمت معنا في دعم هذا المشروع الثقافي خدمة للحفاظ ولارشفة وتوثيق ونشر تراثنا الغناسيقي الخالد .. ألا وهو – المقام العراقي -
اعزائي الكرام
انا الآن في مراحل جيدة من كتابة عدد من المواضيع الفنية الاخرى التي انوي طرحها عليكم لقراءتها ومساهماتكم كما هو عهدي بكم ، في ابداء آرائكم القيمة وملاحظاتكم النقدية الهادفة .. آملا ان تروق لكم وهو ما اتمناه والله الموفق ودمتم لاخيكم ..


حسين اسماعيل الاعظمي


المحور رقم
(18)
*******
تكملة للمحورين رقم 16
ورقم 17
محمد القبانجي
(1901 – 1989م)
(مطرب العراق الاول في القرن العشرين) *

- القبانجي وحقبته الزمنية
- قيمة التسجيلات الصوتية
- التعبير الغنائي الفني
- تأثيرات جمالية في حقبة التحول
- سمات جمالية وفكرية
- لوحة فنية لإِبراهيم العبدلي
- قصيدة بغداد لنزار قبّاني
*******


القبانجي وحقبتُه الزمنية

في نتاجات محمد القبانجي الغنائية المقامية ، تتماسك في صورة جديدة التياراتُ الجماليةُ المتناقضة لمرحلة الازدهار الاولى لغناء المقام العراقي مطلع القرن العشرين (حقبة التحول) .. ومع ذلك فاختلافاته الواضحة متماثلة على نحو مثير مع مواقف سلفه رشيد القندرجي في عِدّة جوانب فنية تخص الاداء المقامي ، الامر الذي يثير الاهتمام بصورة جادة ، لأن موقف كل من المطربَيْن المقاميَّيْن الكبيرين رشيد القندرجي ومحمد القبانجي التاريخي الثابت فيما يخص شكل ومضمون طريقة كل منهما في غناء المقام العراقي ، ومن ثم موقفهما الواضح في رؤية كل منهما للتاريخ ، نجده على درجة ملموسة من الاختلاف .. فتجربة رشيد القندرجي التاريخية ، تجربة كلاسيكية نقية ومحلية صرفة ..! وهو سليل كل الطرق الغنائية المقامية التي سادت القرن التاسع عشر .. ويستطيع المستمع أن يرى بجلاء قيمة التعابير المحلية التاريخية في فحوى الطريقة القندرجية لدى مؤسسها رشيد القندرجي نفسه ومن ثم لدى كل المغنين من أتباع طريقته ..
أما تجربة محمد القبانجي المحلية التاريخية ، كبيرة هي الاخرى في غناء المقام العراقي ، من خلال فحوى طريقته الفذة والمنحى المتمرد الواضح فيها على الأُسلوب الكلاسيكي للأداء المقامي وتجاوز طوق المحلية والتأثر بالعالم التقني الجديد الذي برز في القرن العشرين .. وواقع الحال ، إن ظهور القبانجي وبزوغ نجمه كان بعد تجربة الحرب العالمية الاولى (1914 – 1918م) وإنعطافة تأثيراتها الفكرية والجمالية والاجتماعية والاقتصادية على كل شعوب الارض .. فالطريقة القندرجية كما قلنا في كتابنا (الطريقة القندرجية في المقام العراقي وأتباعها) (1*) ، هي آخر الطرق المحلية الصرفة في النقاء الحقيقي لتاريخ الشعب العراقي في تجربته التاريخية ..! في حين أن الطريقة القبانجية ، هي أول الطرق الابداعية التي تجاوزت طوق المحلية وخرجت عن طاعتها منطلقة من نقائها المحلي الى آفاق العالم المعرفي الجديد الذي تميـَّز به القرن العشرين .. وعليه فإن التفاوت الواضح بين ماضٍ عريق وحاضرٍ عظيم ، يلعب دوراً مهمَّاً في عملية التطوير والابداع الغنائي المقامي ، وهذا ما يمكن أن نسمـِّيه بحركة جديدة أو نهضة إبداعية جديدة ، ومع ذلك ، فإن أهمية كبيرة تُعَلق على إبداعات المغنين المبدعين من كل أتباع الطرق الغنائية في سبيل التوحيد التاريخي الوطني لموسيقى العراق الحضاري ..



صورة / رشيد القندرجي



على أيَّةِ حال ، يبقى واقع حال هذه الاختلافات الفنية ، ظاهرة صحية من ظواهر وحوافز التطور وتنمية الطموحات والتنافس الشريف فيما بين الفنانين ..


صورة / حسين الاعظمي – المؤلف - ينصت الى حديث استاذه محمد القبانجي
وسط اساتذته وزملائه الطلبة يوم 11/11/1974

قيمة التَّسجيلات الصوتية
على الرغم من كل النجاحات الفنية التي حقـَّقها وكسبها محمد القبانجي من خلال تسجيلاته الصوتية للمقامات العراقية ، فإننا نستطيع القول ، ان رشيد القندرجي وكل المغنين المعاصرين له ، لم يقلِّـلوا من أهمية ما يعني المقام العراقي من فن غنائي وإبداع وتعابير وتفاعل وتصوير وخيال وتأمل في حقيقة الامر ، لأن ثقافة حقبتهم الزمنية فرضت عليهم ما أنتجوه من مستوى ثقافي فني ، سواء الابداع في الغناء والموسيقى أو بالتفكير ، فقد حاولوا الاجتهاد بكل المقومات المتاحة ، الى درجة كبيرة بحيث لاحظ النقاد ، بل حتى الجمهور ، جوهر فنونهم الادائية ورصانة طرقهم القديمة ، وعليه فإنه بالرغم من قيمة ما أنجزه القبانجي من صور غنائية حالمة ، إلا أنه ليس تركيز الفن والتجديد وتكثيفه عنده .. إبداعاً جذرياً بأي حال من الاحوال ، إن ما أنجزه القبانجي ، تلخيص خاص وتوسيع لأهم المبادىء الفنية للحقبة السابقة من التطور التي زاد عليها بمستوى ثقافة حقبته وإمكانيته الفردية ، ولكنه بعمله أو نتاجاته هذه كان يرمز الى نقطة تحول في تاريخ الغناء المقامي ، لأن القبانجي أنجز ذلك في نقطة تحول تاريخية كبيرة عمَّت البشرية جميعاً ، إنسجاماً مع إحتياجات العصر الفعلية .. والفكرة القائلة .. أن هذا الابداع الفني في الغناء المقامي في هذه الحقبة ، وحده يستطيع أن يضمن الاستمرار الصحيح لهذا التراث الغناسيقي .. إنما هي فكرة مقنعة جداً ...

محمد القبانجي يتوسط الفرقة الموسيقية التي رافقته الة مؤتمر القاهرة 1932 وهم على العود
عزوري هارون وعلى القانون يوسف زعرور الصغير وعلى الكمان داود الكويتي
وعلى الرق ابراهيم صالح وعلى الناي يعقوب العماري وعلى الجلو ....... ؟

إذن , إن ما يهم الغناء المقامي على مدى تاريخه ، ليس تكرار الاساليب الادائية للمغنين السابقين ، بل الإيقاظ الفني والابداعي والفكري والجمالي والذوقي للناس المستمعين من الجماهير ، وما يهم ايضاً ، هو أن نعيش مرَّة اخرى وبصورة أقوى من أي وقت مضى ، الدوافع التطورية والابداعية وتهذيب الظواهر المبعثرة والمشتتة والمخلفات الفنية في الفن الغناسيقي التي تحتاج في نقلها الى آفاق جديدة مستنيرة ، وعليه فإن للكشف عن هذه الطموحات دوافع حضارية إنسانية ، نحو واقع أفضل ثقافةً وعلماً وفنـَّا ً وإبداعاً وتهذيباً .. وبذلك فإن الكثير من النقاد والمغنين والجماهير إمتدحوا القبانجي بحماسة فيما قدم وأبدع ، تاركاً لنا تسجيلات مقامية بصوته الفذّ ، تسجيلات غاية في الرصانة ، لأنه أخذَ على عاتقه تقديم صورة رائعة عن حياة حقبته الزمنية ضمن إطار فن الغناء المقامي في العراق الحضاري ..



صورة / حسين الاعظمي يتوسط زملاءه مغني المقام العراقي من اليمين فاضل البغدادي
وماربين صليوة وقاسم الجنابي وحميد العزاوي يوم 2/7/2003


يترتب على الغناء المقامي إذن ، أن يثبت وجوده بالوسائل الفنية والثقافية والجمالية والذوقية بواسطة فنانيه المغنين والموسيقيين ، ليؤكد بالظروف الزمنية التي إستمرت بالتطور خلال القرن العشرين ، بأن كل ما يعني المقام العراقي وثقافته الادائية وموسيقاه التقليدية ، قد أصابه الكثير من التحسُّن من خلال تحسُّن هذه الظروف خاصة في العقود الاخيرة من القرن العشرين ، فالأولون قد عانوا الكثير من بؤس الظروف الاقتصادية القاسية التي لم تساعدهم بالنهوض بواقع الغناء المقامي في نواحيه الفنية الى المستوى المطلوب ، ولكن هذه المعاناة إستمرت بالاضمحلال نسبياً وبصورة تدريجية نظراً لتحسُّن هذه الظروف ولو بصورة بطيئة ، وأعتقد ان العامل الاقتصادي وتطوره كان مهماً جداً ، أو منعطفاً في هذا الصدد ، الذي وصل ذروته بعد عام 1972 عند إعلان العراق قراره التاريخي بتأميم نفطه وسيطرته على كل موارده النفطية ، ومن الواضح ان إستجابات الفنانين المعاصرين يمكن لها أن تصبح بسهولة نقطة تحول اخرى لمسيرة الغناء المقامي وتاريخه الطويل ، في ظل هذا الاستقلال الاقتصادي الذي تمتع به العراق بعد تأميمه لنفطه مطلع السبعينات .. هنا نستطيع أن نرى تفاعلاً مجسَّداً تجسيداً جيداً ، فالمغني المقامي أو الفنان عموماً ، تصدر عنه ردود فعل إيجابية ، بوعي فني تلقائي ، تجاه ظروف بلده العراق ، وهو يتعلم من ردود الافعال هذه بسرعة ودقة ملحوظتين وحسب إمكانيته في الاستيعاب في توطيد وإثبات تطور الثقافة الغنائية للمقام العراقي من خلال إهتمام وسائل الاعلام السمعية والمرئية في حقبة أواخر القرن العشرين وبصورة مستمرة ..
إن لهذه الملاحظات أهمية كبيرة في فهم الاداء المقامي خلال مئة عام الماضية من تاريخه ، وهي أعوام القرن العشرين ، فمن الحالات المميـَّزة للمغنين الكبار خلال هذه الحقبة حقاً ، هو إدراكهم الحسَّاس بصورة غير إعتيادية لردود الافعال العفوية والعقلية للتحولات والتغيـُّرات التي حدثت خلال (حقبة التحول) في العقود الاولى من القرن العشرين ، كانت فيها هذه التحولات والتغيـُّرات عظيمة الشأن ، إذ أبرزت عبقريتهم في السرعة النادرة للتفاعل الايجابي مع ظروف حياة هذه الحقبة في تاريخ المقام العراقي ، وقد إستطاع المُغنّون المقاميون المُبدعون بصورة عامة أن يعمـِّموا هذه العلاقة بين هذا المزاج والذوق والجمال الذي إمتلكوه ومجرى الاحداث المتغيـِّرة والمتطوِّرة خلال حقبتهم على وجه الخصوص ، وكانت هذه القدرة على الادراك والتعميم أساس ما يدعوه النقاد والمتخصصون المقاميون والمغنّون عادة بـ - التفاعل مع الناس - مع الاحداث - مع الحياة برمَّـتها ..


صورة تاريخية / يظهر فيها الفنان الكبير ناظم الغزالي في يسار الصورة وهو ينصت الى استاذه
مطرب العصور المقامية محمد القبانجي وسط الجماهير الملتفة حولهما عام 1957


إن هذه الاحداث والتفاعلات بصورة عامة ، تتجاوز الى حد ما ، أُفق مؤسسي طرق الحداثة الغنائية للمقام العراقي ، إذ لم يكن المقصود من هذه الحالة لدى معظمهم ، إلا تصوير التركيب العام للتفاعل ، ولكن بالرغم من أن كل المغنين المبدعين والجيدين بصورة عامة ، كانوا قد أدوا أدوارهم بوعي جيد سواء كان هذا الوعي عفوياً تلقائياً أم وعياً عقلياً فكرياً , لأن هذا الدور كان أشبه بالخطة او النظام الدقيق في محتوى نتاجاتهم من المقامات العراقية بهذه العفوية اللصيقة بالحياة والقدرة على التعميم .. وبالتأكيد إن هذه مهمة المغني الواعي أن يصوِّر هذا التفاعل المحسوس .. إنسجاماً مع ظروف التطور والتجديد ومواكبة الحياة بصورة عامة .. وهي إحدى أقوى مظاهر القدرة والقوة الشخصية لدى المغنين الناجحين ..


صورة / الجالس حسين الاعظمي يتوسط زملائه المغنين والعازفين المقاميين يوم 2/7/2003 من اليمين رعد عبد المجيد ويونس الدايني ونزيه محسن وابراهيم الراوي وعلاء السماوي وصفوت محمد علي وضياء وابنه علي وجمال زكي وعلي القيسي ..


التَّعبير الغـنائي الفني
مرَّة اخرى نتحدث عن مسألة التعبير الفني ، بالمعنى الادائي للمقامات العراقية ، فإعجاب المغنين الكبار أمثال رشيد القندرجي ومحمد القبانجي ونجم الشيخلي وجميل البغدادي وجميل الاعظمي وغيرهم .. بالمقامات الرئيسة ، وهي على العموم المقامات الكبيرة في نواحيها اللحنية بإصولها التاريخية والتقليدية ، أو بالمقامات بصورة عامة ، رئيسية أو فرعية ، التي حُشـِّد لها من تفاصيل الاصول التقليدية ما يكفي أن يُنظر إليها على أنها مقامات تاريخية غاية في الرصانة ومن الوزن الثقيل .. ويأتي هذا الاعجاب من لدن المغنين الكبار ، بهذه المقامات ، بوصفها مقامات تمتلك أقصى درجات التعبير الادائي الاصولي والتاريخي للمقامات ، وهي بالتالي تمتلك أقصى درجات التعبير عن شجون الانسان العراقي الذي عاش حقب تاريخ تطور هذه المقامات وساهم في بلورتها وإنضاجها حتى وصلتنا وهي زاخرة بهذه التراكمات التاريخية .. التي جعلتنا نكتشف الوسيلة الممكنة التي يتمكن منها الفن الادائي المقامي من خلال مؤديه الكبار من عكس الواقع التاريخي والعاطفي والنفسي والاجتماعي والسياسي و....و... عكساً كافياً لحياة العراقيين خلال القرون الماضية ، دون مبالغة أو تزويق ، وهكذا يضفي المغنون الكبار في غنائهم المقامي ، طابعاً إنسانياً واخلاقياً بواسطة تراثهم الحضاري .. وعليه يكمن فن هؤلاء المغنين الكبار بالضبط ، في تفريد نتاجاتهم المقامية بأُسلوب يصل الى قلوب الناس بكل سهولة ويسر ، بأُسلوب تتوضح فيه سمات فردية محضة معينة للشخصية .. خاصة بها تماماً ، حيَّة خالصة جداً ، مع العصر الذي يعيشون فيه ، مع الغاية التي يسعون إليها ، وهم في نفس الوقت يمثـلون الحاجة التاريخية لشخصياتهم الفردية الخاصة والدور الخاص الذي يلعبه كل منهم في المسيرة التاريخية للغناء المقامي ..


صورة / محمد القبانجي وسط زملائه مغني المقام العراقي واساتذة وطلبة معهد الدراسات النغمية العراقي عشية زيارته الشهيرة الى المعهد يوم 11/11/1974 ويظهر المؤلف في يسار الصورة


إن أحد النتاجات المقامية الفذة في التصوير والتأمل ، هو مثلاً ، الاسلوب الذي يكثـِّف به محمد القبانجي جميع السمات التي تحكم منذ البدء بنجاح الاداء ، وخلال سير الغناء تبدو هذه السمات محسوسة خاصة في علاقتها بالمتلقي ، إن هذه العملية تضيف وعياً الى هذه المشاعر ، ولكن بطريقة مختلفة تماماً ، يصوِّر فيها القبانجي تفوُّق الناحية الفنية لمكونات المقام ومقومات الغناء ، ومن ثم ، وفي كامل سير المقام ، وليكن مقام المثنوي مثلاً ، المُغنّى بهذه القصيدة للشاعر كاظم الازري وتخميس لراضي القزويني ..

حبذا من لماك نشوة خمــر ساعة الملـتقى ورشفة ثغر
فعلى حالتي وصال وهجــر لو ملكنا ملك العراق ومصر
دون رؤياك ما بلغـنا المراما
أين منك الغزال مهما تحـلَّى وهلال السـماء مهما تجلَّى
أنت عندي أحلى وأجلى وأغلى أيــها الريم ما ذكرتك إلا
واحتقرت الاقــمار والآراما

تنصهر جميع المكونات المقامية والمقومات الادائية ، وبذلك فإن هذه التفاعلات داخل العملية الادائية ، المعقدة والصريحة في ذات الوقت ، القائمة بين المغني ومادة غنائه ، تخلق ذلك الجو الصادق بما لا يقاس ، الجو التاريخي الذي يوقظ عند كل مقام من مقامات محمد القبانجي أو مقامات أمثاله في المستوى كرشيد القندرجي ونجم الشيخلي وغيرهما .. ليس فقط المحتوى الاجتماعي ، بل يوقظ ايضاً السمات الانسانية العاطفية ، وعليه فإن هذا الصدق في الغناء المقامي ، الذي يمكن لنا أن نحياه مرَّة أخرى في المقامات المسجلة بأصوات المغنين الكبار ، يستند الى الطابع الشعبي في فنون غنائهم ، وفي القرن العشرين أدرك معاصروا رشيد القندرجي ومحمد القبانجي ووارثوهما المهمُّون مثل حسقيل قصاب وعبدالقادر حسون واحمد موسى وشهاب الاعظمي ورشيد الفضلي والحاج هاشم الرجب وحسن خيوكة وعبدالهادي البياتي ويوسف عمر وناظم الغزالي وعبدالرحمن العزاوي وعبدالرحمن خضر وعبدالجبار العباسي وحمزة الســعداوي وعبد الرحيم الاعظمي وغيرهم الكثير .. أدركوا هذه الحقائق الفنية في الغناء المقامي وما وصل به سابقوهم من المغنين ..



صورة / فنان القرن العشرين ناظم الغزالي في احدى الحفلات


ذكرت مرَّة في إحدى محاضراتي (2*) ان القبانجي ومن امثاله في المستوى يصورون التطور التاريخي والتحولات الكبيرة في مسيرة المقام العراقي .. بوصفها تحولات الحياة العامة للناس ، والحياة الشعبية للمجتمع ، وهم يكشفون دائماً كيف تؤثر هذه التطورات والتحولات في الحياة اليومية .. وعلى ذلك فإن الطابع الشعبي المقصود لهؤلاء المغنين الكبار ، لا يكمن في تصوير خاص بالفئات الاجتماعية البسيطة دون غيرها من الفئات .. إن هذا التفسير يُعد تفسيراً ضيقاً ، وكأي فنان شعبي كبير ، يهدف هؤلاء المغنون الكبار الى التعبير عن عواطف ومشاكل وشجون مجموع المجتمع ، ومجموع الحياة القومية والوطنية ، او الحياة العامة للشعب ، في تفاعلها المعقد بين مختلف الطبقات العليا والسفلى ..



صورتان نادرتان / لم تنشرا من قبل ، يظهر فيها المطرب المعجزة محمد القبانجي وسط جماهير الاعظمية في ذكرى المولد النبوي الشريف عندما كان القبانجي يحضر سنويا للمشاركة في المنقبة النبوية الشريفة مع الملا بدر الاعظمي التي تقام بالمناسبة في جامع الامام الاعظم أَبي حنيفة النعمان (رض) وهاتان الصورتان كانتا في عام 1970 ويظهر المؤلف مع الجماهير في مقدمة يسار الصورتين ..




تأثيرات جمالية في حقبة التحول
لقد كانت حقبة التحول التي قادها بكل ثقة كل معاصري هذه الحقبة ، على إختلاف ثقافاتهم وإمكانياتهم وإتجاهاتهم الجمالية ، منذ بداية القرن العشرين التي إستطاع فيها محمد القبانجي ان يكون ابرز معاصريه ليقود حملة الابداع والتجديد بعد ان ختم تعليمه من اسلافه السابقين ، وعلى الاخص من سلفه رشيد القندرجي ، حتى تسيـَّد كل الحقبة ، بل كل القرن العشرين ، والى يومنا هذا وبكل إستحقاق ، وهو في هذا يكون قد عبـَّر في الحقيقة عن حقبة تحول كبيرة عمَّت البشرية في هذه المرحلة من الزمن بواسطة التطور الصناعي .. وظل القبانجي من ثم ، يعطي تعبيراً فنياً أميناً لإتجاهات هذه الحقبة الذوقية والجمالية والفكرية والتقدمية .. وقد اصبح القبانجي أحد مغني عصره الأكثر شعبية والأكثر نجاحاً على صعيد نتاجاته المقامية ، التي سجلتها له الشركات الاجنبية في العراق وخارجه .. والتأثير الغنائي الذي مارسه القبانجي في كل الغناسيقى العراقية لاحدَّ له .. وبذلك يكون القبانجي قد تجاوز سابقيه وقاد معاصريه الى آفاق جديدة ، وأخذ يَدُلُّهم الى روح جديدة في التعبير المقامي والتصوير التاريخي ، والى ذوق وجمال جديد هو الآخر ..
ولكن يبدو مع كل ذلك ، انه من المبالغة الاعتقاد المطلق بأن حقبة التحول هذه في إتجاهات الشكل والمضمون المقامي ، او في الغناسيقى العراقية ككل ، تعتمد في الواقع على مبادىء الطريقة القبانجية فقط ..! فقد سبق أن تحدثنا في مكان سابق عن الصراع الذي إحتدم بين الطرق الادائية المقامية القديمة التي قادها وحمل لواءها المطرب الكبير رشيد القندرجي ، وبين الطريقة القبانجية التي سادت الاوساط الفنية بعدئذ ، وكذلك تعدُّد الاساليب القديمة لدى المغنين الأسبق الذين بدأ فنّهم بالظهور مطلع القرن العشرين ، بحيث برز من هؤلاء مغنين ممن تميَّز بأُسلوب خاص نوعاً ما ، ولم يتبعه أحد من لاحقيه ، ومثال على ذلك المغنين جميل البغدادي ويوسف كربلائي وعباس كمبير وعبدالفتاح معروف ونجم الشيخلي وجميل الاعظمي .. وأصبح كل واحد من هؤلاء المغنين يمتلك أُسلوباً مغايراً لمعاصريه نسبياً أو يكاد أن يكون مستقلاً عن غيره تماماً (3*)..


صورتان نادرتان / صاحب السمو الملكي الأمير الحسن إبن طلال يتوسط أعضاء الفرقة الموسيقية في ليلة تاريخية جميلة من ليالي العمر المحسوبة ، عام 2001 كانت في بيت السيد ناصر السعدون وزوجته السيدة تمارة الداغستاني ، يظهر فيها من يمين الصورة سامي عبد الاحد وعلي الامام ثم صاحب السمو وحسين الاعظمي وداخل احمد وفلاح المصلاوي وقد ظهر خلف الجميع واقفا وجالسا السيد يقظان الجادرجي ..



لذا فقد كانت هذه التحولات قد تبلورت وتطورت بحيث ظهرت بصورة واضحة في فترة زمنية عبَّرتُ عنها بـ (حقبة التحول) .. ويوجد طبعاً ، شيىء أكثر من هذا يمكن قوله عن الاتجاهات الذوقية والجمالية في الغناء المقامي أو في الغناسيقى العراقية ككل ..ونستطيع أن نتحدث هنا بصورة موجزة عن إتجاهين جماليين مهمَّين .. فمن جهة هناك إتجاهات جمالية في الغناء المقامي برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، التي إتسمت بالاتجاه الكلاسيكي الذي يشترك كثيراً في وجهة النظر بشكل ومضمون الغناء المقامي في تلك المرحلة الزمنية ، من خلال صرامة الالتزام بالاسس القديمة والتعابير الرصينة ووصول الغناء المقامي الى ذروة تبلورت من حيث الاصول التقليدية عند توديع القرن التاسع عشر وإِستقبال القرن العشرين ..


صورة / حسين الاعظمي عضو لجنة تحكيم مهرجان الاغنية العربية مع مجموعة من المطربين المشاركين في سباق المهرجان ، من اليمين الاردني ياسر فهمي والبحريني فوزي الشاعر والعراقي مهند محسن والتونسي صابر الرباعي ، الصورة في بهو مسرح قرطاج الدولي يوم السباق 4/8/1994 .. بتونس


ومن جهة اخرى , هناك الاتجاه الذي تمثله حقبة التحول من المغنين ، الذين تأثروا بهذه الاتجاهات وبدأوا تسجيل نتاجاتهم المقامية في العقود الاولى من القرن العشرين ، أمثال جميل البغدادي ورشيد القندرجي وعباس كمبير الشيخلي ونجم الشيخلي وعبدالفتاح معروف ويوسف كربلائي وغيرهم .. الذين إجتهد معظمهم بالإبقاء دون مساس بالشكل المقامي (Form) واصوله التقليدية القديمة .. التي كان تبلوُرُها مستمراً خلال قرون (الفترة المظلمة) 4 * ولكنهم اقتربوا كثيراً من المضمون المقامي وتعابيرهم عن حقبتهم .. ويمكن أن نقرِّب حقبة التحول من مفهوم الاتجاه الجمالي الرومانسي وسماته العاطفية ، والثورة على المخلــَّفات التي أصبحت بالية ولا تواكب الحقبة التي إنتدب لها المطرب الكبير محمد القبانجي ومغنون آخرون بكل قوة .. ولا يمكن بطبيعة الحال ، وبقلة المصادر والمراجع ، أن تكونَ مهمتُنا هنا إعطاء عرض شامل ، لتصارع هذه الاتجاهات الجمالية التي تمثلت بالطرق الغنائية المقامية خاصة قمَّـتـيْها في القرن العشرين .. (الطريقة الرشيدية والطريقة القبانجية) ، ومن الأَرجح أَنَّنا سنكتفي بما ألقينا على هذه الحقبة من ضوء وتوضيح مختصر لمغني هذه الفترة وإِتجاهاتهم الجمالية والذوقية ، ولكننا سنُشير الى مغنين لهم أهميتهم في القرن العشرين على إختلاف اذواقهم وجمالياتهم وبالتالي إتجاهاتهم .. وهم في نهاية الأَمر مغنون ملائمون لفتراتهم الزمنية التي عاشوها ..



صورة / خبير المقام العراقي الاول في القرن العشرين الحاج الرجب والناقد الموسيقي الكبير عادل الهاشمي


إن تركيز الطريقة الرشيدية على الاتجاه الكلاسيكي في الذوق والجمال والفكر .. يعطي نتاجات مؤديها منظوراً تاريخياً كبيراً وواسعاً ، ومع ذلك وفي ذات الوقت ، إتَّسمت هذه النتاجات ، بالمباشرة والصراحة في الالتزام الصارم بالمنظور التاريخي ، وهذا يعني من ناحية اخرى ، إفقاراً لعالمها الفني والخيالي ، لأنه إفقاراً لمنظورها المستقبلي ، خاصة وهي تواجه حقبة التحول الكبيرة التي عمَّت البشرية .. مقارنة مع الطريقة القبانجية التي أمست حلقة الوصل المقنعة بين القديم والجديد ، وبالتالي في رؤيتها المستقبلية ، وبهذه الميِّزات صمدت هذه الطريقة وبقي تأثيرها حتى مغني القرن العشرين كله .. وبذلك تكون أعظم إنجازات محمد القبانجي الغنائية والفنية هو تطويره الرائع لما تعلـَّمه من أداء مقامي تاريخي عن أسلافه ، وعلى الأخص منهم رشيد القندرجي ، ليمسي القبانجي بعد ذلك بطلاً وطنياً لحقبة التحول ، والشخـــصية المركزية خلالها ضمن مغني المقامات العراقية ، الذي إقترب من معايشة مأســــاة مجتمعه بكل عواطفه ومشاعره ..


صورة / محمد القبانجي قبل البدء بإِحدى الحفلات في قاعة الخلد ببغداد


إن الغناسيقى العراقية ، بصورة عامة ، في حقبة التحول وما بعدها ، تبيِّن هنا بدقة كبيرة ، كيف أنَّ حدث ، بل أحداث عاشها العراقيون ، أحداث على إختلاف قربها النفسي والعاطفي والفكري .. سقوط إستعمار قديم ليحل محله إستعمار جديد .. ذهب العثمانيون .. جاء الانكليز ..!! دخل الانكليز الى العراق عام 1917 بعد الضحايا الكبيرة والكثيرة من آبائنا واجدادنا في – السفر بر –5* خلال الحرب العالمية الاولى (1914-1918) ثم تأتي بعد ذلك ثورة العشرين ثم المعاهدات الانكليزية المزيفة والكاذبة دوماً وانتفاضة -1932- ثم ثورة مايس 1941 حتى ثورة 1958 , وأحداث اخرى عربية كان تأثيرها قوياً لدى العراقيين خاصة مأساة إغتصاب فلسطين من قبل اليهود الصهاينة وتلت ذلك ثورات الاستقلال في البلدان العربية ، وعلى الصعيد الدولي كانت الحربان الكونيتان الاولى والثانية 1939- 1945 اللتان هزتا العالم أجمع .. وكان من الطبيعي أن يصحب هذه الاحداث المادية والشعورية والفكرية تغيرات وتطورات عديدة في التعبير عن هذه الحقبة وظروفها الكبيرة وتأثيراتها الذوقية والجمالية والفكرية .. وتبيِّـن الغناسيقى .. إن أحداث كهذه تتحول الى ما هو أكثر إثارة من الناحية الفنية في حالة نموها في بيئة ثقافية تربوية .. إن هذا المفهوم المتعلق بنمو التعابير الغناسيقية بصورة عامة ، هو حصيلة هذه الاحداث المأساوية .. وقد سبق أن أَشَرْتُ ، ان محمد القبانجي وأتباعه ، قد بيـَّن في غنائه المقامي وفحوى طريقته الغنائية بوضوح ووعي ، بأن تصويره للتراث المقامي ومن خلال هذه الاحداث ، يرمز الى عصر جديد ، حتى بالمقارنة مع المغنين الكبار الذين سبقوه مثل احمد الزيدان ورشيد القندرجي .. فقد كان القبانجي يتوقـَّد حماسة لكل جديد ، وكان نشطاً يتتبع كل الظواهر الجديدة في الحياة وفي الغناء والموسيقى بإنتباه وتفهم ..

سمات جمالية وفكرية
في حقبة التحول ، لم يكن المغنون المعاصرون لها على مستوى وإتجاه واحد من التعبير في غنائهم المقامي ، فقد كانت معالجاتهم متفاوتة في تأثيراتها الذوقية والجمالية والثقافية نسبة لتوجُّهاتهم في هذا الصدد ، وهم على العموم متنوعون في هذا المجال ، فمنهم من أتباع الطريقة الرشيدية ومنهم من أتباع الطريقة القبانجية ومنهم من إستقى أُسلوبَه الغنائي من الطريقتين أو طرق أُخرى ،6* ومنهم من كان مستقلاً بأُسلوبٍ خاص من الغنـــــاء إستقاه من جملة إختلافات الطرق والاساليب في هذه الحقبة ..


صورة / حسين الاعظمي (مدير بيوت المقام العراقي) جالسٌ على الكرسي وسط زملائه الفنانين المقاميين . الواقفون من اليمين نزيه محسن ود.هيثم شعوبي ويونس الدايني وابراهيم الراوي وعلاء الدين السماوي وصفوت محمد علي وضياء مع ولده علي وعلي القيسي والجالسون رعد عبد المجيد وجمال زكي ، في حدائق بيت المقام 2/7/2003 ..


إن الموقع الفريد الذي تحتله النتاجات المقامية في هذه الحقبة (حقبة التحول) في الغناء المقامي حسب المفهوم التاريخي التراثي في العراق ، ليس مردُّه إستعراضاً للحياة او تواصلاً معها بصورة طبيعية فحسب ، بل أَنَّها ساهمت في معالجة مشاكل المجتمع النفسية والاجتماعية والعاطفية وعبَّرت عن حقائق الحقب الزمنية التي مرَّت على بلدنا العراق بمختلف ظروفه ، فهي بصورة عامة لم تكن تعبـِّر بمجموعها عن تجارب شخصية وذاتية صرفة ، ولكنها عبـَّرت عن الحالتين الفردية والجماعية لمجموع أبناء الشعب ، وعند سماعنا لنتاجات هذه الحقبة ، ندرك ان الخط المهيمن في أداء مغنّي هذه الحقبة وبنظرة شاملة كان خط التمسك الصرف بالشكل والمضمون المقامي ، أي بالمضمون المقامي المحلي الواضح في تعابير كل مغنّي هذه الفترة الزمنية ، وعليه فهم آخر المتمسِّكين بالمحلية الصرفة في غنائهم المقامي ، حتى ظهور محمد القبانجي الذي خرج عن هذه التقليدية وأدخل جملاً غنائية جديدة أساسها تأثُّرُه بغناء وموسيقى البلدان حواليه رغم أَنَّه عرَّقها ، أي أَنه إقتبس هذه الجمل كشكل فقط ثم غناها بأُسلوبه المقامي العراقي وأعطاها مضموناً تعبيرياً عراقياً ، ونستطيع هنا أن نؤشرَ بعضَ من هذه المقامات التي أدخل فيها القبانجي شيئاً من تطلعاته هذه وأبرزها مقام الرست الذي يُغنّي فيه هذه الأَبيات المُخمَّسة ..



صورة / محمد القبانجي يتأمَّل


بوصالٍ إِليك هل من وصـولِ
لك أشكو ما شفـَّني من نحول

خنتَ عهدي حفظاً لعهد عذول
بأبي أنت مـن خليل ملـول
لم يدم عهده إِذا الظـــل دامـا
**********

حول خديـك عذَّب الله قومـاً
تصطلي كالفراش في النار دوماً
ياحياتي ومـا سلوتـك يومـاً
إن للناس حـول خديـك حوماً
كالفراش الذي على النار حامــا
**********

وكذلك نلاحظ هذا المنحى في مقام الاورفة ..

كـفِّ المـلام فمـا يفيـد ملامي
الـداء دائي والسقام سقامـي
جسـدُ تعـوَّده الضنـا وحشاشة
ملئت بلاعج صبوتي وغرامي
حتـى إِذا حـار الطبيـب بعلـَّتي
وقف القياس بها على الايهامِ
مايدري مامرض الفؤاد وما الذي
أَخفيتــه عنـه مـن الآلام
فأذا اخذتُ الكأس قلـتُ لصاحبي
العيش في دنيـاك كأس مدام

في حدائق بيت المقام العراقي يوم 2/7/2003 حسين الأَعظمي يتوسط عازفي الإِيقاع عدنان الاخونجي في اليمين وجمال عبد الكريم في اليسار ..

حتى أَثـَّرت هذه المحاولات بالكثير من أتباعه المغنين الذين حاولوا السير في هذا المنحى التجديدي وهذا الاتجاه الذوقي والجمالي والفكري الذي نما من خلال أعماله المقامية التي سجلها في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين .. وبذلك يكون القبانجي أول الخارجين عن طوق المحلية الصارم والتقليدية البحتة في المضمون الادائي للمقامات العراقية .. فقد حرَّر نفسه في تطوره اللاحق ونتاجاته الادائية المقامية اللاحقة التي أمست على مستوىً أعلى والى درجة كبيرة ، وذلك من حيث الاتجاه الجمالي وكذلك في مستوى هذه النتاجات الفني ، ولاسيَّما في تسجيله للمقامات التي إستحدثها ، مثل مقام الكرد ومقام النهاوند ومقام القطر ومقام الحجازكار ومقام الأَوْج بهذه القصيدة للشاعر عبد الغفار الأَخرس وغيرها من المقامات ..

قدحت في الماء نـــــــارا
فأحالت ظلمة الليـــــل نهارا
شمس راح في الدجى يحملــها
طلعةُ البدرِ اذا البدرُ إستــــــنارا
عـُتقت في الدن حتى انهـــا
لتعي ما كان في الماضي وصـــارا
وجلوناها عروساً طالـــــما
حـُبيت من حـُبب المزج نــــثارا
بأبي انت وان جــــــُلَّ أبي
عاطنيها مثل خديك إحمــــــرارا


صورة / محمد القبانجي يستمع الى حديث الفنان الملحن وديع خوندة ويظهر خلفهما في يمين الصورة عالم الآثار الموسيقية د. صبحي انور رشيد ، مؤتمر الموسيقى العربية ببغداد 1975


إضافة الى الروح الجديدة التي أعطاها القبانجي للمقامات التقليدية التي سجلها مثل مقام الابراهيمي ومقام السيكاه ومقام الحجازديوان ومقام البهيرزاوي ومقام الاورفة ومقام الخنبات ومقام البيات بهذه القصــيدة .. وغيرها.. من المقامات ..

وداع دعاني والثريا كأنــــها
قلائد قد علقن خلــــف فتيق
فقال إغتنم من دهرنا غفلاتـــه
نعقد زمان الدهر غير وثيـــق
وناولني كأسا كان بنانـــــه
مخضبة من فوقه بخــــلوق
اذا ما طغى فيها الحباب حســتها
كواكب در في سماء عقـــيق
تدب دبيب البرأ في كل مفصــل
وتكسو وجوه القوم ثوب شقيـق
وإني من لذات دهري لقانــــع
بحلو حديث أو بمرِّ عتــيـق
هما ما هما لم يبق شيء سواهمـا
حديث صديق أو شراب رحـيق


الصورة / في قاعة الشعب ببغداد ، أيام مؤتمر الموسيقى العربية الثاني في بغداد
من 21/11 حتى 5/12/1964 يظهر فيها الحاج هاشم الرجب في اليمين
والمطرب محمد القبانجي في اليسار وسط جمع من المعجبين ..



فهو في هذه النتاجات لم يكن عاجزاً عن أن يرث أي شيء مقامي له أهميته الجمالية من أسلافه المغنين ، ولكن نتاجات محمد القبانجي في هذه الحقبة بأكملها ، تنطلق من المنحى الجديد الذي سارت به الحياة بكل تطوراتها وتغيـُّراتها وتحوُّلاتها ومنعطفاتها الجمالية ، فكان المعبـِّر الأصدق عن حقبته ..



صورة / محمد القبانجي يغني في احدى الحفلات



الهوامش

- *– منح اللقب الفني للقبانجي : انظر مضمون الامر الاداري الصادر يوم 12/10/2003 بعدد 14 الذي ينص على حصول محمد القبانجي لهذا اللقب الفني ..
- 1* صدر كتاب – الطريقة القندرجية في المقام العراقي واتباعها – في شباط February 2007 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت .. وهو كتاب مناظر لهذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ الكريم ، حيث يتحدث عن المطرب رشيد القندرجي وطريقته التي سادت في بدايات القرن العشرين واهم اتباعها من المغنين ..
- 2* محاضرتي بعنوان ، محاور في المقام العراقي ، في المركز الثقافي الفرنسي ببغداد يوم 23/5/2002 ..
- - 3* لدى المؤلف كتاب مخطوط بعنوان ، طرق مستقلة في المقام العراقي ، ينتظر الطبع إن شاء الله ..
- 4* الفترة المظلمة : مرَّ ذكرها وشرحها في المحور رقم 15 ..
- 5* السفر بر : في اثناء الحرب العالمية الاولى ، والدولة العثمانية تنازع نهاياتها ، الامر الذي حدا بها الى ان تجند اجدادنا الى الحرب رغم فقدانها أي أمل في النصر مع المستعمرين الجدد وماتوا جوعا وعطشا في الصحاري ولم يعودوا بعد ان تركوهم دون أية مسؤولية انسانية ، وقد أكلتهم الغربان ، واطلق على هذه الحوادث بـ السفر بر ، حتى ان احزان عوائلهم من آباء وابناء وزوجات قد ادخلت تاوهاتهم وتعابير الفاطهم وكلماتهم الحزينة في بعض المقامات العراقية ، منها مثلا في مقام الحليلاوي في نهاية احد مقاطعه (بُطوْ بُطوْ ما جوا) وكذلك لحنت الكثير من الاغاني ولعل اشهرها اغنية – خدري الجاي خدريه اسموم إلمن أخدره -
- 6* لدى المؤلف كتاب مخطوط بعنوان ، المقام العراقي بين طريقتين ، ينتــظر الطبع إِن شاء الله ..

ملاحظة / كل الاغاني ونوطاتها التي وردت في هذا المحور موجودة في كتابي الموسوم (المقام العراقي باصوات النساء) الصادر في كانون الثاني January 2005 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر .. وكتابي (الطريقة القبانجية في المقام العراقي واتباعها) الصادر في بيروت عن نفس المؤسسة مطلع عام 2009

عزيزي القارئ الكريم ، وصلتني هذه القصيدة برسالة الكترونية من الاخ والصديق الاستاذ الشيخ (السعودي العراقي) ماجد الذكير ابي عبد الله مشكورا عليها وهي هدية لكم ما دمنا نتحدث عن الفنان محمد القبانجي ..


لذكرى صوت عراقي عظيم
( هو ابن العراق الخالد الأستاذ الكبير محمّد القبّانجي )
رحمه الله
للشاعر الاصيل
سعود الأسدي

محمّدٌ ، وهوَ ذاكَ البلبلُ الشّادي
في الرافدينِ وفي الشطّينِ والوادي
بهِ القصائدُ تسمو فوقَ رُتْبتِها
بما يُمازِجُها من سِحْرِ إنشادِ
كأنّها خمرةٌ من بابلٍ سُكِبَتْ
صُبْحاً لشاربِ خمرٍ عاشقٍ صادي
وهو المغرِّدُ بالموّالِ يسحَبُهُ
جدائلاً من سَنًى للرائحِ الغادي
كأنّها حينَما تنسابُ جملتُهُ
جريُ السَّحَابةِ في بوحِ الرُّؤَى النّادي
يمشي بها فوقَ موجِ الشّوقِ مُتَّئِدًا
كما مشى فوقَ موجِ ( البَحْرةِ) الفادي
و( للعتابا) * على أنغامِها زَجَلٌ
منهُ رقيقٌ بصوتِ الزّاجلِ الحادي
أبكي إليهِ بكاءَ الطِّفْلِ من وَلَهٍ
مُذْ أُمُّهُ مُنِيَتْ عَنْهُ بإبعادِ
و( جالغي بغدادَ) ما أحْلاهُ مُرْتَجَلاً
به أَفيءُ إلى أفياءِ مِيْعادي
وإنّني حينَما يرتاحُ بي سَفَري
إلى ظلالِ أغاني الرَفْرَفِ الهادي
يَغْدو فؤادي جناحَيْ طائرٍ وبهِ
حُمِّلْتُ زادًا ، ونِعْمَ الحِمْلُ من زادِ
إنّي بحبّي لبغدادٍ وآهلِها
وخيرِ مَنْ ضَمَّ من أبنائِها النّادي
أُحِبُّ ما أنشدَتْ بغدادُ من قِدَمٍ
بِسَمْعِ آباءِ آبائي وأجدادي
عاشوا ببغدادَ رَدْحاً والزمانُ لهمْ
عَبْدٌ ، وللهِ كانوا خيرَ عُبّادِ
نَعَمْ ، وَجَدّيَ (عَبْدُ القادرِ)* اتّسَمَتْ
بِحُبِّهِ نُخْبَةٌ فاقَتْ بِتَعْدادِ
يا صَفْوَةَ اللهِ رُدُّوا صَفْوَ عاطفتي
عَذْباً فُرَاتًا كما كانَتْ لوُرّادِ
يا ليْتَ لي في مقامِ الشيخِ زاويةً
فيها أُغَنِّي لأهلِ العشْقِ أوْرادي
يَمُدُّني الشيخُ إنْ ناديْتُه " مَدَدًا "
في قبضةِ الحالِ منهُ خيرَ إمدادِ
يا سيّدي وإمامي أنتَ لي سَنَدٌ
فامْنُنْ على أهلِ بغدادٍ بإسنادِ
جاؤوا فلسطينَ يومَ الروعِ يُنْجِدُهمْ
حُبُّ الفِدَاءِ وما ضَنُّوا بإنجادِ
وأهْلُ بغدادَ ، مُذْ كانوا ، أولو هِمَمٍ
في كلِّ عَصْرٍ وَهُمْ أبناءُ أسيادِ
بناةُ مجدٍ وإنّ الشِّعْرَ يَذْكُرُهُمْ
فيما يُغَنِّي ، وَهُمْ أبناءُ أمجادِ
يجاهدونَ جهاداً لا مثيلَ لهُ
في حربِ ذي طمعٍ بالقَصْفِ جَلاّدِ
وسوفَ يُدْحَرُ عن أرجاءِ دولتِهِمْ
في مَنْ قد انتظموا في جيشِ أوغاد
تَبّاً لهمْ قد غَدَا الدّولارُ سَيِّدَهُمْ
وأرْهَقُوا شعبَهُمْ في حَرْبِ أضْدادِ
وإنَّ بغدادَ عن بغدادَ قد رَحَلَتْ
فهل تعودُ إلى بغدادَ بغدادي ؟!
نعمْ وبغدادُ قد شدَّتْ عزيمتَها
بكلِّ ليثٍ على الأعداءِ شدّادِ
من لي بمعضادِ قومٍ كي يعاضِدَها
نَصْراً فأدعوهُ مِعْضَادَ بنَ مِعْضَادِ
حَمَلْتُ بغدادَ حُبًّا جِئْتُ أوْرِثُهُ
بَعْدي لأهلي وأولادي وأحفادي
أُحِبُّ بغدادَ تِلْكمْ والهُواةُ معي
يُنافِسُونَ ، وقد أكْثَرْتُ حُسَّادي
ليلى العراقِ وبلقيسٌ وأختُهُما
سعادُ هَلْ جاءَها سَعْدٌ بإسعادِ ؟
نَعَمْ سيأتي بإسْعادٍ وتَقْدُمُه
بشرَى وأعلامُهُ من فوقِ أطوادِ
وسوف تُشْرِقُ بغدادٌ بطلعتِها
كيما تُضاءَ ليالي أُمَّةِ الضّادِ
يا أمّةَ الضّادِ رُدّي الصّاعَ إنَّ له
صاعاً بصاعينِ في مِعْيارِ رَدّادِ
وعندَها تُزْهِرُ الأعيادُ في وَطَنٍ
بهِ العروبةُ تزهو زَهْوَ أعيادِ



هوامش القصيدة
* العتابا : نوع من انواع الشعر الشعبي
* عبد القادر : المقصود الشيخ عبد القادر الكيلاني (رض)