آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 14 من 14

الموضوع: النص والناص: قراءة في ثلاثية نجيب محفوظ

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي النص والناص: قراءة في ثلاثية نجيب محفوظ

    تصدر في أول فبراير القادم دراسة ثروت مكايد عبد الموجود «النص والناص: قراءة في ثلاثية نجيب محفوظ» في العدد (194) من سلسلة «أصوات معاصرة»، تقع الدراسة في 114 ص من القطع المتوسط.


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة
    لا يمكن لكاتب – أو قل: لبشر – أن يحيا دون تصور ما لهذه الحياة ... ومهما كان تصوره هذا ضحلا حقيرا ً فإنه ينطلق في سلوكه كله منه، فإنْ نطق فإنما يصدر عن تصوره هذا، وإن تحرك فإنما يتحرك وفق تصوره هذا، حتى المعتوه من بني البشر هو الآخر يصدر عن تصور مختل للحياة والأحياء، ومن ثم اختل قوله وفعله ...
    ولا يعني أن لكل حي من الأحياء من بني البشر تصوراً ما للحياة والأحياء، أن كل حي يدرك هذا التصور إدراكاً يستطيع به أن يحدد عناصر ذلك التصور وخصائصه التي يقوم بها وينتسب، وإنما يصبح التصور – في أحايين كثيرة – جواً عاماً ، يولد فيه المرء ويتنفسه ويصدر عنه دون أن يلم بمعالمه وخصائصه ....
    وهذا التصور العام قد يصيبه الترهل أو الانحراف، وقد تكثر التصورات في المجتمع الواحد إبان اضطرابه وتدهوره، وتتداخل في نفس الفرد دون أن يشعر بهذا التداخل ودون أن يحدث في نفسه تصدعاً ما، وبذا تميع المجتمعات وتصبح إلي الانحلال أقرب، ولا ينقذ المجتمع ساعتئذ غير فئة تحمل تصوراً ما، وتؤمن به إيمانا يدفعها إلي التضحية في سبيله ... ويُكتب النصُر لأكثر الفرق إيمانا بتصورها وتضحية في سبيله ولو كان ذلك التصور باطل الأباطيل.
    ***
    ولما كان الناس في دنيا الرواية من نوع البشر ، فإن لهم – هم أيضا – تصوراً للحياة والأحياء يحركهم في عالم الرواية، فيضيف إلي قيد النص فكر الناص وتصوره، لأن الحركة داخل إطار النص تخضع لقيد السياق العام، وخصائص الشخصيات الروائية غير أنك لا تشعر بهاته القيود أمام الكتاب الكبار الذين يحولون النص إلي بحر زاخر بالحياة، فلا يشعرك هذا بسطوة الإطار بينما يتخبط الصغار في جدرانه، حيث يتحول لديهم إلي معتقل يخنق الأنفاس أو إلي لاشيء، فتجد نفسك تقرأ ثرثرة فارغة لا معني لها، وهذا ما تجده عند الكثرة الكاثرة من كتابنا ( المبدعين )، فكثيرا – مثلا ً – ما تجد مبدعاً – أو مبدعة – يحدثك عن أمر ما ثم يخرج منه ليحدثك عن التدين الشكلي أو قضية الختان تلك القضية العظمي أو تغيير الخطاب الديني، ولا علاقة لهذا كله بسردها أو بسرده، وكان من الممكن أن تتحفنا المبدعة برأيها هذا في مقال قصير أو كلمة عابرة في مجلس ثرثرة ..
    وكم عجب كاتب هذه السطور عندما قرأ لكاتبة قامت الدنيا وقعدت لرواية هشة غثة رثة نشرتها، وحملت هي الأخرى علي الخطاب الديني والتدين الشكلي، ثم قدر له أن يراها فإذا به يرى امرأة مثقلة بالأصباغ ترتدي – أو قل: لا ترتدي – الميني جيب أو الميكرو جيب، بينما يتقدمها ثديان يتأرجحان بارزان للعيان، فما لهذه بالتدين الشكلي أو الخطاب الديني!!، ولمَ أقحمت في الرواية ما أسقطها ؟!!
    إنه الجو العام والثقافة المتنحية الحبيسة والشعور بالنقص والدونية وهلم جرا من علل تبدو في إبداع المبدع دون أن يدري أن إبداعه يفضحه ويعريه أمام القراء، ومهما حاول أن يتخفي فإن النص مرآة الناصّ وانعكاس فكره وروحه أكثر منه مرآة للمجتمع، ولنترك الصغار جانبا خاصة ونحن نتحدث عن أديبنا الكبير "نجيب محفوظ"، فما أبعد الشقة بين الثري والثريا ! ، وكم نظلم النمال إذا نظرنا إليها من فوق قمم الجبال ..... إننا ساعتئذ لا نراها .. لا نراها إلا بمنظار، وهي بعد في المنظار لا تبدو أفيالا، فما تخرج عن كونها نمالا .
    ***
    فمن الممكن إذن أن نعود إلي الجذور الأولي للعمل الفني، ونري كاتبه وهو جالس يفكر في العمل بعد أن تكون البذرة الأولي قد ألقيت في نفسه ثم نخطو معه خطوة خطوةً حتى تستوي الفكرة وتختمر فى رأسه، ويصبح العمل معداً لأنْ يبدأ الكاتب في تستطيره علي الورق وإخراجه من عالمه هو إلي عالمنا نحن القراءَ، وإلي دنيا النقد، وإن كان للناقد البصير دور في حياة المبدع قبل أن ينتج الأخير أدبا، فالناقد يضيء للمبدع وللقارئ أيضا مناطق في حياتنا، ويكشفها حتى تتسع رؤية المبدع ومن ثم يصبح حراً، لأن ضيق الفكر يؤدي إلي العبودية لفكرة ما ....
    العبودية لفكرة قد تكون خرافة من الخرافات أو يكون فيها من النقص الكثير، فيصدر المبدع من تلك الفكرة القاصرة الناقصة، ويري الحياة علي ضوئها ومن ثم تأتي حياته تلك التي يراها ويبثها إلي الورق ناقصة مشوهة ..
    فتلك وظيفة الناقد الكبرى، ومن ثم قيمته التي تعادل قيمة المبدع إن لم تتفوق عليه، غير أنه ليس ذلك التفوق الذي يفهمه البنيويون والتفكيكيون، وإنما هو تفوق نابع من دوره في الحياة، ومن ثقافته الموسوعية وقدرته علي البحث والاكتشاف والإضاءة .. إضاءة الحياة والوجود للمبدع وللقارئ معا.
    ثم يأتي دور الناقد مع العمل المبدع بعد هذا، ليكشف لنا – جمهور القراء ـ جوانبه وينير لنا سبله، فنستمتع به، ونكوّن من لبناته عالماً لنا فيه – ولا بد – من الشبه الكثير من عالم كاتبه لانتماء الكاتب والقارئ لبنى البشر، ولانتمائهما لثقافة إنسانية واحدة، ولثقافة وطنية واحدة توحد الوجدان والفكر ولا يحدث الشقاق بين القارئ والمبدع إلا إذا تصنع الأخير وافتعل عمله افتعالاً واتبع ثقافة أخرى وتحدث وصدر عنها مخاطباً أصحاب ثقافة ليست فيها هموم الثقافة الغربية – مثلا – ولا مشكلاتها الكبرى ..
    إن الغربي يتخبط في الظلمات في جانبه الروحي ، وتؤرقه علاقته بربه بينما تحرر من قهر السلطة، وما هكذا حال المسلم حيث لا ألغاز في دينه؛ فالوحي – حامل رسالة الإسلام – محفوظ كدين وثقافة لن تمتد إليه يد الخبثاء أبداً، بحفظ الله له، وعندما تنحّت الثقافة الإسلامية أو نُحّيت عن الحياة تخبط المسلم في ظلمات القهر السياسي وغيره من ألوان القهر، وأصبحت كبري مشكلاته أن يجد قوت يومه أو أن يأمن علي نفسه وبيته .. وتلك مشكلات لا يعرفها الغربي.
    إن نظرة القارئ العربي لكاتب عربي يبحث في الذات والصفات، وهل الإنسان أصله آدم أم قرد، كنظره إلي أحمق في جيبه قطعة نقود، وراح يبحث عنها في منطقة مظلمة .. ذلك عبث.
    ونحن – معشر القراء – نقبل ذلك عندما يأتي من صاحب ثقافة مغايرة ، ونعطف علي البطل في بحثه هذا عن الحق ونري الصدق الفني في إبداعات الغربي بينما لا نرى سوى البلاهة فيما يكتبه المخنثون عندنا وأذيال الغرب من كتابنا المتشنجين.
    ***
    وهذا الكتاب محاولة متواضعة لإنارة نص أبدعه أستاذنا الكبير "نجيب محفوظ" أشهر الروائيين العرب قاطبة، وصاحب أكبر مشروع إبداعي عربي. وسنختار من بين أعماله أشهرها جميعا "الثلاثية"، فهي سرة أعماله .. مصب ما قبلها ومنبع ما بعدها من أعمال، وسنري في محاولتنا المتواضعة هذى جذور العمل الإبداعي، وكيف تؤثر رؤية الكاتب للعالم في إبداعه الأدبي، وكيف يأتي العمل صورة لمبدعه وانعكاسا لرؤيته للحياة دون أن نستخدم جداول الحداثيين وطلاسمهم، فالوقت أعز من أن تضيعه في لغو فارغ، وسير عقيم .

    ثروت مكايد


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الأول

    ( 1 )
    يصور "نجيب محفوظ" وجدان فئة من المثقفين وأفكارهم خلال قرن من الزمان بدأب وإخلاص، ووعى بمسارات الفكر فى العالم، وما نجم عن ذلك الفكر من تغير في الأيديولوجيات، ويضمن ذلك كله عالمه الروائي بمهارة فائقة وذكاء ..
    وبدأ أستاذنا كاتبا للمقالات الفكرية متبعاً أستاذه "سلامة موسي"، وكان من الممكن أن يستهلك نفسه في سنوات قليلة، ويصبح صورة أخري من "سلامه موسي" أو من غيره من اليساريين المصريين الذين يرددون نفس الأفكار بطريقة واحدة. لكن أستاذنا اتجه وجهة أخري، ليحافظ علي أفكاره التي آمن بها دون أن يفقد جدته، ويزول بريقه، فكانت الرواية تلك الملحمة المعاصرة، يبدع بين ضفتيها شخصياته ويلبسهم أفكاره، ويختبر تلك الأفكار ومدى قدرتها علي الحياة ...
    والحق أن كاتبا غيره لم يصل إلى ما وصل إليه أستاذنا من تمكن ومهارة اللهم إلا "نجيب الكيلاني" في أعماله التي تحمل أيديولوجيا مخالفة لأيديولوجيا "نجيب محفوظ"، وإن كان "نجيب الكيلاني" لم يأخذ حظه من الذيوع والدراسات لمخالفته للثقافة السائدة من ناحية، ثم لذلك الوهن الذي أصيب به العقل العربي في تاريخنا الحديث ..
    ولنحاول الاقتراب من المشهد الثقافي الذي أرضع نجيب محفوظ دون تفصيل لجزئيات المشهد، وإنما هي صورة كلية أو نظرة خاطفة لخريطة العالم الثقافية ..
    ( 2 )
    الباحث في أسباب سقوط حضارة، وقيام حضارة أخري علي أنقاضها يرى أن السقوط والقيام علي السواء لا يتمان فجأة، فقد تتم هذه العملية خلال قرن من الزمان أو يزيد ..
    ولذلك السقوط علل وأعراض تُظهر للناظر أن حضارة علي وشك السقوط والزوال، كما أن لقيام أخري دلائل وعلامات تبث في روح الناس أملا في حياة جديدة، علي أن علة العلل في السقوط والزوال – ولا نبسط القول، فنظرتنا نظرة طائر لا أكثر من هذا – إنه ذلك الترف الذي تتمرغ فيه فئة بعينها بينما لا تجد الكثرة الكاثرة من الأُناس ما تقتات به، وتقيم الأود. فقد تضخمت خزانة رجال الكنيسة – رجال الحضارة الذاهبة – وأصبح لهم نصيب معلوم في كل شيء حتى اختنق الناس ..
    والترف يُنتج بدوره رذيلتين كبيرتين :
    الأولى: الفسق: فحيث يكون الترف، يكون الفسق كنتيجة حتمية، وسجلات التاريخ مكتظة بفضائح القسس والرهبان إبان ذهاب حضارة الكنيسة التي قامت على مدي ألف سنة.
    أما الرذيلة الثانية التي ينتجها الترف فإنها: الظلم؛ إذِ البطش سلاح المترف الذي به يسلب الناس حرياتهم وأموالهم وحقوقهم، فيسود الظلم، وتضيع الحقوق، وتتعطل القوانين، وتصبح سيفا في يد الطبقة المترفة حتى لا تترك للناس متنفّساً .
    ويقابل ذلك الترف الذي يتمرغ فيه أصحاب السلطان، قحطٌ ولا بد، فأينما وجدتَ غنىَ فاحشاً ، وجدت – كنتيجة لازمة – فقراً فاحشاً أيضا ..
    وهذا الفقر عينه إبان أفول الحضارات ينتج نفس الرذيلتين الكبيرتين اللتين أنتجهما الترف، حيث تسوء أخلاق السلطة أوساط العامة، لأن النفوس الوضيعة لا تستطيع أن تخرج عن مدار الأخلاق السائدة ..
    إنها – أي النفوس الوضيعة – أشبه ببرادة الحديد أمام قضيب ممغنط، فتسوء الأخلاق في أوساط العامة، وينتشر الظلم ..
    ظلم يصبه بعض الفقراء علي بعض بدلا من اتحادهم، ليمنعوا أو يردوا الظلم الواقع عليهم من المترفين فحيثما وجدت فُرقة بين الصغار وظلما يصبه بعض الجرذان على بعض فاعلم أن أمتهم في سبيلها إلى الزوال، كما تشيع الفاحشة بين الصغار – صغار الناس – والفُحش كما يحدث في عالم المترفين سواء بسواء ....
    ويبلغ ترف المترفين حداً يجعل الصغار يقدسونهم ، ففي حضارة الفرس حين دب السوس فى أوصالها ألّه الصغارُ الأكاسرة، ولك أن تتصور ترف الإله البشرى ومن ثم ظلمه وفسقه حتى وصل الفسق إلى أن "يزدجرد الثاني" قتل ابنته وكان قد بنى بها قبل أن يقتلها ....
    وهل الظلم غير وضع الشيء فى غير موضعه ؟ ..
    فالشخص المقدس لا وجود له فى الحقيقة، إذ المقدس كامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا ينطق عن هوى، ولا ينطبق هذا الوصف على أحد من خلق الله سوى الأنبياء والمرسلين فى جانب حياتهم الرسالى وإلا فهم – فى غير هذا الجانب الرسالى – بشر يصيبون ويجانبهم الصواب ..
    فإذا نقلنا صفة القداسة هذه إلي أحد غير الأنبياء والمرسلين، فإننا نضعه في غير موضعه، وينتج عن هذا أن كل ما يقوله هو الصدق كل الصدق ما دام مقدساً، ومن ثم تتسرب الأهواء – أهواء البشر المقدس – إلي الحياة على كونها حقائق، فتؤدى إلي الخلل والاضطراب، ويصبح سلوك البشر المقدس – وهو سلوك معوج – غاية ما يصبو غير المقدسين، ويصبح فعله – وجل فعله مجون وفسق ما دام مترفا – مثالا ً يحتذى به، فيحدث الخراب في المجتمع أو في الحضارة حتى تتحلل دعائمها وتصبح آيلة للسقوط.
    وفى نهاية حضارة الكنيسة حيث ساد رجال الكنيسة وأصبحوا مقدسين يهبون الغفران والجنان بصكوك في نفس الوقت الذي تحللت فيه أخلاقهم كنتيجة لازمة لترفهم الزائد وتضخم ثرواتهم، كانت الجماهير فى انتظار أي داع للخروج عن تلك الثقافة السائدة، وكان القدر على موعد مع رجال العلم ليكونوا قربان هذا التغيير والتحول والانتقال من عصر إلي عصر، ومن حضارة إلى حضارة، ومن فكرة سائدة إلى فكرة أخرى ..
    ولكل حضارة إبان ولادتها رجال يضحون بأنفسهم فى سبيل ذلك التغيير حيث تحارب الحضارة الذاهبة بشراسة فى سبيل المكث أكبر وقت ممكن .. تحارب من يحملون شعلة التغيير ، وتقتلهم وتشردهم، ولك أن تنظر إلي الفترة المكية فى حضارة الإسلام إبان ولادتها وذهوب الفكرة الوثنية تجد جهداً جهيداً بذله المسلمون الأوائل، وتحملا للعذاب والاضطهاد والتقتيل والتهجير .. وهذه الشدة عينها هي التي تدعم قواعد الحضارة الوليدة، وتزيدها صلابة وذلك راجع – فى رأى كاتب هذه السطور – إلى عاملين اثنين:
    أولهما: أن الذي يقاسى ويعارك الشدائد، لا تذهب الدنيا بعقله إن هي فتحت عليه أبوابها، وأعطته من كنوزها، لأن شعلة رسالته – ولا بد لكل حضارة من رسالة – متقدة فى صدره وعقله ما زالت.
    ثانيا: ولكونه عارك الشدائد فهو يريد أن يقيم قوة تدفع عنه بطش الباطشين الذين ذاق على أيديهم الويلات، فيشغل عن الثمرة بالفكرة وتدعيمها وإقامة ما يحميها من سطوة الظلم وظلم الجاهلين بها.
    وهكذا قامت على أكتاف رجال العلم بذرة الحضارة الوليدة في وقت كانت فيه حضارة الكنيسة قد هرمت، ولم يعد للناس طاقة على المزيد من الصبر، وبلغ من عته حضارة الكنيسة الآيلة للسقوط أن قضت على مهندس اكتشف مصباحاً يضاء بالزيت ليلاً، وعدت محاولته تلك خروجاًً عن إرادة الله الذي أراد الليل ظلاماًً ثم ركبها عفريت حين أعلن "كوبرنيق" أن الشمس هي مركز الكون، وما الأرض غير تابع يدور حولها، فعدت الكنيسة ذلك منه هرطقة تخالف معتقدها الذي تعتقده من كون الأرض مركز الكون، وما الشمس غير تابع يدور حولها، فصادرت الكنيسة أراء كوبرنيق التي ضمنها كتابه "حركات الأجرام السماوية"، وما لبثت الكنيسة غير قليل حتى طالعها "برونو" باعثاًً نظرية كوبرنيق من جديد، فطاش لب رجالها ، فأحرقوه ..
    لكن القدر قد شيع روح تلك الحضارة فبعث "جاليليو" ليؤكد ما ذهب إليه "كوبرنيق" و"برونو" عن طريق اختراعه للتلسكوب الذي حول كلام "كوبرنيق" و"برونو" من النظرية إلي اليقين العلمي، ليتأكد للناس أن الكنيسة ورجالها ليسوا على حق ومن ثم انهارت الفكرة التي قامت على ضوئها حضارة الكنيسة خلال ألف عام أو يزيد ودعم حركة في الفكر اتخذت من العلم قاعدة تنطلق منها، وجعلت للعقل سلطانا بديلا عن سلطان الكنيسة، وجاء مفكرون أنكروا الدين لكنهم لم يذكروا الله بل دعوا إلى التفكير فى إله جديد غير إله الكنيسة – وسنري موقفا مشابها لهذا ، اتخذه كمال عبد الجواد فى الثلاثية إبان اكتشافه لنظرية دارون فى التطور – مثل " فولتير " – على سبيل المثال – الذي أعلى من قدر العقل إلى أن برز للعقل منافس آخر ..
    إنه العلم ..
    العلم كمذهب وفلسفة حيث رفض أصحاب هذا المذهب الدين والعقل كمصدرين للمعرفة اليقينية وعدوا التجريب أو "الحس" هو المصدر الوحيد لليقين، وبذا بزغ نجم الحسية أو "المنطقية الوضعية"، وسارت خطوة أخرى فى نتائجها إذ أنكرت الوحي، وأنكرت كذلك وجود الله ، وحل "الحس" محل "اللاهوت".
    وكان الغرب فى تلك اللحظة قد تهيأ تماماًً لولادة عصر جديد، وجاءت تلك الولادة فى صورة ثورة عارمة اكتسحت سلطان الكنيسة ومن عاونها من الإقطاعيين، وقطع طريق عودة الناس إلي الدين نظريتان لم تثبت واحدة منهما علميا ..
    لم يثبتهما العلم التجريبي الذي قامت على أكتافه الثورة لكن فى أوقات الثورات يضيع العقل، ويصبح لأي ناعق إن هو أوتى قدرا من شجاعة، الحق فى أن يقود الجموع والعقول الثائرة ..
    فقد كانت الناس كافرة بالكنيسة ورجالاتها، ولم تعط مهلة من الوقت، لتعود إلى الدين حيث جاء "تشارلز داروين" ليؤكد على أن الإنسان لم يخلق بيد الرحمن كما ذكر الكتاب المقدس، وإنما هو حلقة من حلقات التطور، فالحياة التي بدأت على ظهر الأرض بجرثومة صغيرة تحولت إلى حيوان صغير ثم تدرج هذا الحيوان وارتقى إلي حياة حيوانية بدائية فإلى حيوانات أكبر فأكبر ثم إلى حيوان أشبه بالإنسان ثم إنسان بدائي لا يعقل ولا يدرك ولا يتكلم، ثم تحول هذا الأخير إلى إنسان هذا العصر الذي يحيا ويتكلم ويدرك ويشعر.
    وقد أقام "تشارلس دارون" نظريته تلك على أربعة قواعد:
    القاعدة الأولى: تنازع البقاء، بمعنى أن الكائنات فى صراع دائم، وينتج عن هذا الصراع بقاء الأقوى وهلاك الأضعف.
    القاعدة الثانية : الانتخاب الطبيعي، بمعنى أن الطبيعة تعمل على هلاك الضعفاء حتى لا يبقى غير الأقوياء.
    القاعدة الثالثة: المطابقة، بمعنى أن شكل الحيوان أو الكائن الحي يتطابق مع بيئته ووظيفته فى تلك البيئة فالحيوانات – مثلا – آكلة اللحوم لها أنياب حادة، ولو وجدت فى وسط لا وجود فيه للحوم، لضعفت أنيابها، وتحولت تدريجيا لشكل يناسب الطعام الذي تطعمه فى بيئتها الجديدة.
    القاعدة الرابعة: الوراثة، بمعنى أن الفارق بين الآباء والأبناء يتسع مع كثرة الأجيال، فالحفيد فى الجيل السادس – مثلا – يختلف عن جده الأعلى اختلافا ً ظاهراً، وهكذا يزداد الاختلاف كلما كثرت الأجيال وبذا تعمل الوراثة على التغيير الدائم.
    تلك هي قواعد دارون الأربع وهى كما تري تأملات وليست حقائق علمية لا تقبل جدلاً، بل المشاهدة تنقض ما ذهب إليه دارون ، فلا زال الناس – حتى وقت الناس هذا – يرون أضعف الكائنات على قيد الحياة لم تهلك، ليس هذا وكفى بل المشاهد أن الطبيعة – ونستخدم لغتهم – تمنح الحياة للأضعف بوفرة عن طريق زيادة عدده، فعدد الفئران على الأرض - مثلا – أكثر من عدد الأسد آلاف المرات بل ملايين المرات، وعدد البراغيث أكثر من عدد الأفيال القوية العملاقة مليارات المرات ..
    وقدرة الحيوانات الأضعف على السفاد تفوق قدرة الحيوانات الأقوى بمرات كثيرة ، فالعصافير – مثلا – لها قدرة فائقة على السفاد فى حين تضعف الكثرة الكاثرة من الأناس عن ممارسة الجنس بصورة طبيعية وهم من الفئة الأرقى كما يقولون .
    أما الوراثة فتعطي سعة وغني في النوع وليس تغييراً. وقد نقض العلماء كلام دارون كله حتى أن العلامة "دوفري" أعلن مشاهدات فيما أسماه بالظهور الفجائي لأنواع جديدة طفرة دون مرور بالصور التدريجية التي تتنزل من الأسلاف الأوائل، وذكر "جولييه" أن التحويلات الفجائية هي القاعدة فى عالم الحيوانات والأحياء.
    ورد على دارون علماء من الكثرة بحيث يصعب اتفاقهم على الخطأ، فمذهب دارون فى النشوء والارتقاء يرفضه العقل والعلم معا لكن العصر كان عصر كفر وإلحاد لما عاناه الناس من بطش الكنيسة وسطوتها، وكان عصر ثورة وليدة تتمسك بما يدعم موقفها أمام نفسها وأمام الجماهير العريضة، فدافع عن النظرية علماء ومفكرون، وزادوا فى النظرية وقالوا ما لم يقله دارون، فلم يبحث دارون عن نشأة الحياة، ولا من أين جاءت؟، فجاء "أرنست هيكل" ليقول بأن الكون كله وحدة متماسكة لا خالق ولا مخلوق، متبعا ً فى ذلك مذهب "لامارك" وهو أول واضع للنظرية فى ذلك العصر ...
    كان ذلك قبل دارون بخمسين سنه لكن الوقت لم يكن قد أبدى استعدادا ً لقبول رأى لامارك حتى جاء دارون فأعطى للنظرية شكلا ً مع ملاءمة الظروف والأحوال.
    ولم يكن لامارك أول من قال بهذا بل قال بهذا القول علماء ومفكرون من الحضارة الإسلامية كابن مسكويه وإخوان الصفا ..
    ليس هذا وكفى بل تجد هذا القول بالتطور والارتقاء عند قدماء اليونان، فها هو ذا انكسمندر تلميذ طاليس ( 610-540 ق . م ) يذكر أن: "الحياة اتخذت شكلها الأول فى البحر، ولكنها خرجت إلى البر برسوب الماء، وأن بعض هذه الحيوانات الساحلية تطورت فيها مقدرة تنفس الهواء وأصبحت أسلافا وجدودا لجميع الأحياء التي تناسلت منها على الأرض. ودفع "امباذقليس" بنظرية النشوء مرحلة إلى الأمام حيث قال: "إن الأعضاء تنشأ بالاختيار لا بالوضع، وإن الطبيعة أجرت الكثير من التجارب والاختبارات على الأعضاء، حيث تجمع الأعضاء الجسدية حاجات البيئة فإنه يعيش ويخلد مثيله. وعندما يفشل هذا التركيب العضوي فى مواجهة البيئة يزول ويتم استئصاله ومع مرور الوقت تتكيف هذه التركيبات العضوية بنجاح مع البيئة المحيطة بها".
    أرأيت كيف أن فكرة واحدة تتوارد على كافة العصور لكنها تلبث حيث تجد بيئة خصبة لها، ومهدا ً معدا ً لاستقبالها والتمسك بها، فثمة عصور وعهود تنمو فيها أفكار ولو كانت تلك الأفكار خرافة من الخرافات، كحديث بعض بهلوانات الثقافة عندنا عن ضرورة فصل الدين عن الحياة، أو التشكيك فى السنة، أو ما شئت من قضايا تافهة لا ممسك لها من عقل أو علم، وإنما تجد الذيوع والقبول لأن العصر يتنفس عطنا، والبيئة تقبل الغربان ..
    ولأن هذا أوان الهجوم على الإسلام حيث لا سند له من سلطة ولا حضارة قائمة باسمة تدفع عنه كيد البغاث ، وإنما يدفع العصر بهرائهم إلى الذيوع والانتشار.
    ساندت الدارونية إذن الفكرة العلمانية الوليدة ودعمتها فى نفوس العامة مع كونها لم تثبت علميا ولا يمكن لها أن تثبت ثم هي بعد تناقض العقل، وسنري كيف أثرت هذه النظرية في كمال عبد الجواد فى الثلاثية فحولته من إنسان إلى إنسان آخر تماما.
    وهاك النظرية الأخرى التي دعمت العلمانية، وكان لها أثر لا ينكر فى إنكار الدين وذهوب سلطانه .. إنها "الفرويدية" نسبة إلى سيجموند فرويد (1856-1939) الذى فسر سلوك الإنسان تفسيرا ً مادياً، وجعل مرجعيته فى لاشعوره، وما الأخلاق إلا صنعة بشرية، وهذه القيم لم تأت من السماء بل قننها الإنسان لاجتماعه، وحماية نفسه من سطوة الآخرين وبطشهم ...
    فالطفل – مثلا ً- يشعر برغبة ناحية أمه .. رغبة جنسية ويريد الاستئثار بها لكنه صغير وضعيف وسط والده وإخوته، وكلهم يود الاستئثار بها .... فما الحل؟
    الحل أن نحرم تلك المرأة إلا عن الأب وبذا يسلم الكل، وتختزن الرغبة فى اللاشعور ولا يحدث نزاع فى الأسرة حول تلك المرأة الفتنة!. وقد فسر فرويد ظهور الدين فى الحياة تفسيرا ً جنسياًً وبذا فالدين – ونرسم خطوطا عريضة لثقافة العصر دون تعرض لتفاصيل – اختراع بشرى ولا حاجة إليه الآن ...
    وهذا كلام ظاهر السقوط بل الانحطاط المهين ودعك من نفور الفطر السليمة منه، وإنما لا يستسيغ العقل هذا التفسير ويمجه ويقذفه، فلا حجة ساندة له سوى كون الإنسان حيوانا نشأ عن حيوان آخر فى سلسلة التطور والارتقاء كما قال "لامارك" و"دارون". وانظر إلى الثلاثية المحفوظية نظرة فاحصة ستجدها سيرة جنسية للسيد أحمد عبد الجواد وعائلته، ولما كان الجنس هو الأساس فالحديث عن السياسة والدين يأتي كخلفية للواقع الجنسي ...
    فقد دعمت الفرويدية إذن العلمانية، كما دعمتها الدارونية، واشتد عود العلمانية، وقامت فى أحضانها الماركسية أو المادية الجدلية لتكون فرعا ً آخر من الثقافة المادية تقوم عليه دولة فيما بعد ...
    فماركس (1818-1883م) جعل علة الخلق المادة، وعكس فكرة هيجل (1770-1832م) الذي جعل العقل المطلق فى البداية سابقا ً الطبيعة، فجاء ماركس ليجعل المادة أو الطبيعة أسبق من العقل المطلق ومن ثم فلا شيء غير المادة – ونتحدث باختصار لأننا نرسم صورة خاطفة لا غير – ومن ثم كان الاقتصاد محركا ً للتاريخ وعمودا ً لرحاه ، وذكروا أن المجتمع البشرى مر بمراحل خمسة متبعين فى ذلك كونت الذي حصر المراحل فى ثلاث لا غير، فذكر الشيوعيون أن المراحل الخمس التي مر بها تاريخ البشرية هي: المشاع البدائي، فالرق، فالإقطاع، فالرأسمالية، فالاشتراكية التي هي تمهيد للجنة المنتظرة ...
    وتمثلت هذه الأيديولوجية فى الثورة البلشفية الروسية، وبذا قامت على أنقاض حضارة الكنيسة فكرتان:
    أ – العلمانية الغربية.
    ب – الشيوعية.
    وتكونت حضارتان فى عالم الواقع على هاتين الفكرتين: حضارة علمانية نحت الدين جانبا وحصرت الكنيسة فى نطاق ضيق، ولم تسمح لها بالبروز إلى دنيا الواقع خوفا عن عودة سلطانها الذي سام الناس سوء العذاب ...
    وحضارة مادية أنكرت الدين جملة وتفصيلا وأنكرت الله، وجعلت المادة خالقا، وما تتطور المجتمعات إلا عن طريق الصراع أو الجدل "الديالكتيك" ..
    وفى نفس الوقت الذي كانت هاتان الحضارتان تبزغان فيه إلى دنيا الواقع كانت الحضارة الإسلامية آخذة فى الوهن والضعف والترنح ..
    وامتد ضعفها هذا على مدى قرون طويلة حتى وصل الأمر إلى انتقال السيادة للترك بعد أن دخلوا الإسلام، وحدثت هوة بين القيادة والشعوب الإسلامية الواقعة تحت سيطرتها مما أدى إلى أمور خطيرة زادت من وهن الحضارة الإسلامية، حيث كان من أهم النتائج التي ترتبت على بعد الشقة بين القيادة أو السلطة والشعب:
    أولا: كانت العلاقة بين دولة الخلافة فى تركيا وأجزائها المتناثرة كالعلاقة بين القط والفأر، وفى هذا الجو المشحون بالقلق تتحول جهود الدولة من تأمين السلطات إلي تأمين الشخوص وبذا ينسى العلم، وتضيع جهود العلماء وتقل قيمتهم بين الناس، فيشغل العلماء بالبحث عن لقمة الخبز بدلاً من البحث عن أسرار الحياة والأحياء. وفى هذا الجو المشحون بالقلق كان جيش دولة الخلافة متأهبا ً لتأديب الخارجين عن الدولة العثمانية فى الداخل، فتوقفت الفتوحات الخارجية مكتفية بقمع الناس والبطش بهم ...
    ثانيا: استغل الغرب الاستعماري هذا الجو المشحون فتدخل ليشعل الفتنة بين الترك والعرب مما أدى إلى سرعة تدهور دولة الخلافة وانتهائها.
    ويذكر التاريخ أن اليهود حاولوا خداع دولة الخلافة مظهرين أن قصدهم ينحصر فى أن يجدوا أرضا يسكنونها، ويتجمعون فيها، تحت رعاية الدولة العثمانية، وعلى الرغم من هذه الحيل كان رد عبد الحميد عام 1901م وقبل صدور الدستور بسبع سنوات، وقبل أن يسهم العرب فى الحياة البرلمانية العثمانية، وكان من القوة والصد بحيث سجله زعيم الصهيونية الكبير دكتور هرتسل فى مذكراته:
    " انصحوا الدكتور هرتسل بألا يتخذ خطوات جدية فى هذا الموضوع، إنى لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي، لقد ناضل شعبي فى سبيل هذه الأرض، ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم. وإذا مزقت إمبراطوريتي يوما فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع فى بدني لأهون على من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون.
    إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
    ويحدثنا التاريخ أن هذا الرفض القوى من دار الخلافة فى تركيا لم يكن الأول للوقوف ضد مطامع اليهود فى فلسطين، بل لقد حدث أن حددت الولايات المتحدة هجرة اليهود إليها عام 1882م، وبدأ السفير الأمريكي فى الأستانة يراجع وزير خارجية تركيا ويبذل لديه الجهود بشأن إسكان اليهود فى فلسطين وسوريا ولكن الباب العالي الذي قبل إسكانهم فى بعض المناطق رفض السماح لهم بسكن فلسطين، ولم يسفر تدخل بريطانيا فى الأمر عام 1887م عن نتيجة إيجابية"، فما من طريق أمام الغرب الاستعماري إذن سوى إحداث فرقة بين العرب ودولة الخلافة والعمل على زيادتها، فتسرب اليهود فى تركيا وانضموا تحت لواء "جمعية الاتحاد والترقي"، وقاموا بزيادة الهوة، وتدخلت الدول الغربية بوعودها البراقة للشريف حسين بن على أمير مكة إلى أن قامت ثورة عربية ضد دولة الخلافة، وبموتها، تفتتت الإمبراطورية العثمانية إلى أجزاء متناثرة وصار من السهل القضاء عليها كأجزاء مبعثرة، وزرعت إسرائيل فى قلب الأمة العربية بينما استعمر الغرب الدول العربية كغنائم حرب.
    إن الانفصال بين الحكومات والشعوب داء استمر حتى وقت الناس هذا؛ ففي كل دولة عربية بعد أن حصلت على (السيادة) تحولت السلطة فيها إلى مغنم. وأهل السلطة طبقة جعلت سدا ً بينها وبين جماهير الناس، وتحولت كل الجهود لحماية السلطة والسلطان، وصار كل من يحاول إصلاحاً طامعاًً فى السلطة ومن ثم يقابل بالهوان والتعذيب والتشريد.
    ونتج عن ذلك الانفصال النكد وتحول الجهود إلى حماية السلطة أن انعزل العلم والعلماء، وقل الاهتمام به، فارتقت إسرائيل الدولة الوليدة فى مدارج النهوض والتقدم بينما حل التخلف ساحتنا، ولم يعد العلم مطمح أحد من الشباب، وانحصر أمل شبابنا فى تكوين الثروة عن طريق النجومية المزيفة كنجوم الكرة والغناء وهلم جرا من نجوم أيامنا هذه النكدة.
    (يتبع)


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    ( 3 )
    سقطت الحضارة الإسلامية بسقوط دولة الخلافة فى الأستانة فى وقت كانت العلمانية الغربية فى فتوتها، والمادية الجدلية فى روسيا تجذب إليها الأنظار ..
    وفى وقت كهذا يكثر النقد وتوجه التهم والإساءات إلى الحضارة الذاهبة وتصبح علة كل فساد على أن انتهاء حضارة لا يعنى موتها وإنما تتنحي جانبا فكرتها السائدة لتحل فكرة أخرى محلها، فتسود، ولا تموت حضارة موتا لا رجعة فيه إلا إذا ماتت اللغة كالحضارة الفرعونية – مثلا – فى مصر.
    ومصر كجزء من أجزاء الحضارة الذاهبة، تناوشتها الأفكار من كل اتجاه مع استعمار جاثم يرفع العلمانية كفكرة سائدة بينما تسللت الاشتراكية إلى مصر عن طريق الأجانب المقيمين فيها ثم كان لها من المصريين دعاة لهم وزنهم فى الثقافة المصرية المضطربة المشوشة. وكان من هؤلاء "سلامة موسى" أستاذ أستاذنا "نجيب محفوظ" .. يقول عنه "نجيب محفوظ": "كان لسلامة موسي أثر قوى فى تفكيري، فقد وجهني إلى شيئين مهمين هما العلم والاشتراكية ومنذ دخلا مخي لم يخرجا منه حتى الآن"!!
    لكن مهلا .. فالأمر يحتاج إلى المزيد من الإيضاح فى حديثنا عن مصر ، فهي بيئة النص الروائي الذي نتحدث عنه .
    فهاك حضارة انهارت، واستعمار يدرك قوة الإسلام – والإسلام هو فكرة الحضارة الذاهبة وعمود رحاها – إذا سنحت له فرصة للبروز من جهة كما أنه وإن كان علمانيا إلا أن العاطفة الدينية لم تمت فيه كالجناح الشيوعي الذي جعل من المادة خالقا كما حدثناك. وثمة جيش من المستشرقين – كان بمثابة كتيبة من الاستطلاع للاستعمار – يعرف غرضه بوضوح / كما أن الكثرة الكاثرة من الغرب قد رضع الحقد والكره للإسلام بفعل الجهود التي بذلها القسس والرهبان كيلا يتجه الغربيون إلى الإسلام وتضيع سلطة الكنيسة الزمنية، فضاعت سلطة الكنيسة وبقى الحقد الغربي على الإسلام كما هو.
    أما الشعب المسلم وإن كره السلطة الحاكمة فانه لا يكره الدين ولا يبتعد عنه، فليس فى الإسلام طبقة "رجال الدين" التي توجد فى المسيحية، ولا سلطان لشيخ شيوخ الإسلام على مخلوق، ثم إن الوحي الإسلامي محفوظ بحفظ الله له.
    وهذا الوحي من الوضوح والجلاء بحيث يكشف الحقدة الكذبة بيسر؛ فلا يستطيع أحد خداع المسلم إلا إذا كان المسلم فاقدا ً لوعيه، جاهلاً بحقائق دينه، وهذا ما يعرفه الغرب الاستعماري جيداً.
    على أن سؤالا ً يطن فى الرؤوس ما دمنا فى موضع مقارنة بين الجمهور المسلم فى الحضارة الإسلامية التي تنحت عن عرشها، وبين الجمهور الغربي الذي كره الكنيسة وطالب بحصرها فى أضيق نطاق، واتخذ فكرة أخرى يتوجه إليها، ويرفعها علماً خفاقاً له، فتقدم، وها هو ذا يفتح البلدان ويقضي على حضارة – أو قل: يسرع فى القضاء على حضارة – ظلت قائمة قرونا طويلة! ..
    نعم .. ما الفرق بين الجمهورين؟
    أما كان يكفى أن يقال لهذا الجمهور المسلم: إن الغرب تقدم يوم نحى الدين جانباً، لأنه وجده عقبة فى سبيل العلم والعقل والتقدم، ومصدراً للفقر والعوز، وعليكم أن تتركوه كما تركناه، لتستريحوا؟ وبذا يأمن الغرب جانب الإسلام الذي يخشونه .. أما كان يكفى هذا ليقال لجمهور المسلمين؟
    إن الغرب نفسه يدرك جيدا ً أن هذا غير صحيح ..
    يدرك ما لا يدركه غربان ثقافتنا الذين يرددون هذا دون حياء، ليكشف عن جهلهم المبين أو سخريتهم من الجمهور حين يظنونه دون عقل يعي ما يلقى إليه، فليس فى الإسلام ما يخالف العقل ويناقضه حيث إنه فى جملته دعوة للتفكير واستخدام العقل ..
    والمسلم مأمور باستخدام عقله فى كافة نواحي حياته، بداية من عقيدته التي يعتقدها إلى أدنى شيء في حياته تلك، حيث لا يقبل من مسلم أن يكون تابعاًً فى فكره لمخلوق أو لفكرة ما لم يتثبت من صحة وحقيقة ما يتبعه من أفكار.
    وفصل الوحي للمسلم فى جانب العقيدة ما يناسب قدره ويتفق مع مؤهلاته واستعداده ..
    إنك إن شرحت لطفل رضيع نظرية النسبية لأينشتين، تكون إنسانا أحمق، لأن النظرية لا يستطيع عقل الطفل أن يستوعبها ..
    فأعطى الدين حقائق العقيدة الميسرة، ليقبلها العقل وفق استعداده الذي خلقه الله فيه، فى حين تتخبط البشرية فى التيه وما ينطقون إلا لغطا فارغا لا يقف لحظة واحدة أمام عقل ولا يصمد لمنطق. أما (فلاسفة) واقعنا – أقصد غربانه وخنازيره – فيلذ لهم اله أرسطو ذلك الذي يملك ولا يحكم، وستجد صورة ذلك الإله فى نفس كمال عبد الجواد بعد أن قرأ أعمال الماديين فى (شهرين) فى ثلاثية نجيب محفوظ، وفى واقعنا المضطرب المشوش ..
    غير أنه إله فئة قليلة، وحديثنا عن الجماهير التي لم تتلوث فطرتها ولم يتلوث عقلها بالأباطيل ..
    إن حال المسلم (المثقف) كحال رجل مع ندرة الرجال فى زمن الخراف – أعطيته قطعة نقود كان يبحث عنها، فجعل ينظر إليها ثم إذا به يرميها، ثم يجد فى البحث عنها!!
    أي أحمق هذا !!
    إن الإسلام واضح العقيدة، قوى الحجة، جلي الشعائر ، لا شيء فيه غامض، ولا يستطيع مخلوق أن يخفى عن مخلوق منه شيئا .. أي شيء ما دام الكتاب محفوظا ً من رب العالمين. وبذا يخالف دين الكنيسة؛ فثمة مشاكل ومناطق تعجز العقل ولا تمر إلا إذا كف عن التفكير فيها ..
    والإسلام لا يرفض التجريب ..
    لا يرفض استخدام الحس للحصول على نتائج يقينية فيما يقع تحت حس الحس .
    والدعوة إلى النظر فى الكتاب العزيز جلية وثمة أمثلة كثيرة لاستخدام تلك الطريقة العلمية للتدليل على قدرة الخالق وبعث الموتى كما حدث مع إبراهيم عليه السلام والعزيز ..
    وقد أثمر هذا المنهج علما ً وعلماء أجلاء فى تاريخ الحضارة الإسلامية؛ كجابر بن حيان والرازي وابن الهيثم وغيرهم ..
    غير أن الفارق أن أصحاب الوضعية قصروا المعرفة على الحس فهم لا يرون إلا ما يرونه! غير مستخدمين عقولهم، وإنما تركز العقل فى التجربة وكفى، وهذا هراء وضيق لا معنى له، وحصر للإنسان فى نطاق عالم البهائم العجماوات.
    الإسلام إذن لا يعارض العلم، ولا يقف فى سبيله. بل يكرم العلماء ويحث على العلم لكونه وسيلة النهوض والرفعة إذ التقدم فى دنيا الإسلام فريضة، ويحاسب المسلمون على تقصيرهم وتأخرهم وهوانهم كما يحاسبون على التقصير فى أداء الصلوات والزكاة سواء بسواء ....
    فإذا كان الدين علة الظلمات التي أحاطت بالغرب دهرا، فلما نحوه جانبا نهضوا، فإن الإسلام هو النور الذي أخرج للبشرية حضارة لا مثيل لها، فلما خرج المسلمون عن دينهم وفسقوا، لحقهم العار ، وأحاط بهم الذل من كل جانب ....
    ذلك مشاهد واقع لا يستطيع منكر أن ينكره لذا فلا معنى لقول قائل: إن أردنا نهضة فما علينا إلا أن ننحي الدين جانبا ....
    نعم لا معنى لقوله هذا ما دام الإسلام غير الكنيسة ،وعليه أن يعدل من قوله ليكون كالآتي: "ادخلوا الإسلام لتنهضوا به كما نهض به أسلافكم " .....
    وتلك هي المسألة يا قارئي فان انتهت حضارة الإسلام، فان الفكرة المحورية التي أقامت هذه الحضارة لازالت قائمة محفوظة في حين أن انتهاء أي حضارة أخرى كان قرينا بسقوط الفكرة الأم التي خرجت تلك الحضارة من رحمها ....
    وها نحن نقترب من الصورة رويداً رويدا، فهاك اتجاهين بارزين في واقعنا.....
    الاتجاه الأول: إسلامي في جملته غير أن كثيرا من الغبش يظهر فيه مع اختلاط صحيح الدين بالخرافات والخزعبلات في أذهان العامة، وغلبتها حتى بات الحق منكرا، والمنكر ظاهرا .. وهم - أي أصحاب هذا الاتجاه- من الكثرة بمكان! غير أنها كثرة كغثاء السيل لا قيمة لها ولا إرادة، بل هي مع ذلك الغبش تتطاحن فيما بينها وتتنافر حتى جاء الإمام الأفغاني فالتف حوله شباب وجد فيه ضالته وكان من أبرزهم الشيخ الإمام محمد عبده، ومن يومئذ خرج للواقع اتجاهان إسلاميان لكل اتجاه منهما توجه وفكر .......
    أولهما على رأسه الإمام الأفغاني حيث رأى أن الإصلاح يبدأ من الرأس ....
    من السلطة ، لذا ركز شغله على إصلاح الساسة حتى تصلح الرعية.
    ورأس الاتجاه الثاني شيخنا الإمام محمد عبده الذي رأى أن التربية هي عمود الرحى- واختصر القول اختصارا فما نرسم غير ملامح شديدة الظهور – وإن إصلاح الساسة لن يعود بجدوى ما لم توجد قاعدة تمهد السبيل للإصلاح ....
    ثم جاءت بعد فترة مدرسة ثالثة جمعت بين الحسنيين، ورأت أن تأخذ ما ذهب إليه الشيخان - الأفغاني ومحمد عبده - فاهتمت بالتربية ولم تنس الجانب السياسي وهي مدرسة الإمام "حسن البنا".
    ولازال لهاته المدارس الفكرية في حياتنا إلى الآن تلاميذ ودعاة، ولن نتعرض بالنقض لهاته المدارس في تلك العجالة عل أننا سنفرق تفرقة لا أراها واضحة في أذهان كثير من الناس .....
    إنها التفرقة بين الإسلام والفكر الإسلامي .....
    فالفكر الإسلامي هو تراث الإسلام الفكري الذي أنتجه مفكرون مسلمون في فترة ما، لمواجهة وضع ما، أما الإسلام فليس تراثا وليس فكرا بشريا وإنما هو وحي السماء إلى الأرض، وهذا الوحي لا يختص بزمن دون آخر إلا إذا أراد صاحب الوحي هذا .....
    والفكر الإسلامي هو نتاج مفكرين مسلمين لحل مشكلات عصرهم الذي يعيشون فيه ويجب أن يأخذوا من تراثهم الفكري ما يجدون فيه نفعا لهم، ولهم أن يتركوا ما لا جدوى منه دون أن يأثموا بتركهم هذا لأن التراث ليس وحيا مقدسا وإنما المقدس هو الوحي المنزل من السماء على سيد الخلق لا غير ....
    على أن الآَََفة التي أصابت حياتنا أو قل حضارتنا في مقتل هي الخلط الرذل بين الإسلام والفكر الإسلامي فأدى بنا الحال إلى حال أشبه بحال "دون كيشوت" بطل سرفانتس الذي أغرق نفسه في كتب الفروسية، وصور له وهمه طواحين الهواء أعداء ، فراح يقاتلهم .....
    صورة هزلية هي صورتنا نحن ..
    نأخذ فكرا على أنه الإسلام ونعيش به في عصر لم ينتج ذلك الفكر له، وإنما أنتج لعصر مضى، فسبق العالم كله ونحن لازلنا في الكهف ......
    واستغل المكرة الفجرة هذا عن قصد أو عن غير قصد، فوجهوا إلى الإسلام اتهامات شتى آخذين هذه الشبهات من الفكر الإسلامي الذي أنتج لعصر غير عصرنا، ليقولوا لنا: إن الإسلام لا يناسب العصر!!.
    وهم يقصدون - لو عقلوا – الفكر الإسلامي أو التراث الإسلامي الذي أنتجه مفكرون مسلمون لحل مشكلات عصرهم هم، فيصدق الناس هذا الهراء منهم خاصة بعد عملية التفريغ الثقافي حتى لم يبق في القلب غير عاطفة جوفاء لا غير.
    وهذه الفوضى الفكرية التي نعيشها أنتجت جماعات لا حصر لها في دنيا الواقع؛ كل جماعة تتمسك بفكرة من أفكار الوراء ثم تدعي أنها تمثل الإسلام وحدها فتصير إلى حال أشبه بحال "دون كيشوت" تلك الصورة الهزلية لمن يحيا بفكر عصر غير عصره ...
    إننا لسنا فى حاجة إلى بعث الفكر الإسلامي الذي مضي، وإنما نحن محتاجون إلى الأخذ بالإسلام الحي الذي لا يخص زمنا دون آخر أو مكانا دون آخر، وإنما يأخذ منه كل عصر وكل مكان ما يحتاج إليه ..
    أما موقفنا من التراث الفكري: فكر السلف الصالح أو سلف الإنسانية جمعاء ، فإننا نأخذ منه ما يصلح لنا ..
    وسواء أخذنا هذا الشيء الذي يصلح لحياتنا من تراث السلف المسلم أو السلف الفرعوني أو السلف اليوناني أو من شئت من أسلاف الإنسان ما دام ما نأخذه يعود بالنفع على واقعنا وعصرنا، فالحكمة ضالة المؤمن.
    أما الخط الثاني البارز فى صورة حياتنا الواقعة فإنه خط مواز للأول، قائم على كره الإسلام عن قصد أو عن غير قصد، ويضم بين جنبيه – هو الأخر – جماعات شتى من يساريين وعلمانيين وهلم جرا من فئات رأت فى الإسلام عائقاًً دون شهواتها ..
    شهوة السلطة والمال والفرج ..
    ويقف إلى جانب هذا الخط :
    أ‌- جهاز إعلامي ضخم، يذيع أيديولوجيتهم، ويحاول جهده منع الصوت المضاد من الوصول إلى الناس أو الرد.
    ب‌- سلطة، هي بعضهم.
    ج- عالم، حضارته قائمة على ما ينادى به أصحاب هذا الخط المواجه للخط الإسلامي ..
    وقد أيقن أصحاب هذا الاتجاه أن خمود الإسلام يتم عن طريقتين لا ثالث لهما:
    أولهما: تغيب الإسلام نفسه.
    الثاني: تغيب الوعي لدى الجمهور المسلم.
    وقد بذلوا جهوداً جبارة لتحقيق نجح فى هذين السبيلين، والحق أنهم نجحوا إلى حد كبير فى تغييب الوعي، وتغييب الإسلام أيضا عن طريق أدوات ووسائل ليس هذا مكان ذكرها فى هذه العجالة، وعلى أصحاب الاتجاه الأول – الإسلامي – أن ينبذوا خلافاتهم ، ويتحلقوا حول مائدة القران، لينظروا طريقا ً يخرجنا من هذا التيه وإلا جاء الله بأقوام غيرنا ، يحبون الله ورسوله، وساعتئذ نصبح من الخاسرين .
    ***
    والآن بعد أن رسمنا بعض ملامح عصرنا البارزة ، ننظر إلى رجل من رجالات مصرنا الغالية فى عمل من أعماله هو أشهرها وأفضلها .. وهو الثلاثية المحفوظية، وسنخرج من النص إلى الناص، ومنه إليها لنرى صورتنا فيها وصورته فينا.
    (يتبع)


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثاني

    (1)
    لن نرتكب خطيئة علمنة النص كما يفعل البنيويون ليضيع النص وسط جداول وحلقات ومربعات ولن نذكر كم مرة دخل السيد أحمد عبد الجواد العوامة وكم مرة دخل دكانه أو حجرته في بيت بين القصرين ولن ندخلك يا قارئي في متاهة كما يلذ للتفكيكيين أن يفعلوا بعد أن يطلقوا النيران على الناص، وعلى النص أيضا! فكلا النقدين لا يضئ نصا أي نص ومن ثم يدخل عالم الأدب كل من هب ودب ويستطيع أي إنسان أن يكتب رواية - مثلا- ويأتي بنيوي محتال أو تفكيكي أخرق ليقول كلاما لا يفهمه أحد ويحول النص التافه إلى نص عظيم.
    فلا تمنِّ نفسك إذن بجداول وحلقات وأن نذكر طلاسم وكلاما غير مفهوم ولن نقتل المؤلف من أجل القراءة الحرة بل على العكس من هذا كله سنأخذك في رحلة ممتعة من النص إلى الناص ومن الناص إلى نصه؛ لنرى معا كيف أبدع أستاذنا نجيب محفوظ روايته وما علاقتها بعالمنا هذا.
    على أننا لن نرتكب – أيضا - خطيئة الخلط بين الفن والتاريخ فنظن كما ظن عدد من (المثقفين) أن الفن – وخاصة إذا كان الحديث عن أديبنا الكبير – يمثل صورة حية من تاريخ مصرنا ويجعلون السيد أحمد عبد الجواد مثلا للرجل المصري، فيقرأ (المثقف) منهم الثلاثية على أنها كتاب تاريخ ...
    كما أننا لن نخلط كما خلط الأستاذان الكبيران سيد قطب في "التصوير الفني" ومحمد قطب في "منهج الفن الإسلامي" بين القصص القرآني والقصص الفني....
    فالقصص في القرآن حقائق لا تقبل شكا.
    إنها أصدق رواية للتاريخ.
    فالمؤرخ البشري يعتريه النسيان، ويعوزه الصدق، ويملكه الهوى. ثم هو من قبل ومن بعد بشر ناقص أما حقائق القرآن فحقائق يقينية من مصدر علوي.
    وأنا أميل إلى ما ذهب إليه العلامة الشنقيطي في عدم جواز المجاز في الكتاب العزيز ....
    ومن الطبيعي أن يكون أسلوب القرآن العظيم معجزا يهز النفس، ويأخذ بالألباب في سعته وعمقه وروعته وموسيقاه لأنه ليس من قول البشر ..... وكفى.
    وما هكذا الفن؛ إذ الفن خيال.
    نعم فيه من الواقع لأن قائله بشر من البشر ويتحدث عن أناس كالأناس، وفيه نقص يراه الناقد، لأن مصدره بشر أما أن يحدث الخلط الرذل بين النص الفني والنص الديني، فذلك عمل المكرة السحرة الذين يريدون أن يشوهوا على الناس حقائق دينهم، ويوهموهم بأن النص – دون تحديد – يقبل النقد ويقبل تفكيكهم ....... وما أحاديث أدونيس عنا ببعيدة!!
    وفي النص ملامح الناص وبعض حياته وأفكاره، لأنه جزء منه، كما تبدو فيه – أي في النص – ملامح البيئة التي يعيشها الناص، والعصر الذي يحياه.
    (2)
    الفن كالحلم لا يمكن لأحد أن يحاكمك على حلمك الذي بخاطرك مر ....
    إنه عالم له قوانينه الخاصة. والحلم تمثيل لواقع الحالم ورغباته، وتنعكس عليه أيديولوجيته، على أن الفن أكثر تماسكا ووضوحا لأن الإدراك يكون يقظا لحظة تفريغه على الورق ...
    وقد يمثل الحلم دور البديل ...
    بديل الواقع كأحلام اليقظة ...
    إنه – أي الفن والحلم أيضا- إعادة إنتاج الواقع وفق ما نريده نحن.
    وما دام الفنان واحدا من البشر الذين يعيشون في بيئة ما، ووقت ما فإنه يتعذب مثلهم ويأمل كما يأملون في تغيير هذا الواقع، فينهض ليرسم صورة هذا الحلم الذي يريده، ونريده أن يكون ،فيتطلع اليه القارئ ، ليرى أنه ليس وحده ولعل هذا سر النشوة او الشعور بالراحة الذي يجده المطالع للفن ......
    وقد لا يكون في ذهن القاريء أي شيء لكن رؤيته لذلك العالم أو قل : ذلك الحلم ، يجعله يفكر فيه ...
    يفكر في العيش معه والحلم به ........
    الحلم بعالم آخر غير هذا العالم ، فنألفه .....
    ونعمل على تحقيقه أو نقدر على العيش فيه إذا هو تحقق يوما ، لأننا قد ألفناه من قبل في دنيا الفن ........
    فالأدب العظيم إذن يحقق الوعي الوجداني الجمعي ........
    والقاريء يعيد تجربة الفنان في وعيه لكنه يخرج من المظهرإلى الداخل ، ويمر بتجربة الكاتب مروراً عكسيا .......
    وها نحن أولاء ننظر إلى استاذنا " نجيب محفوظ " قبل أن يخط حرفا في روايته الكبيرة بل قبل أن تتضح في وعيه وربما قبل هذا إذ هي غبش أو ضباب أو سراب يلوح من بعيد دون أن يستطيع أن يمسك بشيء بعد .......

    ***
    ثمة شك يملأ الصدر ، وثقافة تدعم هذا الشك ، فهل يخرج المرء عن نظام حياته ويعلن صراحة أنه يشك ؟
    ليكن شابا مصريا عاش طفولة ساذجة وتلقى دينه عن أبية ووالدته ..
    تلقى دينا ساذجا لا يمكن لعاقل أن يقبل عليه إلا إذا ألغى عقله كما يلغى عابد البقرة عقله، ليشتعل حب معبوده فى صدره ..
    لكن العلم لم يترك الشاب لسذاجة اعتقاده إذ فضح معتقده هذا وألقى به صريعا فوق الحلبة ..
    فى البداية كان يعتقد ويؤمن بأن الحسين فى مثواه فى جامع الحسين فى ميدان الحسين ( رض ) .
    لكن العلم عن طريق مدرسه يكشف أن الضريح خاو ولا يوجد فيه الحسين أو غير الحسين .
    أنظر إلى الزلزلة التى حدثت للفتى : فما دام الحسين ( رض ) لا يرقد فى مثواه فى مصر فعلى الدين السلام !
    وقد تظن أن تلك سذاجة لا مثيل لها إذ ما دخل الدين بالحسين أو غير الحسين (رض ) !!!
    نعم .. ستقول هذا ..
    ستقول : ما دخل الدين وما علاقة الدين بالأضرحة ؟
    فليكن ضريح الحسين خاويا ، ولترقد جثه الحسين ( رض ) فى جوف حفرة دون ضريح ، فما علاقة هذا بالدين ؟ ..
    صبرا .. وليكن فى ذهنك أنك تتعامل وفق قانون عالم اخر ، وما عليك إلا أن تسير معنا خطوة أخرى ..
    فها هو ذا كمال عبد الجواد قد شب ودرس وأصبح ينظر باستعلاء إلى الناس ..
    إنه مفكر مصرى ويقرأ أن عالما غربيا ً يدعى " دارون " يقول بأن الانسان أصله قرد ..
    هذا المفكر القارىء الذى يستعلى على الناس بعلمه ، ويقرأ التراث المادى للنهضة الغربية فى شهرين يقرأ أن أصل الإنسان قرد !!
    عموما – ودون أن نناقش فى هذا الفصل – فقد حدثت للشاب زلزلة أخرى بل عاصفة اطاحت بدينة بالكلية ......
    إذا كان دارون يقول : أن أصل الإنسان قرد . والقرآن يذكر قصة آدم وخلقه من تراب .....
    وكمال قارىء ومثقف كبير ويكتب فى الفلسفة .. إذن فلا قرآن .... ومن ثم فلا دين .
    وهذا هو محور روايتنا أوقل : مقدمتها المنطقية كما يقول " لاجوس اجرى " أو البذرة التى منها نبتت الثلاثية العظيمة .....العلم يكشف أباطيل الدين ....
    لكن ثمة غريزة دينية ، فماذا يكون الحل ؟
    ليظل الله كما هو أما الدين فلا و ألف لا...
    ولنبتعد عن الله كما جاءت صورتة فى الدين ..... إياك أن تقترب من الدين ذلك الخرافة الكبرى ....وليكن ربنا ربا فلسفياً ..... اله خرافى .... وإياك يا قارئى أن تقول لنا : أن نظرية دارون فى النشوء والإرتقاء مجرد نظرية لم تثبت علميا بل ثبت نقيضها وثبت أنها باطلة كما ذكر علماء الغرب أنفسهم ، وكما يستخرج العقل هذا بسهولة ويسر ... إياك أن تذكر هذا ياقارئي ، لأن كمال عبد الجواد لو فكر كما تقول أنت لما كان هناك كمال عبد الجواد وما كانت ثمة رواية ، ولن يكون صراع ثمة .... فدارون يمثل العلم فى نظر كمال ، والعلم صادق فى نظر الكل بطبيعة الحال .... وما دام العلم صادقا ،ودارون يمثل العلم ، فدارون صادق .... وفى مقابل هذا فالقرآن كاذب ....وإذن فلا دين ... ولا مانع من وجود الله ....فدارون نفسه لم يمنع هذا ... ولكن ياقارئى وهذا مانود أن نقوله لك منذ البداية ولذا قدمنا الكتاب بفصل يرسم ملامح ثقافة عصرنا .... أليس ما حدث لكمال هو عينه ما حدث لأوربا ؟
    الكنيسة تذكر أبحاث العلماء .. ويأتى كوبر نيق ليقول بأن الشمس هى مركز الكون وهو قول يخالف ما تقول به الكنيسة .... ويؤكد جاليليو هذا الكلام – كلام كوبر نيق – واذن فلتذهب الكنيسة الى الجحيم .
    على أن الفارق بين تلك الصورة لأوربا وصورة كمال أو الثلاثية أن ما قاله جاليليو حقيقة مؤكدة أما ماقاله دارون فمجرد نظرية ثبت فشلها .
    ولكى ثنبت الرواية فلابد من جعل نظرية دارون حقيقة مؤكدة وإلا أصبح الصراع هلاميا يدعو للضحك .
    ولنسر خطوة أخرى .
    لاحظ أننا لم نقترب بعد من النص ، فلازلنا فى المرحلة الأولى مرحلة التخطيط الأولى أو الفكرة الأولى قبل أن تكتسى لحما وتسرى فيها الدماء ..
    مادام الأمر كذك ..
    ولا وجود لهذا الدين .. أى دين ، فما الذى يحركنا ؟
    ما الذى يحرك هؤلاء البشر ؟
    البيئة ؟
    أم اللاشعور ذلك المخزن الذى يرسل لنا قيمنا وأخلاقنا ؟
    أم الجنس ؟ ..
    أم أن شيئا جبريا يحركنا دون إرادة منا ؟
    إن ما يحركنا هو كل هذا .....
    وتجد أبطال الثلاثية وغير الثلاثية من شخصيات أديبنا الكبير تتحرك دون إرادة منها ..
    إنها تسير فوق قضبان لا تستطيع أن تخرج عنها قط ....
    وقد تفلت فى لحظة من حياتها فتهلك كما فعل فهمى عبد الجواد فى نهاية حياته ، ومع كونه لم يفعل هذا حقيقة بل ثار حين وجد الأمر هينا سهلا ، وأنه فى مأمن من الخطر ، فتحرك ، ولكنه قتل كعقاب على هذا الخروج عن القضبان .
    ومن هنا تستطيع أن تفهم سلوك السيد أحمد عبد الجواد بيسر . فالسيد يستمتع بحياته الليلية حيث يقضى شهواته بلذة ، وعلى سجيته ووفق طبعه ، وهو فى نفس الوقت يصلى ويزور الحسين ( رض ) .
    يصلى بخشوع وخضوع وتضرع ....
    وقد فسر لنا – كما سنبين لك فيما بعد – أستاذنا " نجيب محفوظ " شخصية السيد أحمد وكرر كثيرا ، وكان يكفى أن يذكر تفسيرا لفعله مرة ثم يتركه لكنه أبى أن يفعل ذلك ، فجعل فى كل مرة يظهر فيها السيد أحمد ، يلقاه الأستاذ نجيب ، ليلقى علينا تفسيرا لسلوكه الذي لم يخرج عنه السيد قط .... قضبان تقضى على الشخصية ... وياسين يرث عن والده شهوته كما ورث هيئته ، وتحرك وفق ذلك الميراث لا يحيد عنه خطوة حتى وهو يذهب ليخطب مريم لم تتركه تلك الشهوة الطاغية حتى تجده صريعا لها ، فيعاشر بهيجة والدة مريم ...
    ويبدو ياسين أقوى شهوة من فهمى وكمال لأنه ورث شهوته عن والديه السيد أحمد المتهتك والسيدة هنية القارحة ... أما كمال – قطب الثلاثية –فيكاد الهوى أن يصرعه ويمزقه أشلاء ....
    إنه مربوط بعايدة مع أنها فتاة عادية جدا ، ولم تعطه أى اشارة تدل على أنها تحبه ، لكنه لايتحرك وفق إرادته . إنه أسير قوة غريبة ....
    وقضبان تسير عليها الشخصيات حتى أمينة تتحرك هى الأخرى وفق قوة تدفعها لأن تفعل ما تفعله ، وعندما يذكر أستاذنا شيئا عن أمها نكتشف أن أمينة ورثت ذلك عن أمها التى لم يغير العمى من أخلاقها شيئا ... أى شىء .
    فالكل شخصية قالب تتحرك داخله وفى نطاقه ، ولا تستطيع أن تفلت من قبضة قدرها وكأنما هو طريق مرسوم لكل شخصية ولا تستطيع أن تخرج عن اطار الطبع .....
    وإطار الأخلاق ... والأخلاق داخل الشخصية فى مخزن اللاشعور ....
    وقد ينفك المرء عن قيد المادة المسيطرة كما حاول كمال قبل أن يكتشف أن الدين خرافة ....
    إنه يرى كما يرى " برجسون" ضرورة الفصل بين ذلك العالم المادى بما فيه الجسد ، والروح.......
    عالم الروح الذى يرفرف فى السماء وهذا يفسر حبه لعايدة .....
    حب لا يرتبط بالجسد وليس كحب ياسين أو حب السيد أحمد عبد الجواد الذى يأسره الجسد على أن كمال سرعان ما يشده طبعه ويجذبه إلى طريقه الذى لا طريق له سواه .
    (يتبع)


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثالث

    تقوم الثلاثية على فكرة الصراع بين الموروث الثقافي والمخزون الشعوري من جهة والزمن الذي لا ينفك يكشف ضعف الموروث والمخزون ويفضحهما حتى يتغير الموروث بيد أن المخزون الشعوري يقاتل حتى آخر لحظه كرغبة طافحة حتى وإن لم يكن فى لحظاته الأخيرة فاعلا....
    ولا تناقض ثمة بين المخزون الشعوري والموروث الثقافي إذ فى وسع الاثنين أن يعيشا جنبا لجنب دون أي شعور بالامتعاض، فالسيد يؤدى صلواته ونسكه بإخلاص دونه إخلاص الجنيد بينما يعب من الشهوات واللذات ودونه عربدة بشار وأبى نواس.....
    ويضعف جسد السيد بفعل عوامل الزمن، ولا تضعف رغبته حتى يتصارع هو وابنه على عاهرة واحدة، فيتنحى الأب، لأنه يجد مصارعه أقوى وأكثر فتوة كما ترى زنوبة هذا أيضا، لذا يفوز ياسين، لكن الحسرات تبقى فى قلب السيد لا ندما على ما فرط وما ارتكب من ذنوب، بل حسرة وألما لأنه لم يعد يجد طاقة تلبى رغباته المستعرة التي لا سبيل إلى تغيرها......
    وبنفس الرغبة الطافحة التي ورثها ياسين عن السيد أحمد عبد الجواد يستمر ياسين على الطريق نفسه دون كلل أو ملل بل انسجام تام مع النفس إلى أن يضعف الجسم بفعل الزمن، فيتقوى بالمنشطات وهكذا تستمر حياته.....
    مخزون شعوري يسوق الجسد لإشباعه، وزمن صارم قاهر يأكل الجسم حين تظل الرغبة لتحرق القلب حسرة حيث لا تجد متنفسا لها..
    حتى كمال الذي يرى فى الشهوة قذارة لا يقوى على الانقطاع عنها، لإشباع ذلك المخزون المحرق فى جوفه..
    وفى هذا الصراع يبدو النصر حليفا للزمن دائماً، ويبدو الزمن سيفا لا يقدر أحد على الفكاك من حده القاطع......
    فالمخزون الشعوري- وجله جنسي.
    ولترجع إلى الفصل الأول لترى عمل الفرويدية فى المشهد الثقافي الغربي يقاتل بسيف من لحم ودم .. سيف يعتريه الهرم ..
    يقاتل الجسد الذي لا يلبث غير قليل فى الساحة ثم يسقط إعياءً، مبقيا على الحسرة فى القلب، وهذا صراع غير حقيقي إذا قدرت الغريزة الجنسية قدرها، ولم ينظر إليها بعيني فرويد، أما إن كانت منبع سلوك، ومبعث قيم، فيأتي الصراع ساعتئذ عنيفا حتى يصل ذروته فى موقف السيد أحمد مع زنوبة.
    ***
    ويبدو الصراع بين المخزون الثقافي والزمن فى ساحة كمال عبد الجواد: فكمال يحمل مورثا خرافيا مكتظا بالأشباح والأرواح وأضرحة الأولياء، والزمن يحمل العلم الذي يجابه هذه الخرافات ويدحضها، ويئن كمال تحت وطأة الألم، لأن ذلك الموروث الثقافي عقيدة فى القلب تربى عليها وشب ..
    وتحسم المعركة لصالح الزمن أيضاً، لأن العلم يكشف ضلالات كمال عبد الجواد وما كان يعيش فيه من ظلمات، ويبدأ الصراع عندما اكتشف كمال أن ضريح الحسين ليس غير رمز وكفى دون أن يضم الضريح جسد الحسين أو غيره من الأولياء.. هنا يُزلزل الفتى ويئن ، فها هو ذا المقدس فى نظره وفى قلبه، يكشف العلم أنه لاشيء..
    لكن العلم أو الزمن القاهر لا يقف عند هذا الحد.. لا.. إنه يعرض عليه نظرية النشوء و الارتقاء التي صنعها دارون، فتكون القاضية لذلك الموروث ..
    ليس هذا وكفى بل تكون القاضية لما به قيام الدين بالكلية - العلم فى نظر كمال يقرر مالا يقرر القرآن وإذن فلا دين ولا قرآن..
    ويدخل كمال طورا ً أخر ويحيا وفق تصور آخر، ويتكون لديه مخزون أخر؛ مخزون يكونه من قراءاته فى الفلسفة، ويشكل إلهه من ذلك التراث المادي للنهضة الغريبة .. ويختار كمال إله برجسون وهو أفضل الآلهة فى نظر كمال عبد الجواد .
    وهذا الصراع يعد بداية الطريق للتغير ..
    أو للنقلة من طور إلى طور ..
    يبدأ فكرة ثم صراعاً جاداً بين الدين والعلم ثم نصرا ً – ولا بد – للعلم ثم مجابهة للواقع رويدا ً رويدا ً حيث يؤدى كمال بعض الفرائض بصورة شكلية خوفا على تصور والديه حتى ينضم إليه فرد أخر فى صورة أحمد شوكت ورفاقه، ليدخل المجتمع فى مرحلة جديدة.
    غير أن الصراع الرئيس يتحمله الجيل الأول.
    جيل كمال عبد الجواد أما جيل أحمد شوكت فلا صراع عنده . إنه – أي جيل أحمد شوكت – يكفيه أن يعرف أن الدين خرافة.
    ولا يسعه أن يمتحن هذا الفرض، فلا ضرورة لذلك فى نظره، وإنما يقيم بناءه وكفى فوق هذا الفرض. أما عبد المنعم شوكت فيبقي وإرثا لإيمان أمه الفطري وجدته ، ويدخل في نفق آَخر غير النفق الذي دخلته أمه فبل جدته.
    إنه يلتحق بجماعة كما كانت جدته تلتحق بجماعة أخرى. والمرء قد يلتحق بجماعه ما وإن لم ينتسب إليها بأوراق عضوية. يكفي أن يسير سيرتها ويتحرك حركتها ، ليكون منها شاء أم أبى ..
    وفكرة أستاذنا عن الإخوان كفكرته عن التصوف، كفكرته عن العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين فى المجتمع المسلم كلها مشوهة؛ لذا جاء عرضه لها عند حديثه عن هذه الأفكار ساذجاً. وصراع كمال هو الآخر غير حقيقي.
    إنه أشبه بصراع "دون كيشوت" الذي صور له وهمه طواحين الهواء أعداءً فراح يحاربهم.
    فالإسلام غير الكنيسة التي حاربت العلم وحرقت العلماء. ونظرية دارون مجرد فرض لم يثبت ولا سبيل لإثباته علميا على الإطلاق، بينما كان الصراع بين العلم والكنيسة فى أوروبا حقيقيا؛ فرجال الكنيسة يقولون بأن الأرض مجرد تابع للشمس تدور حولها وليست مركزا ً للكون وقد ثبت هذا علميا حتى أصبح حقيقة يقينية فإذا حدث صراع ثمة فهو صراع حقيقي أما صراع كمال فى الرواية فهو صراع وهمي، ولولا بعض العيوب فى رسم شخصية كمال لجاءت أفضل مما هي عليه، لأن الوهم قد يقيم صراعا ً إذا أحسنا رسم الشخصيات التي هي طرف فى ذلكم الصراع.
    ولا ينقص هذا من قدر الرواية فى شيء وإنما يعاب على النقاد الكبار الذين نقلوا الرواية من دنيا الخيال وعالم الفن إلى التاريخ وحسبوا أن السيد أحمد عبد الجواد يمثل الشخصية المصرية وكمال هو نموذج المثقف القلق الذي عرف الحقيقة ..
    إننا نظلم أستاذنا إذا حدثناك عن كون الأدب مرآة للمجتمع، أو كون الرواية – وخاصة روايات أستاذنا الكبير – تاريخا ً للمجتمع الذي نبتت فيه، لأننا ساعتئذ نقيس أفكار الأستاذ وصراع الرواية بمقياس العلم والتاريخ والواقع، فتبدو سذاجتها المفرطة، وتبدو ضحالة ثقافة أستاذنا الدينية، لكننا ننظر إلى الرواية على كونها خيالا ً محضاً، ولا تصور إلا رؤية الكاتب وأحلامه فهي إذن مرآة نفسه، وانعكاس لانعكاس العالم فى عقله وكفى .
    (يتبع)


  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الرابع

    (1)
    تطالعنا فى بداية بين القصرين صورة "أمنية" زوج السيد أحمد عبد الجواد: «عند منتصف الليل استيقظت, كما اعتادت أن تستيقظ فى هذا الوقت من كل ليله بلا استعانة من منبه أو غيره ولكن بإيحاء من الرغبة التي تبيت عليها فتواظب على إيقاظها فى دقة وأمانه ».
    ولِمَ تحتاج إلى منبه أو غيره ؟.. إنها تتحرك بحكم العادة التي تترسب داخلها، فتصدر عنها بدقة متناهية دونها دقة المنبه..
    لكن صبرا فربما لم تكن العادة هي التي أدت بها إلى هذا ..
    إنه الطبع حيث نجد أمينة بعد أن كبرت خديجة وعائشة، وفى وجود أم حنفي التي لا تكل ولا تمل، وبعد أن تقوم كل واحده منهن بعملها: «وكان هذا حريا بأن يمد لها فى أوقات الراحة، لولا ما طبعت عليه من وسوسة بالداء أشبه، فهي تأبى إلا أن تشرف على كل صغيرة وكبيرة بالبيت، وإذا فرغت الفتاتان من عملهما نشطت هي بالمكنسة فى يد والمنفضة فى يد وراحت تتفقد الحجرات والصالات والدهاليز، متفحصة الأركان والجدران والستائر وسائر العفش على أن تزيل نقطة غبار منسية، واجدة لذة وارتياحا كأنما تزيل قذى من عينيها، ومن وسوستها تلك. إنها كانت تفحص الثياب المعدة للغسيل قبل غسلها».
    وكما شعرت بالامتعاض عندما ذكر أستاذنا أن ما فيه السيدة أمينة "وسوسة"، ولو كانت أمينة شخصية حيه، لأصابتها تلك الكلمة فى مقتل، فما بالك والسيدة أمينه ترزح تحت عبء الطبع والوراثة والعادة وكأنها تتحرك فوق قضبان، لا تملك لنفسها أمراً وإنما هي مسيرة..
    أنها تعيد سيرة أمها التي ورثت عنها وسوستها تلك كما ورثت عنها شكلها ويقرر أستاذنا ما لقوانين الوراثة من عمل يثير الإعجاب، وكذا ما للزمن من قانون صارم، فيقول عندما ذهبت أمينة إلى أمها بعد أن أمرها السيد أحمد عبد الجواد بمغادرة بيته كعقاب لها على ما اقترفته من زيارة ضريح الحسين () دون إذنه:
    «قامت أمينه لتخلع ملاءتها على حين انسحبت صديقة – حزينة أسيفة لما سمعت- من موقفها عند مدخل الحجرة الذي لزمته أثناء الحديث، ثم عادت المرأة إلى مجلسها جنب أمها، وما لبثتا أن قلبتا الحديث ظهرا لبطن وهما تبدآن وتعيدان وكأن في تقابلهما جنبا لجنب ما يدعو إلى تأمل قوانين الوراثة العجيبة وقانون الزمن الصارم كأنهما شخص واحد وصورته المنعكسة فى مرآة المستقبل أو نفس الشخص وصورته المنعكسة فى مرآة الماضي، وبين الأصل والصورة على الحالين ما يشير إلى الصراع الرهيب الناشب بين قوانين الوراثة التي تعمل على التشابه والبقاء من ناحية وبين قانون الزمن الذي ينجلي عادة عن سلسلة من الهزائم تلحق تباعا بقوانين الوراثة حتى يغدو قصاراها أن تؤدى وظيفة متواضعة فى نطاق قانون الزمن الصارم.
    فى نطاق ذلك القانون استحالت الأم العجوز جسما نحيلا ووجها ذابلا وعينين لا تبصران إلا تطورات باطنية لا تنالها الحواس، حتى لم يبق لها من بهجة الحياة إلا ما يدعونه بجمال الشيخوخة أي السمت الهادئ والوقار المكتسب الحزين والرأس المرصع بالبياض. بيد أنها كانت تنحدر من جيل معمر عرف بصلابة المقاومة فلم يكن طعنها فيما بعد الخامسة والسبعين بمقعدها عن أن تنهض فى الصباح كعادتها منذ نصف قرن فتتحسس سبيلها – بدون إرشاد الجارية – إلى الحمام فتتوضأ ثم تعود إلى حجرتها فتصلي، أما بقية النهار فتقطعها فى التسبيح والتأمل الصامت الذي لا يدرى به أحد طالما كانت الجارية مشغولة بأعمال البيت، أو مستأنسة إلى حديث المرآة إذا فرغت لمجالستها، حتى الصفات التي تلازم عادة وفرة النشاط للعمل وحدة الحماس للحياة لم تزايلها بحال، مثال هذا شدة محاسبتها للجارية على كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بالمصروفات، وتنظيف البيت وترتيبه وتلكؤها إذا تلكأت فى مهمة وتأخرها إذا تأخرت فى مشوار، ولم يكن بالنادر أن تحلفها على المصحف لتطمئن إلى صحة تقاريرها على غسل الحمام والأواني وتنفيض النوافذ، دقة بالوسوسة أشبه».
    فماذا يبقى للشخصية إذن وهى بين شقي الرحى: الزمن الصارم وقانون الوراثة الصارم أيضا؟!!
    فأمينة تعيد سيرة أمها بالحرف ولك أن تنظر إلى قوانين لامارك وإلى الفقرة التي نقلناها لك آنفا وسترى إلى أي حد تأثر أستاذنا بمادية الغرب النافية لإنسانية الإنسان، لأنه فى نظرها حلقة فى حلقات التطور الحيواني لا غير.
    (2)
    ونترك أمينة إلى حين، لنلقى نظرة على السيد أحمد، ونرى: هل سلم من المعتقل الذي أدخل فيه نجيب محفوظ زوجه أمينة؟
    منذ أن وضع أستاذنا نجيب محفوظ ملامح السيد أحمد عبد الجواد، وذكر الخريطة الجينية له ساعة ظهوره فى الرواية وهو إلى نهايتها يتحرك وفق هذه الخطة لا يخرج عنها قيد شعرة....
    وعلى طول الرواية يبدو الصراع جليا بين طبيعة السيد أحمد التي تحركه دون إرادة منه، والزمن الصارم.....
    إن الشخصية الروائية ـ كما قلنا- عند أستاذنا مجرد أرض للصراع وكفى؛ صراع بين طبيعة الشخصية وهى خليط من موروث وظروف بيئة ومشاعر، كل هذا يصارع الزمن الصارم.
    وها هو ذا السيد أحمد يطالعنا فى أول ظهور له فى عالم الرواية حيث بدا فى «وقفته طويل القامة عريض المنكبين ضخم الجسم ذا كرش كبيرة مكتنزة اشتملت عليها جميعا جبة وقفطان فى أناقة وبحبحة دلتا على رفاهية ذوق وسخاء، ولم يكن شعره الأسود المنبسط من مفرقه على صفحتي رأسه فى عناية بالغة، وخاتمه ذو الفص الماسي الكبير، وساعته الذهبية، إلا لتؤكد رفاهة ذوقه وسخاءه. أما وجهه فمستطيل الهيئة مكتنز الأديم قوى التعبير واضح الملامح، يدل فى جملته على بروز الشخصية والجمال بعينيه الزرقاوين الواسعتين، وأنفه الكبير الأشم المتناسق على كبره مع بسطة الوجه، وفمه الواسع بشفتيه الممتلئتين، وشاربه الفاحم الغليظ المفتول طرفاه بدقة لا مزيد عليها».
    كان هذا يكفى من أستاذنا ثم يطلق السيد أحمد فى عالم الرواية، ليحيا لكننا قبل أن نخرج من الفصل الثاني، يطالعنا أستاذنا بالمزيد ليضبط بعد ذلك إيقاع السيد على طول الرواية؛ فبعد أن يعود السيد من سهرته ليجد أمينة فى انتظاره كعادتها، يلوك السيد ذكرى سهرته التي لم: «تكن تنتهي بعودته إلى بيته، ولكنها تواصل حياتها فى ذكرياته، وفى قلبه الذي يجذبها إليه بقوة عنهم إلى مسرات الحياة لا يروى، وكأنه لا يزال يرى مجلس الأنس تزينه النخبة المختارة من أصدقائه وأصفيائه، ويتوسطه بدر من البدور التي تطلع فى سماء حياته حينا ً بعد حين، وما برحت تطن فى أذنيه الدعابات واللطائف والنكات التي تجود قريحته بدورها إذا هزه السكر والطرب، وهذه الملح خاصة يراجعها في عناية واهتمام ينضحان بالعجب والزهو، ويتذكر أثرها فى النفوس، ولا عجب فإنه كثيراً ما يشعر بأن الدور الذي يلعبه فى سهرته من الخطورة كأنه أمل الحياة المنشودة، وكأن حياته العملية بجملتها ضرورة يؤديها فى سبيل الفوز بساعات مترعة بالشراب والضحك والغناء والعشق يقضيها بين صحبه وخلصائه». ذلك هو السيد أحمد عبد الجواد على طول الثلاثية ..
    لكن صبرا ً فثمة ملمح خاص ابتكرته براعة أستاذنا نجيب محفوظ ..
    ملمح لا ينسجم مع أي منطق فني أو غير فني .. غير أنه ينسجم مع دين خرافي هبط به شيطان رجيم على كبار مثقفينا، ومن عجب أن يرى نقادنا فى شخصية السيد أحمد شخصية مصرية ممثله للواقع المصري!!
    فهاك السيد بعد أن استحم بالماء البارد: «كعادته كل صباح – عادة لا ينقطع عنها صيفا أو شتاء – ثم عاد إلى حجرته مستجداً حيوية ونشاطاً ثم جاء بسجادة الصلاة – وكانت مطوية على مسند الكنبة – فبسطها وأدى فريضة الصبح، صلى بوجه خاشع، وهو غير الوجه البسام المشرق الذي يلقى به أصحابه وغير الوجه الحازم الصارم الذي يواجه به آل بيته، وهذا وجه خافض الجناح تقطر التقوى والحب والرجاء من قسماته المتراخية التي ألانها التزلف والتودد والاستغفار. لم يكن يصلى صلاةً آلية قوامها التلاوة والقيام والسجود، ولكن صلاة عاطفة وشعور وإحساس يؤديها بنفس الحماس الذى ينفضه على ألوان الحياة التي يتقلب فيها جميعا، كما يعمل فيتفانى فى عمله، ويصادق فيفرط فى مودته، ويعشق فيذوب فى عشقه، ويسكر فيغرق فى سكره، مخلصا صادقاً في كل حال. هكذا كانت الفريضة حجة روحية يطوف فيها برحاب المولى، حتى إذا انفتل من صلاته تربع وبسط راحتيه وراح يدعو الله أن يكلأه برعايته ويغفر له ويبارك فى ذريته وتجارته».
    ولا ندرى كيف يفعل إنسان كل هذا بإخلاص وصدق!
    كيف يصلى بصدق وإخلاص، ويسكر بصدق وإخلاص، ويعشق بصدق وإخلاص؟!!
    هل يحيا مثل هذا الشخص فى عالم الواقع أو حتى فى عالم الخيال؟!!
    نعم ... قد يصلى المرء ويسكر ويعشق لكنه لا يصلى بإخلاص وإنما يمثل أنه يصلى .. إنه يصلى وكفى، كصلاة المنافق أو صلاة الأبله حتى إذا سكر سكرَ بإخلاص وعشق بإخلاص .. وقد يصلى بإخلاص ثم يسكر ويعشق لكنه ساعة سكره وعشقه يتعذب من ضعفه وخنوعه..
    نعم كنا نصدق نجيب محفوظ لو أن السيد صلى بإخلاص لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه عن السكر والعشق ووجد فى نفسه ضعفا عذبه، لكن السيد أحمد لم يفعل هذا .. إنه مخلص فى كل الأحوال!!
    قد تقول : إن السيد احمد رجل لا يعرف من شئون دينه ما يجعله يقف على هذا المعنى ..
    لكن هذا المعنى يا صاحبي لا يحتاج إلى عالم أو فقيه وإنما هو أمر فطرى.
    على أن نجيب محفوظ كان من الممكن أن يحل هذا اللغز بأن يجعل للسيد أحمد عبد الجواد قلبين فى جوفه، ولم نكن لنلومه على هذا ساعتئذ .. أو أن يجعله يدين بدين خرافي يأمر بالسكر والعربدة ومضاجعة النسوان كما يأمر بالصلاة والسماحة .. ساعتئذ لم نكن لنلوم أستاذنا ....
    ويؤكد أستاذنا موقفه هذا فها نحن أولاء نرى السيد أحمد عبد الجواد وقد وصف له الحشيش كفاتح للشهية – إلى فوائده الأخرى – فجربه ولكنه لم يألفه وانصرف عنه غير آسف وقد ساء به ظنه لما يورث من ذهول وقور مشبع بالهدوء ميال للصمت مشعر بالانفراد ولو بين الصفوة من الأصدقاء، فنفر من أعراضه تلك التي تتجافى مع سجيته المولعة بصبوات المرح ونشوات الهياج ولذات الاندماج فى النفوس ووثبات المزاج والقهقهة. ولكيلا يفقد مزاياه الضرورية لفحول العشاق اعتاض عنه بنوع من المنزول اشتهر به محمد العجمي بائع الكسكسى عند مطلع الصالحية بالصاغة وكان يعده خاصة لصفوة زبائنه من التجار والأعيان ولم يكن السيد من مدمني المنزول ولكنه كان يلم به بين حين وآخر كلما استقبل هوى جديداً؛ خاصة إذا كانت المعشوقة امرأة خبيرة بالرجال وأحوالهم، فالذي يحدد سلوك السيد أحمد إذن كما يقرر أستاذنا، إنها : «سجيته المولعة بصبوات المرح ونشوات الهياج ولذات الاندماج فى النفوس ووثبات المزاح والقهقهة».
    وهذا يشل الشخصية ويحدد اتجاهها ولا يترك لها فرصة للروغان الممتع فى دنيا الفن وقد ظل أستاذنا يؤكد على هذا ويقرره فى كل مناسبة يظهر فيها السيد أحمد عبد الجواد؛ ففي الفصل السابع من بين القصرين وعندما بلغ السيد أحمد دكانه وكان جميل الحمزاوى وكيله قد فتحه وهيأه للعمل كعادته منذ ثلاثين سنة ولا يملك جميل أو غيره فى عالم نجيب محفوظ الروائي أن يفر من قدره إلا إذا جاء الزمن كقدر آخر قاهر. فجميل الحمزاوي كان يعمل وكيلا لأبى السيد ثم ظل على «الوفاء للسيد بداع من العمل والحب معا، فهو يجله ويحبه كما يجله ويحبه جميع من يتصل به بسبب من أسباب العمل أو الصداقة. والحق لم يكن السيد مرهوبا مخوفا إلا بين أهله، أما بين سائر الناس من أصدقاء ومعارف وعملاء فهو شخص آخر، له حظه الموفور من المهابة والاحترام ولكنه شخصية محبوبة قبل كل شيء ومحبوبة لظرفها قبل أي من سجاياها الحميدة الكثيرة، فلا الناس يعرفون السيد الذي يقيم فى بيته ولا أهل البيت يعرفون السيد الذي يعيش بين الناس».
    وهاهو ذا أستاذنا يزيد الأمر تأكيداً وكأن القارئ فى حاجة إلى هذا المزيد، فحين شغل الحمزاوى بزبون أقبل: «نفر من أصحاب السيد وجيرانه من التجار ممن يحبون أن يقضوا معه وقتا طيبا ولو لزمن وجيز يتبادلون فيه التحية ويغيرون ريقهم – على حد تعبيرهم – على دعابة من دعاباته أو نكته من نكته، الأمر الذي جعله يفاخر بنفسه كمحدث فائق البراعة، لا يخلو حديثه من لمعات غير مقطوعة الصلة بالثقافة العامة التي اكتسبها، لا من التعليم حيث توقف فيه دون الابتدائية، ولكن من قراءة الصحف ومصادقة نخبة من الأعيان والموظفين والمحامين الذين أهله لمخالطتهم – مخالطة الند للند – حضور بديهته ولطفه وظرفه ومنزلته كتاجر موفور الرزق، فاستجد لنفسه عقلية غير العقلية التجارية المحدودة ضاعف من اعتزازه بها ما حباه أولئك الممتازون من حب واحترام وتكريم، ولما قال له أحدهم مرة فى صدق وإخلاص: "لو أتيح لك يا سيد أن تدرس القانون لكنت محاميا مفوها نادر المثال" نفخ قولة فى خيلائه الذي يحسن مداراته بظرفه وتواضعه وحلو معاشرته».
    على أننا لا نفهم السر فى جعل السيد أحمد بوجهين: وجه صارم حازم قاس مع أهله، وأخر منبسط بشوش مع غير أهله !
    إنه إذا كانت سجية المرء الانبساط والأريحية، كان أولى الناس بتلك السجية أهله، إلا إذا أتى لنا أستاذنا بشيء مقنع يجعلنا نصدق الشخصية ....
    ويبدو أن السيد مجمع متناقضات فهو يصلى بإخلاص ويسكر بإخلاص وينطلق على سجيته المرحة المحبة خارج بيته، بينما هو يعبس داخله مع زوجه وأولاده، وهو غير مقطوع الصلة بالثقافة العامة حيث يقرأ الصحف ويصاحب الموظفين والمحامين ويخالطهم مخالطة الند للند فى نفس الوقت الذي لم يكن من عادته أن «يشغل نفسه بالتفكير الذاتي أو التأمل الباطني».
    ويبدو أن تلك المتناقضات قد أرقت أستاذنا فحاول أن يجد لها تفسيرا عله يخرج من ذلك المأزق فذكر أن السيد من أولئك الذين «لا يكادون يخلون إلى أنفسهم ففكره لا يعمل حتى يبعثه إلى العمل شيء خارجي، رجل أو امرأة أو سبب من أسباب حياته العملية، وقد استسلم لتيار حياته الزاخر مستغرقا فيه بكليته فلم ير من نفسه إلا صورتها المنعكسة على سطح التيار ثم لم يتراخ توثبه للحياة مع تقدم العمر لأنه بلغ الخامسة والأربعين ولم يزل يتمتع بحيوية فياضة مشبوبة لا يتأثر بها إلا الشباب اليافع لذلك جمعت حياته شتى المتناقضات التي تراوح بين العبادة والفساد، وحازت جميعا رضاه على تناقضها دون أن يدعم هذا التناقض بسند من فلسفة ذاتية أو تدبير مما يصطنع الناس من ألوان الرياء ولكنه كان يصدر فى سلوكه عن طبيعته الخاصة بقلب طيب وسريرة نقية وإخلاص فى كل ما يفعل، فلم تعصف بصدره عواصف الحيرة ، وبات قرير العين».
    وهو تفسير ساذج يحتاج إلى تفسير هو الآخر، كما أنه – أي تفسير أستاذنا – فيه من التناقض ما فى حياة السيد أحمد، فالأستاذ يذكر أن السيد لا يكاد يخلو إلى نفسه وهذا لم يذكره فى الرواية بل ذكر أستاذنا أن السيد يخلو إلى نفسه كثيراً، ويلوك ذكرى سهراته عند عودته كل مساء ، ويسترجعها جميعا!
    والأستاذ يذكر في تفسيره هذا الساذج أن السيد ذو فكر لا يعمل حتى يبعثه إلى العمل شيء ناسيا ً أنه ذكر فى الفصل نفسه الذي ذكر فيه هذا التفسير أن السيد قد استجد لنفسه عقلية غير العقلية التجارية المحدودة، وأن أحد أصدقائه قال له بصدق وإخلاص: "لو أتيح لك يا سيد أحمد أن تدرس القانون لكنت محاميا ً مفوها ً نادر المثال " ..!!
    وانظر يا قارئي إلى علة تناقض السيد أحمد كما ذكرها أستاذنا، فالسيد يتمتع بحيوية فياضة مشبوبة، ولذا فهو يجمع فى حياته شتى المتناقضات!!
    لا تعليق ..
    ويبدو أن أستاذنا قد كل فى البحث عن تفسير مقنع له هو نفسه، فألقى بالتبعية على عاتق السيد أحمد، فقال: إن السيد أحمد يجمع بين المتناقضات فى أفعاله دون أن يدعم هذا التناقض بسند من فلسفة ذاتيه .. فالعيب إذن فى السيد أحمد!!
    ونسأل أستاذنا: ولم لم تدعم أنت موقف السيد أحمد الذي جئت به، واستدعيته إلى عالمك؟!
    وقبل أن نتجه إلى نقطة أخرى، نلفت الانتباه إلى ما ذكره أستاذنا كمحاولة للتخلص من المأزق الذي وضع فيه السيد أحمد عبد الجواد، فالأستاذ يعيب على السيد أنه لم يتخذ تدبيرا ً مما يصطنع الناس من ألوان الرياء، وبذا كان يحل المشكلة!!
    لو أن فى الأمر رياء يا أستاذنا لما كان ثمة تناقض، ولأمكن للسيد أن يضاجع النسوان ويأتي المساجد دون أن ينكر أحد من فعاله شيئا، لكنك ذكرت أن السيد رجل عميق الإيمان وزدت الأمر تفصيلا فقلت: «أجل كان إيمانا موروثاًً لا دخل للاجتهاد فيه، بيد أن رقة مشاعره ولطاقة وجدانه وإخلاصه أضفت عليه إحساساً رهيفا ساميا نأى به عن أن يكون تقليداًً أعمى أو طقوساً مبعثها الرغبة أو الرهبة فحسب، وبالجملة كان أبرز ما يتميز به إيمانه الحب الخصب النقي».
    ولا بد أن أستاذنا قد لا حظ أن كلامه هذا لا انسجام فيه، فتساءل: «أكان شخصين منفصلين فى شخصية واحدة؟ ». ولو كان كذلك يا أستاذنا لكان مريضا بداء الفصام كما كانت زوجه مريضة بداء الوسوسة الذي ورثته عن أمها. أما تساؤل أستاذنا الآخر الذي حاول به تفسير شخصية السيد أحمد، وحار فيها، فهو! «أم كان فى اعتقاده فى السماحة الإلهية بحيث لا يصدق أنها تحرم هاتيك المسرات حقا ؟!».
    لو كان الأمر كذلك لكان السيد أبله، وما كان يستحق أن يظهر على مسرح الرواية.
    أما التفسير الذي ارتاح له أستاذنا بقوله: «الأرجح أنه كان يتلقى الحياة بقلبه وإحساسه دون ثمة تفكير أو تأمل».
    فتفسير خائب هو الآخر ولا معنى له، وكان من الممكن كما أسلفت، لتصح الشخصية وتحيا فى الرواية من أحد أمرين:
    أولهما: أن يخلص فى عبادته ثم يضعف، فيركن إلى شهوته بحكم حيويته وأصدقائه وثقافته الدينية الضحلة؛ لكنه فى حال ركونه هذا إلى شهوته يتعذب ويتألم.
    والثاني: أن يصلي بلا شعور كحال معظم الناس فى عهود التخلف، ومن ثم لا يردعه رادع عن فعل المحرمات.
    وبذا يخرج أستاذنا من المأزق الذي وضعته فيه شخصية السيد أحمد الذي لم يتركه الأستاذ حرا طليقا للحظة واحدة، ولم يتركنا نحن أيضاً، فها هو ذا يقرر ما قرره من قبل، فيقول: «جلس السيد أحمد عبد الجواد وراء مكتبه بالدكان تعبث أنامل يسراه بشاربه الأنيق كشأنه كلما جرفه تيار خواطره، ويرنو إلى لا شيء بوجه تنم معالمه عن ارتياح ورضى. إنه يرضيه بلا ريب أن يشعر بما يكنه له الناس من حب ومودة، ولو عرض له من حبهم دليل كل يوم لأوجد له كل يوم سرورا مشرقا لا يبليه التكرار، وقد أتاه اليوم دليل جديد بسبب اضطراره إلى التخلف ليلة الأمس عن شهود حفلة أنس دعاه إليها أحد الأصدقاء، فما استقر به مجلسه بالدكان هذا الصباح حتى وافاه الداعي وبعض الإخوان من المدعوين وأوسعوه عتابا لتخلفه وحملوه تبعة ما ضاع عليهم من بهجة وطرب، ثم قالوا – فيما قالوا – أنهم لم يضحكوا من قلوبهم كما تعودوا أن يضحكوا معه، ولم يجدوا للشراب لذته التي يجدونها فى منادمته، وأن مجلسهم خلا – على حد تعبيرهم – من روحه . وها هو يستعيد أقوالهم فى سرور وزهو .......
    إنه فى الخامسة والأربعين حقا، ولكن ما قول العاذل فى هذه القوة العارمة والصحة الدافقة والشعر السبط اللامع السواد؟. لم يهن إحساسه بالشباب ولا تراخى، وكأن فتوته ما تزداد مع الأيام إلا قوة، إلا أن مزاياه لم تكن لتغيب عنه، بل كان على تواضعه وسماحة نفسه شديد الشعور بها منطويا فى أعماقه على زهور وعجب يحب الثناء حبا جما، وكأنه بتواضعه ولطفه يستزيد منه ويحث الرفاق بمكر حسن عليه ... على أن كياسته الفطرية أو فطرته الكيسة، لم تقتصر آَثارها الطيبة على حياته الضاحكة فحسب، ولكنها امتدت إلى جوانب هامة من حياته الاجتماعية ، فأعلنت عن نفسها أروع إعلان فى كرمه المأثور – سواء ما يتجلى منه فى الولائم التي يدعوا إليها من حين لآخر فى البيت الكبير، أو فى الهبات التي ينفح بها المحتاجين ممن يتصلون بعمله أو بشخصه- وفى شهامته ومروءته ونجدته التي فرضت له على أصدقائه ومعارفه نوعا من الوصاية المشربة بالحب والوفاء يفيئون إليها إذا دعت الضرورة إلى المشورة أو الشفاعة أو الخدمة فيما يعرض لهم من هموم العمل والمال أو شئون المسائل الشخصية والعائلية كالخطبة والزواج والطلاق، أجل ارتضى لنفسه وظائف يؤديها بلا أجر – غير الحب - فكان سمساراً ومأذونا ومحكما، ثم وجد دائما فى أدائها - على مشقتها - حياة مليئة بالبهجة والغبطة، مثل هذا الرجل الذي تجود نفسه بفضائل اجتماعية كثيرة ثم يطويها كأن فى نشرها أذى وأذى، مثل هذا الرجل يكون خليقا- إذا خلا إلى خواطره وانقشع عنه الحياء الذي يتولاه حيال الناس – بأن يتملى مزاياه طويلا ويستسلم لزهوه وعجبه».
    ونرى السيد أحمد فى بهو الحفلات ببيت زبيدة العالمة حيث يبدو: «عريس الحفلة بلا منازع ، بهذا دعاه الأصدقاء، وبهذا شعر فى أعماقه ... وجعل كلما لج به الشوق - والأشواق فى مغاني الطرب تثار- يمتد بصره إلى سلطانة المجلس بنهم فيتلكأ ناظره عند طيات جسمها المكتنز، فطاب قلبا بما أفاء عليه الحظ من نعمه، وهنأ نفسه على ما يترقبها من لذيذ المسرات ، هذه الليلة والليالي الأخريات ... ومع أن السيد لم يخبر من ألوان الحب – على وفرة مغامراته – إلا الحب العضوي وحب اللحم والدم، إلا أنه تدرج فى اعتناقه إلى أرق صورة وأنقاها، فلم يكن حيوانا بحتا ولكنه إلى حيوانيته وهب لطافة إحساس ورهافة شعور وولع مغلغل بالغناء والطرب ... ولذلك فلم يتركز خياله النشيط – وهو يلتهم السلطانة بنظراته – فى المضاجعة ولكنه تاه – إلى هذا – فى أفانين من أحلام اللهو واللعب والغناء والسمر».
    فأينما حل السيد فى مكان فهو عريس المكان بلا منازع، ولا أدرى لمَ لم يجعل الأستاذ، حب الظهور هذا بدافع من شعوره بالنقص: نقص فى التعليم والثقافة، فيجعله هذا يسخو ليسود بين أصدقائه ومعارفه، ويتجهم ويعبس حين يحل وسط أهله، ليحافظ على شعور المهابة والسيادة بينهم، وبذا يحيى الشخصية، ولا يكون ثمة تناقض بين سماحتة ولطفه خارج البيت، وصلفه وكبريائه داخله، وذلك الصلف الذي جعله يطرد زوجه عندما تماثلت للشفاء بعد حادثة زيارتها للحسين حيث قال لها بلهجة: «لا تقبل المراجعة:
    - ليس عندي إلا كلمة واحدة! غادري بيتي بلا توان.
    هوى أمره على رأسها كالضربة القاضية ... أما السيد فقد تخلص – بكلمته الأخيرة – من عبء فكر دوخ دماغه طوال الأسابيع الثلاثة المنقضية ... أجل كان من سوء الحظ أن يعيد النظر فى هدوء وهو خال إلى نفسه، إذ لو أتيح له أن ينفس عن غضبة حين اعترافها لا تفثأ حنقه، ومر الحادث دون أن يسحب وراءه عواقب خطيرة، ولكنه لم يسعه الغضب فى وقته كما لم يكن مما يرضى كبرياءه أن يعلن غضبه عقب شفائها – بعد هدوء دام ثلاثة أسابيع – إذ أن هذا الغضب يكون أقرب إلى الزجر المتعمد منه إلى الغضب الحقيقي، ولما كانت حساسيته الغضبية تستعر عادة عن طبع وتعمد معا ، ولما كان الجانب الطبيعي منها لم يجد متنفسا فى حينه، فقد وجب على الجانب المتعمد – وقد أتيحت له فرصته من الهدوء لمعاودة التفكير – أن يجد وسيلة فعالة لتحقيق ذاته على صورة تتناسب وخطورة الذنب».
    فيا له من تفسير عجيب ذلك الذي فسر به أستاذنا الأمر ، فلكي يحل المشكلة ذكر أن غضب السيد يصدر عن طبع وتعمد معا ، فلما زال الغضب الناتج عن الطبع، بقى الغضب الذي ينتجه التعمد، ونسى أستاذنا ما قرره من قبل من أن السيد أحمد عبد الجواد: «كان يتلقى الحياة بقلبه وإحساسه دون ثمة تفكير أو تأمل»، أو قل تناسي هذا، لكن: لمه؟.
    لأن أستاذنا مهندس بارع فى بناء الرواية إذ لا بد لأمينة من أن تذهب لأمها حتى يكشف أستاذنا عمل قانون الوراثة العجيب. وكان من الممكن أن يستعر غضبه فى بداية الأمر لينسجم ذلك مع طبعه وينتهي الأمر ثم تذهب أمينة إلى أمها فى زيارة عادية وساعتئذ يكشف عن عمل قانون الوراثة العجيب دون أن يلجأ إلى ذلك التفسير المفتعل أو إلى ذلك التقرير الذي لا ينفك يواجهنا به بين الحين والآخر!! ..
    على أننا لا ننفك – كذلك – نكشف تناقضاًً يزيد دهشتنا، فعندما يكتشف السيد أحمد فضيحة ياسين مع أم حنفي يقرر أستاذنا ما يأتي: «والحق أنه لم يتصور أن يجنح أحد من أبنائه – بعد ما نال من تأديبه وتهذيبه الصارمين – إلى هوى من الأهواء الجامحة التي تبدد المال، لم يتصور أن ينقلب ابنه "الصغير" سكيراً ماجناً، فالخمر والنساء التي يراها فى حياته هو لونا من اللهو لا يمس رجولة ولا يؤذى إنما تنقلب إذا "لوثت" أحداً من أبنائه جريمة لا تغتفر، ولذلك فإن زلة الشاب التي كشفها فى فناء البيت طمأنته بقدر ما أغضبته لأن أم حنفي فى نظره لا يمكن أن تغرى شابا إن لم يكن تحمل ما فاق طاقته من الاستقامة والعفة .. أجل لم يشك فى براءة ابنه بيد أنه ذكر ما لاحظه كثيراً من ولعه بالأناقة وتخيره النفيس من البدل والقمصان وأربطة الرقبة وكيف لم يرتح إلى ذلك وحذره الإسراف ولكن تحذيراً هينا، إما لأنه لم ير فى الأناقة جريمة، وإما لأنه تشبه ابنه به وتكراره لصورة من صور سلوكه – الذي لا يرى بأساًً فى أن يكرره أبناؤه – حركا فى صدره العطف والتسامح، ولكن كيف كانت نتيجة ذلك التسامح؟
    وهى ما وضح له الآن من تبذيره نقوده فى التافه من الكماليات.
    فهل يرى السيد أحمد الخمر والنساء لونا من اللهو؟
    هذا ما لم يقرره نجيب محفوظ من قبل، بل إنه يقرر صراحة أن السيد أحمد: «كثيراً ما يشعر بأن الدور الذي يلعبه فى سهرته من الخطورة كأنه أمل الحياة المنشودة، وكأن حياته العملية بجملتها ضرورة يؤديها فى سبيل الفوز بساعات مترعة بالشراب والضحك والغناء والعشق يقضيها بين صحبه وخلصائه».
    وهل السيد لم يشك فى براءة ابنه؟!
    هل شك فى براءة أم حنفي إذن؟!
    إن سلوكه يؤكد أنه تيقن من جريمة ابنه، ولا يمكن أن يتطرق الشك إلى أم حنفي بحال وهى التي استغاثت بأهل البيت، ومن ثم فلا معنى لأن يقول أستاذنا: «أجل لم يشك فى براءة ابنه» .. لكنك سرعان ما تكشف سر هذا التقرير ..
    إنه يكمن – أي السر – فى تلك الجملة: «لأن تشبه ابنه به وتكراره لصورة من صور سلوكه حركا فى صدره العطف والتسامح».
    كيلا ننسى عمل قانون الوراثة العجيب، ولنرى هذا التشابه الذي يراه الأب، والتشابه الذي لا يريد أن يراه الأب، في السقوط؛ ويظهر هذا التشابه بين الأب وابنه في الموقف الذي يلي هذا مباشرة في ترتيب الرواية عندما زارت بهيجة – أم مريم – السيد في دكانه وغادرته: «أوفر سعادة نشوان بالطفر والعجب ... ثم شرد به الخيال طاويا النهار فتراءى له وهو يدب في الظلماء متلمسا سبيله إلى البيت الموعود، والمرأة تنتظر بيدها سراج».
    فلم يكن ياسين غير صورة من أبيه وهذا ما يوحي به كلام نجيب محفوظ وما يصدح به في تقريراته المستمرة، حتى تبدأ مرحلة جديدة في حياة السيد في "قصر الشوق" – الجزء الثاني من الرواية – لنرى عامل الزمن واضحاً بعد أن رأينا عامل الوراثة في "بين القصرين"، ونستشعر في الكلمات، ونرى دبيبه، في أسلوب الكاتب كما أن الزمن قد أخذ يعيد ترتيب الأدوار فوق المسرح، فنحى السيد جانبا وقد كان ثمة في "بين القصرين" عمود الرحى ليحتل جيل الأبناء دور البطولة.
    (يتبع)


  8. #8
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    (3)
    فى "قصر الشوق" يبدو الصراع بين الرغبة والزمن فى نفس السيد أحمد عبد الجواد ...
    بين الطبع والزمن ...
    ويطالعنا ذلك من بداية "قصر الشوق" حيث تبدو مقدرة أستاذنا على نقل الشعور بوطأة الزمن من خلال أسلوب باهـر، ويؤكد فى نفس الوقت أن تهتك السيد أحمد فى "بين القصرين" لم يكن خاصاً بفترة الشباب والفتوة، وإنما طبع مغروز وجبلة لا يستطيع الإنسان أن يهرب من طبعه هذا، ولكنه يتعذب به إذا فقد الطاقة على إشباعه، لوجود عدو لدود قاهـر كالزمن لا يبقى على شيء ..
    وينظر الإنسان إلى رغباته وهى تتلوى ألما دون أن يستطيع لها من شيء، فهو لا يستطيع أن يتخلى عنها، ولا يستطيع فى الوقت نفسه أن يريحها بإشباعها ..
    انظر فى بداية "قصر الشوق" ترى دبيب الزمن وهو ينخر الجسم الذي كان فتيا: «أغلق السيد أحمد عبد الجواد باب البيت وراءه، ومضى يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهت فى خطوات متراخية، وطرف عصاه ينغرز فى الأرض التربة كلما توكأ عليها فى مشيته المتثائبة. تشوق وجوانبه تحمى بمثل الوهج إلى الماء البارد الذي سيغسل به وجهه ورأسه وعنقه كي يلطف – ولو إلى حين – من حرارة يولية والنار المستعرة في جوفه ورأسه، فهش لفكرة الماء البارد حتى انبسطت أساريره. ولما جاز باب السلم لاح له الضوء الواني الهابط من أعلى يتحرك على الجدران واشيا بحركة اليد القابضة على المصباح، فرقى على السلم يدا على الدرابزين ويدا على عصاه التي بعث طرفها دقات متتابعة اكتسبت من قديم إيقاعاً خاصاً غدا ينم عنه كما تنم عنه سماته.
    وعند رأس السلم بدت أمينة والمصباح في يدها، حتى إذا انتهى إليها توقف وصدره يعلو وينخفض ريثما يسترد أنفاسه، ثم حياها تحيته الليلية المألوفة قائلاً:
    ـ مساء الخير يا أمينة.
    فغمغمت أمينة وهي تتقدمه بالمصباح!
    ـ مساء الخير يا سيدي!
    في الحجرة هرع إلى الكنبة فتهالك عليها، ثم تخلص من عصاه وخلع طربوشه، وطرح قذاله على المسند مادا ساقيه إلى الأمام حتى انحسر جناح الجبة عن قفطانه، وكشف القفطان عن رجلي سرواله المتداخلتين في جوربه، وأغمض عينيه وهو يجفف بمنديله جبهته وخديه وعنقه، على حين كانت أمينة تضع المصباح على الخوان، ثم وقفت تترقب قيامه لتساعده في نزع ثيابه، وهي تنظر إليه باهتمام مشوب بقلق، وتود لو تواتيها شجاعتها فتسأله أن يعفي نفسه من الدأب على السهر الذي لم تعد تنهض به صحته بالاستخفاف المعهود قديماً».
    فها هي ذي الألفاظ محملة بمقذوفات الزمن أو قل: فيروساته التي دخلت الجسد الذي كان مكتظا حيوية، فجعلته «يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهت»، ولعلك تلمح ما في "يقطع" من جهد يبذله السيد، أما "ضوء النجوم الباهت" فتوحي بضعف البصر وكأنما تلطف الأستاذ بحال السيد، فبدلا من أن يقول: أن بصر السيد صار كليلاً، ذكر أن النجوم أرسلت ضوءاً باهتاً، ويرشح هذا قوله فيما بعد: "لاح له الضوء الواني الهابط من أعلى"!، فيا لها من رشاقة في أسلوب أستاذنا وعمق وهذا طرف عصا السيد "ينغرز في الأرض التربة كلما توكأ عليها في مشيته المتثائبة" ... العصا التي كانت من دلائل الوجاهة، صارت تنغرز من الثقل فهي الآن بمثابة ساق ثالثة للسيد يتوكأ عليها كما يتوكأ على الدرابزين في صعوده إلى أعلى حتى إذا دخل الحجرة "هرع" إلى الكنبة و "تهالك" عليها.
    هنا يتضافر المعنى البلاغي مع السياق بحيث يتسرب إلى النفس قهر الزمن ومدى وطأته على النفس الإنسانية ، فتشهد الصراع بقلب دامع ، وحنان دافق على تلك النفس .......
    وهذا التـغيير لم يصب السيد وحده بل أصاب الصحاب أيضا .....
    ومع هذا التـغيير إلا أنهم لا زالوا يعاندون .....
    لازالوا في حلبة التهتك، ولا زالت ذكرى المجلس يلوكها السيد كلما عاد: «إذ ذكر كيف تقيأ السيد علي عبد الرحيم الليلة في مجلس الأنس، وكيف اعتذر عن ضعفه ببرد أصاب معدته. وكيف تعمدوا أن يعيروه به زاعمين أنه لم يعد يحتمل الشراب، وأنه ليس كل الرجال من يستطيعون معاشرة الخمر إلى نهاية العمر الخ الخ، وذكر كيف غضب السيد علي وجد في دفع الريبة عنه، يا عجبا .. ألهذا الحد يعير بعض الناس أهمية لهذه الأمور التوافه؟!!
    ولكن إذا لم يكن ذلك كذلك فلم فاخر هو في صخب الحديث الضاحك بأنه يستطيع أن يشرب حانة دون أن تضرب له معدة؟!!"
    والسيد رغم ما يراه من زحف الزمن عليهم يعجب من اهتمامهم بأثر ذلك الزحف، لأنه يريد أن يهرب من هذا الشعور هو الآخر، وهنا ينسجم تيار الشعور مع تطور الشخصية النفسي.
    وتجد هذا – أيضا – عندما علم السيد من محمد عفت أن ياسين يصول في الأزبكية ويجول: «حتى سراديبها ... كانت الأزبكية مغنى آخر حينما كان هو يصول فيها ويجول، وهزه الحنين مرات إلى معاودة بعض مشاربها إحياءً للذكريات، فليحمد الله على أنه علم بسر ياسين قبل أن يقدم، وإلا لضحك الشيطان من أعماق قلبه الهازئ … أوسعوا الطريق للأبناء فقد شبوا ، عنها صدك الاستراليون أول الأمر، وأخيرا هذا البغل الاسترالي…».
    فالسيد هنا لا يريد أن يعترف بزحف الزمن أو بضعفه هو عن الصولات والجولات .. لا ..إن ما يمنعه عن غشيان مجالس اللهو وبيوت الدعارة في الأزبكية هو خوفه من أن يلتقي بياسين ثمة، وهي محاولة تهرب بها النفس من الشعور بوطأة الزمن القاهر الذي يبدو في هذا الجزء من الرواية جليا ، لضعف خصمه .....
    أنه إذا تساوت قوتان حدث سلام أو حرب باردة ......
    مجرد مناوشات لكن إذا بدأت قوة منهما في الضعف، يبدو الصراع، وتحدث هزائم جزئية إلى أن تسحق إحدى القوتين القوة الأخرى بالكلية ......
    والسيد هنا يلقي اللوم على الظروف إذ لولاها لوجدت من السيد ما يذهل الناس، لكن هيهات أن يرجع الزمن، ويعود الحال كما كان، فها هي ذي زنوبة التي كانت من قبل تحوطك بخدمتها، ولم تكن تنظر إليها – ساعتئذ – لتفاهتها، ترفضك، وتضعك في مأزق صعب: «هم بأن يضحك ... ولكنه أمسك بعد أن ضاق صدره بهذه الضحكات الآلية المحزنة... وراح ينظر إلى المرأة في حيرة لا يدري كيف يخرج من المأزق الذي دفع نفسه إليه .. الأفعى بنت الأفعى لا ترضى: لا بمن تحبه، هل يعني هذا إلا أنها تحب كل ليلة رجلاً! هيهات أن تمحى من صفحتك فضيحة الليلة! السادة هناك في الداخل، وأنت هنا تحت رحمة متدللة ... مضى إلى ملابسه فأخذ يلبسها على عجل حتى انتهى منها في أقل من نصف المدة التي تتطلبها عادة أناقتها. كان مصمما غاضباً، ولكن اليأس لم يبلغ به نهايته، ظل جزء من نفسه متمرداً يأبى أن يصدق ما وقع أو يعز عليه أن يسلم به، فتناول عصاه وهو يترقب بين لحظة وأخرى أن يحدث شيء فيكذب ظنه ويصدق أماني كبريائه الجريح، كأن تضحك فجأة حاسرة عن وجهها قناع الجد الزائف، أو أن تهرع إليه مستنكرة غضبه، أو أن تثب أمامه لتحول بينه وبين الذهاب، أجل كثيراً ما تكون مصة الريق التي ندت عنها مناورة يعقبها الاستسلام غير أن شيئا من ذلك لم يحدث».
    لقد جرح كبرياؤه وصلفه، وكان من الممكن أن يكف السيد عند هذا الحد، ويخلي الميدان لغيره لكن لا شيء من هذا في يده ..إنه لا يملك مصيره ..لا يملك أن يحفظ كبرياءه وعزته .....
    لا... لا.... لا يملك هذا قط ، فهنا تبدو "المادية" التي أدار عليها أستاذنا نجيب محفوظ روايته مجسمة، فالشعور الجنسي هو الذي يوجه سلوكيات السيد بل هو السوط الذي يقوده أمامه دون اعتبار لسنه أو لمركزه الاجتماعي وحتى لو أبدي المرء بعد الرفض ... إنه يسير رغما عنه فهاهو ذا السيد بعد ليلة الرفض وعندما ألقي عليه الصباح نوره وجده من قلق يتقلب ورشاش الدش يترشش على جسده العاري تشتت فكره وخفق قلبه تخايل لعينيه وجهها وطنت في أذنيه وسوسة شفتيها ورجع قلبه صدى الألم.
    ألفظها كما تلفظ ذبابة اندست في فيك وأنت تتثاءب وا أسفاه!! أنت تعلم أنك لن تلفظها"
    فيا له من شعور بالعجز ذلك الذي سيطر على السيد حتى دفعه لأن يقول لنفسه «أنت تعلم انك لن تلفظها».
    إنه في قبضة قدره ولا يستطيع الخروج عن الطريق مهما كان الأمر ومهما دفع نفسه للخروج … ويضع الأستاذ "نجيب محفوظ" بطله في مأزق، ليكشف لنا عمق هذا الشعور الجنسي لدى بطله، وأنه هو محور حياته، ولم يكن شيئا عارضا بدافع من فتوة الشباب وحرارته وإنما هو طبع تأصل فيه أو هو حقيقة النفس البشرية وفق نظرية فرويد المادية فها هو ذا السيد يخرج من بيته لأداء صلاة الجمعة في «جامع الحسين …. وإنه ليسير في شارع خان جعفر، إذ رآها عابرة من حارة الوطاويط في طريق الجامع ! …
    آه … لم يخفق قلبه مثل تلك الخفقة من قبل، وأعقبها على الأثر جمود شمل حركته النفسية كلها، حتى خيل إليه- فيما يشبه الغيبوبة، وخلافا للواقع - أنه توقف عن السير، وأن العالم من حوله صمت صمْتَ القبور… ولما أفاق إلى نفسه وجدها تتقدمه بمسافة غير قصيرة ، فتبعها على الأثر دون تدبر أو روية، فمر بالجامع دون أن يعرج إليه، ثم مال وراءها عن بعد إلى السكة الجديدة … وراحت عيناه ترتويان من هيئة جسمها اللطيف بنهم وظما وهو يستقبل موجات متتابعة من الأشواق والآلام، حتى رآها تعدل عن الطريق إلى دكان صائغ من معارفه يدعى يعقوب ... مضى متمهلا فوق الطوار حتى بلغ الدكان، فنظر إلى الداخل فكأنما ينظر عفوا».
    فقد تغلب إذن الدافع الجنسي أو مخزون الشعور على إيمانه العميق الذي حدثنا عنه نجيب محفوظ فى "بين القصرين"، وتغلب مخزون الشعور هنا له دلالته، لأن السيد ليس شابا وليس فياض الحيوية كما كان فى "بين القصرين"، وقد مر بتجارب أليمة كوفاة ابنه فهمي مما يؤكد أن قيمنا يصنعها ذلك المخزون الذي هو جنسي فى معظمه وفق رأى فرويد.
    وقد يكون الوازع الديني ضعيفا لدى السيد لجهله، فيؤكد لنا نجيب محفوظ قوة الدافع الجنسي عندما يضع السيد فى مأزق هو أشد من وجهة نظر نجيب محفوظ والسيد معاً، فها هي ذي المحظية تطلب عوامة خاصة ، الأمر الذي يتطلب منه مالا ً كثيراً، وهو التاجر الذي يعرف قيمة رأس المال بالنسبة له، لكنه سرعان ما يسيل لعابه، ويهزم أمام سطوة شعوره الجنسي الجارف حتى يبدو: «أبعد ما يكون عن الاعتدال والقصد، تشعبت وجوه نفقاته: فالهدايا تستنزف مالاً لا يستهان به، والعوامة تستحلب دسمه، ومحظيته تستأديه القرابين، وفى الجملة فإن زنوبة تدفعه إلى الإسراف دفعاً، وهو من ناحيته يدفع بلا مقاومة تذكر، لم يكن كذلك فى الأيام الخالية ... اليوم أذل حرصه على حبيبته عنقه فهان عليه الغالي، وكأنه لم يعد يروم من مطلب فى هذه الحياة وراء استبقاء مودتها واستمالة قلبها، ويا لها من مودة متعززة، ويا له من قلب عصي!! ... لكنه لم يحرك إصبعا ً للمقاومة الجدية ولم يكن ذلك فى طوقه».
    ورغم تضحياته تلك بالمال وبصلاة الجمعة التي تضفى إلى شكله الاجتماعي وجاهة، فإن الزمن لا يتركه، فزنوبة شابة لعوب، وثمة منافس له يدخل الحلبة في سن الشباب وقد ورث ذلك الشاب المنافس عن أبيه شهوانية حيوانية طافحة، تحركه وتدفعه لفعل الأعاجيب ..إنه ياسين حيث تبيت عنده زنوبة، مما يشعل النار فى صدر السيد، وعندما ترجع إلى العوامة، تختلق له حكاية ...
    إنه – أي السيد – متأكد من كونها مختلفة، لكنه لا يريد أن يصدق هذا، كيلا يشعر بالهزيمة، وليظل فى الحلبة واقفا ...
    ومع كونه يتلوى ألما إلا أنه لا زال واقفاً: «يا رب السموات أهكذا تستحيل الأظافر المدللة إلى مخالب؟».
    ويستعر غضب السيد لكرامته، لكنه سرعان ما يستكين، ويصبح لعبة فى يد داعرة ..عفوا فاللداعرات شأن عند أستاذنا ...
    أقصد فى يد زنوبة بل زنوبة هانم كيلا يغضب الرفيق ماركس فى قبره، فها هو ذا يجيء ليطردها، فتطرده: «لم تعد تسألها أين كانت ولكنها تخيرك بين الزواج أو الذهاب، ماذا أنت صانع ؟
    ما الذي يبقيك بلا حراك؟ إنه القلب الخائن، إن نزع عظامك من لحمك أهون من هجر هذه العوادة، أليس من المحزن ألا تبتلى بهذا الحب الأعمى إلا على كبرا؟!».
    على أنه فى ثورة من ثورات كبريائه يقرر أن ينتهي من الأمر ويقذف فى وجهها لعنته، ليثأر لذله هذا المهين، فبعد أن يغادر العوامة يعود إليها هائجاً ويحاول أن يكظم غيظه:
    - لقد نزلت فهنت ..
    هنا أفلت الزمام ، فصاحت به:
    حسبك، ارحم الحشرة القذرة واحذرها، أذكر كيف كنت تقبل يدها والخشوع في عينيك، نزلت فهنت ؟ ... هه ؟ ... الحق أنك كبرت، قبلتك على كبر وها أنا أتلقى الجزاء .....
    لوح بعصاه وهو يصيح بغضب :
    - اخرسي يا بنت الكلب ، اخرسي يا دون، لمي ثيابك وغادري العوامة ....
    فصاحت بدورها وهى ترفع رأسها فى تشنج:
    - املأ أذنيك بما أقول، كلمه أخرى أملأ عليك العوامة والنيل والطريق صواتاً حتى تحضر الحكمدارية كلها، سامع ؟ ....
    لست لقمة سائغة، أنا زنوبة والأجر على الله، اذهب أنت هذه العوامة عوامتي وعقد إيجارها باسمي ، فاذهب بالسلامة قبل أن تذهب فى زفة .....
    لبث قليلا كالمتردد ينظر إليها باحتقار وازدراء، ولكنه عدل عن مغامرة قاسية تفادياً من الفضيحة، ثم بصق على الأرض ومضى إلى الخارج فى خطوات واسعة ثابته ....».
    وكان من الممكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحد لكن الانتقال من طور إلى طور لا يأتي إلا قسرا حيث لا يفل القدر إلا قدر مثله، فبعد أن استأسد السيد وخرج تاركا ً العوامة بما فيها وأقنع نفسه بأن كل شيء قد انتهى: «لكن شيئا فى الواقع لم ينته، لم تبرح مخيلته، وصح لديه فيما تلا ذلك من أيام أن تفكيره فيها لم يكن مجردا ولكنه اقترن بألم عميق تزايد وتفشى وصح لديه أيضا أن ذلك الألم لم يكن غضبا لكرامته فحسب ولكن كان ألم الحسرة والحنين، وأنه فيما بدا عاطفة طاغية لا تقنع بأقل من تدمير من يعانيها: وقد صبغت أزمته سلوكه العام بلون من القسوة قاومه ما استطاع بحلمه وكيانه فلم يفلت منه الزمام إلا قليلاً: وذهب متسترا بالظلام كاللص، فمر أمام العوامة ورأى النور يوصوص من خصاص النافذة ، ولكنه لم يدر إن كانت هي التي تستضئ به أم ساكن جديد، بيد أن قلبه شعر بأن النور نورها هي دون غيرها: وذهب مرات ومرات، حتى صار التردد أمام العوامة بعد جثوم الليل عادة يمر بها قبل ذهابه إلى مجلس الإخوان: وكان يهم بالعودة مرة إذ انفتح الباب وخرج شبح لم يتبينه فى الظلام، فدق قلبه فى خوف ورجاء، ثم عبر الطريق مسرعا ووقف فى جوار شجرة وعيناه تحملقان فى الظلام. قطع الشبح المعبر الخشبي إلى الطريق ثم سار فى اتجاه جسر الزمالك:
    وتبعها عن بعد وهو لا يدري على أي وجه تنتهي الليلة:
    ولما بلغت الجسر ودخلت فى مرمى مصابيحه تؤكد إحساس قلبه وأيقن أنها زنوبة: رآها تتجه إلى محطة ترام الجيزة وتنتظر، فسار محاذيا للحقول حتى جاوز الموضع قبالتها، ثم عبر إلى ناحيتها ووقف بعيدا عن مرمى بصرها: وجاء الترام فاستقلته، وعند ذلك هرول إليه فركب جاعلا مجلسه فى نهاية المقعد المطلة على السلم ليراقب النازلين، وعند كل محطة راح يتطلع إلى الطريق وقد زايله الإشفاق من اكتشاف أمره نزلت فى العتبة الخضراء فنزل وراءها إلى الموسكي مشيا على الأقدام فتبعها على بعد مرحبا بظلمة الطريق، ترى هل عاودت الاتصال بخالتها؟.
    أم تراها ماضية إلى السيد الجديد؟ وبلغت حي الحسين فضاعف انتباهه أن تضيع منه فى زحمة الملاءات اللف: لم تستبن له غاية وراء هذه المطاردة الخفية، ولكن كان مدفوعاً برغبة فى الاستطلاع أليمة وعقيمة وأن تكن فى نفس الوقت عنيفة لا تجدي معها المقاومة ... سارت أمام الجامع فاتجهت إلى حارة الوطاويط: ثم إلى الجمالية حتى مالت إلى قصر الشوق فتبعها مشفقا من أن يلقاه ياسين فى الطريق وما يدرى إلا وهى تنعطف إلى أول حارة تلك الحارة التي لم يمكن بها من بيت إلا بيت ياسين، فدق قلبه بقوة وثقلت قدماه! كان يعرف سكان الدورين الأول والثاني، وهما أسرتان لا يمكن أن تربطهما بزنوبة رابطة! وزاغ بصره قلقا واضطراباً، غير أنه وجد نفسه يميل إلى العاطفة غير مقدر للعواقب، فاتجه نحو الباب حتى ترامى إلى سمعه وقع الأقدام فشعر بمرورها بالباب الأول ثم الثاني، ثم وهى تطرق باب ياسين».
    ليصل البطل الجديد محل البطل الخائب فى مسعاه ....
    يحل الولد محل الوالد، لتكون طعنة الزمن فى صدر السيد أعمق:
    على أنه لازال فى عمر السيد بقية وها هو ذا يطالعنا بوجه قد ترنح من وقع ضربات الزمن المتتالية فى حلبة الصراع ...
    (4)
    لو اطلعت على مسرح الحياة في "السكرية" ـ الجزء الثالث من الثلاثية المحفوظية – لوجدت السيد أحمد قد تنحى وأخذ جانبا، للأولاد والأطفال الذين شبوا ، وصار لكل واحد زوجة وحياة...
    فدور البطولة الآن يلعبه الأحفاد على مرأى من الأولاد ياسين وكمال، أما السيد ففي الظل وهاهو ذا يطالعك فى بداية "السكرية" وهو: «منكب على دفاتر تحت لافتة البسملة ، وشاربه الفضي يكاد يختفي تحت أنفه الكبير الذي زاده ضمور الوجه ضخامة، كان ذلك المنظر مما يستحق العطف».
    وكان اعتزال جميل الحمزاوى نذيرا باعتزاله هو الآخر، حتى السلطانة زبيدة قد ترهل جسمها أما وجهها فقد «تقنع بالأصباغ، أما الحلي فلم يعد لها أثر فى عنقها أو أذنيها أو ساعديها، ولا للجمال القديم مكان».
    انتصر الزمن فى معركته ، وأطاح بعرش السلطانة، وبقوة السيد، واستمر في زحفه الذي لا يرحم فبعد أن كان السيد يغادر البيت يوميا، لم يعد يغادره إلا نادراً..
    ويكشف الأستاذ فى "السكرية" عن طبيعة إيمان السيد وعن فهم الأستاذ نجيب للدين؛ فإيمان السيد كان مسرة من مسرات الحياة كسكره وعشقه سواء بسواء! ونسأل أهذا هو الدافع لإخلاص السيد فى صلاته؟
    لكن طبيعة صلاة المسلمين ترفض هذا التفسير، فهي ليست طقوسا تؤدى مفرغة من المعنى؛ إنها محطات للتزود بالطاقة، و تلقى التعاليم لمواجهة الحياة والتعامل معها، وتطويعها لخدمة الإنسانية، وهذا المعنى لم يرد بحال على ذهن السيد ولا في سرد السارد..
    ولك يا قارئي العزيز أن تعجب عجبي أنا وأنت تقرأ لأستاذنا الكبير قوله فى السرد: «فلم يعرف حتى اليوم العبادة الزاهدة التي تدير الظهر للدنيا وتتطلع إلى الآخرة وحدها».
    لو جاء هذا الكلام على لسان كمال – مثلا لقلنا ذلك تفكير الشخصية الروائية لكنه جاء من الناص نفسه كفرش ..
    كأرض تسد فجوات النص الذي هو مسرح شخصياته، فأين هي تلك العبادة الزاهدة التي تدير للدنيا ظهرها في دنيا الإسلام لعله يقصد ما يفعله رجال الصوفية كما يفعل الرهبان في المسيحية، وأستاذنا يخلط في كتاباته جميعها بين الصوفية كفرقة لها فكرها وطريقها، والإسلام الحنيف كما يخلط عندنا جهلة المثقفين وغربان حياتنا الثقافية بين الإسلام والتراث .....
    وهذا ما جعل كمال – كما سنرى فيما بعد – يتحدث عن الصوفية وكأنها هي الإسلام دون تفرقة بينهما، وهذا الخلط – كما قلت – تجده على طول الخط في أعمال أستاذنا نجيب محفوظ مما يؤكد أن تلك هي صورة الإسلام في ذهنه، وهي صورة مشوهة ناقصة، فالصوفية فرقة فهمت من الإسلام فهما خاصا بها، كالمعتزلة والخوارج والسلفية والإخوان وهلم جرا من جماعات ظهرت على مسرح الحياة لظروف خاصة ليس هنا مجال تفصيلها ...
    ولا يمكن لأحد أن يدعى أن جماعة ما هى الممثلة للإسلام؛ فالإسلام لا يمثله سوى الإسلام وقد حفظه الله تعالى عن التحريف والتغيير ويجده أي إنسان نقيا طاهرا كما نزل من السماء فى الكتاب وصحيح السنة.ولا شيء غير هذا البتة. فلا وجود لفكر مقدس أو شخص مقدس وإنما يعرض الفكر على الإسلام فإن وافقه، فبها وإلا فهو اجتهاد جانب الصواب على أن لكل فرقة أو فكر ظروف نشأة وملابسات ينظر فيها الناظر حتى يعرف أين يضع قدميه وإلا خاب و ذل ...
    على أننا لا نعجب من هذا الذي نراه من كتابنا (الكبار) الذين يقضون أعمارهم المديدة فى دراسة المذاهب الغربية والشرقية ثم يلمون ببعض أفكار فرقة إسلامية انتسبت إلى الإسلام، فتراهم يتيهون صلفا بما لديهم من معرفة بالإسلام وعالم الإسلام!!
    لكن مهلا فلازال فى عمر السيد فسحة من الوقت، ولازال الأستاذ نجيب يحوطه بتقريراته التي تكشف ضمن ما تكشف فكر الناص .. فكر أستاذنا ومعرفته .. بالأمور البسيطة من أمور الدين التي يعرفها أطفال الكتاب ومن عجب أنه لا يعرفها.
    وهب أن أستاذنا يعرفها فلم حرم السيد أحمد عبد الجواد من معرفتها وهى أمور بسيطة جدا كما ذكرت، ويعرفها أطفال الكتاتيب!
    وهب أن السيد أحمد عبد الجواد لم يعرفها، فلم لم يعرفها ابنه كمال المثقف الذي يحدثنا عنه نجيب محفوظ بأنه كان ملتزما ، وملما بالتعاليم – كما سيأتي عند الحديث عن كمال عبد الجواد – وأمور الديانة ..
    أقول هذا لأني أشفقت على السيد أحمد بصراحة وكان من واجب كمال أن يشفق ويعطف على أبيه الذي يحبه ، ويظهر له أمرا يريحه ويسعده وهو
    فى آخر مشوار عمره ، فبعد أن أخبر رضوان جده أن جده محمد عفت قد قبض، قبض صدر السيد، وذكر: كيف انطوى حبيب العمر؟.
    وعلي عبد الرحيم الذي احتضر ثلاثة أيام كاملة، سعال حاد متقطع حتى فزعنا إلى الله أن يحسن خاتمته ويريحه من الألم، واختفى من دنياه أليف الروح علي عبد الرحيم ، وقد ودع هذين الحبيبين ، أما إبراهيم الفار فلم يودعه ، كان اشتداد المرض قد أقعده فى فراشه ومنعه عن عيادته فنعاه إليه خادمه، وحتى الجنازة لم يشيعها فشيعها عنه ياسين وكمال. فإلى رحمة الله يا ألطف الناس طراً ومن قبل هؤلاء مات حميدو والحمزاوى وعشرات من المعارف والأصحاب، تركوه وحيداً كأنه لم يعرف من الناس أحداً، لا زائر له ولا عائد ، وجنازته لن يشيعها صديق، حتى الصلاة حيل بينه وبينها، هل يتمتع بالطهر إلا ساعات عقب استحمام لا يجود به أولياء الأمر إلا مرة كل شهر؟ فحرم من الصلاة وهو أشد ما يكون حاجة إلى مناجاة الرحمن فى هذه الوحدة ًالموحشة».
    إنه لا يُحرم من الصلاة فى دنيا الإسلام إلا من فقد عقله بنوم أو جنون ويعترف السيد لكمال بهذا الأمر الذي يؤلمه قائلاً :
    «عجزي عن الصلاة يحز فى نفسي حزاً فالعبادة عزاء الوحدة، ومع ذلك تمر بي أوقات غريبة أنسى فيها كافة وجوه الحرمان التي أعانيها من مأكل ومشرب وحرية وعافيه، تصفو نفسي صفاء عجيبا يخيل إلى أنى متصل بالسموات، وأن ثمة سعادة مجهولة تزري بالحياة وما فيها...
    فتمتم كمال: ربنا يمد فى عمرك ويرد إليك العافية».
    لم لمْ يرح كمال والده ويذكر له أن الصلاة لا تسقط عن امرئ مسلم أبداً، وأن التيمم بديل لمن عجز عن الوضوء، وأن الصلاة يصليها العاجز راقداً أو بالإيماءة أو حتى بخاطره إن لم يستطع كل هذا، وبذلك يريح والده بل لم لمْ يذكر نجيب محفوظ هذا فى سرده وبذا يظهر لنا جهل كمال ووالده المبين بأبسط أمور الدين التي يعرفها كما أسلفت الأطفال الصغار !!
    وسنعود إلى هذه النقطة عند حديثنا عن كمال عبد الجواد ،ولكن قف قليلاً، لنشيع جنازة السيد أحمد عبد الجواد ليختفي من على المسرح نهائيا ويصبح ذكرى فى رأس أمينة.
    (يتبع)


  9. #9
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    (5)
    قبل أن نتحدث عن أفراد أسرة السيد أحمد عبد الجواد، ونحدثك عن البيئة الثقافية – ونركز على الأسرة – التي نشأ فيها الأولاد ، وساعتئذ ينسجم سلوك كمال عبد الجواد عندما يكبر ويكفر بالدين مع نشأته تلك التي تتسم بالسذاجة المفرطة ....
    ولك يا قارئي أن ترى الخطوات التي حدثنا عنها "أوجست كونت" فى سيرة الجد والابن والحفيد: فالسيد يمثل الدين وهو كما حدثناك دين بلا ملامح، ثم جاء كمال ليكفر بهذا الدين ويؤمن بالعقل ويبحث عن إله جديد حتى إذا جاء أحمد شوكت فإذا به يمثل دور الوضعية المنطقية.
    وليس هذا تعسفا ً بل هو حقيقة إن جردت الثلاثة من اللحم وبقى هيكلهم أمامك؛ فأستاذنا فى تخطيطه الأولى أو فى البذرة الأولى أو فى المقدمة المنطقية كان يفكر فى هذا ثم ضمنه جسم العمل وبذره فى مواضع كثيرة، ولندع هذا الآن، ولننظر إلى البيئة الثقافية التي نشأ فيها الأولاد، وقد رأينا السيد من قبل ينتابه الكبر والصلف في بيته، وكيف يعامل أهله بالشدة حتى اكتشف ياسين أن أباه يحمل وجهاً أخر غير الوجه الذي يقابلهم به، ويخبر فهمي، فكمال، ويدرك ياسين ساعتئذ أنه امتداد طبيعي لأبيه ...
    امتداد لأبيه فى شهوته الجارفة وشهوته تلك هي المحركة له، كما أنه جاهل كأبيه بتعاليم الدين وأحكامه، أما أمينة فكانت حين زواجها:
    «فتاة صغيرة دون الرابعة عشرة من عمرها»، وكانت محملة بخرافات عن الأشباح والأرواح، ولشد «ما كانت تخاف الليل فى عهدها الأول بهذا البيت، فلم غب عنها – هي التي عرفت من عالم الجن أضعاف ما تعرفه عن عالم الإنس – أنها لا تعيش وحدها فى البيت الكبير، أن الشياطين لا يمكن أن تضل طويلا عن هذه الحجرات القديمة الواسعة»، وبعد أن تنجب أمينه صغارها نجدها تحيطهم «بذراعيها وتغمرهم بأنفاس العطف وتحيطهم فى اليقظة والمنام بدرع من السور والأحجبة والرقى والتعاويذ» .
    ومع هذا الجهل نجدها امرأة سلبية رغم ما يذكر أستاذنا عنها من بذلها الجهد فى أشغال البيت بحكم وسوستها المفرطة التي هي بالداء أشبه، فحين أخبرها فهمي بأن حسن أفندي إبراهيم ضابط قسم الجمالية أبدى رغبته فى خطبة عائشة: «لم تدر لنفسها مستقراً، خاصة وأن ما طبعت عليه من سلبية شاملة جعلها أعجز من أن تجد حلا ً موفقا لمشكل من المشاكل»، فهي امرأة إلى الخادمة أقرب منها إلى الأم المربية، مع سذاجة مفرطة يظهرها أستاذنا "نجيب محفوظ" حين تابعت الحديث الدائر بين فهمي وياسين فى وجود صغيرها كمال:
    «باهتمام مركزة فيه وعيها كله كي تفهم أقصى ما يسعها فهمه منه كد أبها كلما ثار حديث فى الشئون العامة البعيدة كل البعد عن اللغو المنزلي، تلك الأمور تشوقها، وتدعى القدرة على فهمها، ولا تتردد إذا سنحت فرصة عن المشاركة فيها غير مبالية بما تحدثه آراؤها فى أحايين كثيرة من الاستهانة المشربة بالعطف، ولكن لم يكن شيء ليحطم مجاديفها أو يصدها عن الاهتمام بهذه الشئون "الكبيرة" التي يبدو أنها تتبعها مدفوعة بنفس البواعث التي تدفعها إلى التعليق بدروس كمال الدينية أو مناقشة ما يلقى عليها من معلوماته الجغرافية والتاريخية على ضوء معارفها الدينية أو الأسطورية.
    وقد أكسبها هذا الجد شيئا من الإلمام بما يقال عن مصطفى كامل ومحمد فريد وأفندينا المبعد، أولئك الرجال الذين ضاعف من حبها لهم إخلاصهم للخلافة الأمر الذي قربهم فى نظرها – كشخص يقدر الرجال بحسب منازلهم الدينية – من مراتب الأولياء الذين تهيم بهم، ولما أن ذكر فهمي أن سعداً وزميليه يطلبان السفر إلى "لندن" خرجت عن صمتها فجأة متسائلة:
    - أي بلاد الله لندن هذه؟
    فبادرها كمال باللهجة المنغومة التي يسمع بها التلاميذ دروسهم:
    - لندن عاصمة بريطانيا العظمى وباريس عاصمة فرنسا والكاب وعاصمتها الكاب .......
    ثم مال على أذنها هامسا ً "لندن بلاد الإنجليز"، فتولت الأم الدهشة وقالت مخاطبة فهمي :
    - يذهبون إلى بلاد الإنجليز ليطالبوهم بأن يخرجوا من مصر؟! ....
    ليس هذا من الذوق فى شيء ...
    كيف تزورني فى بيتي وأنت تضمر طردي من بيتك؟!
    أضجرت مقاطعتها الشاب فنظر إليها باسمًا معاتباً فى آن ولكنها ظنت أنها بسبيل إقناعه فأردفت قائلة:
    - وكيف يطلبون إخراجهم من ديارنا بعد إقامة طالت هذا الدهر كله؟! لقد ولدنا وولدتم وهم فى بلادنا فهل من الإنسانية أن نتصدى لهم بعد ذلك العمر الطويل من العشرة والجيرة لنقول لهم بصريح العبارة – وفى بلادهم أيضا – اخرجوا؟!».
    هذه هي أمينة على طول الرواية وذلك كان زوجها السيد أحمد الذي يعاملهم فى البيت بوجه غير الوجه الذي يلقى به صحبه وعشيقاته، وفى هذا البيت تربى كمال وفهمي وياسين وخديجة وعائشة.
    فتعال ننظر إلى فروع الشجرة لنرى كيف تتسق مع جذرها ....
    ولنبدأ بياسين وهو أكثرهم شبها بأبيه، ولم يكن لدى إخوته حدة شهوانيته، لأنهم ورثوا من أمهم السلبية، فلطفت من تلك الشهوانية بعض الشيء، أما ياسين فورث الشهوانية المفرطة عن أبيه وأمه ...
    السيد أحمد عبد الجواد ، وهنية التي عاش معها طفولته، ورأى منها ما جعله يكره النساء حتى عد هذا الوراء دملاً «يود لو يتجاهله على حين لا تمسك يده عن جسه من آن لآخر. ثم إن هناك لا يمكن أن تنسى ....
    ففى مكان ما ووقت بين النور والظلمة وتحت أعلى نافذة أو باب مطعم بمثلثات من الزجاج الأزرق والأحمر .. فى ذاك المكان كان يذكر أنه اطلع فجأة – فى ظروف فرضها النسيان – على ذلك الشخص الطارئ، وهو كأنه يفترس أمه، فما تمالك أن صرخ من أعماق قلبه وولول باكيا حتى أقبلت المرأة عليه في اضطراب باد وراحت تطيب خاطره وتسكن ثائره».
    وشكل هذا الوراء القذر رأيه فى المرأة:
    «كل امرأة لعنة قذرة ... لا تدرى امرأة ما العفة إلا حين تنتفي أسباب الزنا».
    هذا رأيه فى المرأة الذي كوّنه على ضوء ماضيه ...
    على ضوء ذكريات الطفولة التي انغرست فى لا وعيه، وكان من الممكن أن يكون هذا دافعاًً جيداًً لحركة ياسين الشهوانية ..
    كان من الممكن أن ينطلق من هذا أستاذنا نجيب محفوظ، لتكون شخصية ياسين مقنعة وعميقة وحية، لكن شيئا من هذا لم يحدث، فانطلاق ياسين كان لفحولته المفرطة وشهوانيته التي ورثها عن أبيه حتى كأنه صورة منه، وما خلقت الحياة، وما وجد هو إلا ليمارس الدعارة، و ليكون داعراً كبيراً كما كان والده المبجل السيد أحمد عبد الجواد ..
    ويرسم لنا أستاذنا صورة له أو قل قضبانا يسير عليها كيلا يستطيع الفكاك من قبضتها حيث تطالعنا أول صورة له فى بين القصرين وهو يستيقظ، و يتربع على الفراش:
    «وأسند رأسه إلى يديه، ورغب فى معابثة الخواطر اللذيذة التي تحلو بها أحلام اليقظة ولكنه كان يستيقظ – كأبيه – على حال من ثقل الرأس تتعطل معها الأحلام، ولاحت لمخيلته زنوبة العوادة فلم تترك فى حساسيته أثراً مما تترك فى صحوه وإن افترت شفتاه عن ابتسامة»
    ولا ينسى أستاذنا أن يذكرنا فى وصفه له أنه كأبيه .. ولن ننسى هذا إذ كثيراًً ما يطالعنا أستاذنا بما يذكرنا بأن ياسين كأبيه فى كل شيء كما كانت أمينة صورة من أمها فى كل شيء!
    انظر إلى ياسين وهو يمشي فى الطريق حيث كان:
    «شأنه إذا سار أن يسير متمهلا فى هوادة ورفق، مختالا ً فى عجب وزهو (كأبيه سواء بسواء)، كأنه لا يغفل لحظة واحدة عن أنه صاحب هذا الجسم العظيم وهذا الوجه الفائض حيوية وفحولة، وهذه الملابس الأنيقة الآخذة حظها – وأكثر – من العناية، إلى منشة عاجية لا تفارق يده صيفا أو شتاء، وطربوش طويل مائل يمنة حتى يكاد يمس حاجبه، ومن عادته أيضا إذا سار أنه كان يرفع عينية – دون رأسه – مستطلعاً ما وراء النوافذ لعل وعسى، فلم يكن يقطع طريقاً حتى يشعر فى نهايته بما يشبه الدوار من كثرة تحريك عينيه، إذ كان ولعه بالتهام النسوة اللاتي يصادفنه داءً لا شفاء منه، فهو يتفحصهن مقبلات ويتبع عينيه أردافهن مدبرات، ويظل فى قلقه كثور هائج حتى ينسى نفسه فلا يعود يتدبر مداراة مقاصده».
    ليس هذا وكفى بل إن حيويته تلك كانت «من العنف بحيث ملكت عليه فراغه كله، فلم تدع له وقتا يستريح فيه من استفزازها، وشعر دائما بألسنتها تلهب حواسه ووجدانه، وكأنها عفريت يركبه ويوجهه حيث يشاء، بيد أنه عفريت لم يخفه أو يضيق به، ولم يود الخلاص منه، بل لعله رام منه المزيد».
    فهذا هو دافعه إذن ...
    وبذا سطح الشخصية، وجعلها مجرد شهوانية حيوانية ولننظر إلى ياسين وهو يجلس فى قهوة "سي علي" على ناصية الصناديقية ينتظر أن يرى زنوبة العوادة .. «وأخيرا ً بدت زنوبه وقد انحسر طرف ملاءتها عند أعلى الرأس عن منديل قرمزي ذي أهداب منمنمة ... واقتربت من العربة ... ثم رفعت قدماً إلى أعلى العجلة فاشرأب ياسين بعنقه وهو يزدرد ريقه فلمح ثنية الجورب معقودة فوق الركبة على أديم بدا منه صفاء عذب خلال أهداب فستان برتقالي ...
    " آه لو تغوص بي الأريكة فى الأرض متراً...
    رباه ...
    إن وجهها أسمر ولكن لحمها المكنون أبيض ...
    أو شديد البياض ...
    فكيف يكون الورك ؟ ...
    وكيف يكون البطن ؟ ...
    البطن يا هوه ......
    وثبتت زنوبه راحتيها على سطح العربة وقامت عليها ...
    وأخذ ظهرها يستقيم حتى نهضت، ثم جلست عند مؤخرة العربة فتكور ردفها تحت الضغط متبلوراً ذات اليمين وذات اليسار فنعم الوسادة ....
    ونهض ياسين وغادر القهوة فوجد العربة قد تحركت فتتبعها متمهلا ً وهو يلهث ويصر على أسنانه من شدة الانفعال».
    وعلى طول الرواية نجد تلك الفحولة الطافحة العمياء التي تذهب بصاحبها كل مذهب حتى فى الساعات التي لا يتصور فيها المرء أن يأتي الشهواني بشيء كموقفه من أم حنفي، والجارية نور خادم زوجه الأولى زينب رضوان بل كموقفه من بهيجة عندما ذهب لخطبة ابنتها مريم!
    ليس هذا وكفى بل يأتي بزنوبة العوادة إلى شقة الزوجية فى سكره الشديد مدفوعاً برغبة عارمة تسيره، وهو بهذا سعيد ....
    وحتى لو ضاق صدره بعض الشيء، فإنه سرعان ما يعود إلى حالته الطبيعية من السعي اللاهث لإشباع شهوته كأبيه سواء بسواء وإن زاد قليلا فلأنه ورث عن أمه شهوانية مفرطة أيضا ....
    (6)
    ولم يسلم فهمي من تلك الشهوانية وإن هذبها تعليمه واتجاهه الوطني شيئا ما، كما أنه لم يستمر على مسرح الحياة، ليتجلى ذلك الجانب الوراثي القاهر فيه غير أنه يطالعنا فى "بين القصرين" عندما يستيقظ: «فأول إحساس يبادره صورة وجه مستدير تتوسط صفحته العاجية عينان سوداوان فيهمس باطنه قائلاً: "مريم".
    وقد ورث عن أببيه جانبه الوطني أيضاً؛ فهو لم يخرج عن الإطار، وقد تغلب الجانب الوطني لكون الفتى من طلاب الحقوق ساعتئذ غير أنه لم يكن من قادة الطلبة فقد قنع بالأدوار الثانوية – ولعل جانب أمه السلبي قد تدخل فى تلك النقطة – كأبيه، وما تراه من أمر زائد فلأنه فى موقع مختلف عن موقع السيد أحمد عبد الجواد، وها نحن نصحب فهمي بعد أن اطمأن إلى أن الأمور ستسير بسلام فالوطن: "كله ثمل بخمر السعادة والفوز «بعد أن أفرج الإنجليز عن سعد، ولا يتوقع شراً، لذا غادر فهمي البيت قرير العين، فمضى من توه إلى الأزهر حيث اجتمع بزملائه أعضاء لجنة الطلبة العليا للنظر فى تنظيم المظاهرات السلمية الكبرى التي سمحت السلطة بقيامها للإعراب عن ابتهاج الشعب، والتي تقرر أن يشترك فيها ممثلو الأمة بكافة طبقاتها».
    فلم يشترك فهمي إذن إلا فى مظاهرة سلمية ، وقد سمحت السلطة بقيامها، وسيشترك فيها ممثلو الأمة بكل طبقاتها، وقبل هذا كانت: «تخذله أعصابه فى اللحظة الحاسمة فما إن تنحسر موجة المعركة حتى يجد نفسه فى المؤخرة إن لم يكن مختبئاً أو هارباً».
    فلم يخرج فهمي إذن عن الإطار :
    دور ثانوي كأبيه، وسلبية ورثها عن أمه.
    على أن شخصية فهمي فيها بعض حياة عندما رفض أن يقسم على عدم الاشتراك فى مظاهرات الطلبة، ولجان توزيع المنشورات، وستجد هذا الموقف فى صورة أخرى من عبد المنعم شوكت فيما بعد حيث خرج عن شهوانيته ورفض أن يطيع الحيوانية فيه ...
    خرج عن موروثه، واستطاع أن يثور ويرفض، ويحقق ما يريد، وإن لم يخرج عن تصور الأستاذ نجيب محفوظ للدين كما سنرى فيما بعد.
    وقبل أن نتحدث عن الشخصية المحورية فى الرواية وهى شخصية كمال عبد الجواد، نرسم خطوطاً أو قل ملامح بارزة لباقي شخصيات الرواية الثابتة، فخديجة:
    «ورثت عن أمها عينيها الصغيرتين الجميلتين، وعن أبيها أنفه العظيم، أو صورة مصغرة منه ولكن ليس إلى القدر الذي يغتفر له، ومهما يكن من شأن هذا الأنف فى وجه الأب الذي يناسبه ويكسبه جلالاً ملحوظا فقد لعب فى وجه الفتاه دوراً مختلفاً. أما عائشة فكانت فى السادسة عشرة من ربيعها، صورة من بديع الحسن، رشيقة القد والقوام – وإن عد هذا فى محيط أسرتها من العيوب المتروك علاجها لأم حنفي – ووجه بدري تزينه بشرة بيضاء مشربة بحمرة وعينان زرقاوان أحسنت اختيارهما من الأب مع أنف الأم الصغير، إلى شعر ذهبي دللها به قانون الوراثة فخصها به وحدها من ميراث جدتها لأبيها».
    وهذا الشكل هو الذي حدد سلوك الفتاتين، فخديجة تعرف أنها ليست جميلة، فاتجهت إلى أعمال المنزل وارثة ذلك عن أمها مع حدة طبع ورثته عن أبيها البيتي مع صلف وكبرياء لازمها فى بيت الزوجية، أما عائشة فتدرك جمالها وتتيه به، وقد ورثت عن أبيها حب الغناء والطرب والأريحية ..
    ورثت ذلك عن أبيها الخارجي – لم يغير من سلوكها هذا إلا الزمن القاهر عندما مات الزوج وابناها – عثمان ومحمد – أما خليل وإبراهيم شوكت فلم يخرجا عن تلك الصورة التي رسمتها لهما خديجة عندما ذكرت أنهما: «فى الغناء سواء! لا يكادان يبرحان البيت ليل نهار، لا هم ولا عمل، أما زوجها فوقته كله ضائع بين التدخين وعزف العود كأنه شحاذ من الشحاذين الذين يمرون على البيوت فى الأعياد
    ـ وأما زوجي - فلا تراه إلا مستلقيا يدخن ويثرثر حتى يدوخ دماغي... ».
    ولا يستطيع أحد أن يخرج عن هذا الوصف بحال ....
    وهاك أولاد عائشة وخديجة وياسين عندما خلا بهم السيد أحمد، وجعل يتفحصهم بشغف: «مدفوعا ً بعواطف أصيلة كالأبوة وأخرى دخيلة كحب الاستطلاع. وكان يجد لذة كبيرة فى تتبع ملامح الأجداد والآباء والأمهات فى السلالات الجديدة الصاخبة التي لم تكد تلقن احترامه فضلا عن مخافته، وقد أسره جمال نعيمة ذات الشعر الذهبي والعينين الزرقاوين التي فاقت أمها نفسها حسنا ورواءً، فأتحفت الأسرة بقسمات غنية من الحسن بعضها مشتق من أمها والبعض الآخر متوارث عن آَل شوكت، وعلى هذا المنهج من الجمال سار شقيقاها عثمان ومحمد مع ميل واضح إلى ملامح الأب ـ خليل شوكت ـ خاصة فى عينيه الواسعتين البارزتين ذواتى النظرة الهادئة الخاملة، وعلى خلاف هذا تبدى عبد المنعم وأحمد ابنا خديجة، فبشرتهما وإن تكن شوكتية، إلا أن عينيهما عينا الأم أو الجد على الأصح، أما رضوان فما كان له إلا أن يكون جميلاً حظي بعيني أبيه أو عيني هنية السوداوين المكحولتين وبشرة آَل عفت العاجية، وأنف ياسين المستقيم».
    وكأنما هى مسالة من مسائل الوراثة التي تحل باتباع قوانين "مندل"، فلا أحد يستطيع أن يشذ ليس فى الشكل فقط بل فى الصفات التي تكتسب أيضا:
    فنعيمة صورة من أمها فى كل شيء أما أحمد وعبد المنعم فقد ورث الأخير صفات أمه الخلقية وتدينها الذي ورثته عن أمها، وبذا وافق هواه هوى "الإخوان" فالتحق بجماعتهم، أما أحمد فورث خاله كمال فى صفاته الخلقية والفكرية، والتحق بكلية الآداب – كمرادف لمدرسة المعلمين – وعمل بالصحافة، وألحد، ووجد فى الجماعة الشيوعية ما يناسب ميوله وما طبع عليه، فالتحق بها.
    ورضوان ورث عن أبيه المظهرية بينما انحرفت شهوانيته الطافحة فصارت شذوذاً، وارتمى فى أحضان عبد الرحيم باشا عيسى ..
    إنه سجن المادية الرذل الذي يحول الأناس قوالب جامدة ومن ثم فلا معنى لآخرة ، ولا معنى لجزاء مادام الكل يصدر عن طبع تأصل فى النفس لا حيلة له فيه.
    (7)
    نشأ كمال عبد الجواد فى حضن أم سلبية مولعة بالخرافات، وأب صارم شديد يقضى جل وقته خارج البيت، ورث عنه أنفاَ ضخماَ ...
    ذلك الأنف العجيب الذي ورثته خديجة أيضاً، وكان عليه أن يكافح ويصارع الحياة بهذا الأنف الضخم، إلى "رأس كبير" يبرز عند الجبهة بروزا واضحا جعل عينيه تبدوان غائرتين أكثر مما هما فى الواقع، وكان من سوء الحظ أن نبه إلى غرابة صورته بحال مثيرة للسخرية حين دعاه أحد الرفاق بأبي "رأسين" فأهاج غضبه".
    فكمال لم يكن ليتيه بمنظره كحال أبيه أو ياسين ... كان لابد أن يبحث عن شيء آخر يتيه به ...
    لكن لماذا كان عليه أن يبحث عن شيء آخر يتيه به؟
    الجواب بسيط ..
    بل غاية فى البساطة: لأن هذا طبع ورثه عن أبيه فإن حال شكله الخارجي بينه وبين التيه بجماله، فليبحث عن شيء آخر ..
    وهذا البحث لا يأتي به الفتى عن إدراك بل هو بحث عفوي، وهاهو ذا فى طفولته وفى فرح عائشة نجده بعد أن غادر المنظرة التي يوجد فيها السيد أحمد وصحبه إلى: «الحارة وكأنه يفيق من كابوس ووقف بين الغلمان الذين ازدحم بهم الطريق، وما لبث أن استعاد ارتياحه فتمشى مزهواً بملابسه الجديدة، مغتبطا بحريته التي جعلت من المكان كله – فيما عدا المنظرة المخيفة – مجالا مباحا لقدميه دون معترض أو رقيب».
    فليس كمال إذن بدعا بين أخوته فى مجال الزهو والشعور بالذات، وليس هو بدعا أيضا فى حبه للغناء والطرب، ولا ندرى لم يعجب أستاذنا فى سرده من حب كمال للغناء حيث يقول: «ومن عجب أن سروره بالغناء في تلك الليلة فاق أي سرور عداه، كاللعب مع الغلمان أو مشاهدة النساء والرجال فى مرحهم المطلق أو حتى عيش السراي والألمظية على مائدة العشاء، ولئن أدهش اهتمامه الجدي بسماع جليلة وصابر – الذي لا يتفق مع سنه – كل من لاحظه من النساء والرجال، فلم يدهش أحداً من أسرته التي تعرف سوابقه فى الغناء مع معلمته عائشة وإن كان صوت الأب – الذي لا يسمعونه إلا مزمجرا – أحسنها جميعا».
    فلا مجال للعجب يا أستاذنا بل العجب من عجبك هذا، إذ كل شيء مقرر... وها هو ذا كمال فى نهاية بين القصرين يقف بين الجنود الإنجليز بعد أن تراجع: «أحد الجنود الأربعة إلى خيمة قريبة ثم عاد بعد قليل بكرسي خشبي فوضعه أمام كمال، وما لبث الغلام أن وثب إلى الكرسي فوقف منتصب القامة مشدود الذراعين إلى أسفل ...
    لم يطل بأحد التساؤل إذ سرعان ما علا صوته الرفيع وهو ينشد:
    يا عزيز عيني أنا بدى أروح بلدى
    يا عزيز عيني السلطة خدت ولدى
    غناها مقطعا مقطعاً بصوته اللطيف والجنود يتطلعون إليه فاغري الأفواه ضاحكي الأسارير تلاحق أكفهم ترديده بالتصفيق، وكان أحدهم قد تأثر بما أدركه من بعض معاني الأغنية فراح يهتف " أروح بلدي ... أروح بلدي" فتشجع كمال بما حظي من سرور سامعيه، وأقبل يجود من إنشاده ويحسن من ترنمه ويعلى من صوته، حتى ختمت الأغنية بين التصفيق و الاستحسان الذي شاركت فيه الأسرة من وراء الخصاص بقلوب ملؤها السرور والإشفاق».
    فلم يشذ كمال عن القاعدة...
    لكن أُنسي أستاذنا تلك الشهوانية التي يصطبغ بها آَل السيد؟
    صبرا يا قارئي فها هو ذا كمال فى مراهقته يبدو عربيداً كأبيه سواء بسواء، ولم ينس أستاذنا هذا ، فهذا فؤاد الحمزاوى يذكر لكمال أثناء جلوسهما على قهوة أحمد عبده:
    - قابلت أناسا ً فسألوني عنك ... !
    تساءل كمال، وهو ينزع نفسه بمشقة من تيار الوجد:
    - من ؟
    فؤاد ضاحكا :
    - قمر ونرجس !
    قمر ونرجس ابنتا أبو سريع صاحب المقلى، قبو قرمز، الأزقة المظلمة بعد الغروب، العبث المشوب بالسذاجة الدنسة أو الدنس الساذج، المراهقة المحمومة، ألا يذكر هذا كله؟».
    ثم انقطع هذا العبث لفترة أثناء حبه لعايدة ... وهو حب محموم أيضا سنراه بعد حين، لكن ليس قبل أن تتم سيرة كمال الجنسية، لنرى أنه لم يخرج عن سيرة أسرته قيد شعرة ....
    ليس هذا وكفى بل إنه يصطدم بزبيدة فى الطريق تلك التي كانت مرتعا لأبيه، كما اصطدم ياسين بزنوبة من قبل وقد كانت الأخيرة، مرتعا لأبيه كذلك ....
    ليس هذا وكفى بل يتقابل وياسين عند حجرة وردة الداعرة في انتظار الدور.
    إنها هندسة وتصميم بارع لا تشعر أمامها بعبقرية الفن قدر ما تشعر بمهارة المهندس ....
    أتدرى الفارق يا صاحبي بين قراءة "بلزاك"، وقراءة "دوستويفسكي"؟
    إنه مثل الفارق بين السباحة فى ترعة والسباحة فى بحر زاخر.
    ونجيب محفوظ أقرب إلى بلزاك العظيم. ففترة الحب إذن كانت فترة قدرية تدخل فيها الزمن القاهر، ليبعده قليلا عن التيار! كما تدخل الزمن بموت فهمي، فأبعد السيد وقتا ليس بالطويل عن تياره الجنسي الزاخر ......
    وها هو ذا إسماعيل لطيف يقود صديقه كمال إلى أحد بيوت الدعارة، وإسماعيل لطيف "قديم عهد بالطريق وأهله"، فيذهب به إلى عيوشة أو "وردة" التي يقف كمال أمامها كالمرتبك ثم:
    «نزعت ثوبها بحركة بهلوانية ووثبت إلى الفراش ففرقع تحت ثقلها، واستلقت على ظهرها وراحت تربت بطنها بأناملها المخضبة بالحناء ... انهدم فى لحظة ما أقامه الخيال فى أيام، وجرت مرارة الامتعاض فى ريقه، غير أن الرغبة فى الاكتشاف لم تفتر فغالب انزعاجه ثم حرك ناظريه صوب الجسد العاري حتى استقر على هدف وبدا حينا كأنه لا يصدق عينيه، وأحد بصره فى انزعاج وتقزز حتى شعر فى النهاية بما يشبه الرعب ...
    وتجرد للاختبار الصحي فى منظر بدا له آَية فى الهزل، ثم ساد ظلام دامس».
    ولا ندري لم انهدم فى لحظة ما بناه الخيال فى أيام؟!، ولم جرت مرارة الامتعاض فى ريقه؟!، وقد كانت مراهقته محمومة بالعبث المشوب بالسذاجة الدنسة أو الدنس الساذج!!
    ولا ندرى ماذا كان يظن – الذي رشف من الثقافة المادية الكثيرَ الكثير كما سنبين لك – أنه واجد حين "حرك ناظريه صوب الجسد العاري حتى استقر على هدف"؟!
    أكان يتوقع أن يجد طاقة ورد مثلاً؟!!
    ربما، فهو ساذج كما يقول أستاذنا:
    غير أنه استمر فى سيرته تلك الجنسية حتى النهاية حتى نراه يقول لعطية الداعرة!: «إن ما بيننا ليسمو فوق النقود»، ويصبح زبونا دائما لدى زبيدة القوادة، وتنتهي الرواية دون تغير يذكر فى موقف كمال عبد الجواد بل هكذا سيستمر إلى الموت!.
    نعم فى استطاعتك يا قارئي أن تكتب جزءا رابعا دون أن يخرج شيء مما ستكتبه عن إطار الرواية لأن كل شخصية تسير فى طريقها المجبرة على السير!
    (يتبع)


  10. #10
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    (8)
    وهاك جانبا أخر من جوانب شخصية كمال عبد الجواد استمر معه هو الآَخر من طفولته حتى النهاية ... إنها سذاجته المفرطة
    فيا له من معتقل – وقاك الله شر المعتقلات – يا قارئي العزيز. فهذا صاحبنا كمال عبد الجواد فى طفولته وبعد أن غادرت الأسرة بيت العروس – بيت عائشة: «يرفع بصره إلى والدته ويسألها هامسا:
    متى تعود أبله عائشة إلينا؟
    فأجابته بمثل صوته :
    ـ لا تكرر هذا، وادع لها بالسعادة، ستزورنا كثيرا ونزورها كثيراً.
    فهمس مرة أخرى محنقاً:
    ـ ضحكتم عليَّ!
    فأشارت بيدها إلى الأمام، فى اتجاه السيد الذي كادت تبتلعه الظلمة "هس"، ولكنه كان مشغولاً باستحضار صور مما مر به فى بيت العرس إلى مخيلته، رأى أنها متناهية فى غرابتها وفيما بعثه فى نفسه من حيرة فجذب يدها إليه ليبتعد عن خديجة وأم حنفي ثم همس متسائلا ً وهو يشير إلى الوراء:
    ـ أما علمت بما يدور هنالك؟
    ـ ماذا تقصد؟
    ـ نظرت من ثقب الباب.
    فانقبض قلب الأم جزعاً لأنها حدست أي باب يعنى، ولكنها سألته مكذبة نفسها:
    ـ أي باب؟
    ـ باب غرفة العروس!
    فقالت المرأة بانزعاج:
    ـ يا له من عيب أن ينظر الإنسان من ثقوب الأبواب!
    فهمس من فوره:
    ـ ما رأيته أعيب!
    ـ اخرس .....
    ـ رأيت أبلة عائشة وسي خليل يجلسان على الشيزلنج ...
    وهو ... فلكزته فى كتفه بشدة حتى أمسك، ثم همست فى أذنه:
    ـ يجب أن تخجل مما تقول، لو سمعك أبوك لقتلك.
    ولكنه قال بإصرار وبلهجة من يشعر بأنه يكشف لها عن حقيقة لا يمكن أن تتصور هي وقوعها:
    ـ كان يتناول ذقنها بيده ويقبلها ..
    ولكزته مرة أخرى بقسوة لم يعهدها من قبل فأدرك أنه أخطأ حقا وهو لا يدري.
    وسكت خائفاً، ولكنه عندما كانا يقطعان فناء البيت المظلم متأخرين عن بقية الأسرة – وقد تخلفت عنهما أم حنفي لتسك الباب وتضببه وتترسه – ألح عليه ما يكابد من حيرة ورغبة فى الاستطلاع فخرج من صمته وخوفه وسألها برجاء:
    ـ لماذا يقبلها يا نينة؟!»
    ولم يكن كمال ساعتها دون سن المدرسة بل كان تلميذا فى المدرسة.
    ولا نقصد أن نقول : إن هذا لا يصدق ..
    لا .... لا نقصد هذا، فقد آَمنا بسذاجة كمال الطفل التي أكدها أستاذنا بهذا الموقف ثم راح يقرر ما قرره من قبل – كالعادة – فبعد أن خطبت خديجة من إبراهيم شوكت ، إذا بكمال يتساءل «فى قلق:
    ـ أتتركنا خديجة أيضاً؟
    فقالت الأم تعزيه وتعزى نفسها:
    ـ ليست السكرية بعيدة.
    على أن كمال لم يستطع أن يدلي بما عنده فى حرية كاملة لا حين انفرد بأمه ليلا ً فتربع قبالتها على الكنبة وسألها بصوت ينم عن الاحتجاج واللوم:
    ـ ماذا جرى لعقلك يانينة ؟ ... أتفرطين فى خديجة كما فرطت فى عائشة؟
    فأفهمته أنها لم تفرط فيهما ولكنها ترضى بما يسعدهما. فقال محذراً كأنما ينبهها إلى شيء فاتها ويوشك أن يفوتها مرة أخرى:
    ـ ستذهب هي الأخرى، ربما ظننت أنها ستعود كما ظننت بعائشة، ولكنها لن تعود، وستزورك إذا زارتك كالضيفة فما إن تشرب القهوة حتى تقول لك السلام عليكم، إني أقولها فى صراحة إنها لن تعود.
    ثم محذرا ً وواعظا فى آَن:
    ـ ستجدين نفسك وحدك بلا رفيق، من يعينك على الكنس والتنفيض؟ ... من يعينك فى حجرة الفرن؟ من يجالسنا فى جلسة المساء؟ ...
    ـ من يضاحكنا ؟ ...
    ـ لن تجدي إلا أم حنفي التي سيخلو لها الميدان لسرقة طعامنا كله.
    فأفهمته مرة أخرى أن فى الزواج سعادة ...
    ـ أؤكد لك أنه لا سعادة مطلقاً فى الزواج. كيف يحظى أحد بالسعادة بعيدا ً عن نينة؟
    ومردفا بحماس :
    ـ ثم إنها لا ترغب فى الزواج كما لم ترغب فيه عائشة من قبل ....
    ـ لقد صارحتني بذلك ذات ليلة فى فراشها!
    و لكنها قالت له إنه لا بد للفتاة من أن تتزوج، فلم يتمالك من أن يقول:
    - من قال بأنه لابد للفتاة من أن تذهب إلى بيوت الغرباء!... ثم ماذا تفعلين لو أجلسها الآخر على الشيزلنج و تناول ذقنها هي الأخرى و ... عند ذاك زجرته وأمرته بألا يتكلم فيما لا يعنيه، فضرب كفا بكف وهو يقول منذراً:
    ـ أنت حرة.......وسترين».
    وبعد ان جاوز كمال العاشرة، وسار فى موكب الذاهبين لأداء صلاة الجمعة مع أبيه وأخويه، نراه وقد أمسك به الجنود الإنجليز وكانوا معسكرين فى (بين القصرين)، وسألوه عن وجود بنات فى بيتهم، فقال لهم كمال:
    - " .. إن أبلة عائشة وأبلة خديجة تزوجتا، ولكنهم لم يفهموا كلامي فقلت ليس فى البيت! لا نينة فسألونى عن معنى نينة فقلت ! .. ».
    ولا تحسب أن سذاجة كمال تلك قد هبطت عليه من السماء أو أنها لازمة للطفولة .. لا... لم تهبط عليه من السماء وإنما ورثها عن الست أمينة والدته وقد حدثناك من قبل عنها - أي عن سذاجتها - عندما كانت تستمع إلى الحوار الدائر بين ياسين وفهمي حول ذهاب رجالات مصر إلى إنجلترا ليطالبوا بالاستقلال فقالت لهم: « وكيف يطالبون إخراجهم من ديارنا بعد إقامة طالت هذا الدهر كلّه ؟! لقد ولدنا وولدتم وهم فى بلادنا فهل من "الإنسانية" أن نتصدى لهم بعد ذلك العمر الطويل من العشرة والجيرة لنقول لهم بصريح العبارة ـ وفى بلادهم أيضاً ـ اخرجوا؟!».
    فلا شيء يشذ ولا شيء يستطيع أن يخرج عن الإطار، وها هي ذي سذاجة الفتى تظل ملازمة له فى مراهقته:
    «تساءل كمال، وهو ينزع نفسه بمشقة من تيار الوجد:
    ـ من ؟
    فؤاد ضاحكاً :
    ـ قمر ونرجس !
    قمر ونرجس ابنتا أبو سريع صاحب المقلى، قبو قرمز، الأزقة المظلمة بعد الغروب ، العبث المشوب بالسذاجة الدنسة أو الدنس الساذج».
    فإذا ما تجاوز طور المراهقة، ومر بتجربة حبٍّ عنيف، نجده بعد أن ضاع الحب، واقفاً أمام عيوشة الداعرة «باسماً فيما يشبه السذاجة:
    ـ أنا اسمي كمال ...
    فحدجته بنظرة داهشة وهى تقول:
    ـ تشرفنا ! ....
    ـ ناديني! قولي لي "يا كمال"!
    فقالت و ما تزداد إلا دهشة:
    ــ لماذا أناديك و أنت أمامي كالرزية؟!».
    وحق لعيوشة أن تعجب من سذاجة هذا الرزية ودونها سذاجة الأطفال، لكنها لا تدرك أن سذاجته تلك ملازمة له منذ طفولته وقد ورثها عن أمه ولك أن تنظر إلى هذا الحوار الذي دار بين كمال و إسماعيل لطيف، ستجده صورة أخرى من الحوار الذي دار بين كمال الطفل و أمه بعد أن تركوا عائشة فى السكرية عند آل شوكت:
    « -أحق ما يقال عن ليلة الدخلة؟
    هتف إسماعيل:
    ـ أتجهل بالله هذه الأمور؟
    كيف يقدسون الدنس ؟ ...
    ـ لا أجهلها طبعاً، كنت حتى زمنٍ قريب لا أدرى عنها شيئاً، وثمة أمور أود أن تعاد على مسمعي ...
    قال إسماعيل ضاحكاً:
    ــ إنك تبدو لي أحياناً أحمق أو أبله ...».
    فليست عيوشة وحدها هى التى تعتقد فى سذاجته، فها هو ذا صديقه إسماعيل ينظر إلى كمال كما ينظر إلى أحمق أو أبله فى هذا الجانب على الأقل من وجهة نظر إسماعيل غير أن سذاجته تلك تطبع حياته كلها بطابعها، وهاك جانبه الفكري تبدو فيه تلك السذاجة جلية ... فكمال لم يتلقَ ثقافة يعتد بها فى بيئته الأسرية، فأمه جاهلة سجينة، تحيا فى دنيا الأشباح أكثر مما تحيا بين الأحياء، و للأولياء ـ خاصة الحسين ( ) ـ فى نفسها مكانة تبلغ درجة التقديس ...
    وقد تلقى كمال منها هذا كله ، ولكي ندرك مدى تأثير أمه فى ثقافته تلك الخرافية، فها هو ذا يتلقى مع زميله "فؤاد الحمزاوي" قول مدرس التاريخ فى المدرسة: «إن ضريح الحسين رمز له و لا شيء غير ذلك».
    ولنقارن بين موقف كمال وفؤاد من قول مدرس التاريخ هذا:
    «عادا يومذاك معاً وفؤاد يردد ما قاله مدرس التاريخ الإسلامي، وكان كمال يتساءل منزعجاً: كيف أوتى صاحبه تلك القوة التي تحمل بها الخبر كأنه شأن لا يعنيه؟! أما هو فلم يستسلم لتفكير، لم يستطع أن يفكر البتة، وكيف لثائر أن يفكر؟
    سار كالمترنح من هول الطعنة التي نفذت إلى صميم قلبه، كان يبكى خيالاً نضب وحلماً تبدد، لم يعد الحسين بجارهم، بل لم يكن بجارهم يوماً من الأيام، أين ذهبت القبلات التي طبعت على باب الضريح فى صدق وحرارة؟
    لا شيء من هذا كله، لم يبقَ إلا رمز فى الجامع ووحشة وخيبة فى القلب، وبكى ليلتذاك حتى بلل وسادته، تلك كانت الصدمة التي لم تحرك فى صديقه العاقل إلا لسانه حين علق عليها مردداً أقوال مدرس التاريخ، ألا ما أبشع العقل!».
    لو أن كمال عبد الجواد لم يكن على هذا القدر من السذاجة العقلية، لصححت هذه الحادثة ـ وهى حادثة فى تاريخ كمال ـ إيمانه ـ ، ولجعلته يركن إلى العقل فى الإيمان .. العقل الذي يخاطبه الإسلام ويكلفه ويدعوه للتفكير و البحث و التنقيب فى أرجاء السموات والأرض، غير أن دين كمال مشوش هش مكتظ بالخرافات، وكمال ساذج سذاجة جُبّل عليها بحيث لم تزده تلك الحادثة إلا سذاجة!
    وكانت تلك أول زلزلة قابلها كمال عبد الجواد هزت أركان دينه الخرافي لكنها لم تعدل مساره وتجعله يتجه إلى الحق بل ازداد انحرافاً وازداد سذاجة، فسذاجته من النوع النامي ..
    إذ ماذا يعنى ألا توجد جثة الحسين (  ) فى مقامه فى مصر؟!
    إن لم يوجد فى مصر، فهو فى العراق ـ مثلاً ـ فالحسين (  ) ليس شخصاً خرافياً لا وجود له، و المقام رمز له سواء دفن فى مصر أم فى بلاد الإغريق ..
    فلا مبرر إذن لتلك الزلزلة إلا إذا كان الحسين ( ) شخصاً خرافياً، أما والحسين () حقيقة يقينية فلا معنى لانفعاله هذا على أنه صارخ الدلالة على سذاجة كمال عبد الجواد المفرطة بحيث تجعله بطلاً هشاً خائباً يلفظه القارئ بيسر ..
    لكن .. لمَ ذكر أستاذنا هذه الحادثة ؟
    نعم .. لمَ ذكرها وهى تظهر خيبة بطله وسذاجة تفكيره؟!
    الجواب بسيط يا قارئي، فأستاذنا كما حدثتك فى محاولتنا لرسم تخطيط أولى للرواية فى ذهنه المراحل الثلاث التي مرت بها النهضة الأوربية والتي ذكرها "كونت" .. مرحلة "اللاهوت":
    دين كمال الخرافي بما يعج به من أشباح و أرواح وأضرحة، فإذا جاءت مرحلة العقل، بكى القلب ما كان يعشش فيه ويسكن إليه..
    أنظر إلى قول أستاذنا: "ألا ما أبشع العقل!"، لأنه كشف خواء الفترة الأولى .. فترة المراهقة الكمالية أو المراهقة الإنسانية ..
    فـ " أوجست كونت " ومن تبعه جعل المراحل الثلاث دستوراً أو قانوناً لتطور الإنسانية كلها وليس تطور أوربا وحدها إبان نهضتها ..
    وننتقل خطوة أخرى لنرى المرحلة الواقعية فى حياة كمال عبد الجواد بعد مرحلة السذاجة الدينية ـ اللاهوت ـ ثم العقل الذي كشف به خواء الفترة السابقة، ثم الواقعية أو الوضعية المنطقية عندما اكتشف كمال "دارون" ..
    ساعتئذٍ تزلزل إيمان كمال بالكلية، وأصبح كافراً بالدين .. يصور ذلك كله "نجيب محفوظ"، فيقول بعد أن قرأ السيد أحمد عبد الجواد ما كتبه كمال: حدجه الرجل [أي السيد أحمد] بنظرة براقة متحفزة، أهذا ما يدعونه بالعلم الآن؟ ألا لعنة الله على العلم و العلماء ...
    ـ ماذا تقول فى هذه النظرية؟ لقد لفتت نظري عبارات غريبة تقول إنّ الإنسان سلالة حيوانية، أو شيئاً من هذا القبيل، أحق هذا؟
    بالأمس ناضل نفسه وعقيدته وربه نضالاً عنيفاً أعيا روحه وجسده، و اليوم عليه أن يناضل أباه، غير أنه كان فى الجولة الأولى معذباً محموماً ...
    أما فى هذه الجولة فهو خائف مرتعبٌ، إن الله قد يؤجل عقابه، أما أبوه فشيمته التعجيل بالعقاب ...
    - هذا ما تقرره هذه النظرية !
    علا صوت السيد وهو يتساءل فى انزعاج:
    ــ وآدم أبو البشر الذي خلقه الله من طين ونفخ فيه من روحه، ماذا تقول عنه هذه النظرية العلمية؟!
    طالما طرح هذا السؤال على نفسه، لم يكن دون أبيه انزعاجاً، ولم يغمض له عين ليلتها حتى الصباح، وتقلب فى الفراش متسائلاً عن آدم والخالق والقرآن ، وقال لنفسه مرة وعشراً:
    القرآن إما أن يكون حقا كله أو لا يكون قرآناً، إنك تحمل على لأنك لم تدر بعذابي، لو لم أكن قد اعتدت العذاب وألفته لأدركني الموت تلك الليلة.
    قال بصوت خافت:
    ـ دارون صاحب هذه النظرية لم يتكلم عن "سيدنا" آدم ...
    هتف الرجل غاضبا:
    ـ لقد كفر دارون ووقع فى حبائل الشيطان، إذا كان أصل الإنسان قردا ً أو أي حيوان آخر، فلم يكن آدم أبا للبشر ....
    هذا هو الكفر عينه، هذا هو الاجتراء الوقح على مقام الله وجلاله!! إني أعرف أقباط ويهودا فى الصاغة وكلهم يؤمنون بآدم، كل الأديان تؤمن بآدم فمن أي ملة دارون هذا؟ إنه كافر وكلامه كفر، ونقل كلامه استهتار، خبرني أهو من أساتذتك فى المدرسة؟
    ما أدعى هذا إلى الضحك لو كان فى القلب فراغٌ للضحك، لكنه قلبٌ أفعمته الآلام، ألم الحب الخائب وألم الشك وألم العقيدة المحتضرة، إن الموقف الرهيب بين الدين والعلم أحرقك، ولكن كيف يسع عاقل أن يتنكر للعلم، قال بصوت متواضع:
    - دارون عالم إنجليزي مات منذ زمن بعيد ....
    وهنا ند عن الأم صوت يقول بتهدج :
    - لعنة الله على الإنجليز أجمعين .....
    فالتفتا نحوها التفاتة قصيرة، فوجداها قد تركت الثياب والإبرة وتابعت الحديث، ولكن سرعان ما انصرفا عنها، وعاد الأب يقول:
    - خبرني هل تدرسون هذه النظرية فى المدرسة؟
    التقف حبل النجاة الذي تدلى إليه فجأة، فقال لائذا ً بالكذب:
    - نعم ...
    - أمر غريب! وهل تدرس هذه النظرية فيما بعد لتلاميذك ؟ ! .
    - كلا، سأكون مدرس آداب، لا علاقة لها بالنظريات العلمية ....
    ضرب السيد كفا بكف، ود فى تلك اللحظة لو كان له على العلم بعض ماله على الأسرة من سلطان ، وهتف محنقاً:
    - إذن لماذا يدرسونها لكم؟! هل الغاية إدخال الكفر فى قلوبكم؟
    فقال كمال بلهجة المحتج:
    - معاذ الله أن يؤثر فى عقيدتنا مؤثر .....
    فتفحصه بارتياب وهو يقول:
    - ولكنك نشرت الكفر بمقالك!
    - استغفر الله، إني أشرح النظرية ليلم بها القارئ لا ليؤمن بها، هيهات أن يؤثر فى قلب المؤمن رأى كافر ....
    - ألم تجد موضوعاً غير هذه النظرية المجرمة لتكتب فيه؟
    لماذا كتب مقالته؟ لقد تردد طويلا قبل أن يرسلها إلى المجلة، ولكنه كان كأنما يود أن ينعى إلى الناس عقيدته. لقد ثبتت عقيدته طوال العامين الماضيين أمام عواصف الشك التي أرسلها المعري والخيام، حتى هوت عليها قبضة العلم الحديدية فكانت القاضية، على أنني لست كافراً، لا زلت أؤمن بالله، أما الدين؟ ... أين الدين؟ ذهب! كما ذهب رأس الحسين، وكما ذهبت عايدة، وكما ذهبت ثقتى بنفسي!
    ثم قال بصوت حزين :
    - لعلي أخطأت ، عذري أنني كنت أدرس هذه النظرية ...
    - ليس هذا بعذر، وعليك أن تصلح خطأك ...
    يا له من رجل طيب! إنه يطمع فى أن يحمله على مهاجمة العلم فى سبيل الدفاع عن أسطورة.
    حقا لقد تعذب كثيراً ولكنه لن يقبل أن يفتح قلبه من جديد للأساطير والخرافات التي طهره منها، كفى عذابا وخداعاً، لن تعبث بي الأوهام بعد اليوم، النور النورَ، أبونا آدم! لا أب لي، ليكن أبى قردا ً إن شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة نبي حقا ما سخرت منى سخريتها القاتلة!».
    على أن أستاذنا أخذ الشكل دون الجوهر عندما نقل مراحل "كونت" التي صور بها تاريخ أوربا الفكري إلى مراحل كمال الفكرية ...
    فقد خرجت أوربا عن سلطان الكنيسة لما حرقت العلماء بعد أن اكتشف العلم حقيقة مؤكدة لا يؤمن بها رجال الدين، ولا تقرها الكنيسة، ومن ثم وجب الخروج إن خالف الدين حقيقة مؤكدة يقينية كدوران الأرض حول الشمس.
    اكتشف العلم هذا، وتأكد بالنظر على يد جاليليو، أما دارون فمجرد نظرية لم تثبت علميا ولا سبيل إلى إثباتها البتة .......
    وفروض النظرية تدل على شيء ونقيضه في آن واحد كما حدثناك من قبل، فإذا قال دارون ما قاله، وقال القرآن بأن أصل الإنسان آدم، فهل نترك القرآن؟!
    هل يترك كمال القرآن اليقيني إلى فرض نظري لا سبيل إلى ثبوته بل يفضحه الواقع والعقل؟!!
    لا يحدث هذا إلا من شخص ساذج أحمق!!...
    ولا نقول: لمَ لم يقارن كمال بين الإسلام والكنيسة، ليستريح ويهدأ، لأن كمال لا يدين بالإسلام وإنما بدين خرافي هش يطالعنا به نجيب محفوظ في كتاباته، ويطالعنا به غربان ثقافتنا وخنازيرها!
    وقد دلل نجيب محفوظ على حمق بطله وجهله المبين في موضعين:
    الأول: عندما سأل أمه رأيها – لا لأنه يدرك صدق رأيها حيث لم "تكن ممن يؤخذ رأيهم في مثل هذا الأمر".
    ولا في غيره – في اختياره لمدرسة المعلمين لا الحقوق، فوافق رأيها رأيه، وهاك منولوجاً داخليا يحدث فيه نفسه وقد جاء أستاذنا بالحوار من أجل هذا المنولوج - ما علينا - :
    « أليس عجيبا أن يكون رأي أمه خيرا من رأي أبيه؟
    ولكنه ليس برأي إنه شعور سليم، لم تفسده ممارسة الحياة الواقعية التي أفسدت رأي أبيه.
    ولعل جهلها بشئون العالم هو الذي صان شعورها عن الفساد ترى ما قيمة الشعور – وإن سما – إذا كان مصدره الجهل وإلا يكون لهذا الجهل نفسه أثره في تكوين آرائه؟.........
    ثار على هذا المنطق، وقال يحاوره: إنه عرف الدنيا خيرها وشرها في الكتب وآثر الخير عن إيمان وتفكير، وقد يلتقي الشعور الفكري الساذج بالرأي الحكيم دون أن تهوى سذاجة الفطرة من أصالة الحكمة .
    أجل! إنه لا يشك لحظة في صدق رأيه وجلاله ، ولكن هل يدري ماذا يريد؟
    ليست مهنة المعلم بالتي تجذبه، إنه يحلم أن يؤلف كتاباً، هذه هي الحقيقة، أي كتاب؟ لن يكون شعراً، إذا كانت كراسة أسراره تحوي شعراً، فمرجع ذلك إلى أن عايدة تحيل النثر شعراً لا إلى شاعرية أصيلة فيه، فالكتاب سيكون نثراً، وسيكون مجلدا ضخما في حجم القرآن الكريم وشكله، وستحدق بصفحاته هوامش الشرح والتفسير كذلك ، ولكن عم يكتب؟ ألم يحو القرآن كل شيء؟
    لا ينبغي أن ييأس ليجدن موضوعه يوما ما، حسبه الآن أنه عرف حجم الكتاب وشكله وهوامشه، أليس كتاب يهز الأرض خيراً من وظيفة وإن هزت الأرض ؟!
    كل المتعلمين يعرفون سقراط، ولكن من منهم يعرف القضاة الذين حاكموه».
    فهل يحدث شاب نفسه بهذا الهراء؟!
    شاب يقول عنه مبدعه أنه مثقف ومتدين – وذلك حدث قبل اكتشافه لدارون – ويحب القراءة بل هو بها شغوف مغرم حتى أنه عرف الدنيا خيرها وشرها من الكتب ....
    فهل مثل هذا الشاب إذا حدث نفسه أو حدثته نفسه عن تأليف كتاب، لا يعرف موضوعه ولا أي شيء عنه، لكنه يعرف أنه يجب أن يكون فى حجم "القرآن" وشكله، وستحدق بصفحاته هوامش الشرح والتفسير! فهل هذا كلام مثقف؟!
    وأنا لا أتحدث عن الجانب الديني وإلا سيظهر أستاذنا فى حجم "برغوث" حقير كما يبدو غربان ثقافتنا فى حجم القمل ونتانة الجيف حين يتحدثون عن الدين، وإنما أتحدث عن الصدق الفني ـ دعك من الواقعي ـ، فلا يملك عاقل أن يقول مثل هذا الهراء، لأنه بلا معنى ....
    فهل إذا أراد مؤلف أن يؤلف كتابا فما عليه إلا أن يمسك بكتاب ما، ويقول: أريد أن أكتب كتابا كهذا فى حجمه وشكله؟!!
    وهل يقول عاقل : إن القرآن يحوى كل شيء، فما جدوى التأليف إذن؟ .... إلا إذا كان ساخرا ً أبله ...
    إن معنى أن كل شيء فى القران غير المعنى المقصود فى السياق وهذا يدل على حمق كمال وسذاجته المفرطة.
    أما الموضوع الثاني الذي دلل فيه نجيب محفوظ على حمق بطله وسذاجته، وجهله الفاضح، فعندما رأى والده يتألم، لأنه لا يقدر على الصلاة بعد أن مرض ولم يستطع الطهارة، ومع هذا تركه كمال دون أن يخبره بأمر فقهي بسيط وهو أن المسلم لا تسقط عنه الصلاة بحال ما دام فى عقله وعى ويستطيع أن يصلى قاعداً أو راقداً أو حتى بخاطره، وله فى التيمم فسحة كيلا يقطع صلته بربه لكن كمال (المتدين) و(المثقف) لا يعرف هذا الأمر البسيط جدا، فإذا قرأ كمال شيئا يقول: إن أصل الإنسان قرد، فلا بد أن ينهار لأنه أحمق لا يستطيع أن يفكر، وساذج بالطبع والوراثة أيضا ...
    ساعة يعرف هذا سيترك الدين – ولا بد – ويكفر به ، ويسخر ممن حوله، ولو كان عاقلا ً أو به ذرة من عقل لفكر أو لقرأ ما ينقض دارون، لكنه ساعتئذ لم يكن ليبقى كمال عبد الجواد الذي صوره نجيب محفوظ بل لم تكن الثلاثية لتظهر إلى عالمنا ونستمتع بها وهو – أي نجيب محفوظ – ما كتبها إلا ليبرز تلك النقطة ويقرر تلك الحقيقة التي جعلها مقدمة منطقية لروايته ....
    وهى : حقائق العلم تظهر خرافة الإيمان أو "الدين والعلم ضدان لا يجتمعان"!
    لكن،كان من الممكن أن يكتشف كمال – وهو قارئ مثقف – أن النظرية لا معنى لها بعد فترة، فيعود إلى الإيمان غير أن هذا لم يحدث، وإنما تعذب كمال وجاءت حيرته أو قل عذابه هذا لأنه ود أن يؤمن بقلبه فقط مع وجود النظرية، لأنها فى ذهنه حقيقة كبرى يقينية.
    وإذن فقد حاول كمال التوفيق بين كفره بالدين، وراحة روحه، وهذا يذكرك بموقف "هنرى برجسون" (1859 – 1941م) وهو الفيلسوف الذي أغرم به نجيب محفوظ ، وكتب عنه أكثر من مقالة فى فترة شبابه.
    وكان "برجسون" يشيد بالتصوف المسيحي، لذا كثر ذكر التصوف على لسان كمال بل على لسان أبطال محفوظ كلهم، لأنه يعده الطريق الحق لأن الله لا يمكن التدليل على وجوده بالأدلة العقلية وإنما بالشعور. أما الدين فخرافة، وباطل الأباطيل بعد أن أظهر لنا دارون نظريته في أصل الأنواع.
    وهذا الجهل الذى تبنى عليه مواقف لا يختص به كمال وحده فى الرواية بل يرثه عنه ابن أخته أحمد شوكت، وسننقل حوار جماعه من الشبان حول الإسلام، لتعرف مدى السطحية التي أصابت شباب الرواية.
    ولا نحدثك عن الواقع إذ الصورة قاتمة بعد أن احتل الغربان منابر الرأي والتوجيه، ونزعوا الحقيقة من الصدور، وبثوا فى الآفاق دينا مشوها من صنعهم هم، فتلقاه الناشئة على أنه الدين، فنبذوه وإن ظل عاطفة فى القلب لا معنى لها ولا قيمة حتى صرنا أذل الخلق طراً، لا قيمة لنا ولا رأى بل يضرب بعضنا رقاب بعض، ويحصدنا العدو ونحن نهتف له، ونبتسم فى سذاجة هي أشبه بسذاجة كمال عبد الجواد !
    وإليك هذا الحوار الذي نبدأه بقول عبد المنعم الإخواني:
    - "لقد سوى الإسلام بين الرجل والمرأة فيما عدا الميراث".
    فقال أحمد متهكماً:
    - حتى فى الرق ساوى بينهما!
    فاحتد عبد المنعم قائلاً:
    - أنتم لا تعرفون دينكم ، هذه هي المأساة!
    والتفت حلمي عزت إلى رضوان ياسين، وسأله باسماً:
    - ماذا تعرف عن الإسلام؟
    فسأله الآخر بنفس اللهجة:
    - وماذا تعرف أنت عنه؟
    فسأل عبد المنعم أخاه أحمد:
    - وأنت ماذا تعرف عنه حتى لا تهرف بما لا تعرف؟
    فقال أحمد بهدوء:
    - أعرف أنه دين، وحسبي ذلك، لا أومن بالأديان ! ...
    فتساءل عبد المنعم مستنكراً:
    - ألديك برهان على بطلان الأديان؟
    - ألديك أنت برهان على حقيقتها؟
    فقال عبد المنعم وقد ارتفع صوته حتى جعل الشاب الذي يجلس بينه وبين أخيه يردد رأسه بينهما كالمنزعج:
    - عندي ، وعند كل مؤمن، ولكن دعني أسألك أولاً كيف تعيش؟
    - بإيماني الخاص، إيماني بالعلم والإنسانية وبالغد، وبما ألتزمه من واجبات ترمي فى النهاية إلى تمهيد الأرض لبناء جديد.
    - هدمت كل ما الإنسان إنسان به...
    - بل قل بقاء عقيدة أكثر من ألف سنة آية لا على قوتها، ولكن على خطة بعض بني الإنسان، ذلك ضد معنى الحياة المتجددة، ما يصلح لي وأنا طفل يجب أن أغيره وأنا رجل، طالما كان الإنسان عبدا ً للطبيعة والإنسان، وهو يقاوم عبودية الإنسان بالمذاهب التقدمية، ما عدا ذلك فهو نوع من الفرامل الضاغطة على عجلة الإنسانية الحرة!
    فقال عبد المنعم، وكان فى تلك اللحظة يكره فكرة أخوة أحمد له:
    - الإلحاد سهل، حل سهل هروبي، هروبي من الواجبات التي يلتزمها المؤمن حيال ربه ونفسه والناس، وليس من برهان على الإلحاد يمكن أن يعد أقوى من البرهان على الإيمان، فنحن لا نختار هذا أو ذلك بعقولنا بقدر ما نختاره بأخلاقنا ...
    وتدخل رضوان قائلاً:
    - لا تستسلما لعنف المناقشة، كان من الأفضل لكما كأخوين أن تكونا من حزب واحد ...
    وإذا حلمي عزت يندفع قائلاً، وكان أحيانا تعتريه نوبات ثائرة غامضة:
    - إيمان ... إنسانية ... الغد! كلام فارغ، النظام القائم على العلم وحده ينبغي أن يكون كل شيء، يجب أن نؤمن بشيء واحد هو استئصال الضعف البشرى بكافة أنواعه، ومهما بدا علمنا قاسيا، وذلك للوصول بالبشرية إلى مثال قوى نظيف!
    - أهذه مبادئ الوفد الجديدة بعد المعاهدة؟
    بعض الحقائق فى كومة زبالة ... أو قل: ثرثرة فى ثرثرة!
    ولو حللنا كلام هؤلاء الشباب وما فيه من سقوط – الإخواني والشيوعي والعلماني – لزاد حجم هذا الكتاب أضعافا، على أن العجب أن هذا هو كلام كتابنا الكبار أيضا!! .. فكيف يبنى عاقل كأحمد شوكت – مثلا – حياته وموقفه من الإسلام على كونه دينا وكفى وحسبي ذلك، لا أومن بالأديان!
    وهذا الكلام الساقط فى منطق العقل يستخدمه كتابنا الكبار فى ساحتنا الثقافية المنكوبة بهم، فما ينكر منكر الإسلام إلا لأن الغرب نهض عندما أنكر الدين ... وكفى !!
    وقبل أن نترك شخصيات الثلاثية المحفوظية، ننظر إلى الجانب العاطفي عند كمال عبد الجواد وقد أخذ مساحة كبيرة فى الرواية.
    (9)
    هل خرج كمال عبد الجواد بحبه هذا لعايدة شداد عن سيرة أسرته؟
    إنها أسرة شهوانية بمعنى أنها تصدر عن الجنس فى حركتها ...
    وقد رأينا كمال يتخذ نفس الخط الشهواني مع قمر ونرجس فى مراهقته المحمومة حتى وصل إلى بيوت الدعارة ...
    وقد حدثتك من قبل عن رأى ياسين فى المرأة عندما قال : «كل امرأة لعنة قذرة ... لا تدرى إمرأة ما العفة إلا حين تنتفي أسباب الزنا»، وهذا الرأي يتفق مع رأى كمال الذي يرى «الشهوة غريزة حقيرة، وأمقت فكرة الاستسلام لها»، وفرق كمال بين الحب القدسي والزواج عندما قال إن "الذين يحبون حقا لا يتزوجون"!
    فهو إذن رأى واحد يرى فى الشهوة قذارة وإن لم يستطع الفكاك منها ....
    ويذكرنا دوران كمال حول بيت آل شداد فى ليلة دخلة عايدة، بدوران السيد وحيرته أمام عوامة زنوبة بعد أن ظن أنه قطع علاقته بها، لكن الحب كان قد تمكن من قلب السيد كما تمكن حب عايدة من قلب كمال، فوقف مذهولاً ينظر إلى شباك حجرتها ، ليلة دخلتها ....
    قضبان ....
    ونحن نعيد سيرة أسلافنا بصورة أو بأخرى!
    نفس قانون "لامارك"، ونفس المادية التي طبعت الحياة فى أوربا بعد أن ألقت عن عاتقها نير الكنيسة، لكنها استبدلت به سجنا معتما قذراً؛ سجن المادية الرذلة!!
    ومع أن عايدة شداد ليست باهرة الجمال – بل إن عائشة أو نعيمة أجمل منها بكثير جدا ً – وهى بعد فتاة ماكرة، لعبت بعواطف فتى ساذج ككمال، لتثير غيرة حبيبها "حسن سليم"، وتدفعه دفعاً إلى الاقتران بها، وتذيع سر كمال بين أهلها وأصحابها ليكون محط سخريتهم إلا أنه – أي كمال – يغرم بها مع هذا كله، وهذا ما يؤكد لنا سذاجته المفرطة ...
    ومع حبه هذا لها إلا أنه لم يفكر فى الاقتران بها على الإطلاق!
    إنه لا يريد هذا الزواج فـ : "الذين يحبون حقا لا يتزوجون"
    وكيف يتزوج بمن يعبده ويقدسه؟!
    وها نحن نراه بعد أن كشف لها عن حبه، فسألته عما وراء هذا الحب – فهي تحيا فى دائرة البشر، ولم تخرج منها إلى دائرة آلهة الأولمب تلك التي يضعها فيها كمال – فيتساءل : «فى حيرة:
    - هل وراء الحب شيء؟!
    ها هي تبتسم، ترى ما معنى ابتسامتها؟ لكنك غير الابتسام تروم، عادت تقول:
    - إن الاعتراف بداية وليس نهاية، إني أتساءل عما تريد ..... ؟
    فأجاب بحيرة أيضا:
    - أريد ... أريد أن تأذني لي بأن أحبك ...
    فما ملكت أن ضحكت، ثم تساءلت:
    - أهذا ما تريد حقا؟! ولكن ماذا أنت فاعل إذا لم آذن لك؟
    فقال وهو يتنهد:
    - فى هذه الحال أحبك أيضاً.
    فتساءلت فيما يشبه الدعابة، الأمر الذي أرغبه:
    - فيم إذن كان الاستئذان؟
    حقا ما أسخف هفوات اللسان، إن أخوف ما يخاف أن ينحط على الأرض فجأة كما سما عنها فجأة، وسمعها تقول:
    " أنت تحيرني، ويبدو لي أنك تحير نفسك أيضا».
    فالزواج يبعثر هذا المعبود، ويجعله من لحم ودم، وبذا يتعذب من مجرد الفكرة.
    لكن ما سر هذا يا قارئي؟ ...
    أرى أن حب عايدة جاء كتعويض نفسي عن مأساته الدينية التي حدثت إبان اكتشافه أن ضريح الحسين خاو من جسده ... كانت نفسه هواء ولا بد من شيء مقدس يعيد إليه توازنه، وما دام حبه لعايدة حبا مقدساً فلا معنى للزواج، لأنه بالزواج سيكتشف أنها امرأة ذات شهوة، وأن لديها ما لدى "وردة" الداعرة ....
    كان سيصدم مرة أخرى بالحقيقة .. بأن معبوده ليس مقدساً، ولعل هذا سر ثورته عندما علم بزواج حسن سليم منها إذ كيف تتزوج الملائكة بل الآلهة؟!!
    كيف يتزوج المعبود؟! ...
    وانظر إلى حديث كمال عن عايدة، ستجد هذا المعنى واضحاً، فها هو ذا يحدث باطنه وهى فى مصيف رأس البر: «تقلب كمال على جنبه ثم استلقى على ظهره مسترخيا ... لتسعد بك رأس البر ..... ألم تلحظي حين الوداع اكتئابي؟ كلا لم تلحظي شيئاً، لا لأني كنت واحداً بين كثيرين ولكن لأنك يا حبيبة لا تلحظين ... كأنما كنت شيئا لا يسترعى انتباهك ... أو كأنما أنت مخلوق بديع غريب استوى فوق الحياة يطالعنا من عل بعينين هائمتين فى ملكوت لا ندريه».
    ويبدو هذا الحب جبرا ككل شيء فى حياة شخصيات "نجيب محفوظ"، فكمال يخاطبها فى حواره ذاك الباطني: "يا عجبا أكان وجودك ينيل أملاً أفقدنيه البعاد؟ كلا يا قضائي وقدري».
    و: «هل حقا مضى زمن قبلها خلا من الحب قلبي، وأقفرت من تلك الصورة الإلهية نفسي؟».
    و: «هذا الحب طاغية يتيه فوق كافة القيم وفى ركابه يتألق معبودك؟».
    و: «خديجة وعائشة صورتان متعارضتان .. تأمل جيداً، ايهما تظن الاجدر بأن تكون معبودتك على مثالها؟».
    و: «كان يضمر للعباسية إعجابا كبيرا ويكن لها [وهى موطن المحبوب] حبا وإجلالا يبلغان حد التقديس».
    أما وهو فى العباسية فحيثما «ولى وجهه فثمة مناد يدعو القلب للسجود» ... ليس هذا وكفى بل إن الخطاب الذي أرسله حسين شداد الأخ الأكبر لعايدة، ينظر إليه كمال: "بعين حالمة شاردة وامقة ساجدة عابدة متعبدة"، وقد تحول الخطاب الذي ربما مسته يدها إلى: "رمز قدسي تهفو إليه روحه ويشتاق إليه قلبه» ... وعندما حضر إلى القصر فما كان من: «الهين على قلبه الخفاق أن يمشى فى هذا المحراب الكبير»، ولما تعطف المعبود، وقبل أن يخرج كمال معه فى رحلة لتذوب الحواجز لكنه لازال ينظر إليها كمعبود: «المعبودة تخطر بقوامها البديع فى فستان سنجابى ... فرد عليها كمال بابتسامة حائرة وسجدة من رأسه ... وانتظر حتى دخلت بدور فالمعبودة».
    ويؤكد كمال لنفسه أنها معبودة كيلا ينسى نفسه ، ويتمنى الأماني فكل «الدلائل تشير إلى أنه لا اتصال بالمعبود إلا بالتراتيل أو الجنون فرتل أو جن».
    و: «المعبود الذي يشرف عليك من فوق السحاب يتعالى حتى على أهله المقربين» ... إلى غير ذلك وهو كثيرٌ كثير ...
    فهى إذن صورة قدسية كانت بديلا ً لانهيار صورة الحسين القدسية فى نفسه، وما كان ليتزوجها و إلا لانهار تماما ًكما انهار ساعة علم بخلو ضريح الحسين من جسده .. وما أفزعه إلا زواجها من "حسن سليم" ـ أو من غيره ـ إذ كيف يتصور أن يتعرى المعبود ويضاجَع؟!
    ولهذا يذكر كمال فى حديثه الباطني بعد أن دخلت عايدة عش الزوجية: «ما لكل شيء يبدو خاويا! الأم .. الأب .. عايدة ، كذلك ضريح الحسين؟».
    فإن كانت ثمة حيوانية شهوانية فيه، فلتكن مع غير عايدة ، ومع غير بدور وكان من الممكن أن يقترن بها فى نهاية السكرية ، لكنه رفض لأن بها شبها بمعبوده القديم .
    (يتبع)


  11. #11
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الخامس

    (1)
    في الثقافات ذات الطابع السماوي – اليهودية والمسيحية والإسلام – تبرز فيها ناحيتان أو جانبان: هناك الجانب الديني العبادي أو تلك الشعائر التي تخص دينا ولا غيره، وثمه جانب آخر إنه الجانب الثقافي أو الحضاري وهو مجموعة القيم التي تنظم حركة المجتمع ... ولا يطغى جانب على جانب بحال إلا حدث خلل». ويبرز الجانبان إبان عهود النهضة وفتوة الدولة أما إبان اندحارها فيتنحى الجانب الثقافي أو الحضاري، ولا يبقى غير جانب الشعائر وقد يضعف ويبتعد عنه الناس ..
    على أن أصحاب الثقافات المتنحية لا يقال عنهم "الآخر" فى ظل الثقافه السائدة ..
    لا يقال عنهم هذا إلا إذا كانت الثقافة السائدة شديدة القصور وضعيفة بحيث لا تقدر على احتواء أصحاب الثقافات المتنحية .. ولنضرب أمثلة تظهر لنا الصورة من تاريخ الإنسانية.
    ففي فترة سيادة الثقافة الإسلامية، كان المجتمع يضم أصحاب الديانات الأخرى – اليهودية والمسيحية – ومع هذا فإنه لم يمنعهم حقهم فى أداء شعائرهم، ولم يمنعهم حقا هو لهم؛ فلهم من الحقوق وعليهم من الواجبات ما على أصحاب الثقافة السائدة وما لهم سواء ً بسواء، فلا يكرهون على ترك دينهم وشعائرهم ولا يحرمون حقا مدنيا هو لهم وهم سواسية – أي أصحاب الثقافة السائدة والمتنحية – أمام الدستور والقانون.
    وقد رهن رسول الإسلام وقائد دولته درعه لدى يهودي، ولو أن فى الأمر خللاً، لسارع اليهودي إلى إعطاء ما عنده، زلفى لقائد الدولة، ليحفظ له مكانته، وكيلا يجور عليه النظام السائد، لكن اليهودي كان واثقا كل الثقة من وضعه فى النظام السائد ومن كونه لن يمنع عن أخذ ماله دون بخس أو تأنيب.
    وفى عهد الفاروق (  ) ذهب القبطي من مصر إلى المدينة، ليعرض على أمير المؤمنين شكواه، لأنه – أي القبطي – فقه القانون الإسلامي وعرف ما لم يعرفه بغاث المثقفين عندنا، فأخذ عمر حقه ممن ظلمه ..
    إن المسألة ليست فى مدى عدل عمر (  ) وقوته فى الحق، وإنما فى معرفه القبطي بطبيعة الثقافة السائدة، لذا ذهب إلى الفاروق وهو على يقين من أن حقه سيأخذه وسيقتص من ابن الأكرمين ...
    فالثقافة الإسلامية تبنى حضارة إسلامية يشارك فى رفع قواعدها المسلم واليهودي والمسيحي، ويعملون على حفظ سلطانها وإن اختلفوا فى أداء الشعائر والطقوس، فلكل دينه، وتأتى الثقافة الإسلامية لتحافظ على هذا الدين ـ أي دين ـ وإذن فالمسيحي أو اليهودي فى الحضارة الإسلامية لا يعد " آخراً"، وليست حريته تلك وحقه هذا هبة حاكم أو قرار نظام وإنما هو منهج سماوي وأساسي من أسس الثقافة الإسلامية.
    وفى العصور الوسطى عندما سادت ثقافة الكنيسة فى أوربا وكان لها السلطان عذبت اليهود وحرّقتهم، ونكلت بالمسلمين فى الأندلس، ولك أن تنظر إلى تاريخ محاكم التفتيش فى الأندلس – مثلا – وإلى ما لاقاه اليهود في ألمانيا فى عهد سيادة ثقافة الكنيسة .. فإذا ما جاء دور الثقافة اليهودية وكانت لها دولة فى فلسطين بالقوة، ارتكبت الفظائع وما يندى له الجبين خجلاً مع الشعب الفلسطيني صاحب الأرض.
    أما الثقافات الوضعية تلك التي سادت بعد انهيار سلطان الكنيسة، وضعف الثقافة الإسلامية، كالعلمانية والشيوعية، فلم يكن الحال أفضل لأهل الأديان مما كان عليه إبان سيادة الثقافة التي رفعت المسيحية شعاراً لها:
    فالشيوعية هدمت المساجد والكنائس، وحرمت التدين على الناس، أما العلمانية فها هي ذي تشعل النيران فى المسلمين وتمنعهم عن أداء شعائرهم، وما منع الحجاب الإسلامي فى فرنسا عنا ببعيد. وفى انجلترا طالعتنا وكالات الأنباء بشرطي يضع حذاءه فوق ظهر مسلم أو رقبته و يقول له: «أين ربك ليخلصك؟!!!!!!!».
    ووصل الحقد الأعمى لدرجة لا يتصورها عقل فقد ذكرت جريدة "الجمهورية" القاهرية تحت عنوان "تخريب مقابر المسلمين فى لندن": "صرح ناطق باسم الشرطة البريطانية بأن مخربين دنسوا عشرات المقابر للمسلمين فى جنوب شرق العاصمة لندن، قال راديو لندن إن شواهد القبور قد تم إتلافها وتدنيسها مع العبث بها».
    إن المسلمين يعيشون فى ظل الثقافة العلمانية التي هي أقرب إلى الكنيسة فى أمريكا ؛ فى رعب وخوف؛ وقد شهد العالم كله كيف زرع الصرب أجنة الكلاب فى أرحام المسلمات دون أن تهتز شعرة فى رأس هيئة الأمم!
    فلا مجال للمقارنة بين الثقافة الإسلامية وأي ثقافة أخرى.
    التاريخ يشهد بهذا، وكذا النصوص الحافظة للثقافة، ومع كوننا لا نحيا فى ظل ثقافة إسلامية سائدة إلا أن المسلم لا يشعر بأن المسيحي الذي يعيش معه فى بلد واحد غريبا عنه؛ فليس المسيحى آخراً كما يتحدث كتابنا حتى صدعوا رؤوسنا بهذا الأمر حتى وصل الأمر درجة مرعبة حقا، حيث أصيب المسلم بالرعب من هذا الآخر، فهو يخافه ويخشى أن يمسه لأنه ( الآخر) المقدس بدلا من أن نكون إخوة ...
    وكنت أتمنى أن يظهر أستاذنا نجيب محفوظ الصورة فى سرده على حقيقتها كما هو عليه فى ثقافتنا الإسلامية الفريدة على لسان كمال عبد الجواد (المثقف) أو (رياض قلدس) لكن جاء كلامه فى سرده أو على ألسنة أبطاله هشا غثا غامضا كسائر الحديث الذي يقال على ألسنة من يريدون إشعال الفتنة لا إخمادها..
    وكسائر الحديث الذي يراد به اختلاق معارك وهمية لا وجود لها لكن الخوف أن يصدق البسطاء هذا ؛ فيضيع الوقت والجهد فى غير محله..
    (2)
    كثيرا ما تصدمك عبارات لا مبرر لها فى الرواية؛ لا مبرر لها من الوجهة الفنية، ولا مبرر لها من أي وجهة. والحق أن المرء يصاب بالذهول حين يرى مثل هذه البذاءات لدى كتابنا الكبار، فيلتقط الصغار وما أكثرهم هذه البذاءات منهم ويظنونها فنا، وما هي بفن بل قلة ذوق وانحطاط شعور وغباء نفس ..
    أقول: يلتقط الصغار البذاءات دون أن تكون لهم ملكة الكبار فى الإبداع، فيأتي عملهم أي عمل الصغار فى صورة بذاءات بحتة، ولما كان الجو العام العالمي والمحلي يريد ضرب هويتنا بأي شكل، فإن هذه البذاءات التي يلفظها الصغار تجد رواجا وقد تصنع من جرو حقير كاتبا كبيراً، ثم تجد هذا الجرو يستشهد بما كتبه مبدع كبير كأديبنا نجيب محفوظ؛ فيقول لك:
    لست بدعاً، فها هو ذا أستاذ الأساتذة يذكر هذا دون غضاضة!.
    وهاك مثالا يأتيك من بين القصرين والسيد أحمد عبد الجواد لدى زبيدة الداعرة ، وقد سألها بقلق :
    - لماذا لم تتكرمي بضربي؟
    فهزت رأسها وقالت ساخرة ....
    - أخاف أن أنقض وضوئي ...
    فتساءل فى لهفة:
    - أأطمع فى أن نصلى معا ؟
    فتساءلت فى دلال ساخر ....
    - أتعنى يا صاحب الفضيلة ،الصلاة التي هي خير من النوم؟
    - بل الصلاة التي هي والنوم سواء».
    هذا الحوار البذيء فى سير الأحداث؟ أنقول: إن الرجل قد استغفر الله....
    لكن هذا استغفار الساخر القارح يا سيدى: ثم إن الكلام لا ينسجم مع شخصية السيد أحمد ذلك الرجل المخلص في إيمانه، وكان الأولى به والأجدر – كي تنسجم الشخصية – ألا يتحدث في هذه الأمور، ليصفو له عشقه لا أن يذكر هذا الكلام، ليذكر به ربه ومن ثم يبتعد عن هذه الرذيلة .....
    لكن المؤلف أقحم على لسانه هذا الحديث الرذل رغما عنه وإلا فإن من طباع اللصوص والبرمجية كرههم لذكر رجال الشرطة كذا طباع الفساق والزناة وهلم جرا من لصوص المجتمع فإنهم يتحاشون ذكر الله، ويرون أنفسهم صغارا ويجب ألا يذكروا العظيم فى مواطن اللهو ... تلك جبلة فى النفوس الداعرة فما بال أستاذنا يقحم هذا الكلام الرذل على لسان السيد أحمد عبد الجواد؟
    ثم ماذا أفاد هذا اللغو سياق الأحداث؟ وسنذكر أمثلة على هذا اللغو الداعر لترى بعيني رأسك كيف أن هذا اللغو لا يقدم ولا يؤخر فى سياق الرواية، ولا يعطيها قيمة بل هو قيح محض يصيب المرء بالغثيان!
    وهاك أمثلة من أمثلة كثيرة تكتظ بها الرواية، ولا أدرى لم لمْ يتحفنا الإخوة من البنيويين بعددها بدلا من عدة نوافذ بيت بين القصرين أو قصر الشوق!
    عند ما ذهب كمال مع حسين شداد وأختيه لزيارة الأهرام:
    «نحن ذاهبون إلى زيارة قرافة جدنا الأول ... فقال كمال ضاحكاً «لنقرأ الفاتحة بالهيروغليفية»، وعندما ذهب كمال إلى زبيدة في بيت الدعارة الذي تديره، وقد تناول: "كمال" الكأس ، وهو يقول ضاحكاً:
    - من المؤسف حقا أنى جئت بعد فوات الأوان! وهى تلكمه لكمة وسوست لها الأساور الذهبية التي تغطى ساعديها:
    - يا عيب الشوم، أكنت تريد أن تعيث فسادا ً حيث سجد أبوك؟!».
    ***
    واسمع لهذا الحوار الذي دار بين الشواذ جنسياً في منزل عبد الرحيم باشا: «ونادى على مهران السفرجي، فسأله الباشا:
    - لماذا تناديه؟
    - ليهيئ لنا مجلس الطرب! ...
    فقال الرجل وهو ينهض:
    - انتظر حتى أصلى العشاء! ...
    فتساءل مهران باسما ً فى خبث:
    - ألم ينقض سلامنا وضوءك؟!».
    ***
    وهاك أحمد شوكت الملحد يعرض على سوسن حماد الزواج ويدعم موقفه أو يستشهد على ضرورة الزواج بقوله: «ألم تسمعي عن النبي الذي كان يجاهد ليل نهار دون أن يمنعه ذلك من أن يتزوج تسعا؟!».
    بالله قل لي أي فائدة فى هذا الهراء؟ .. إن حمد شوكت مثلا ملحد ولا يعرف شيئا عن الدين وزميلته هي الأخرى مثله فما فائدة أن يحاجها بهذا الكلام؟!!
    لكن .. قف قليلاً، إنها علل الحضارات إبان عجزها وضعفها حيث تكثر الميكروبات والفيروسات وتتكاثر فى جسم الحضارة وتصوب ناحية عمودها وأساسها ظنا منها إنها ستميته وتقضى عليه، غير أننا لا نصيب غيرنا وما يرتد السهم إلا إلى صدورنا نحن، فهل يقف المبدعون قليلا قبل أن يخوضوا فى مثل هذه البذاءات دون داع عقلي أو فني أو أي داع على الإطلاق، على أن أعمالا كثيرة لمحمد جبريل وسعد مكاوي وغيرهما لم تجد بعد من يلقى عليها ضوءا مغايراً لأضواء نقاد ساحتنا الباهتة لتستقر فى أيدي الناس وأحلامهم تمهيداً لتغيير ... إن لم نشعر بضرورته القصوى فهي الكارثة لأنه ما بد من مجتمع جديد - ليس كما تصوره د. زكى نجيب محمود فى طرحه كثير الخروق أو الكارثة ..
    (يتبع)


  12. #12
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    خاتمة

    قرأت الثلاثية فى مرحلة الصبا وتأثرت بها حتى دمعت عيناي ساعة احتضار السيد ، وحين شلت أمنية ...
    كان ذلك بداية حبي للرواية بعالمها الساحر الباهر، وجعلت بعد ذلك أبحث عنها غير أنى لم أجد فى الكثير مما قرأت ذلك العالم الساحر وإنما وجدت عوالم مشوهة أو قل مجرد ثرثرة فارغة لا أدرى كيف نشرها ناشر. وكنت أجد حيرة عندما أقرأ تعليقاً على رواية من ناقد يمدحها فأبحث عنها على أجد فيها شيئاً من ذلك العالم الساحر غير أنى أخرج صفر اليدين ويتمخض تعبي عن سراب، وفى الوقت الذي تجد فيه تصفيقا حاداً حاراً لروايات ليست ذات قيمة بل لا تنتمي إلى هذا الجنس فى دنيا الفن تجد الصمت الرهيب سداً أمام وصول روايات ذات قيمة إلى أيدي الناس وكنت أتساءل عن الحد الفاصل بين عمل فني جيد وآخر رديء؟، ولم يعجب فرد بعمل بينما يرفضه آخر ؟،
    وما الفارق بين إعجابك بعمل ما ورفضك له دون أن يخرجه رفضك هذا عن دنيا الفن ؟
    إن البنيوية لا تنير لك الطريق وقصاراها أن ترسم لك شكل العمل فى جنس متعدد الوجوه كثير الشكوك، بينما تحيل التفكيكية العمل إلى فوضى يضيع فيها كل شيء!
    وكم فرح كاتب هذه السطور عندما اطلع على الثلاثية النقدية لأستاذنا الدكتور عبد العزيز حمودة، غير أنني لم أخرج من التيه كما كنت أقدر وإنما زاد إيماني بضرورة قيام مدرسة نقدية عربية تنير السبيل لقراء - وللكتاب أيضا - هذا الجنس الباهر فى دنيا الفن.
    ذلك ضرورة كيلا تختلط الأمور فى ذهن الكتاب والقراء جميعا خاصة والرواية فى أوج ازدهارها فى العالم أجمع بعد أن صارت مصب وجدان الإنسان ومهبط أحلامه ومرتع تأملاته.

    ثروت مكايد

    (انتهى الكتاب)


  13. #13
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص والناص: قراءة في ثلاثية نجيب محفوظ

    للـــــــــــــرفع


  14. #14
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص والناص: قراءة في ثلاثية نجيب محفوظ

    قراءة في ثلاثية نجيب محفوظ
    ....................................

    هذا الكتاب محاولة من الأديب والناقد ثروت مكايد لإضاءة نص أبدعه نجيب محفوظ هو الثلاثية أشهر أعمال الكاتب الكبير والملمح الأهم في مشروعه الإبداعي الذي جاوز الخمسين رواية ومجموعة قصصية يناقش ثروت مكايد في كتابه جذور العمل الإبداعي. وكيف تؤثر رؤية الكاتب للعالم في إبداعه الأدبي وكيف يأتي العمل صورة لمبدعه وانعكاسًا لرؤيته للحياة دون لجوء -علي حد تعبير الكاتب- إلي جداول الحداثيين وطلاسمهم.. الناشر: أصوات معاصرة.
    ............................................
    *المساء الأسبوعية ـ في 19/5/2007م.


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •