شاهد عيان يحب باكستان
الفصل الثالث
باكستانيات في وش المدفع
المرأة نصف المجتمع ، وهي الأم والأخت والابنة والزوجة ، وعادة ما توصف بأنها النصف الحلو ، والنصف الضعيف ، وهي كلاهما غالباً . وقد عاشت المجتمعات والحضارات وتقدمت وتراجعت منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا معتمدة بطبيعة الحال على المرأة والرجل، لكل منهما دور يؤديه ، ومهمة يقوم بها ، طبقاً للفطرة التي زرعها الله تعالى بداخل كل منهما . ورغم أن المرأة كانت دائماً – ولا تزال - محور الرجل ، وكان الرجل أيضاً – ولا يزال – محور المرأة ، والعلاقة بينهما ترتكز أصلاً على الحب والاحترام المتبادل ، لكن هذا لا يمنع من القول بأن هذه العلاقات لا تخلو عادة من صراع تفرضه الطبيعة البشرية بما فيها من نقاط ضعف ، وشهوات متعددة جاءت الأديان - وعلى رأسها الإسلام - لتهذيبها .
والمجتمعات في مسيرتها الحضارية يتطور بعضها ويتقدم ، ويتراجع البعض الآخر ويتخلف . ورغم أن تقدم الأول وتطوره غالباً ما يكون قائماً على استغلال الثاني واستضعافه ، وغالباً ما يكون تراجع الثاني وتخلفه قائماً على تخاذله وتهاونه، إلاّ أن النتيجة العامة تتبلور في مزيد من الرفاهية والحرية والاستقلال والقوة للمجتمعات المتقدمة، فتنعم المرأة فيها بحياة أفضل، مقارنة بنظيرتها في المجتمعات المتراجعة التي تعيش في صراع دائم مع مشاكل وأزمات مستمرة، سواء ما كان منها مفروضاً عليها من الخارج، أو ما كان منها من صنع أيدي أبنائها، ثم ما يترتب عليها جميعاً من آثار لم تستطع هذه المجتمعات التخلص منها حتى اليوم .
وفي خضم هذا الصراع المتواصل مع المشاكل والأزمات ، تجور بعض فئات المجتمع على البعض الآخر ، وينشأ نوع من عدم توازن القوى بين الأفراد والطبقات سواء باعتبار الغنى والفقر ، أوالقوة والجاه والسلطان من جانب ، والضعف والعجز وقلة الحيلة من جانب آخر ، والنتيجة في مثل هذه الحالة واضحة معروفة ، وغالباً ما تواجه المرأة في المجتمعات المتراجعة أثناء هذا الصراع كثيراً من الظلم والقهر الذي يؤدي إلى مزيد من السيطرة وفرض السلطة للرجل ، يقابله مزيد من الانكماش والتقوقع للمرأة .
وباكستان دولة مسلمة من دول العالم الثالث ، تقع في جنوب آسيا ، والمجتمع الباكستاني لا ينتمي إلى عرق واحد ، وإنما يتكون من أربعة أعراق كبيرة ، يختلف أبناؤها في الشكل واللغة والعادات والتقاليد والثقافة والملبس والمأكل والمشرب ، بل ويتركز كل منهم في مناطق محددة واضحة المعالم داخل باكستان ، ويعتز أبناء كل عرق بعرقه ، ويثور له ، مما قد يؤدي إلى نشوء عداوات قومية بين أبناء هذه الأعراق ، ينفخ كيرها أحياناً أصحاب المصالح الشخصية المختلفة ، ولا يربط هذه الأعراق المختلفة سوى الإسلام الذي يدين به أكثر من 97% من السكان ، ثم اللغة الأردية التي تعتبر وسيلة التفاهم والتواصل الوحيدة أهل باكستان جميعاً ، ونتيجة للأحداث السياسية المتلاحقة التي مرت بها – ولا تزال – باكستان على المستوى الداخلي والخارجي وقعت تغيرات كثيرة في البلاد على المستوى الاجتماعي أيضاً ، فقد ساءت الحالة الأمنية أكثر من ذي قبل ، وانتشرت حوادث القتل والتفجيرات والسلب والنهب والاغتصاب وغيرها بشكل ملحوظ ، ومن جانب آخر حدث نوع ما من الانفتاح على الحياة الغربية وصل إلى درجة أحدثت ربكة في التفكير الباكستاني ، وابتعدت بكثير من الناس عن الاتجاه الديني ، وهزّت ثقتهم في مدى صحة هذا الاتجاه أصلاً ، واكتشف الناس أن الإسلام لعبة في يد السياسيين الباكستانيين ، سواء من أصحاب الاتجاه الديني الذين يستغلونه سياسياً في التأثير على الناس والحصول على أصواتهم ، أو على مستوى الاتجاه المتحرر الذي تتبناه الحكومة، ويتسم هو الآخر بتطرف في تحرره ، فيتعرض للثوابت الدينية، ويحاول زعزعة الإيمان بها ، وأصبح التلفزيون الباكستاني الآن بقنواته العديدة - الأرضية والفضائية والحكومية والخاصة - يبدو وكأنه يقدم مهرجاناً من الثقافة الغربية ، سواء في الملابس التي تقلصت كثيراً لدى المذيعات خصوصاً على عكس ما كان ملموساً في الثقافة الباكستانية إلى سنوات قريبة من حشمة ووقار في ملابسهن (1) ، أو في طريقة تقديم البرامج وأسلوب الحديث ، والتي أصبحت بعيدة إلى حد واضح عن التقاليد الباكستانية العريقة التي ترتبط بالإسلام ارتباطاً وثيقاً .
والمجتمع الباكستاني - مثله مثل باقي مجتمعات دول العالم الثالث – يعاني كثيراً من المشاكل والأزمات الطاحنة التي تؤثر سلبياً بشكل مباشر على كل من الرجل والمرأة في باكستان ، ومن هذه المشاكل والقضايا الفقر الذي يعيش فيه حوالي 74% من أبناء الشعب الباكستاني ، والجهل ، حيث بلغت نسبة الأمية في باكستان أكثر من 60% ، وكذلك المرض والإقطاع والطبقية والتلوث البيئي والمخدرات والبطالة والفارق الضخم بين الطبقات وارتفاع نسبة العنوسة وغيرها ، كما أن الشعب الباكستاني مكبل بقيود من العادات والتقاليد التي تثقل كاهله وتوقف تقدمه .
ورغم أن الآثار السلبية المترتبة على هذه المشاكل والأزمات والعادات والتقاليد السيئة تصيب الرجل والمرأة في باكستان على السواء ، إلاّ أن آثارها أعظم على المرأة في كل مراحلها العمرية وبكل حيثياتها ومسمياتها ، سواء كانت طفلة رضيعة ، أم فتاة شابة ، أو زوجة أو ابنة أو أختاً ، ولا تزال النسبة الغالبة من الشعب الباكستاني بمختلف أعراقة تسعد كثيراً بمولد الذكور ، وتحزن غاية الحزن بمولد الإناث ، على اعتبار أن الولد هو الذي سيحمل اسم الأسرة ، ويكون امتداداً لها مع ذريته ، كما أن الولد هو الذي يمكنه فيما بعد كسب لقمة العيش والإنفاق على نفسه وأسرته ووالديه أيضاً إذا ما كانوا في حاجة إلى ذلك ، ثم إن البنت هي عرض الأسرة وكرامتها ، والحفاظ عليها أمر لازم ويشغل بال الأبوين ويقلقهما حتى زواجها . وقد نعتبر هذا شعوراً فطرياً إذا لم يترجم إلى خطوات عملية تخالفه ، لكن الواقع هو أنه يترتب على هذا خطوات تزيد من أعباء المرأة ، وتضعف من موقفها ، وتقلل من شأنها ، بل وتقنعها بأن ما هي فيه هو الوضع الطبيعي لها ، ونلمس ذلك في أسلوب التربية والتعامل داخل البيت ، بما يجعل الولد منذ مولده السيد الآمر الناهي المتسلط ، والبنت منذ مولدها المطيعة المسكينة التي تنفذ الأوامر دون اعتراض ، وإذا ما اعترضت نهرها أبواها قائلين : لا يصح أن تتكلم البنت مع أخيها هكذا !! ، ولا تزال نسبة كبيرة من المجتمع الباكستاني - وخاصة في الريف - تنظر إلى الفتاة منذ مولدها على أنها " أمانة " الآخرين لديهم ، ورغم أن هذا في ظاهره يوحي بضرورة الحفاظ عليها باعتبارها " أمانة " لا بد من تقديمها لصاحبها " الزوج " في يوم من الأيام ، إلاّ أنه يخفي بداخله مدلولاً آخر ينعكس في عدم الاهتمام بالبنت قدر اهتمامهم بالولد ، وخاصة من ناحية التعليم ، فلا يثير قلقهم كثيراً أن تحصل البنت على شهادات عليا أو لا ، باعتبار أن البنت في نهاية المطاف ستتزوج ، وتذهب خدماتها إلى رجل آخر ، وستكون مهمتها الطبيخ والغسيل وإنجاب الأبناء وتربيتهم وخدمة الزوج لا أكثر ، وهو ما لا يفيد فيه – في نظرهم - حصول البنت على درجات تعليمية أعلى من عدمه ، ثم ما فائدة الإنفاق عليها والمردود سيؤول إلى غيرهم ؟! وبالتالي فإن ما يشغل والدي البنت منذ مولدها هو أمر زواجها على وجه التحديد ، وخاصة أن أهل العروس في الغالب هم الذين يتحملون النصيب الأكبر من نفقات الزواج من الأثاث المنزلي ، والأجهزة الكهربائية ، وربما يصل الأمر إلى السيارة أيضاً ، وفي بعض الأحيان توفير رأس مال مناسب ليبدأ به الزوج مشروعاً يدر عليه ربحاً ، بينما لا يتحمل العريس سوى البيت فيما لو يكن مخططاً له أن يعيش في بيت والديه ، والحلي والمجوهرات " الشبكة " ، والملابس ، وطعام الوليمة في اليوم الثاني للزواج ، ويدفع إلى هذا الإنفاق الكبير على زواج الفتاة من قبل والديها حتى وإن اضطرهم ذلك إلى الاقتراض أمران : الأول هو التأثر بالعادات والتقاليد الهندوكية التي تفرض هذا الأمر ، والثاني هو العرف السائد من اعتقاد الوالدين أنهم بإنفاقهم على زواج ابنتهم قد أعطوها كامل حقوقها في الوراثة ، وقد يعمد الوالدان إلى حرمان بناتهما من الميراث عن طريق إشراك أولادهما الذكور في ممتلكاتهما بشكل رسمي ، فتكون الأراضي الزراعية والمصانع والعقارات وما إلى ذلك باسم الذكور ، وبالتالي لا يحق للبنات المطالبة بحقوقهن ، ويحدث أحياناً أن يعمد الأخوة الذكور إلى إخفاء أسماء البنات من " إعلام الوراثة " عند طلبه لتقسيم الأرض الزراعية وتوريثها ، أو يتم إجبار البنات على التنازل كتابياً عن حقهن في الميراث ، وهو أمر تشكو منه المرأة الباكستانية ولا تجرؤ على المطالبة به ، وإلا واجهت نقداً شديداً من الأسرة والمجتمع نفسه ، وقد ينتج عن التقصير في جهاز البنت خلافات شديدة مع زوجها وأسرته ، وتظل تعاني طيلة حياتها من تجريح أهل زوجها لها بهذا التقصير .
لقد كون المجتمع الباكستاني تصوراً معيناً عن المرأة ، مدفوعاً بكل ما ورثه من ثقافة وحضارة وعادات وتقاليد ، هذا التصور يتمثل في المرأة الشرقية التي لا تعرف في الحياة هدفاً أعظم من زواجها ، والملازمة لبيتها المطيعة طاعة عمياء لزوجها حتى وإن تحملت في سبيل ذلك الكثير من الإهانات الجسدية والنفسية ، ويحاسبها المجتمع على كل صغيرة وكبيرة ، مقارنة بالرجل الذي يتمتع بحرية أكبر ، ولا يهتم المجتمع كثيراً بمحاسبته على أخطائه وخاصة في حق المرأة ، ولا تزال شريحة ليست بسيطة من المجتمع الباكستاني لا تنظر إلى المرأة المتعلمة أو العاملة نظرة احترام وتقدير ، ولا يزال البرقع سمة للمرأة الشريفة ، ومن لا ترتدي البرقع هي بشكل أو بآخر أقل في نظرهم ، تماماً مثلما أن اللحية في نظر غالبية الشعب الباكستاني حتى اليوم شرط من شروط المسلم ، وأن الحليق بشكل أو بآخر ناقص الدين ومستغرب ومحروم من إمامة الناس في الصلاة حتى وإن كان أقرأ الموجودين ، وأن الطاقية على الرأس من شروط الصلاة ، ومن تخلى عن الطاقية ، أو لبس القميص والبنطال في المسجد بدلاً من الشلوار والقميص فهو على أقل تقدير – في نظر شريحة ملموسة - شخص لا يحترم الصلاة ولا يتأدب مع الله (2) .
وبالرغم من كل هذا فإن المجتمع الباكستاني بكل أعراقه وبشكل عام مجتمع شرقي مسلم متمسك بدينه ، وينعكس هذا في أعرافه وسلوكياته وتعاملاته ، وهو ما نلمسه في قيم التعاون المشترك ، ومساعدة المحتاج ، وتقديس الحياة الزوجية ، واحترام الأسرة ، ومراعاة الجار . ولا يزال المجتمع الباكستاني يكن للمرأة عموماً احتراماً ملحوظاً ، فيفرد لها مكاناً مستقلاً في المواصلات العامة ، ويقضي لها حاجتها في التعاملات ليجنبها مزاحمة الرجال ، ويهب لنجدتها إذا حل بها سوء ، وفي نفس الوقت حققت المرأة في المجتمع الباكستاني برغم كل الظروف مكانة مرموقة لنفسها ، وارتقت مناصب عليا في البلاد ، فعملت محامية ومهندسة وطبيبة وسفيرة ومذيعة ووزيرة ورئيسة للوزراء ورئيسة للجامعات ورئيسة للبرلمان وغيرها من المناصب القيادية التي يطمح إليها الرجل والمرأة في المجتمع الباكستاني على السواء ، بالإضافة إلى الأنشطة الحياتية الأخرى سواء في التعليم أو الخدمات أو الرياضة أو غيرها من المجالات .
ومن السيدات الباكستانيات اللاتي حظين بمكانة كبيرة في قلوب الباكستانيين بما قدمته لهم من خدمات السيدة ( فاطمة جناح ) أخت القائد المؤسس " محمد على جناح " والتي يطلق عليها " مادر ملت : أم الشعب " . ولدت السيدة " فاطمة جناح " في يوليو من عام 1891م ، وتوفيت والدتها عام 1893م ، وتوفي والدها عام 1901م ، وحصلت على الثانوية العامة عام 1910م ، وعلى بكالريوس طب الأسنان عام 1922م ، ومارست تخصصها من خلال عيادتها الخاصة بداية من عام 1923م إلى أن أغلقتها عام 1929م بعد وفاة زوجة أخيها محمد علي جناح الذي تفرغت لخدمته تفرغاً تاماً وتوفيت يوم الثامن وليلة التاسع من يوليو عام 1968م عن عمر يناهز السادسة والسبعين .
اهتمت السيدة " فاطمة جناح " كثيراً بتعليم الفتيات في باكستان ، وأنشأت العديد من المدارس والكليات وخاصة كليات الطب ، ومنها كلية طب لاهور للبنات التي أطلق عليها فيما بعد كلية طب فاطمة جناح للبنات ، وتبرعت في سبيل ذلك بالكثير من الأموال والممتلكات ، ووقفت حياتها على خدمة أخيها مؤسس باكستان وخدمة أبناء وبنات بلدها فلم تتزوج ، ليس هذا فقط ، بل إنها دخلت ميدان السياسة من أوسع أبوابه ، ورشحت نفسها لانتخابات الرئاسة عام 1964م ، ويجمع الباكستانيون على أن السبب في عدم فوزها في الانتخابات كان التزوير الذي حدث على نطاق واسع ، وإلا فإنها كانت تلقى تأييداً كبيراً من الشعب الباكستاني محبة لها وتقديراً لذكرى أخيها مؤسس الدولة .
وبمناسبة السياسة فقد كانت " فاطمة جناح " حتى عام 1973م هي السيدة الباكستانية الوحيدة التي دخلت ميدان السياسة عملياً ، ، بمعنى أن فاطمة جناح كانت حتى ذلك الوقت الوحيدة التي خاضت الانتخابات ، رغم وجود السيدات ضمن المؤسسات السياسية في البلاد منذ نشأة باكستان عام 1947م ، وكانت هناك سيدتان ضمن مجلس الشعب الذي كان مكلفاً بصياغة دستور باكستان عام 1951م هما السيدة " شايسته إكرام الله " والسيدة " جهان آرا شاهنواز " . وفي عام 1962م عين " أيوب خان " ست سيدات عضوات في مجلس الشعب ، وفي انتخابات عام 1970م استخدمت المرأة الباكستانية حق الاقتراع لأول مرة ، وانتخبت السيدة " جينيفر قاضي " من بلوشستان عضوا بمجلس الشعب في سابقة هي الأولى من نوعها ، وأخذ الأمر يتحسن شيئاً فشيئاً وإن اتسم بالبطء .
المهم أن المرأة الباكستانية أخذت تتبوأ لنفسها مكاناً في ميدان السياسة بعد عام 2000م ، وأصبح مجلس الشعب المحلي لإقليم البنجاب يضم في عضويته بالانتخاب 71 عضوة ، ورئيس مجلي الشعب الفيدرالي سيدة هي السيدة الدكتورة " فهميدة مرزا " ، ونائب رئيس مجلس الشعب بإقليم السند سيدة أيضاً هي السيدة " شهلا رضا " ، وسبقتها في الدورة السابقة السيدة " راحيله توانه " ، وهكذا نجد كثيرات من عضوات المجالس الشعبية الإقليمية والفيدرالية .
ومع ذلك تتعرض السيدات العضوات بهذه المجالس لكثير من الإهانات والغمز واللمز والتجريح والضغوط ومنحهن الألقاب المجانية الساخرة من قبيل : يا عمة ، يا خالة ، يا ستي وغيرها داخل القاعات وتحت القبة لمجرد كونهن سيدات وهو ما تؤكدة عضوة مجلس الشعب السيدة " انبساط أحمد " (3) .
ومن الطبيعي والحديث عن المرأة الباكستانية الناجحة أن نذكر الراحلة " بينظير بوتو " رئيسة الوزراء الباكستانية التي أدمت القلوب بكاءً يوم اغتالتها أيد آثمة يوم 27 ديسمبر عام 2007م أثناء حملتها الانتخابية استعداداً لانتخابات مجلس الشعب لعام 2008م ، وقد تحدثنا عنها في مقال سابق بعنوان " الفاجعة " فليرجع إليه .
ومن هؤلاء السيدات أيضاً السيدة " شيري رحمان " وزيرة الإعلام السابقة ، والتي استقالت يوم السادس عشر من مارس 2009م احتجاجاً على تعمد الحكومة – التي هي جزء منها – وقف بث إحدى قنوات التلفزيون الباكستانية الإخبارية الخاصة ( قناة جيو ) أيام المسيرة الشعبية الاحتجاجية التي خرج بها المحامون ومعهم معظم الأحزاب السياسية في البلاد مدعمين بعامة الشعب الباكستاني .
والساحة الباكستانية لم تخلو أبداً من أمثال هؤلاء السيدات الناجحات على كل المستويات وفي كل الميادين والمجالات ، فنجد السيدة " رعنا لياقت علي خان " قرينة السيد " لياقت علي خان : 1895م – 1951م " أول رئيس وزراء لباكستان ، وكانت أول سيدة ترأس جامعة في ذلك الوقت ، حيث رأست جامعة كراتشي ، والسيدة " شكرية خاتون " أول سيدة باكستانية تقود طائرة مدنية ، والسيدة " شمشاد أخير " رئيس البنك المركزي السابق ، وفي مجال التمثيل " ريما " و " ميرا " و " صايمة " و " بينا ملك " و " بابرا شريف " و " زارا شيخ " و " ريشمان " ، ومن المطربات " نور جهان " و " مني بيجوم " و حميرا شنا " و " حديقة كياني " و " تينا ثاني " وغيرهن ، وفي مجال الرياضة " ندا وسيم " و " حليم رحيم " و " مريم رحيم " لاعبات التنس ، وهناك العداءة الباكستانية " شبانه أختر " و " جلناز " ، ولاعبة الكريكت المعروفة " بسمة " ، و " غزالة " لاعبة تنس الطاولة ، والأختان التوأمان " أسماء بت " و " عظمى بت " لاعبتا كرة الريشة و " كارلا خان " لاعبة الإسكواش وغيرهن .
والدارس للمجتمع الباكستاني المعاصر يلحظ كثيراً من التغيير في الشكل الظاهري من الملبس والمأكل والمشرب وغيرها ، فقد تخلى كثير من الشباب عن اللباس الوطني ، ومالوا إلى الملابس الغربية بما فيها من الموضات والتقليعات التي قد تكون مستهجنة لدى الأجيال الأكبر سناً ، وانحسرت الملابس لدى الفتيات عن الأذرع خاصة ، وراج ارتدائهن للملابس الغربية بما فيها البنطال والبلوزة ، وكلها أمور لم تكن الفتيات قبل عشرين عاماً يجرأن على فعلها علانية ، وانتشرت الأكلات والأطعمة غير الباكستانية سواء غربية أم صينية أم عربية ، وزاد الاختلاط بين الأولاد والبنات بنسبة أكبر مما كانت عليه قبل عشرين عاماً ، لكن هذا المجتمع لم يتغير كثيراً من داخله ، ولم يتخل عن عاداته وتقاليده وأفكاره وتصوراته ، ولهذا فإن صورة المرأة في أذهان الناس ، وقضاياها في المجتمع بقيت كما هي تقريباً ، ونظرة المجتمع للمرأة وتصوره لها لا يزال كما هو وإن خفت حدته في الطبقات العليا ، وقد كان دائماً هكذا ، أما الأغلبية من الباكستانيين فلا يزالون مرتبطين بعاداتهم وثقافاتهم الموروثة ، ولا تزال البنت في الغالب لا تستطيع اختيار شريك حياتها ، أوتبدي رأيها فيمن اختاره والداها لها ، رغم حصولها على قدر كبير من التعليم مقارنة بنظيرتها في السابق ، ولا يزال أهل الفتاة هم الذين يتحملون العبء الأكبر من تكاليف الزواج ، ثم لا ترث البنت شيئاً بحجة استنفاذ ميراثها في زواجها ، وقد يلجأ والدا الفتاة إلى طرق ملتوية أخرى لحرمانها من الميراث مثل تزويجها من القرآن الكريم مما قد لا يصدقه عقل ، وهو باختصار تزويج البنت من القرآن الكريم بحجة أنه لا يوجد لها كفؤ من نفس انتمائها ، وخاصة من السنود الأشراف ، ولا يزال الولد يحتل المرتبة الأولى في نظر الأسرة والمجتمع ، ولا تزال المرأة في كثير من الأحيان تفضل أن يهجرها زوجها العمر كله ، ويتزوج بغيرها ، وتبقى هي في بيت أهلها لا ينفق عليها ولا على أولادها إن كان لها أولاد منه على أن تطلب منه الطلاق ، بل ولا تزال المرأة تواجه القتل والتصفية الجسدية باسم العرض والشرف ، وهو أمر معروف في كثير من دول العالم ومن بينها باكستان عموماً ، ويكثر في إقليم بلوشستان خصوصاً .
كل هذه أمور لا تزال المرأة في المجتمع الباكستاني تعاني منها، وبالإضافة إلى ذلك استجدت مشاكل أخرى في المجتمع أضافت إلى المرأة أعباءاً جديدة، فقد ازدادت الحياة صعوبة، وازداد الغلاء، ولم يعد دخل الفرد العادي يكفي أسرته، وهكذا خرجت المرأة الباكستانية إلى العمل لتشارك زوجها في نفقات البيت، ولكنها مع ذلك لم تلق التعاون المناسب سواء من الزوج أو أسرته أو المجتمع، وبالتالي تضاعفت أعباء المرأة، حيث أصبحت تعمل في ميدانين، العمل والبيت، وكان نتيجة ذلك شعور المرأة بالوحدة والإهمال داخل بيتها ، وازدادت الخلافات والمشاجرات العائلية ، وفقدت المرأة الشعور بالأمان والاستقرار .
وبمناسبة الحديث عن تعاون الرجل مع زوجته تعترف زوجتي بأنني متعاون معها في الحياة عموماً وفي أعمال المطبخ خصوصاً إلى أقصى حد ، وأعترف أنا أنني في كثير من الأحيان أتعمد ألا أقدم المساعدة لزوجتي خاصة في أعمال المطبخ رغم علمي أنها في أمسّ الحاجة إلى مساعدتي ، خاصة وأنها تعمل موظفة مثلي وتعاني مما أعاني منه وربما زيادة ، ولكنني مع ذلك عندما تسوء نيتي أظهر لها بأنني مرهق ، أو نائم أو مشغول " لشوشتي " في عمل " علمي " في غاية الأهمية ، وأصدقك القول أنني لا أكون مستريحاً من الداخل حينما تقود زوجتي السيارة وأنا جالس بجانبها هكذا ، وأتصور أن من يراني يظن بي واحداً من أمرين ، الأمر الأول إما أنني والد هذه السيدة ، أو على الأكثر زوجها لكني مريض ، والأمر الثاني هو أنني زوج مغلوب على أمري فاقد الشخصية تابع لزوجتي ، رغم أنني أواجه نفسي بأن هذه عقدة شرقية ينبغي التخلص منها ، وأن هذا منتهى الأنانية مني أن لا أحب لزوجتي ما أحبه لنفسي ، فهي مثلي وتعرف قيادة السيارات ولديها رخصة بذلك وربما كانت أكثر تعقلا مني أثناء القيادة وأبعد عن السير بسرعات عالية مثلما أفعل أنا في كثير من الأحيان . ويعترف زميلي وصديقي د . أحمد القاضي هو الآخر بنفس الاعتراف ، وأنا أقدر اعترافه ويقدر هو أيضاً اعترافي .
وتعاون الزوج مع الزوجة في عالمنا الشرقي والإسلامي ليس من الأمور المألفوفة ، وربما تنظر إليها بعض طبقات المجتمع وخاصة الطبقة التي أنتمي إليها " طبقة الفلاحين والريفيين " نظرة استهجان ، وما نقوله عن هذا الوضع في بلد مثل مصر نقول مثله وزيادة بالنسبة للمجتمع الباكستاني ، فالمجتمع الباكستاني أكثر " شرقية " وأكثر " التزاماً " بالعادات والتقاليد ، وأكثر " حساسية " فيما يتعلق بالمرأة بشكل خاص . بقي أن تعرف أنني متزوج من سيدة باكستانية هي الدكتورة " تبسم منهاس " ، وصديقي د . أحمد متزوج من هندية هي السيدة " ياسمين " ، وأن تعاوننا مع زوجتينا راجع إلى كونهما غير مصريات أكثر من كوننا متعاونين بالفطرة .
وقد أردت بهذه السطور عن وضعي ووضع صديقي د . أحمد أن أقدم صورة لتصرف رجلين يعتبرهما المجتمع في الصفوف الأولى للمثقفين المتعلمين ، ولتعلم أنني غير مستثنى مما أقول .
أما " المدفع " الذي نتحدث عنه هنا فالغالب الأعم أنه لا أحد يعرف على وجه اليقين من يقف " وراءه " ليطلقه ، ومن يقف في " وشه " لتصيبه الطلقات ، والظاهر أن الواقف في " وش المدفع " أو الواقف خلفه لم يفعل ذلك بمحض إرادته ، وإنما وضعته الظروف هذا الموضع ، ولكن نظراً لأن صراع الحياة صراع قوة ، والمرأة تبدو للناظرين ضعيفة لا طاقة لها بمواجهة قوة الرجل ، لهذا فإن أكثر من هم في " وش المدفع " من النساء . وقد يقول البعض إن هذا وهم وخيال محض ، فرغم أن الرجل هو الذي يقف خلف " المدفع " إلا أن يد المرأة هي التي تحرك يده على الزناد وهو لا يدري ويظن أنه يفعل ذلك بمحض إرادته ، ولكن الواقع أن هذا رغم صحته لا يمثل سوى جانب واحد من الصورة ، بينما هناك جانب آخر تكون فيه المرأة هي الضحية والمجني عليها على خط مستقيم وخاصة في مجتمعاتنا الشرقية الإسلامية ، وطبعاً لست في حاجة إلى أن أؤكد أن الإسلام برئ من هذه الصورة التي أتحدث عنها .
ومن هنا فإنني أتصور أن المرأة التي تحقق نجاحاً ملحوظاً وتقدماً كبيراً في مجتمعاتنا وخاصة المجتمع الباكستاني إنما هي امرأة غير عادية ، ولا بد أنها بذلت جهداً مضاعفاً يفوق الجهد الذي يمكن أن يبذله الرجل في نفس المجتمع للوصول إلى نفس النتيجة ، ويفوق الجهد الذي يمكن أن تبذله امرأة مثلها في مجتمع من المجتمعات الأوروبية مثلاً لتحقيق نفس الدرجة من التقدم والنجاح ، لأن المرأة في حالة المجتمع الشرقي تواجه صعوبات العمل الذي تقوم به جنباً إلى جنب مع الصعوبات التي يتطوع المجتمع بزرعها في طريقها حتى لا تصل ، رغم أنني على يقين من أن هذا الأمر ليس مقصوراً على الرجل الشرقي فحسب وإنما يمتد ليشمل الرجل عموماً في شرق العالم وغربه ، ولكن الفارق في المستوى الثقافي والتعليمي والحالة الاقتصادية ومدي التسهيلات المقدمة من قبل الحكومة والمجتمع على السواء : الحكومة باعتبار الإنفاق والمشروعات ، والمجتمع باعتبار العادات والتقاليد ، وفي نفس الوقت أتصور أيضاً أن الرجل الذي يتعاون مع زوجته تعاونا كاملاً في المجتمعات الشرقية الإسلامية وخاصة فيما هو ظاهر أمام الناس لا بد أنه يبذل جهداً عظيماً للتغلب على الصراع الداخلي الذي يمنعه من القيام بهذا التعاون ، وليستجمع طاقته وشجاعته ويتغاضى عن نظرة بعض طبقات المجتمع وإشارتهم إليه بالبنان .
ولكن إذا كانت المرأة الناجحة أو التي تحاول أن تنجح بصفة عامة هي التي يضعها حظها العاثر في " وش المدفع " ، سواء كان وراء هذا المدفع رجل غربي أم شرقي ، إلا أنه على المستوى الباكستاني يمكن لنا أن نقول إن المرأة الباكستانية عموماً تقف في " وش المدفع " والرجل الباكستاني في الغالب هو الذي يقف خلفه ، وبالتالي تصيب طلقة المدفع المرأة عموماً ، وتصيب المرأة المتميزة مئآت الطلقات والدانات ، وإن لم تؤد الغرض المطلوب فالقنابل حاضرة ، والمفجرون على أتم استعداد ، والناس قد اعتادوا كل هذا ولم يعد يمثل لهم شيئاً عجيباً .
إن نظرة على الصحف والجرائد والمجلات الباكستانية ، ومتابعة ولو يسيرة لقنوات التلفزيون الباكستانية تضع أمام عينيك صورة قاتمة لوضع المرأة في باكستان ، وهي صورة في رأيي الشخصي مبالغ فيها ، لكنها لا تخلو من الحقيقة ، فالإعلام الباكستاني معروف عنه المبالغة وتضخيم الأمور ووضع الأصفار بلا حساب على يمين الأرقام ، والشعب الباكستاني مثل باقي شعوب العالم عموماً ، ومثل الشعوب الشرقية خصوصاًَ ، شعب عاطفي وانفعالي تقيمه كلمة وتقعده أخرى ، وتثيره كلمة وتريحه أخرى ، لكن الإعلام الباكستاني عادة لا يعترف إلاّ بالكلمة التي تقيم ولا تقعد ، وتثير ولا تريح ، وقد يكون محقاً في كثير من الأحيان ، ولكن الصواب يجانبه في بعضها ، فالكوب نصفه مليئ ونصفه فارغ ، وعلى افتراض أن الكوب الباكستاني يكاد يفرغ كله ، إلا أنه حتى هذه اللحظة لا يزال به ماء .
وأما الحكومة الباكستانية فأقصى ما فعلته من جانبها هو أنها خصصت الثلث الأمامي من أتوبيسات النقل العام والمقاعد الأمامية في الميكروباصات للسيدات ، ومع ذلك فإن ما تتعرض له الفتيات من مضايقات من سائقي الميكروباصات – إحدى شرائح المجتمع الباكستاني على كل حال – لا تعد ولا تحصى ، فقد وجد سائق الميكروباص في هذا التخصيص فرصة عظيمة بجلوس فتاة بجانبة بعيدة إلى حد ما عن أعين باقي الركاب ، وهو ما جعل الفتيات والسيدات يعرضن في كثير من الأحيان عن الجلوس في المقعد الأمامي ، ويفضلن عليه المقاعد الخلفية .

دعك من هذا وتعالى نرى المرأة الباكستانية كيف تقف في " وش المدفع " ، وتتلقى الضربات القاتلة ، وقلما تصرخ ، وإن صرخت عدّها المجتمع " مكشوفة الوجه " " قليلة الحياء " " قليلة الأدب " وغيرها من الألقاب التي تزخر بها الأدمغة ، وتعلن عنها وسائل الإعلام . وتقول استطلاعات الرأي والبحوث الميدانية في باكستان إن 80 % من السيدات الباكستانيات فكرن في الانتحار ذات مرة (4) ، ويقول نفس الاستطلاع الذي أجرته باحثة باكستانية إن 93 % من السيدات الباكستانيات يتعرضن للعنف الجسماني والإرهاب الذهني أثناء عملهن خارج البيت .
ومما تقوله الإحصائيات عن المرأة في باكستان أيضاً إنه في عام 2008م تم اختطاف 568 سيدة منهن 53 مابين سن 3 سنوات إلى سن 13 سنة ، و 315 فتاة ما بين 14 إلى 25 سنة ، ومن المتزوجات حتى عمر 60 سنة 200 سيدة ، ومن الأسباب الرئيسة وراء الاختطاف الاغتصاب الجماعي والاختطاف من أجل المال والعنف وعدم الموافقة على الزواج والتجارة في الحرام وغيرها ، وفي هذا الخصوص تم القبض على 1419 متهم (5) .
هل سمعت عن " مختاران ماي " ، لا بأس ، سأتصور أنك لم تسمع عنها ، وسأتطوع بأن أسمعك شيئاً عنها ، فتاة ريفية الملامح قمحية البشرة تكاد بالكاد تعرف القراءة والكتابة ، تنتمي إلى المناطق " الأقل تقدماً " في إقليم السند الباكستاني ، فهي من قرية " مير واله جتوي " مركز " مظفر جره " . قبض على أخيها " شكور " في جريمة اغتصاب " سلمى " فتاة أخرى من نفس القرية ، وهو ما أحزن أسرة " مختاران ماي " كثيراً ، ولكن ما باليد حيلة ، إلا أن هذا ليس كل ما في الأمر ، إذ لا بد لتصفية الموضوع من انعقاد " المجلس العرفي : بنجايت " الذي يخضع له الناس أكثر مما يخضعون لقانون الدولة أضعافاً مضاعفة ، وهو صاحب القرار النهائي في القضية التي يفصل فيها ، ولا يقبل مجرد التردد في تنفيذ القرار ناهيك عن الاعتراض عليه أو عدم تنفيذه ، مع أن انعقاد مثل هذه المجالس مخالف لقانون البلاد أصلاً . المهم انعقد " المجلس العرفي " ، وجاء القرار بأن يتم تمكين " عبد الخالق " أخو الفتاة الضحية " سلمى " من " مختاران ماي " أخت الجاني " شكور " ، وفي 22 يونيو 2002م اصطحب " عبد الخالق " " مختاران ماي " داخل البيت ، ووالدا الفتاة يقفان أمام البيت ، وقام " عبد الخالق " بتنفيذ قرار المجلس ، فأصبح لدينا ضحية أخرى ، ولكنها هذه المرة بحكم المجلس العرفي ، وفي الثانية بعد منتصف الليل اصطحب والدا " مختاران ماي " السيد " عبد الخالق " إلى قسم الشرطة وتم الإفراج عن السيد " شكور " . وفي 30 من يونيو قام والدا " مختاران ماي " بإبلاغ الشرطة بالواقعة كلها ، وتم القبض على " عبد الخالق " الذي حكم عليه بالإعدام ، ثم تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد . ثم نشرت الصحف الخبر ، وتلقفته منظمات حقوق الإنسان ، وخرج الأمر من يد باكستان ، ووجهت أمريكا الدعوة " لمختاران ماي " للزيارة وإلقاء الضوء على ما تعرضت له من انتهاك لحقوق الإنسان ، ورفضت باكستان سفر " مختاران ماي " إلى أمريكا ، لكن اتصالاً هاتفياً من " كونداليزا رايس " وزيرة الخارجية الأمريكية سابقاً سهل الصعب ، ويسر الأمر (6) ، ووصلت " مختاران ماي " إلى أمريكا ، وتحدثت عما حدث ، وقدموا إليها عروضاً وأموالاً ، فعادت بالأموال إلى باكستان ، وأنشأت مدارس لتعليم البنات ومنظمة حقوق إنسان ، وزارت دولاً أوروبية وغير أوروبية ، ونالت شهرة ما بعدها شهرة ، وقدمت إليها منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام من كل أنحاء العالم ، بل وتقدم لها الحكومة الباكستانية الحالية الكثير من الأموال والمساعدات لمواصلة تشغيل المؤسسات التي تعمل الآن تحت إمرتها (7) ، وأصبحت الفتيات يستغثن بها إذا تعرضن لظلم ولو كان مجرد تعنيف وتوبيخ من الأب أو الأم (8) .
والآن ترى من أوقف " مختاران ماي " في وش المدفع ؟ ومن أطلق الرصاص ؟ ومن هو الجاني الحقيقي ؟ .
المثير في الأمر ما نشرته الصحف الباكستانية (9) من أن " مختاران ماي " عقدت قرانها على رجل من رجال البوليس في قريتها وقع في حبها ، وهو متزوج وله من الأولاد خمسة ، ولما رفضت الزواج منه في بداية الأمر أقدم على الانتحار فجاءت زوجته إلى " مختاران ماي " ورجتها وكادت تقبل قدميها – سبحان الله - لكي تقبل بهذا الزواج ، وقبلت " مختاران ماي " لتنقذ الأسرة من التشرد بفقدان عائلها إذا ما انتحر لا قدر الله !!. والمدهش أن " مختاران ماي " أعطت الزوجة الأولى بيتاً وقطعة من الأرض وكتبت لها تنازلاً عن مرتب زوجها .
لعل تساؤلات كثيرة ثارت بداخلك مثلما ثارت بداخلي ، ولكن ماذا نفعل وفي الحياة أمور خارجة عن المعقول والتصور ، والإنسان إنسان ، ولم يكن في يوم من الأيام ملاكاً ، ولن يكون ، حتى وإن وصفناه أحياناً - نفاقاً أو ضحكاً على الذقون - بأنه ملاك ، كما أنه لم يكن شيطاناً ، ولن يكون ، حتى وإن وصفناه أحياناً – حقداً وكراهية أو ضحكاً على الذقون كذلك - بأنه شيطان . المهم أن الدخلة لم تتم بعد ، وستتم قريباً – طبقاً لما ورد في الصحف – دون بهرجة أو هيصة كما نقول .
مثال آخر : هل سمعت بالدكتورة " عافيه صديقي " ؟ سأفترض أنك لم تسمع عنها أيضاً ، إنها دكتورة " حاصلة على الدكتوراة في تخصص علم الوراثة والأعصاب " باكستانية مرموقة من كراتشي تبلغ من العمر 36 عاماً تم اختطافها في 30 مارس عام 2003م بدون حس ولا خبر وهي في طريقها إلى المطار متجهة إلى إسلام آباد بطريقة مخابراتية هي وأبناءها الثلاثة " محمد أحمد : 8 سنوات عندئذ ، مريم : 4 سنوات عندئذ وطفل رضيع عمره شهران في ذلك الوقت " ، وفي اليوم التالي نشر خبر في الجرائد المحلية أنه تم القبض على سيدة باكستانية بتهمة الإرهاب ، لكن وزارة الداخلية الباكستانية أسرعت بنفي الخبر بعد عدة أيام من تأكيدها له ، ثم بعد عدة أيام جاء إلى بيت الدكتورة " عافية " شخص على موتوسيكل ويلبس خوذة على رأسه ، والتقى بالسيدة والدة الدكتورة " عافية " ولم يخلع الخوذة ، وإنما قال لها بلهجة تهديدية : إن كنت تريدين سلامة ابنتك وأولادها فأغلقي فمك ولا تحدثي أحداً بشأن اختفائها . وفي الثلاثين من ديسمبر من نفس العام 2003م التقت الدكتورة " فوزية صديقي " أخت الدكتورة " عافية " بالسيد " فيصل صالح حيات " وزير الداخلية الباكستاني إذ ذاك بوساطة من السيد " إعجاز الحق " ابن الرئيس الراحل " ضياء الحق " ووزير الشئون الدينية إذ ذاك أيضاً ، وقد أكد السيد وزير الداخلية للدكتورة " فوزية " أنه تم الإفراج عن أختها وعليها أن تعود إلى البيت لتتلقى مكالمة منها (10) ، وبالطبع لم تأت هذه المكالمة أبداً ، ولم يعرف أحد أين أختفت " عافية " إلا بعد أن نشر خبر اعتقالها في أفغانستان في يوليو 2008م بتهمة تقديم المساعدات لتنظيم القاعدة على الإنترنت ( شبكة المعلومات الدولية ) ، ونقلت بعد ذلك إلى سجن بجرام للرجال بأفغانستان تحت رقم 650 ، أما الجانب الباكستاني فينفي تماماً أن يكون له يد في اختفاء الدكتورة " عافية " ، بينما يؤكد الجانب الأمريكي بأنها قبض عليها أصلاً في 18 يوليو 2008م في حالة اشتباه من أمام قسم بوليس أفغاني في أفغانستان ومعها حقيبة بها وثائق ومواد كيميائية خطرة ، وأثناء التحقيق معها في اليوم التالي اختطفت بندقية من طراز M4 من الجنود الأمريكيين وأطلقت رصاصتين على ستة أفراد مسلحين من الجنود والمحققين والمترجمين قبل أن يتمكن أحد الجنود من إصابتها بمسدسه والسيطرة عليها بصعوبة بينما كانت تصرخ في الجنود الأمريكين قائلة : إني أريد أن أقتلكم !! ، ولم يصب أحد سواها بسوء ، ثم نقلت في 4 أغسطس 2008م بالطائرة إلى نيويورك لمحاكمتها ، ووضعت قيد المحاكمة في السجون الأمريكية ، أما ما قبل يوليو 2008م فلا تعرف أمريكا أين كانت " عافيه صديقي " .
ولا تزال الدكتورة " عافية صديقي " في السجون الأمريكية حتى يومنا هذا تلقى من الإذلال والتعذيب ما قد لا يتصوره أحد ، بداية من استخدام العنف والإيذاء حتى كسرت عظمة أنفها ، وانتهاءاً بتصويرها فيديو شبه عارية ، حتى أصبحت ابنة السادسة والثلاثين مجرد هيكل عظمي فقد حتى رطوبته ، تترنح في سيرها كأنها سكرانه " طينة " .
ولدت " عافية صديقي " بمدينة كراتشي عام 1973م ، وهي الثالثة والأخيرة في ترتيب الإخوة والأخوات ، تعلم والدها في بريطانيا ، وكانت " عافية صديقي " طالبة متفوقة متميزة ومتدينة كذلك ، سافرت إلى أمريكا لاستكمال دراستها العليا ، وهناك أثبتت كفاءتها ، تزوجت في أمريكا من الباكستاني الدكتور " أمجد خان " الذي كان يسئ معاملة زوجته ويظلمها كثيراً ، وفي النهاية انفصل الزوجان ، وكان للدكتورة " عافية صديقي " أنشطة دينية في مجال التبليغ والدعوة ، وكانت تعود إلى باكستان سنوياً لقضاء الإجازات ، وفي نفس الوقت تواصل دروسها الدينية ، ثم اختفت فجأة ، أما أختها الدكتورة " فوزية صديقي " فكانت تعمل بجامعة " جون هوبكنز " ، وعادت هي الأخرى إلى باكستان لتبدأ مشوار البحث عن أختها وأولادها ، وبعد معاناة وجهد شديدين لخمس سنوات متصلة استطاعت الدكتورة " فوزية صديقي " أن تستعيد ابن أختها الأكبر " محمد أحمد " من الحكومة الأفغانية والباقي على الله (11) .
مثال آخر : هل سمعت عن " تسليم سولنجي " ؟! بالتأكيد لم تسمع عنها فدعني أقص عليك من حكايتها طرفاً ، فتاة في السابعة عشرة من عمرها من قرية تسمى " خير بور " ، متزوجة ، وحدث خلاف مع أهل زوجها فيما يتعلق بالممتلكات والأطيان ، فطالبوها بأن تجعل أباها يكتب ما يملك من الأراضي باسمها " ترى كم تكون هذه الأطيان التي تضع رأس الإنسان في الطين وتخرجه عن إنسانيته " ، ورفضت البنت ، فأطلقوا عليها الكلاب الجائعة تنهشها حية " هل تتصور أن هناك من يفعل هذا في القرن الحادي والعشرين " ، ثم أطلقوا عليها الرصاص بعد ذلك ، وادعو أنها ارتكبت الفاحشة وأن المجلس العرفي هو الذي حكم عليها بالقتل (12) ، وانتهت القصة ، تعرف لماذا انتهت بهذه السرعة ؟ لأن مثل هذه الأحداث تقع بكثرة في المناطق القبلية في باكستان لدرجة أن القارئ للجرائد يعتاد عليها فلا تلفت منه نظراً ، ولا تستدعي منه وقفة .
قبل حادثة " تسليم سولنجي " هذه بشهرين بالتمام والكمال في قرية " جعفر آباد " وقعت حادثة دفن البنات اللاتي أردن الزواج ممن يرغبن أحياء . وفي قرية " بابا كوت " إحدى قرى بلوشستان تم دفن ثلاثة فتيات ( مابين 16 – 18 عاماً ) وسيدتين " السيدة فاطمة والسيدة جنت " أحياءاً تنفيذاً للتقاليد المرعية بتهمة محاولة الزواج ممن يحببن عن طريق " المحكمة " ، حيث اقتيدت الفتيات الثلاثة إلى مكان مجهول ، ثم أطلق عليهن الرصاص فأصبن أصابات عديدة ، ثم ألقي بهن في حفرة عميقة وأهيل عليهن التراب وخلاص ، فلما اعترضت السيدتان على ما يحدث لقين نفس المصير . والأهم من ذلك أن السيد " أسرار الله زهيري " أحد أعضاء مجلس الشيوخ عن بلوشستان دافع تحت قبة المجلس عن هذا الفعل الأثيم باعتباره ضمن عادات وتقاليد المنطقة وذلك حين أثير الموضوع داخل مجلس الشوري (13) .
مئات من الفتيات والسيدات – والشباب والرجال كذلك - يتم قتلهن كل عام بقرار سيد قراره المجلس العرفي ، والتهمة ارتكاب جريمة الزنا ، وليس من الضروري أبداً أن تكون الفتاة قد ارتكبت الجريمة بالفعل ، وإنما أكثر الحالات تكون حالات حب أو زواج ممن لا يريده الأهل ، أو انتقام وثأر لأحداث سابقة ،
والحديث عن المرأة الباكستانية " في وش المدفع " حديث يطول ويطول ، ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى قرب تحول فوهة المدفع بعيداً عنها ، ولذلك تبدى المرأة الباكستانية إعجابها بالمرأة المصرية التي استطاعت – في رأي المرأة الباكستانية – أن تأخذ حقوقها بقوة ذراعها ، ووقفت في وجه الرجل ، وأوقفته في المحاكم وساحات الإعدام ، وأدخلته السجن والمعتقلات ، ورفعت صوتها فوق صوته ويدها فوق يده ، ولولا هذا لما شعر الرجل المصري بوجود المرأة المصرية ، وتتمنى المرأة الباكستانية أن يأتي اليوم الذي تستطيع أن تحقق هي الأخرى مثل هذا الإنجاز المصري .
وسواء اختلفنا مع هذا التصور أم اتفقنا معه ، وسواء صرخت المرأة المصرية بأنها مظلومة أم صمتت على مضض لكي تسير الحياة ولا تتوقف ، وسواء كانت المرأة المصرية تلقى هي الأخرى ما تلقاه المرأة الباكستانية مع فارق هو أنه لا أحد يدري ماذا يحدث بسبب القدر الضئيل من الحرية المتاح لوسائل الإعلام المصرية على عكس وسائل الإعلام الباكستانية ... لكن يبقى السؤال دائماً : ماذا يحكم مجتمعاتنا ؟! هل هو الدين والأخلاق ، أم منطق القوة وقانون الغابة ؟ . وهل العلاقة بين الرجل والمرأة – في المجتمعات الشرقية الإسلامية على الأقل – محكومة بالحب والاحترام المتبادل أم بخضوع الضعيف للقوي ؟!! .
هوامش
1 - لا شك أن مثل هذا التغيير نلمسه في تلفزيونات دول إسلامية عديدة أيضاً ، وليست باكستان بدعاً بين الدول ، وإنما وجه العجب هنا هو السرعة الرهيبة التي حدث بها هذا التغيير ، فتحول التلفزيون إلى النقيض في المظهر العام ، ومع ذلك فإن هناك برامج جادة كثيرة تقدم على شاشات التلفزيون الباكستاني .
2- كثيراً ما يحدث إذا كنت في المسجد تصلي بغير طاقية على رأسك أن يأتي أحد من خلفك ويلبسك الطاقية، والمساجد كلها تحتفظ بطواقي مصنوعة من الخوص أو البلاستيك لاستعمالها عند الضرورة ، ومع ذلك فهناك الكثيرون الذين يصلون بغير طاقية وفي القميص والبنطال ، وهؤلاء من الشباب في الغالب .
3 - انظر مجلة " فيملي " الصادرة بتاريخ 7 سبتمبر 2008م – ص 16 .
4 - مجلة " فيملي " – 1 يونيه 2008م .
5 - جريدة نوائي وقت – 9 فبراير 2009م .
6 - راجع مجلة " فيملي " الصادرة بتاريخ 22 فبراير 2009م .
7 - مجلة " فيملي " – 16 يونيه 2008م .
8 - جريدة نوائي وقت – 22 نوفمبر 2008م .
9 - جريدة نوائي وقت الصادرة في يومي 16 و 17 مارس 2009م .
10 - مجلة " فيملي " – 18 أغسطس 2008م .
11 - مجلة " فيملي " الأسبوعية بتاريخ 28 سبتمبر 2008م .
12 - جريدة نوائي وقت – 3 نوفمبر 2008م .
13 - مجلة " فيملي " – 14 سبتمبر 2008م .