ألمانيا إلى أين ؟

د. شاكر مطلق

" أفكِّرُ في ألمانيا ليلاً , يطير النوم من عيني " .

هذه الكلمات كتبها الشاعر الألماني الشهير " هاينرش هاينه " من منفاه الطوعي في باريس قبل أكثر من قرن ونصف من يومنا هذا .
هذا الشاعر , الذي كتب كثيراً حول استغلال الرأسمالية للطبقة العاملة , وللإنسان بعامة , أصدرتُ قبل أكثر من عقد من الزمن كتاباً تحية لذكرى ميلاده المئتين .
أتساءل الآن : " هل مازالت مقومات هذه المقولة قائمة ؟ " . لقد تغير الكثير بالطبع في العالم أجمع خلال هذه الفترة , التي قامت فيها ألمانيا بإشعال نار حربين كونيتين , خسرتهما عسكرياً ولكنها ربحتهما اقتصادياً وعلمياً , وفي مرحلة ما اجتماعياً أيضاً , من حيث تلاحم الشعب واستفنائه في عملية إعادة البناء والازدهار .
عندما وصلتُ ألمانيا (الغربية ) للدراسة عام 1958 , كان المستشار الألماني العجوز الداهية " كونراد أديناوَر " من الحزب المسيحي المحافظ ( CDU) , المتحالف مع حزب ( CSU) الحاكم في بافاريا , قد فاز بالانتخابات بأعلى نسبة عرفها الحزب , وهزم الحزب الاجتماعي - الاشتراكي العريق (SPD)– تأسس منذ أكثر من قرن ونصف – الذي كان شديد الالتصاق بالطبقة العاملة ومعبراً عن مطالبها في نظام رأسمالية السوق الاجتماعي القائم يومها في ( الغربية ) , بينما كان النظام الاشتراكي ( الشيوعي ) يحكم الشطر الشرقي من ألمانيا ( DDR ).
بعد توحيد ألمانيا منذ حوالي العقدين نشأ في الشطر الشرقي سابقاً حزب يساري على أنقاض الحزب الشيوعي , وأخذ يلقى رواجاً حتى وصل في انتخابات الأمس 27 / 9 / 2009 البرلمانية إلى نسب قاربت نسب الحزب الاشتراكي , بعد أن دخل هذا في تآلف مع الحزب المسيحي المحافظ , بقيادة المستشارة , د. أنجيلا ميركِل , وابتعد كثيراً عن هموم الشعب والطبقة العاملة بخاصة , مما أدى إلى انسحاب عدد كبير من ناخبيه , ودخول بعضهم في الحزب اليساري ( الشيوعي سابقاً ) .
د. أنجيلا ميركِل , ابنة القسيس في الشرقية سابقاً , التي درست برغم هذا الفيزياء , كان قد أحضرها مستشار الحزب المسيحي السابق " هِلموت كول "إلى المشاركة في الحكم , حيث حلت مكانه في عالم السلطة .
مواقفها مع الغزو الأميركي إلى العراق وأفغانستان معروفة , وتجد معارضة شديدة لها في الوسط الشعبي .
هذه المستشارة هي الأكثر مزاودةً في دعمها ( للدولة ) العنصرية الصهيونية , المغتصبة لأرض فلسطين , وقد لحق بها وبحزبها وبحزب بافاريا المتحالف معها خسارة كبيرة , لم تعرفها ألمانيا منذ أيام " أديناوَر " .
لكن النجاح التكتيكي للحزب الليبرالي (FDP), الذي أعطى فيه أعضاء حزبها ، ما يسمى بالصوت الثاني إليه , سمح لها بإقامة تحالف جديد معه يمكنها من متابعة الحكم .
الانتخابات في ألمانيا لها خصوصية غريبة , يعطي فيها الناخب الصوت الأول لمرشح دائرته من أي حزب كان , فيما الصوت الثاني يعطى إلى أحد الأحزاب المشاركة رسمياً في الانتخابات , وهو الأمر الذي قد يسمح بعد إضافة نسبة ما حصل عليه الحزب من الصوت الثاني , أن يحكم , وإن كان خاسراً , فيما الحزب الذي نال أكثر الأصوات عن طريق انتخاب النواب المباشر , قد لا يتمكن من الحكم لأن عدد الأصوات ( المقاعد ) التي حصل عليها عن طريق الصوت الثاني قد تكون أقل من خصمه السياسي , وبالتالي عليه الذهاب للمعارضة .
هذه الحالة الغريبة تسمح إذن للخاسر للانتخابات , عن طريق لعبة تكتيكية , كما حصل مع ميركِل في الأمس , أن يحكم قانونياً وليس شرعياً , وهو الأمر الذي أدى إلى أن تقرر المحكمة الدستورية العليا إنهاء العمل به بدءً من الانتخابات القادمة , وإنهاء هذه الحالة الشاذة , التي جاءت بعد نشوء ألمانيا الاتحادية بعد الحرب الكونية الثانية , ضمن ظروف استثنائية اقتضت مثل هذا الإجراء , الذي لم يعترض عليه الحزبان الكبيران : المسيحي والاشتراكي , لأنه كان يصب دوماً في مصلحتهم , ولم يعد الأمر كذلك الآن بوجود عدد متزايد من الأحزاب الصغيرة , التي استطاعت أن تنتزع منهما العديد من الأصوات , مثل حزب الخضر واليسار وغيرهما , وبخاصة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة , التي طالت بخاصة الدول الصناعية الكبرى ومنها ألمانيا , والحديث يطول ولكن هم الشاعر " هاينه " لا يزال قائماً حتى اليوم :
" أفكِّرُ في ألمانيا ليلاً , يطير النوم من عيني " .
=========
حمص . سورية 28 / 9 / 2009
E-Mail:mutlak@scs-net.org