الجنس بوصفه انتقاما- صورة المرأة في بعض التصورات العربية -
تتمظهر العلاقة بين الرجل والمرأة في مستويات عدة أحدها المستوى الجسدي أو الجنسي، ويميز داخل هذا المستوى بين علاقة جنسية شرعية بين الرجل وزوجه، وعلاقة غير شرعية بين زان و زانية(*).
وإذا كانت الممارسة الجنسية غير الشرعية كثيرا ما تقع بتراض بين الطرفين فإنها تحدث أحيانا بدافع الانتقام، انتقام الذكر من الأنثى. ويبدو هذا الدافع الانتقامي بجلاء في إبداعات كثيرة من بينها أعمال سينمائية وروائية ونكت، ونمثل لذلك بنماذج مختلفة.
ففي الشريط السينمائي المصري " جزيرة الشيطان" يرفض البطل جلال[ عادل إمام] أن ينفذ أمر رئيس العصابة [ مصطفى متولي] بأن يغطس لاستخراج مزيد من قطع الذهب، فيقرر رئيس العصابة قتله.
وبينما هو يخرج مسدسه للقتل يتقدم إليه الخطيب السابق للآنسة فاطمة [ يسرى] ويسر في أذنه أن الوسيلة الناجعة لإجبار جلال على الغطس هي تهديده باغتصاب فاطمة أمامه.. ولأن جلالا كان يحبها فقد وافق على الغطس وهو يرى فاطمة أمام عينيه يمرغ أفراد العصابة أنوفهم في جسدها.
وفي شريط آخر عنوانه " مشوار عمر" يقول صديق عمر [ فاروق الفيشاوي] العائد من إنجلترا لزميله :" لقد اشتغلت في مطاعم إنجلترا، وعرفت فتيات إنجليزيات كثيرات،إنهن لذيذات جدا، يمكنك القول إنني انتقمت من الاستعمار الإنجليزي".
أما على مستوى الإبداع الروائي العربي فتنتصب أمامنا " موسم الهجرة إلى الشمال" (1) حيث يعد مصطفى سعيد نفسه قناصا يطارد فرائس في غابة، يقول:".. أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي، ثم أسير إلى صيد آخر"(ص33)، وهو في مطارداته للنساء لم يكن يتحرك بدافع النشوة و " المتعة الجنسية" فقط، ولكنه كان يحركه الغزو و الانتقام، يقول :" إنني جئتكم غازيا"(ص63)، ويقول عنه صديق له وزير :"..الدكتور مصطفى سعيد كان أستاذي عام 1928... كانت النساء تتساقط عليه كالذباب. كان يقول سأحرر إفريقيا ب..."(ص122)، وجلي من السياق أنه يقصد العضو التناسلي.
وفي مجال النكتة أذكر نكتة مفتراة على حاكم أنه قال لشعبه بعد الحصول على الاستقلال " من لقي منكم أجنبيا داخل البلد قليقتله"، فما كان من أحد أفراد الشعب إلا أن قصد امرأة عجوزا غربية وواقعها بنية الانتقام والثأر، ثم افتخر بفعلته تلك وهو يقول " ها قد نفذت أمرك يا سيدي الحاكم".
إن هذه النماذج المذكورة أعلاه تعبر كلها عن فكرة راسخة في أذهان كثير من الناس ملخصها أن مضاجعة المرأة سبيل من سبل الانتقام منها لفعلة فعلتها هي، أو الانتقام من أهلها وذويها أو موطنها، إنها نماذج تعكس كون " الجنس في المتخيل الذكوري معركة"(2) ميدانها جسد المرأة.
ومما يؤسف عليه حقا أن بعض الأعمال السينمائية والروائية العربية التي نالت شهرة واسعة كانت تتضمن صورا للمرأة في وضع المنتقم منه جنسيا. ورواية الطيب صالح – مثلا- "موسم الهجرة إلى الشمال" التي ذاعت شهرتها وانتشرت جاءت من بعدها روايات وقصص قصيرة حديثة نهجت نهجها، وسار أبطالها سيرة مصطفى سعيد، فنالت شهرة هي أيضا، وهو ما قد يعني أن المتلقي العربي – رغم فارق الزمن و التحولات المعيشية- لم ينفك بعد من سطوة فكرة قوة الرجل الذي لا يقهر( نقصد القوة الجنسية طبعا لا القوة العقلية أو الإيمانية المحمودتين).
إن هذا المتلقي ما زال يحلم بأن يحقق " غزوا جنسيا" رغم أن العالم من حوله يدعو إلى ضرورة الغزو العلمي والتكنولوجي، فكأن العربي لعجزه عن التميز في مجالات العلم المختلفة آثر أن يحتفي بهذه النماذج الإبداعية التي توهمه ب "تميز جنسي" يعوِّض به عن إخفاقه في ميادين التميز الحق.
والواقع أن هذا المتلقي – وهذا المبدع أيضا روائيا كان أم مخرجا سينمائيا أم مبدع نكتة..- يزيد بهذه الصورة الانتقامية ( انتقام الذكر من الأنثى جنسيا) إخفاقا آخر إلى الإخفاقات المتعددة، ذلك أن عد جسد المرأة ميدان نزال وحرب وثأر تنتج عنه نتائج سلبية منها سيادة علاقة توتر واضطراب بل حرب وصراع بين الجنسين. وبالعودة إلى" موسم الهجرة إلى الشمال" نجد معجما حافلا بألفاظ ذات صلة بالمعارك والحروب، فغرفة النوم تصير "ساحة حرب"(ص37) يخوض الرجل فيها " المعركة بالقوس والسيف والرمح.."(ص37)، وهو يحس بأنه مقدم على " صيد عظيم"(ص40)، وأن الطرف الآخر "قد وقع في الشرك"(ص43)، كما أنه يعتبر نفسه "غازيا"(ص63 وص126)، والمرأة قد تكون " صيدا سهلا"(صص143-34)، وهي "فريسة"(صص40-41)...إلى غير ذلك من الألفاظ التي تؤسس للنفوربين الجنسين، وتقصي مفاهيم المودة والرحمة والسكينة بينهما (**).
ومن هذه النتائج السلبية كذلك اختزال المرأة في الجسد فقط، وأنها ليست سوى "كائن فرجي"(3) يُقتل إن مُس فرجُه، ولعل النماذج المذكورة في بداية المقال تبين أن كل مواقعة للمرأة فيها هي قتل رمزي لها ، أو لمحبوبها، أو بلدها.. ولعل مما يزيد في ترسيخ هذا الاختزال للمرأة في الجسد ما يصاحب اغتصابها، في الأعمال السينمائية، من صراخ يصدر عنها لحظة الوقاع، وألم وحزن بعد الاغتصاب، فذاك الصراخ، وهذا الألم والحزن،وهو مشروع جدا، قد يجعل المتلقي يوقن بأن هذه المرأة المنتقم منها جنسيا قد قُتلت مثلما يجعله ينقم من الفاعلين ويكره هذا السلوك منهم.
ومن النتائج أيضا تكريس دونية المرأة، لكون الرجل المضاجع لها يعد المواقعة مسيئة للمرأة وملوثة لها ، ويظهر هذا واضحا في قول مصطفى سعيد عن الإنجليزية آن همند " حولتها في فراشي إلى عاهرة"(موسم الهجرة..ص34)، فهو يظن، بدافع الثأر و"الغزو"، أنه قد لوثها وسلبها كل كرامة واحترام(4). وفي هذا المقام يبرز سؤال قد يعده بعضهم مثيرا للضحك والسخرية وهو : إذا كانت هذه المرأة قد استحالت كائنا متسخا ملوثا حقيرا فمن المسؤول عن هذا التلويث؟. لا ريب في أن المتحرر من الأنانية الذكورية و العنترية الفارغة لن يجيب عن هذا السؤال بغير " الرجل"، وهنا تنفتح شرفة سؤال ثان متولد عن هذا الوضع: أليس " الرجل" أكثر تلوثا واتساخا وحقارة من هذه المرأة لأنه هو الملوث لها؟ أليس الملوِث أحقر من الملوَث؟.
" المرأة في الحقيقة جزء من الرجل"(5) ولذلك " فحب الزوج لزوجته وحنينه إليها من باب حنين الكل إلى جزئه، لأن الله اشتق من الرجل شخصا على صورته سماه المرأة، فظهرت بصورته، فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه"(6)، فالعملية الجنسية بين الرجل وزوجته هي لحظة عودة الجزء المشتق إلى المشتق منه ليصيرا جسدا واحدا مكتملا.
إن الجنس اكتمال جسدي، ولو توافقت الأرواح لصار اكتمالا جسديا وروحيا بين الطرفين. ولو أن الأدباء والسينمائيين وغيرهم صدروا عن هذه الفكرة لما جعلوا جسد المرأة موضع نزال، إذ كيف للرجل أن يحارب جزءا منه ويلوثه؟، ولكنهم بعضهم لا كلهم عموا عن هذا الأمر فإذا المرأة في أعمالهم كائن ملوث قذر، وإذا بهم يسيؤون إليها ويجعلونها عدوا للرجل، ويحطون من قدرها، ويعلون الرجل عليها، ثم يعتمرون طاقية الحداثة ويخرجون إلى الناس ليعلنوا أنهم حماة المرأة وأنصارها، وأنهم المانحون لها حقوقها، والرافعون لقدرها وقيمتها، والمنصفون لها من ظلم الرجال، وكم باسم الحداثة تُذل المرأة، وكم باسم الحداثة تهان.

الهوامش:
(*) العلاقة الجنسية المتحدث عنها هنا علاقة غير شرعية، لكن هذا المقال يناقش التأثير السلبي لجانب من هذه العلاقة على التصورات والأفكار.
(1) الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال،ط13-1981، دار العودة، بيروت.
(2) سعيد بنكراد، كرة القدم: الاستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي، فكر وإبداع ( الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي) العدد7832، الجمعة 21 يناير2005م.
(**) من غريب ما سمعت في هذه الأيام الأخيرة أن شابا تزوج شابة، وقبل أن يُفضي كل منهما إلى الآخر حدث بينهما مشكل أوصلهما إلى التقاضي أمام المحكمة.. فما كان من الزوج إلا أن أوهم زوجته بالمسامحة والتراضي،وسافر بها إلى إحدى المدن المغربية حيث واقعها وطلقها بعد ذلك، ثم عاد إلأى أصدقائه يفخر بأنه انتقم منها بأن أفقدها عذريتها قبل الطلاق. فانظر كيف أن هذه النظرة الانتقامية تسربت إلى بعض العلاقات الزوجية، فخاض الزوج المعركة على جسد زوجته بعدما كان ميدانها المحكمة.
(3) عبد الله الغذامي، ثقافة الوهم- مقاربات حول المرأة والجسد واللغة- الطبعة الأولى،1998، المركز الثقافي العربي.
(4) يقول محمد شكري " كثير من المحبين الخائبين يتمنون لعاهرة أن تصير قديسة بدافع الحب والوفاء، ولقديسة أن تصير عاهرة بدافع الكراهية والانتقام" غواية الشحرور الأبيض،ط01- 1998،ص 156.
(5) عبد العزيز بن الصديق، ما يجوز وما لا يجوز في الحياة الزوجية، ط05،ص255.
(6) نفسه،ص255-256.