الفاجعة
كنت في مدخل البيت مع ابني دانش وعزير ابن أخت زوجتي د . تبسم ننظف السيارة استعداداً للخروج حين نادت عليّ زوجتي من الدور العلوي وهي مضطربة تطلب مني الصعود لكي أشاهد التلفزيون الذي كان يذيع خبراً اهتزت له باكستان كلها من أقصاها إلى أقصاها ، بل واهتزت له دول العالم كله ، خبر مصرع رئيسة الوزراء السابقة " بينظير بوتو " في هجوم انتحاري على سيارتها فور توجهها إليها بعد انتهاء جلستها الانتخابية العامة في حديقة " لياقت باغ " (1) بمدينة " راولبندي " ، وتوفي معها أكثر من عشرين شخصاً معظمهم من حراسها .
في البداية لم أصدق ما سمعته أذناي ، وأخذتني المفاجأة أخذاً ، وشعرت أن انهياراً يحدث بداخلي رغم أنني لست باكستانياً وبالتالي لست من المنتمين إلى أي حزب من الأحزاب الباكستانية ، بل ولا إلى أي حزب مصري أيضاً ، ولكني بالفعل صدمت صدمة كبيرة ، وكان ذلك في حوالي الساعة السادسة تقريباً من مساء يوم الخميس الموافق السابع والعشرين من ديسمبر عام 2007م .
يقول الخبر إن شخصاً ما أطلق عدة طلقات تجاه السيارة المجهزة ضد الرصاص التي كانت تستقلها السيدة بينظير مستغلاً إطلالتها واقفة من فتحة السقف لتحية الجمهور ، وفي نفس الوقت قام شخص آخر بتفجير نفسه في الموقع ، فتحطمت السيارة تماماً ، ولقي كثيرون مصرعهم في الحال ، ونقلت بينظير فوراً إلى المستشفى المركزي لمدينة راولبندي في حالة حرجة ، وقد حاول الأطباء محاولات مستميتة لإنقاذ حياتها ، ولكن قدر الله نفذ ، وصعدت روحها إلى بارئها بعد نصف ساعة تقريباً ، وعثر على رأس الانتحاري بالقرب من مكتب حزب الشعب في راولبندي !!.
وكان الحادث بمثابة الشرارة التي انطلقت فأشعلت النار في كل شيء ، لم يصدق الناس في بادئ الأمر أنها ماتت بالفعل ، ربما جرحت ، أو راحت في غيبوبة ، ولكن لا يمكن أن تكون قد ماتت ، هذه التي كانت حتى نصف ساعة مضت تملأ الدنياً حركة ونشاطاً وجلسات واجتماعات وخطب وكلمات وشعارات ، وفوق كل هذا أملاً في أعضاء الحزب الذي ترأسه ، حزب الشعب الباكستاني ، أملاً في الفوز بالانتخابات التي كان مقرراً لها أن تجرى في 8 يناير 2008م (2) ، وتشكيل الحكومة والمجيئ إلى السلطة ، هذه السيدة التي يفخر بها الكثيرون من أبناء الشعب الباكستاني ، هذه السيدة الجميلة الراقية الرقيقة التي تتربع على عرش قلوب كثيرين من أهل باكستان ، هذه السيدة التي تجيد الإنجليزية ، وفي نفس الوقت لا تجيد لغتها القومية " الأردية " ، ومع ذلك فإنها عندما تتحدث بالأردية تمتع من يستمع إليها بأخطائها اللغوية ذات " الدم الخفيف " ، هذه السيدة التي رفعت اسم باكستان عالياً في محافل دولية وعالمية كثيرة ، هذه السيدة التي تولت رئاسة وزراء البلاد مرتين . إنها بينظير بوتو " بنت الشرق " كما يطلق عليها الغرب ، و " بنكي " كما اعتاد أن يناديها أبوها رئيس الوزراء الأسبق ذو الفقار علي بوتو ، و " بي بي " كما اعتاد عامة الشعب أن يناديها ، هذه السيدة التي رأيتها بنفسي عام 1989م بعد أن أصبحت رئيسة لوزراء باكستان للمرة الأولى وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها ، وكانت في زيارة لمدينة لاهور التي كنت أدرس بها الماجستير والدكتوراه ، ولما علمت بقدومها خرجت أنا الآخر لتحيتها مع آلاف البشر على جانبي الطريق ، وكنت على ما أذكر أطول المستقبلين ، وأعتقدت أنها رأتني ونظرت عيناها تجاهي مبتسمة ، وأقول الحق إنني لم أنس إلى اليوم ابتسامتها ، رغم أنني على يقين من أنها لم ترني أصلاً ، وأنها كانت تنظر إلى كل الناس دفعة واحدة ، ومن نظر إلى الناس جميعا دفعة واحدة لا يستطيع أن يرى أحداً منهم ، ولكني تخيلت أنها خصتني بنظرة وابتسامة ، وربما تخيلت أن السلام قد تمّ ضمناً ولم يبق سوى الكلام واللقاء !! ولله في خلقه شئون !!.
واجتاحت البلاد موجة عارمة من الحزن والألم توازت مع موجة عارمة من القتل والسرقة والسلب والنهب أشبه ما تكون بما حدث في العراق عام 2003م حين سقطت بغداد في أيدي الأمريكان ، فانطلق " الجاهزون دائماً " من " المناشير " التي تأكل " نازلة وطالعة " ، وعاثت في البلاد فساداً وسرقة ونهباً حتى كنا نشاهد على شاشات التلفزيون الرجل يدخل مكتباً حكومياً " في بغداد " ليفوز على الأقل بكرسي أو ترابيزة ويفرّ بها على غرار " إن وقع بيت أبوك خد لك منه قالب " أو على غرار " إن وقعت البقرة كثرت سكاكينها " ، ولم نكن نصدق أن العراقيين يفعلون هذا بممتلكاتهم وثرواتهم ، ولكنهم فعلوها و " بيدي لا بيد عمرو " ، إذ أن " عمرو الأمريكاني " كان قد قرر الاستيلاء على كل شيء .
هكذا فعل الباكستانيون مثل هذا وأسوأ منه ، فانطلقت مجموعات منهم لا ندري لها أصلاً أو فصلاً ، انقضت على السيارات والبنوك ومحطات التموين بالغاز والبنزين وأحرقوا منها ما استطاعوا بعد أن نهبوا كل ما فيها ، فاقترب عدد السيارات المحترقة عن آخرها من الألف ، والبنوك المنهوبة والمحترقة ما لا يقل عن ثلاثمائة ، وعدد كبير من محطات البنزين والغاز ، وحرقوا قطاري سكة حديد بالكامل بعد أن أنزلوا الركاب منهما وكان عددهم لا يقل عن ألف راكب ، هذا بالإضافة إلى قتل ما يقرب من مائة من البشر بشكل لا يكاد يصدقه عقل . أيمكن أن يحدث كل هذا في باكستان وعلى أيدي الباكستانيين بالرغم من استقلال البلاد عن أمريكا وغير أمريكا ، وفي ظل حيازة البلاد لأسلحة نووية متطورة ؟!!! .
وبكى الناس كما لم يبكوا من قبل ، ولم يتمالك الزعماء السياسيون الآخرون أنفسهم فذرفوا الدموع ، وأطلقوا الآهات فيما لا ندري إن كان حزناً على رحيل بينظير ، أم حسرة على إمكانية حدوث نفس الشيء معهم (3) . وأعلنت الحكومة الحداد الوطني لثلاثة أيام ، واستنكرت ما حدث ، وطالبت الشعب الباكستاني بضبط النفس ، وأوصي الرئيس الباكستاني عندئذ برويز مشرف الباكستانيين باللجوء إلى الصبر ، وأعلن حزب الشعب الباكستاني الذي ترأسه بينظير الحداد لأربعين يوماً ، وأغلقت المحلات والدكاكين والحوانيت والأسواق ومحطات البنزين والمدارس والجامعات والبنوك أبوابها ، ولم يعد هناك شيء مفتوحاً ، وعاش الناس أياماً في غاية الصعوبة لمدة ثلاثة أيام ، يقتاتون مما تصادف وجوده مخزّناً في دواليب المطبخ ، أومحفوظاً في " فريزر " الثلاجات ، ولا أدري والله ماذا فعل أولئك الذين لم يصادفوا شيئاً من كل هذا في بيوتهم وهو أمر وارد تماماً ، وانهالت التعازي من كل أنحاء العالم الذي استنكر ما حدث ، وأبدى أسفه على رحيل السيدة بينظير بوتو بهذا الشكل المحزن والمخزي في نفس الوقت .
وقبل فجر اليوم التالي " الجمعة 28 ديسمبر 2007م " كان السيد " آصف زرداري " زوج السيدة بينظير وأولادهما الثلاثة ، الولد " بلاول " والبنتان " بختاور " و " آصفه " قد وصلوا جميعاً إلى باكستان من دبي التي كانوا يعيشون فيها طيلة فترة المنفى الاختياري الذي ارتأته بينظير لنفسها ولأسرتها بالإضافة إلى والدتها لما يقرب من تسع سنوات متصلة بداية من عام 1999م ، ولم تعش بعد عودتها هذه سوى شهرين وتسعة أيام لا غير .
وفي اليوم التالي ذكرت الصحف ما صرح به الدكتور الجراح مصدق خان (4) الذي استقبل بينظير في المستشفى المركزي براولبندي بعد الحادث على رأس فريق من الجراحين من أنها أصيبت بطلقة رصاص كانت سبباً في وفاتها ، وبعد ساعات صرح أطباء آخرون من المستشفى أيضاً بأن سبب وفاة بينظير ليس طلقات الرصاص وإنما شظية من التفجير الذي حدث ، وبعد ساعات أخرى صرح آخرون بأن وفاة بينظير لم تحدث بسبب الرصاص ولا بسبب الشظيات لأنها لم تصب بشيء منها ، وإنما حدثت بسبب قطع غائر أصاب رأس بينظير من الناحية اليمني بسبب اصطدام رأسها بحافة فتحة سقف السيارة لما حاولت النزول داخل السيارة رعباً من هول المفاجأة ، وكذّب الذين كانوا مع بينظير في السيارة هذه الرواية الأخيرة ، وأكدوا أنها أصيبت بطلقات الرصاص وبالشظيات أيضاً ، كما أصدرت الشركة المصنعة للسيارة بياناً أكدت فيه أنه من المستحيل أن تتسبب حافة سقف السيارة في وفاة بينظير أو غيرها لسبب بسيط وهو أن هذه الحافة مصنوعة من المطاط !! وتعجب الجميع من هذا التخبط في التصريحات خلال أربع وعشرين ساعة فقط ، ولم يتم تشريح جثة بينظير بناءً على طلب أسرتها ممثلة في زوجها آصف زرداري ، ودفنت بينظير ليلاً في مقابر الأسرة في " نو ديرو " بـ " كرهي خدا بخش " في " لاركانه " بإقليم السند بجانب أبيها الذي دفن ليلاً هو الآخر ، وأصدرت الحكومة الباكستانية ممثلة في المتحدث الرسمي لها عندئذ " جاويد إقبال شيمه " بيانها الرسمي عن الحادث في مؤتمر صحفي متبنية الرواية الثالثة ، رواية حافة سقف السيارة ، كما أعلن المتحدث الرسمي أن الرأس المدبر لهذا الحادث وحوادث كثيرة غيرها من الهجمات الانتحارية التي اجتاحت باكستان عام 2007م هو زعيم الطالبان في جنوب وزيرستان بباكستان " بيت الله محسود " (5) ، وأن أجهزة الأمن قد سجلت مكالمة تليفونية دارت بين هذا الزعيم وأحد المولويين من رجاله يهنأه فيها بإتمام العملية ، وبالفعل عرضت المكالمة صوتاً على الحضور وكانت بلغة البشتو وهذه ترجمتها :
المولوي : السلام عليكم .
الزعيم : وعليكم السلام .
المولوي : كيف حالك أيها الأمير ؟.
الزعيم : لا بأس .
المولوي : مبروك ، لقد وصلت لتوي .
الزعيم : مبروك لك أيضاً ، هل كانوا رجالنا؟!!
المولوي : نعم ، رجالنا هم الذين كانوا هناك .
الزعيم : من كان هناك ؟.
المولوي : كان هناك سعيد وبلال وإكرام الله .
الزعيم : هل فعلها الثلاثة ؟.
المولوي : فعلها إكرام الله وبلال .
الزعيم : إذاً أقول لك : الله يبارك فيك !!
المولوي : أين أنت الآن ؟ أريد لقاءك .
الزعيم : أنا في بيت أنور شاه ، تعالى .
المولوي : حسناً ، سآتيك .
الزعيم : لا تخبر أهلهما في الوقت الراهن .
المولوي : حاضر .
الزعيم : لقد قاموا بعمل كبير ، وكانوا أولاداً شجعاناً الذين قتلوها .
المولوي : ما شاء الله . سأخبرك بالتفاصيل حين آتيك .
الزعيم : أنا في انتظارك ، مبروك ثانية .
المولوي : الله يبارك فيك .
الزعيم : أي خدمة .
المولوي شكراً .
الزعيم : السلام عليكم .
المولوي : وعليكم السلام .
ولا يزال كثير من الناس لا يصدق هذه الرواية التي وصفوها بـ " الهبلة " وهذه المكالمة التي وصفوها بـ " العبيطة " ، والله أعلم بحقيقة الحال . وفي نفس الوقت أعلنت الحكومة أن بينظير كانت السبب الرئيس في مصرعها ، إذ لماذا وقفت تطل من فتحة سقف السيارة وقد تم تحذيرها من الظهور هكذا بغير احتياط ، وبضغط من الجو العام – وليس الرأي العام – استدعت الحكومة فريقاً من بوليس اسكتلانديارد للمشاركة في التحقيق ، لكن أسرة بوتو وحزب الشعب يرفض هذه التحقيقات ويطالب بأن تتولى لجنة دولية من الأمم المتحدة التحقيق في الحادث على غرار ما تفعل في حادث مقتل الزعيم اللبناني الراحل رفيق الحريري .
وبالفعل عندما تولى آصف زرداري رئاسة البلاد طلبت الحكومة الباكستانية من الأمم المتحدة رسمياً القيام يالتحقيق في مقتل السيدة بينظير ، ودفعت الرسوم المقررة لذلك وهي بملايين الدولارات ، وبالفعل شكلت الأمم المتحدة لجنة من دول مختلفة بغرض التحقيق ، وقامت هذه اللجنة بزيارات متعددة لمكان الحادث والتحقيق مع العديد من الشخصيات ، ولا يزال التحقيق مستمراً ، ولا يدري أحد من قتل بينظير ، برغم أن آصف زرداري صرح أكثر من مرة بأنه يعرفهم بالفعل !!.
لقد عادت بينظير من منفاها الاختياري في الثامن عشر من أكتوبر 2007م ، ولم تتمالك نفسها عند وصولها إلى مطار كراتشي فانفجرت باكية ، ورفعت يديها إلى السماء تحمد الله على أن هيأ لها فرصة العودة إلى وطنها ثانية ، ولم تكن تدري أن أبناء وطنها - أياً كانت انتماءاتهم السياسية - قد جهزوا لها مفاجأة تنخلع لها القلوب ، فقد خرجت بينظير من المطار في موكب يضم على الأقل مليوناً ونصف من البشر الذين جاءوا - أو جيئ بهم على بعض الروايات - لاستقبالها من كل أنحاء باكستان في استقبال تاريخي لا يفوقه إلا استقبال الباكستانيين لها في العاشر من أبريل عام 1986م حين عادت إلى باكستان – لاهور - من انجلترا بعد أن انتهت من دراستها في جامعة أكسفورد خلال منفاها الأول من عام 1984م إلى عام 1986م ، حيث شارك في هذا الاستقبال ما يزيد على مليونين من البشر .
والطريف أنه لما بدأت بينظير رحلة العودة إلى باكستان هذه المرة سألوها في المطار : ألا تخافين أن تتعرضي للقتل بعد عودتك إلى باكستان ؟ فأجابت بأنها لا تخاف لأن الموت والحياة بيد الله ، وأن الباكستانيين المسلمين لا يمكن أن يقتلوا أختهم !!! ، ثم صرحت قائلة : إنني سعيدة جداً وأشعر براحة كبيرة على أرض وطني ، لقد كنت أعد الساعات والدقائق والثواني انتظاراً لهذا اليوم !!!.
خرجت بينظير من المطار برفقة هذا الموكب الضخم وفي شاحنة أعدت خصيصاً مجهزة أمنياً ضد اختراق الرصاص والقنابل ، وفي منتصف الليل وكان الموكب لا يزال في طريقه إلى ضريح القائد المؤسس محمد علي جناح حيث كان من المقرر أن تخطب بينظير في اجتماع ضخم هناك ، وكانت المفاجأة ، فقد تعرض هذا الموكب لهجومين انتحاريين يفصل بينهما دقائق معدودة ، وراح ضحيتهما ما لا يقل عن مائة وخمسين من البشر . كانت بينظير طيلة المسيرة تطل واقفة من فتحة سقف الشاحنة ، ولو بقيت على هذا الوضع لأصبحت " في خبر كان " ، ولكن يشاء الله تعالى أن تنزل إلى كابينة السيارة قبل الانفجارين بلحظات لتريح قدمها من الحذاء الذي أتعبها من طول الوقوف ، ونجت بينظير من محاولة الاغتيال ، وبأقصى سرعة ممكنة أوصلوها إلى بيتها في كراتشي " بلاول هاوس " . وكانت قبل أن تعود إلى باكستان قد كتبت وصيتها وخطاباً إلى الرئيس برويز مشرف تعلمه بأن حياتها في باكستان معرضة للخطر ، وأن هناك من يريد قتلها ، وحددت ثلاثة أسماء من كبار رجالات الجيش والحكومة ، واتهمتهم بالعمل على تصفيتها جسدياً ، ونشر الخطاب في حينه في مجلات عالمية ومحلية . أما في هذه المرة فلم تنج بينظير ، لا هي ، ولا أكثر من عشرين آخرين في الموقع ، ولا ما يقرب من مائة آخرين في ثلاثة أيام تلت الحادث .
من هي بينظير بوتو ؟!
سيدة كانت ملء السمع والبصر على مدى الثلاثين عاماً الماضية ، سليلة أسرة من أعرق وأكبر الأسر السياسية في العالم وأعجبها أيضاً ، أسرة تتكون من ستة أفراد ( الأم نصرت بوتو ، والأب ذو الفقار علي بوتو ، وولدان هما مير مرتضى بوتو وشاهنواز بوتو ، وبنتان هما بينظير بوتو ، وصنم بوتو آخر العنقود ) ، قتلوا جميعاً إلا اثنين هما الأم والأخت الصغرى ، وبينظير هي البنت الكبرى للسيد ذو الفقار علي بوتو رئيس وزراء باكستان الأسبق (6) ومؤسس حزب الشعب الباكستاني (7) وأول رئيس له ، ووالدتها السيدة نصرت بوتو رئيسة حزب الشعب بعد اعتقال زوجها وإعدامه (8) ولفترة قليلة حتى أصابها مرض السرطان في الرئة ، ثم رأست بينظير حزب الشعب الباكستاني بعد أن تنحت أمها عن رئاسته بسبب المرض ، وظلت رئيسة له حتى وفاتها المحزنة في 27 ديسمبر 2007م (9) . وأخو بينظير الذي يليها في الترتيب هو السيد مير مرتضى بوتو ، وقد قتل هو الآخر في 20 سبتمبر عام 1996م برصاص البوليس أمام بيته رقم 70 بمنطقة كلفتون الراقية بمدينة كراتشي (10) ، وأخوها الصغير شاهنواز بوتو عثر عليه مسموماً في بيته بجنوب فرنسا في أغسطس من عام 1986م ، وهي أول رئيسة وزراء في العالم الإسلامي ، فلم تتول قبلها سيدة هذا المنصب ، ولكنها كانت فاتحة خير لأخريات غيرها في بلاد أخرى غير باكستان مثل السيدة خالدة ضيا والشيخة حسينة واجد في بنجلاديش ، وهي أصغر من تولت رئاسة الوزراء أيضاً ، إذ تولت رئاسة الوزراء للمرة الأولى في 2 ديسمبر عام 1988م ولم يكن عمرها قد تجاوز الخامسة والثلاثين ، واعتبرت هي والسيدة هيلاري كلنتون أكثر النساء كفاءة في العالم في العصر الحاضر ، وهي أول سيدة آسيوية تتولى رئاسة اتحاد جامعة أكسفورد ، وكان ذلك في ديسمبر عام 1976م ، وهي واحدة ضمن أجمل خمسين امرأة في العالم أيضاً !.
ولدت بينظير في 21 يونيو 1953م ، وحصلت بعضاً من تعليمها الابتدائي بمدينة كراتشي ، ومدينة راولبندي ومدينة مري ، ثم التحقت بجامعة هارفارد من عام 1969م إلى عام 1973م ، وبعدها التحقت بجامعة أكسفورد من عام 1973م إلى عام 1977م حيث درست القانون والفلسفة والسياسة والاقتصاد وغيرها ، ثم عادت إلى باكستان عام 1977م ، واعتقلها ضياء الحق بعد عودتها بشهرين فقط حين فرض الحكم العسكري في البلاد ، وكان مجموع ما قضته بينظير في الاعتقال على فترات متقطعة ما يقرب من خمس سنوات ونصف ، ومرضت في سجنها مرضاً أصاب إحدى أذنيها إصابة كادت تصل بها إلى مرحلة الصمم ، وبتدخل من بعض رؤساء الحكومات في العالم سمح لبينظير بالسفر للعلاج خارج البلاد عام 1984م ، ونفس الشيء كان قد حدث مع والدتها السيدة نصرت بوتو من قبل حيث مرضت في سجنها بسرطان الرئة ، وسمح لها بالسفر للعلاج خارج البلاد ، وبقيت بينظير في انجلترا لمدة عامين من 1984م إلى عام 1986م ، ثم عادت إلى باكستان في 10 أبريل عام 1986م .
تزوجت بينظير من السيد آصف زرداري (11) في 18 ديسمبر 1987م ، وأنجبت منه ثلاثة هم بلاول وآصفة وبختاور ، وفازت بمقعد في مجلس الشعب الباكستاني أعوام 1988م ، 1990م ، 1993م ، 1997م ، وفاز حزبها ، حزب الشعب الباكستاني بالأكثرية في انتخابات 1988م التي أجريت بعد وفاة الرئيس ضياء الحق في حادث تحطم طائرته فوق مدينة بهاولبور في 17 أغسطس عام 1988م ، وبالتالي تولت رئاسة الوزراء للمرة الأولي في 2 ديسمبر عام 1988م ، ثم أقيلت حكومتها هذه في 16 أغسطس عام 1990م ، وقبض على زوجها السيد آصف زرداري في 10 أكتوبر عام 1990م بتهمة الفساد ، وفي انتخابات عام 1993م حصل حزب الشعب مرة ثانية على الأكثرية ، وتولت بينظير رئاسة الوزراء للمرة الثانية 5 نوفمبر عام 1993م ، ثم أقيلت هذه الحكومة أيضاً في 5 نوفمبر عام 1996م ، وقبض على زرداري ثانية في عام 1996م بنفس تهمته السابقة .
وفي أبريل من عام 1999م تركت بينظير البلاد إلى منفاها الاختياري الذي قضته ما بين دبي وإنجلترا إلى أن عادت إلى باكستان في 18 أكتوبر عام 2007م ، ثم توفيت في 27 ديسمبر عام 2007م عن عمر لم يزد عن 54 سنة وستة أشهر وستة أيام . رحمها الله وأحسن إليها وعفا عنها وأدخلها فسيح جناته .
هوامش
1 - حديقة كبيرة المساحة تقع في مدينة راولبندي ويعقد فيها السياسيون بعض جلساتهم الانتخابية خاصة في فترة الاستعدادات للانتخابات العامة ، وكانت هذه الحديقة تسمى " حديقة الشركة أو حديقة الكوبانية إذا قربناها إلى لهجتنا وموروثنا التاريخي : كمبني باغ ، وفي 16 أكتوبر عام 1951م قتل في هذه الحديقة السيد لياقت علي خان أول رئيس وزراء لباكستان برصاص من يدعى سيد أكبر على حدّ ما هو معروف حتى الآن ، وبعدها أصبحت الحديقة تسمى باسمه " لياقت باغ " ، وعلى بعد ما لا يزيد عن كيلو مترين يقع السجن الذي أعدم فيه والد بينظير السيد ذو الفقار علي بوتو رئيس وزراء باكستان الأسبق في 4 أبريل عام 1979م . هذا وقد عقدت بينظير في هذه الحديقة جلستين قبل ذلك ، الأولى في انتخابات عام 1993م ، والثانية في انتخابات عام 1997م ، وكان من المقرر أن تعقد جلسة في هذه الحديقة قبل هذه الجلسة الثالثة التي أودت بحياتها بأسابيع قليلة ، ولكن الحكومة منعتها لأسباب أمنية .
2 - تأجلت الانتخابات بسبب هذا الحادث إلى 18 فبراير 2009م ، وفاز فيها حزب الشعب الباكستاني التي كانت ترأسه بينظير ، ويرى المراقبون والمحللون السياسيون أن مقتل بينظير كان السبب الرئيس في هذا الفوز حيث تعاطف الناس مع الحزب ، ولم يقصر أعضاء الحزب برئاسة بلاول زرداري ونيابة والده في استغلال الحادث خير استغلال لجذب أصوات الناخبين وكسب تعاطفهم مع الحزب ، وهو ما تحقق على أرض الواقع ، بل وانتخب السيد آصف زرداري رئيساً للبلاد أيضاً تحت تأثير هذا التعاطف الذي أشرنا إليه .
3 - الجدير بالذكر أن رئيس الوزراء السابق نواز شريف تعرض هو الآخر حوالي الساعة الثانية والنصف من ظهر نفس اليوم لمحاولة اغتيال قبل بينظير بوقت قصير ، حيث أطلق مجهولون النار على موكبه الانتخابي بالقرب من منطقة تسمى كرال وهو في طريقه إلى راولبندي ، وكانت النتيجة مصرع ستة أفراد وجرح عشرين ، بينما نجا نواز شريف ، فلا تزال في العمر بقية .
4 - والد هذا الجراح هو الطبيب محمد صادق خان ، وهو الذي استقبل رئيس الوزراء الباكستاني الأول لياقت علي خان في المستشفى حين أطلق عليه الرصاص الذي أدى إلى وفاته في نفس الحديقة التي أوقعت فيها حادثة مصرع بينظير .
5 - اسمه بيت الله ، وأحيانا تكتب الصحف الباكستانية اسمه هكذا " بيعت الله محسود " ، لأن اسم " بيت الله " أو " بيعت الله " يبدو عجيباً ، وكان زعيماً لحركة طالبان الباكستانية المناوئة لأمريكا وللحكومة الباكستانية أيضاً ، وهو ما دفع الحكومة الباكستانية إلى القيام بعملية عسكرية ضد طالبان في البلاد كلها ، وخاصة في سوات ومالاكند وغيرها ، هذا وقد قتل بيت الله محسود هذا في أغسطس من عام 2009م أثناء هجوم شنته الطائرات بدون طيار على المنطقة ، ومحسود اسم القبيلة التي ينتمي إليها وتشكل أكثرية سكان جنوب وزيرستان ، وتنسب إلى من يسمى محسود من قبيلة وزير والتي سميت وزيرستان على اسمها ، وكلها من البختون الذين يتحدثون لغة البشتو ، وكانوا يسكنون خوست من أفغانستان في البداية ، ثم اتجهوا مع زيادة عددهم إلي شرق خوست حيث هم الآن في باكستان على الحدود مع أفغانستان ، وتشتهر قبيلة محسود بالشجاعة والبسالة والاتحاد ، ويحبون الالتحاق بالجيش والخدمة العسكرية كثيراً ، ولهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصة ، ولم تستطع قوة احتلال أرضهم حتى الإنجليز الذين حاولوا كثيراً لكنهم باءوا بالفشل ، وإلى قبيلة محسود هذه ينتمي زعيم الطالبان الراحل عبد الله محسود والذي فضل أن يفجر نفسه على أن يسلم نفسه للبوليس العام الماضي . لمزيد من التفصيل يرجع باللغة الأردية إلى : أنوار هاشمي – وزيرستان آبريشن – لاهور – باكستان 2007م .
6 - والذي تولى رئاسة الوزراء عام 1970م ، وانتهت هذه الرئاسة بانقلاب عسكري ضده بقيادة الجنرال ضياء الحق في 4 يوليو عام 1977م ، وألقي القبض عليه ، وحوكم بتهمة قتل رجل باكستاني وحكم عليه بالإعدام ، وتمّ تنفيذ الحكم بالفعل في 4 أبريل عام 1979م ، ولم تشفع له عند ضياء الحق كل توسلات معظم رؤساء العالم حينذاك .
7 - تأسس هذا الحزب في 30 نوفمبر عام 1967م .
8 - السيدة نصرت بوتو من أصل إيراني ، ولهذا كانت أسرتها تعرف الفارسية ، وكانت هذه الأم الحزينة لا تزال على قيد الحياة يوم استشهاد ابنتها ، حيث كانت تعيش في شبه غيبوبة وفاقدة للذاكرة منذ أكثر من عشر سنوات (1996م) لمرض أصابها ، وربما لم تدر شيئاً أصلاً عن وفاة ابنتها .
9 - رئيس الحزب الآن هو السيد بلاول بوتو زرداري ، وكانت بينظير قد أوصت أن يتولى زوجها السيد آصف زرداري رئاسة الحزب بعدها فيما لو حدث شئء لها ، وحين فضت الوصية بعد مصرع بينظير في جلسة لقيادات الحزب اقترح السيد زرداري أن يتولى ابنه الأكبر بلاول ( 19 سنة في ذلك التاريخ ) رئاسة الحزب ، وأن يكون هو " أي آصف زرداري " مستشاراً له إلى أن ينتهي من تعليمه بجامعة أكسفورد عام 2010م ، وهكذا أصبح الحزب يسير بقيادة السيد زرداري عملياً إلى حين ، وأصبح " بلاول بوتو زرداري " أصغر من تولى رئاسة حزب في تاريخ باكستان ، ولم ينس زرداري أن يعلن رسمياً عند مصرع بينظير عن تغيير اسم ابنه بلاول من " بلاول زرداري " إلى " بلاول بوتو زرداري " ليصح اسم " بوتو " رسمياً ضمن اسم ابنه ، ويبقى ذكر " بوتو " الكبير متصلاً ، ويضمن لاسم زرداري أيضاً الاستمرارية والتواصل .
10 - كان يدرس في أكسفورد ، وكان أخوه شاهنواز يدرس في سويسرا ، ولما حكم على أبيهما بالإعدام تركا التعليم وتفرغا للكفاح المسلح ضد " الدكتاتورية " وجنرالات الجيش في الحكومة الباكستانية ، وعلى رأسهم بالطبع الجنرال ضياء الحق ، وتزوج كلاهما من أختين عربيتين هما فوزية زوجة مرتضى وأختها ريحانة زوجة شاهنواز ، ولما مات شاهنواز واتهمت زوجته بأنها سممته طلق مرتضى أختها وعاش بشكل دائم مع ابنته فاطمة بوتو في دمشق ، ثم تزوج بعدها من سيدة لبنانية هي السيدة غنوى بوتو ، وأنجب منها ابنه ذو الفقار الصغير . هذا وقد أسس مرتضى وشاهنواز حزباً مسلحاً باسم (حزب التحرير الشعبي : Peoples Liberation Party) ، وتركزت نشاطاتهما في كابل ودمشق ولبنان ، واتهم مير مرتضى وأخوه شاهنواز ومعهما السيدة بينظير ووالدتهم السيدة نصرت بوتو باختطاف طائرة ركاب باكستانية من كابل في 2 مارس عام 1981م ، وكان على متن الطائرة 148 راكباً ، وصرحت الحكومة في وقتها بأن المختطف هو سلام الله خان قائد (اتحاد الطلاب الشعبي : Peoples Students Federation ) الذي ينتمي إلى تنظيم " آل ذو الفقار " ، ونفى مرتضى علاقته بالأمر ، وكذلك بينظير ، وبقيت الطائرة في كابل حتى 8 مارس 1981م ، ثم ذهب بها المختطفون إلى سوريا ، وبعد مفاوضات تم تسليم الطائرة إلى الحكومة السورية بعد أن أذعنت الحكومة الباكستانية لمطالب المختطفين وأطلقت سراح عدد كبير من المعتقلين السياسيين في باكستان وسلمتهم للحكومة السورية في 14 مارس عام 1981م . ومنذ ذلك الحين أصبح ينظر إلى مير مرتضى وشاهنواز على أنهما إرهابيان .
11 - والده سياسي باكستاني معروف هو السيد حاكم علي زرداري ، واشتهر بين الناس أن علاقة بينظير مع زوجها لم تكن على ما يرام أبداً ، وأن زوجها هذا هو النقطة السوداء في حياتها ، وفي نفس الوقت يطلق عليه عامة الناس لقب " السيد 10% : Mr. 10 Percent بمعنى أنه ظل يحصل على نسبة 10% من كل صفقة تمت في عهد بينظير مستغلاً نفوذه ومنصب زوجته ، وقد دخل السجن بالفعل لسنوات مما أثر على قواه العقلية لفترة من الزمن كما صرح هو بنفسه ، ورفعت ضده قضايا فساد عديدة ، ولكنها كلها لم تسفر عن شيئ ، وخرج هو منها " كالشعرة من العجين " . أما بينظير فكانت دائماً تصرح بأن حياتها مع زرداري يسودها الاحترام المتبادل ، كما صرحت بأنه لا يحب " طبيخها " ، وجاءت وصيتها بأن يتولى زوجها رئاسة الحزب بعدها .