د.رمضان عمر

اكرمني الله في هذا الشهر الفضيل ان أتممت قراءة درتي الجرجاني: اسرار البلاغة ، واعجاز القران .والجرجاني في كتابيه حاول أن يرد على اولئك الذين استهانوا بقضية التركيب والنظم واصول العلوم التي لا بد منها لاتقان فن السبك في الشعر ،وبيان سحر البيان وعلله،التي جعلت من القران نصا فوقيا لا يعلى عليه، من خلال دقائق تحتاج الى إعمال فكر في اللفظ والتركيب والمعاني ، مبينا ان علل الاعجاز لا تعود للفظة مفردة، ولا لمعنى مستوفى ،الا ان تتعانق الالفاظ مع المعاني في دقة النظم ، وذلك حين يتوخى صاحب النظم اسباب الفصاحة والبلاغة التي تحتاج الى معرفة بالبيان والبديع ، وحسن توظيف لذلك كله دون ان نقفز على ابجديات اللغة .
والجرجاني في كتابيه ابان عن قيمة ابداعية في تاليف الكلام ونظمه، لا تتأتى لغير الحاذق، ولا تستجيب لغير البليغ ، وهي علة اعجاز القران الذي جاء على لغة القوم لفظا ومعنى ، بيد انه استعلى على غيره بروعة نظمه ، وجودة سبكه ، لا بالصرفة التي حرمت القوم القدرة على المحاكاة من خلال تعطيل الارادة ،كما زعم البعض ، بل لسمو القيمة الجمالية المنتظمة في عقد اللغة ، على اكمل وجه .
والكتابان يفصحان عن جمل من الموضوعات التي ان توافرت في البناء اللغوي سما، واتسم بصفته الجمالية؛ فقدم على غيره ، وليست تلك الموضوعات ببعيدة عن مفاهيم البيان والفصاحة والبلاغة ، من دقيق التشبيه وقرب الاستعارة وطرافتها ودقة الوصف ومراعاة حالات التلقي وحسن استخدام الوصل والفصل والحذف.
وقد ضرب لنا الجرجاني في ثنايا شرحة امثلة متنوعة اكثرها شعرا ، ولكنه كان في كل مرة يرد غاية الجمال الى ابلغ كلام ،كلام الله جل في علاه ليثبت له المثالية المطلقة في الحسن ،لكن هذه المثالية الجمالية تاتي في سياق الاثبات الدلالي وفق منطق علمي اقتضته اللغة.
قرات الكتابين قراءة صاد انقطعت به السبل في بيداء قاحلةـ فعنت له زرقة في الافق ، فتوخاها فإذا هي عين رقراقة ،وواحة بديعة زاهية ، فاتقت لذة الشوق بين مشتاق ومشتاقة ، في وصل تكاملي بليغ ،فنهل منها ما شاء الله له ان ينهل ،ثم تفيا الظلال بعد حر الهجير، فعرف نعمة الظل بعد وقدة الصحراء .
والذي يعنيني من هذه المتابعة في وقتها لكتابي الجرجاني ، ان اعقد مقارنة بين منهج هذا الفذ في فهم دلالات البيان، ومنطق الاتقان ،ومنهج غيره من نقاد التنظع والتحطيم في محاولة احالة اللغة الى ركام متناثر من اللاشيئية تحت مسميات لا تسمن ولا تغني من جوع ؛ فالانزياح وان احتمل دقة وعمقا ورؤية وروية الا انه ما لم يضبط بقانون اللغة العام ،وسمتها المتفق عليه في اصول النحو والصرف والبيان، يصبح بعثرة وتخريفا ، وهذا ما اجده في قراءات نقدية كثيرة غرقت بها سوق الادب فتارة تراهم ، يرفعون اديبا الى السماء ويحملونه من اكاليل المدائح ما تحسب انه فاق البحتري طبعا، وابي تمام دقة وعمقا، والمرقسي ابتكارا تصويرا ، ثم انك ان فتشت عن نتاجه وجدته غثا رديئا لا طائل تحته. وما ذاك الا انهم نظروا الى اللغة على انها قيمة ثانوية ووسيلة تعبير ساذجة تنوب عنها في كثير من الاحيان قدرات اخرى، من شانها ان تشتبك مع اللغة لا تتشابك معها، فتحطمها وتحيلها الى لا شيئية ، او اداة اشارية تنزاح معها الدلالات انزياحات مبعثرة لا تقع على نظام ولا تستند الى ذوق.
غزتنا الدراسات الحداثية الحديثة بمنطقها العلمي والثوري ، بغثها وسمينها ، وكان من حقنا ان نتخير النافع منها ، الملائم لطبيعتنا ، لكن ادوات التحطيم عبثت غير قليل بثقافاتنا وآدابنا، فاستخدمت معاول الهدم ، وطبقت علينا ما لا يليق بنظامنا اللغوي.
كان من حق النقد العربي الحديث ان يقف موقف المنقب المترقب حول ما ياتيه من البنيويين والتفكيكين والشكلانيين ، ولا يغفل جوانب الخصوصية في تراثه النقدي .
كان من حق الدراسات الاسلوبية الحديثة ان تستفيد من درس البلاغة عند الجرجاني وغيره من اعلام البيان، بدلا من سوسير وبارت وغيرهما؛ ففي تراثنا الزاخر غنى عن كثير من مناهج النقد الحديثة الوافدة.

كان من حق النقد علينا ان نعمل منطق الموازنة؛ فما وافقنا من الوافد اخذنا بمنه ، وما لم يوافقنا ملنا الى ما عندنا، فبنينا عليه وما عندنا خير كثبر.
وهل النقد الى مواكبة ابداعية لنص ابداعي ؟ فان كان ذاك كذاك ،ففي طبائع اللغة خصوصيات الابداع ، والفروقات جد كبيرة بين ما يجوز للغات كالانجليزية والفرنسية، وما تتطلبه لغة القران .
وهل الابداع الا تخير اسباب البيان من خلال ترتيب الكلم في نسق جمالي وفق اصول تفترضها قيمة ذوقية لغوية ؟؟ وهل المعاني الا افكار توارثها جيل عن جيل واضحت تراقا معرفيا، وميزة ثقافية ؟؟فلماذا الانزلاق والتحطيم والثورة الجامحة على اصل ثابت لا ميزة له الا العلو والتميز !