عناق المستحيل


زواج الإنس والجن بين فكر العلماء وخيال الأدباء



غرام الإنس والجن

الإعتقاد في الجن موغل في القدم بين العرب ، وقد حفلت أشعار العرب وأخبارهم بذكر الجن ، بل أكثر من هذا ، وردت أخبار عن غرام الإنس والجن، وتخطي الغرام حدود العفة فصار زنا. فقد ذكر صاحب كتاب " خير البشر بخير البشر" أن فاطمة بنت النعمان التجارية قالت : قد كان لي تابع من الجن ، فكان إذا جاء اقتحم البيت الذي أنا فيه اقتحاماً . فجاءني يوماً فوقف على الجدار ، ولم يصنع كما كان يصنع. فقلت له : ما بالك لم تصنع ما كنت تصنع صنيعك قبل؟ فقال : إنه قد بعث اليوم نبي يحرم الزنا.

ويحدثنا الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه " الهواتف " عن ابنة عمرو بن مالك التي طلب منها أن تأتي بالماء من الغدير، فوافاها عليه جان فاختطفها, فذهب بها . اختطفها في الجاهلية ، وعادت لأبيها في زمن عمر بن الخطاب رض. وينقل الدميري في كتابه " حياة الحيوان الكبرى " عن امرأة قولها : " إن جنياً يأتيني كما يأتي الرجل المرأة ".

لعل السبب في أن الحكايات تقتصر على تعرض نساء الإنس لاختطاف الجن لهن أو الزنا بهن ، أن الجن مخلوقات خفية, ترىالإنس وهم لا يرونهم . فالله تعالى يقول عن إبليس قطب الجن : " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ". ويرجع الإمام جلال الدين السيوطي عدم رؤية الإنس للجن للطاقة أجسادهم أوعدم ألوانهم, ولا يعني ما سبق أن الجنيات لا يعشقن رجال الإنس ، فالجاحظ يقول : إن الجنيات إنما تتعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق في طلب السفاد.


عفريت أذله العشق

العفريت هو القوي المارد من الشياطين . ويروي لنا القزويني في كتابه " عجائب المخلوقات " قصة عفريت اختطف جارية من فزارة . ولكنه وقع في حبها فأبلي الحب جسده وعذبه الوجد وأذله العشق ، فعرض علي الرجل الإنسي الذي تصدي لتخليصها أن يجز ناصيته رغم ما في هذا من الهوان أو أن يأخذ ما يشاء من الإبل أو أن يخدمه أيام حياته في سبيل أن يترك له محبوبته. ولما يئس من الرجاء عبر عن ما يقاسى من الوجد بقوله :

بلي جسدي والحب يبلي جديده ولم يبل مني إذ بلي جسدي وجدي


مسكين ذلك العفريت العاشق يثير الشفقة ويستدر العطف ويستحق الرثاء.

غرام الإنس والجن في الليالي

لعب الجن ( ذكوراً وإناثاً ) أدواراً لا يستهان بها في حكايات ألف ليلة وليلة. وقد أضفى وجود الجن في الحكايات لمسة من السحر الآسر عليها، وأضاف إليها التشويق المثير من الخيال الشعبي الخصب . فمن الحكايات التي يشارك فيها الجن نتعرف على المعتقدات الشعبية في الجن والتي بلورها القاص الشعبي في تلك الحكايات.

في الصفحة الثانية لكتاب الليالي, وفي حكاية الملك شهريار وأخيه الملك شاه زمان – وهي الحكاية الأم التي ستتولد منها باقي حكايات الليالي – نلتقي بغرام الجن بالإنس . والذي يدفع الجن إلي اختطاف فتاة الإنس ليلة عرسها. وربما كان الجني معذوراً فهي صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة. وعلى الرغم من أن الجني العفريت وضع الصبية في علبة وجعل العلبة داخل صندوق ورمي على الصندوق سبعة أقفال ، وجعله في قاع البحر العجاج المتلاطم الأمواج إلا أن القاص الشعبي – ولكي يكسب جولة لبني آدم في الصراع مع إبليس وقبيله – يجعل الصبية تخونه وتستغفله مع كل من تلقاه. حتى أنها صنعت عقداً فيه خمسمائة وسبعون خاتماً ، أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بها على غفلة قرن هذا العفريت. وقد أضافت إلي العقد خاتمي الملك شهريار وأخيه شاه زمان.

وفي حكاية التاجر مع العفريت تحب جنية إنسياً وتتزوجه في صورة إنسية – فالجن قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، ولها عقول وأفهام وقدرة على الأعمال الشاقة – وعندما يحسده أخواه على ماله وكثرة بضاعته فيلقياه من على ظهر السفينة إلي البحر، تنتفض زوجته وتصير عفريتة وتحمله وتطلعه على جزيرة. ثم تكشف له عن سرها : اعلم أني جنية رأيتك فحبك قلبي ، وأنا مؤمنة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فجئتك بالحال الذي رأيتني فيه, علي خلق مقطع فتزوجت بي . فالقاص الشعبي يجعل الجنية تعشق الإنسي ليس لجمال صورته ولكن لكريم أخلاقه فهي تتصور له بصورة فتاة عليها خلق مقطع تقبل يده وتسأله : يا سيدي هل عندك إحسان ومعروف أجازيك عليهما ؟ فيجيبها الإنسي : نعم إن عندي الإحسان والمعروف ولو لم تجازيني – لقد حرص القاص الشعبي على الرد على ادعاء إبليس " أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين ". أما قول الجنية أنا مؤمنة بالله ورسوله فيستند إلي القرآن الكريم وآراء علماء المسلمين؛ فالله تعالى يقول لرسوله الكريم : " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن ، فلما حضروه قالوا أنصتوا" فلما قضى ولوا إلي قومهم منذرين". ويصدر الدميري – وهو من علماء المسلمين المعتبرين – حكماً نصه : " أجمع المسلمون قاطبة على أن نبينا محمداً صلي الله عليه وسلم مبعوث إلي الجن كما هو مبعوث إلي الإنس. قال الله تعالى : " وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ " والجن بلغهم القرآن. وقال ( صلى الله عليه وسلم) : " إن بالمدينة جناً قد أسلموا " وكان الجن المسلمون يسعون إلي التفقه في دينهم، فقد أخبر القاضي الفقيه على الخلعى (لات492هـ/198م ) أن الجن كانوا يأتون إليه ، ويقرءون عليه ، لذا كان يقال له قاضى الجن، وهو من أصحاب الشافعي وقد جمع أحمد بن الحسين الشيرازي أحاديثه في عشرين جزءاً ، وسماها : الخلعيات...".

في حكاية الملك قمرالزمان بن الملك شهرمان يقدم لنا القاص الشعبي – المغرم بالعجائب – العفريتة المؤمنة ميمونة بنت الدمرياط التي يبهرها حسن الملك قمر الزمان، وحين رأته سبحت الله وقالت تبارك الله أحسن الخالقين. وميمونة لها أجنحة فتحتها وطارت ناحية السماء فقابلت العفريت دهنش وله أيضاً أجنحة، وكان قادماً من الزيارة التي يقوم بها كل ليلة للملكة بدور الإنسية التي عشقها فصار في كل ليلة يتوجه إليها ينظرها ويتملي بوجهها يقبلها وهي نائمة بين عينيها ومن محبته لها لا يضرها. ويحتدم النقاش بين ميمونة ودهنش حول حسن من يحبان ؛ فدهنش يقول لميمونة محبوبتي بدور أحسن من محبوبك، وهي تقول له : بل معشوقي أحسن من معشوقتك، وتكاد أن تبطش به فيطلب منها أن يحتكما إلي من يفصل الحكم بينهما بالإنصاف؛ فتستدعي ميمونة العفريت قشقش وهو أعور أجرب وعيناه مشقوقتان في وجهه بالطول وفي رأسه سبعة قرون وله أربع ذوائب من الشعر مترسلة إلي الأرض ويداه مثل يدي القطرب (الذكر من السعالي) له أظفار كأظفار الأسد ورجلان كرجلي الفيل وحوافر كحوافر الحمار. ويفسر لنا وصف العفريت قشقش لماذا يعشق الجن الإنس؛ فالله تعالى خلق الإنسان فأحسن خلقه وأبدع صورته فجاء في أحسن تصوير ؛ حيث خلقه مستوي القامة متناسب الأعضاء متصفاً بالعلم والفهم. وقال تعالي عنه : " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم "، وكان من بين البشر نماذج خالدة في الحسن والجمال كيوسف عليه السلام.

وقد استمد القاص الشعبي هذا الوصف مما ورد في الكتب فحوافر الحمار مستمدة من زعم العرب أن الجن والشياطين والغيلان يتحولون في أية صورة شاءوا إلا الغول فإنها تتحول في جميع صور المرأة ولباسها إلا رجليها فلا بد أن يكونا رجلي حمار. وفي خبر يروي عن أبي بن كعب أنه شاهد جنياً وقال له ناولني يدك فلما تناولها إذا هي يد كلب وشعر كلب. وقد روي وهب بن منيه (20-110هـ/641-728م) – وهو عالم بأساطير الأولين ولا سيما الإسرائيليات – أنه كان يلقي جنياً في الموسم كل عام فيسأله ويخبره. وقد لقيه عاماً في الطواف فلما قضيا طوافهما قعدا في ناحية المسجد . وطلب وهب من الجني أن يناوله يده فإذا هي مثل برثن ( إصبع ) الهرة وإذا عليها وبر ثم مد يده حتى بلغت منكب الجني فإذا مرجع (أسفل الكتف) جناح . وأما وصف العفريت بأن عينيه مشقوقتان في وجهه بالطول فقد أخذه القاص من حديث للقاضي جلال الدين بن القاضي حسام الدين الرازي الحنفي عن زواجه من جنية لها عين واحدة مشقوقة بالطول بعد أن طلبت أمها منه أن يتزوجها. وقد روي خبر عن بلقيس ملكة سبأ، والتي كانت أمها امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، أن مؤخر قدميها كان مثل حافر الدابة, وفي حديث لجرير بن عبد الله أن هربذ من أهالي تستر وصف له شيطاناً حمله على ظهره، وكان له معرفة ( الشعر النابت في محدب الرقبة ) كمعرفة الخنزير. وهكذا، أمد العلماء القاص الشعبي بالعناصر التي صهرها في بوتقة خياله ليخرج لنا وصف الجن والعفاريت . ومن الجدير بالذكر أن الشبلى (ت 769هـ) صاحب كتاب ( آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان ) قد أفرد الباب الحادي والثلاثين من كتابه لبيان تعرض الجن لنساء الإنس.

تعرض رجال الإنس لنساء الجن

كما تناولت الأخبار والحكايات تعرض الجن لنساء الإنس واختطافهن واغتصابهن فقد أمدتنا أيضاً بخبر عن اختطاف رجل من الإنس لجنية واغتصابها وإنجابه ولداً منها. وقد حاول راوي الخبر أن يضفي عليه الصدق فنقله عن أكثر من شخص عن كعب بن مالك الأنصاري (ت55هـ/675م) وهو صحابي من أكابر الشعراء، اشتهر في الجاهلية، وكان في الإسلام من شعراء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وشهد الوقائع وقد روي عبد الرحمن الهروي في كتابه " العجائب " الخبر على لسان بطل الحادثة الذي كان معه ابنه من الجنية، فقال إنه ركب البحر فكسر به المركب وسلم على لوح فأقام بجزيرة حيناً، يأكل من ثمرها ويأوي إلي شجرة من أشجارها، فبينما هو ذات ليلة إذ خرج من البحر جوار مع كل واحدة درة، ترمي بها ثم تعدو في أثرها وضوئها حتى تأخذها، ولهن غنغنة كأمثال الخطاطيف ( الخطاف هو الطائر المعروف بعصفور الجنة ) ، قال : فتحرك منه ما يتحرك من الرجال وهش إليهن، فتعرف أمورهن وأخرهن ليلة وثانية، ثم نزل فقعد في أصل شجرة، حيث لا يرونه، فلما خرجن غدا في أثرهن ، فتعلق بشعر واحدة منهن، وكان شعرها يجللها (يغطيها)، فجاء بها يقودها حتى شدها بأصل الشجرة، ثم وطئها فحملت منه بهذا الغلام، فلم يزل يعذبها حتى أرضعته سنة، ثم هم بحلها فكره ذلك ، وقال حتى يبلغ الفطام ويأكل، وهي في خلال ذلك تحمل الغلام فرحة به إلا أنها لا تتكلم، فظن أنها قد ألفته وأنها لا تبرح فحلها، فاستغفلته وخرجت تعدو حتى ألقت نفسها في البحر، وبقي الصبي في يديه، فلم يكن أسرع من أن مر به مركب فلوح له فركبه وخرج إلي بلاده.
"الليالي" تستعير الحكاية.

لقد استعار القاص الشعبي هذه الحكاية العجيبة ، وأدخلها في نسيج حكاية " حاسب كريم الدين " وهي حكاية تبتدئ من نهاية الليلة (460) وتمتد حتى أواخر الليلة (524). ويجعل القاص الشعبي " بلوقيا " وهو من بني إسرائيل يخرج هائماً في حب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي طلبه وفي جزيرة رأي جبلين وعليهما أشجار كثيرة، وأثمار تلك الأشجار كرؤوس الآدميين ، وهي معلقة من شعورها، ورأي فيها أشجار أخري أثمارها طيور خضر معلقة من أرجلها، وفيها أشجار تتوقد مثل النار، ولها فواكه مثل الصبر ، وكل من سقطت عليه نقطة من تلك الفواكه احترق بها، ورأي بها فواكه تبكي وفواكه تضحك، ورأي بلوقيا في تلك الجزيرة عجائباً، ثم إنه تمشي إلي شاطئ البحر، فرأي شجرة عظيمة فجلس تحتها إلي وقت العشاء فلما أظلم الظلام طلع فوق تلك الشجرة، وصار يتفكر في صنع الله تعالى، فبينما هو كذلك ، وإذا بالبحر قد اختبط، وطلع منه بنات تحت تلك الشجرة وجلسن ولعبن ورقصن وطربن ، فصار بلوقيا يتفرج عليهن وهن في هذه الحالة، ولم يزلن في لعب إلي الصباح فلما أصبحن نزلن إلي البحر. لقد جعل القاص الشعبي بنات البحر بدلاً من الجنيات، ولعل هذا يفسر لنا نشأة حكاية الجنية أم الشعور التي تختطف الشبان في الريف المصري والتي تسكن الماء.

ويعود القاص الشعبي إلي استخدام الخبر نفسه مع تلوينه في الحكاية نفسها عندما يسرد ما جري لجانشاه من عشق الجنية شمسة التي تأتي مع أختيها في صورة ثلاثة طيور من الحمام، وعندما ينزعن ما عليهن من الريش يصرن ثلاث بنات كأنهن الأقمار ليس لهن في الدنيا شبيه. ولما وقع جانشاه في حب شمسة، نصحه الشيخ نصر ملك الطيور أن يأخذ ثوبها الريش ليستبقيها حتى يوفق الشيخ نصر بينه وبينها. وينجح الشيخ نصر في التوفيق بينهما وتحلف له شمسة يميناً عظيماً أنها لا تخون جانشاه أبداً ولابد أن تتزوج به، وحين ذهب جانشاه إلي أبي شمسة الملك شهلان في مدينة " جوهر تكني " ركب هو وجميع الأعوان والعفاريت والمردة إلي ملاقاته، وأمر لجانشاه بخلعه عظيمة من الحرير مختلفة الألوان مطرزة بالذهب مرصعة بالجوهر، ثم ألبسه التاج الذي ما رأي مثله أحد من ملوك الإنس ثم أمر له بفرس عظيمة من خيل ملوك الجان. وبعد ذلك عملوا عرساً عظيماً للسيدة شمسة حتى صار فرحاً عظيماً لم يكن مثله، ثم أدخلوا جانشاه على السيدة شمسة، واستمر معها مدة سنتين في ألذ عيش وأهدأه.

زواج الإنس والجن وثمرة الزواج

اعتقد العرب في إمكان زواج الإنس والجن. واعتقدوا أيضاً أن هذا الزواج يمكن أن ينتج نسلاً؛ فأطلقوا على نتاج زواج الإنس والجن اسم " الخنس "، وقالوا إن عمرو بن يريوع كان مولوداً من السعلاة والإنسان . والسعلاة نوع من المتشيطنة مغايرة للغول، وهي ما يتراءى للناس بالنهار ، والغول ما يتراءى للناس بالليل. وقد قال الشاعر يهجو بني السعلاة :

ياقبح الله بنى السعلاة
عمرو بن يريوع شرار النات
ليسوا أعفاء ولا أكيات


والنات أي الناس ، وأكيات أي أكياس جمع كيس ، وقد قلب الشاعر السين تاء، وهي لغة في بعض العرب.
كما زعم العرب أيضاً أن بلقيس مكلة سبأ . وقد ذكرت في القرآن الكريم – كانت نتاج زواج إنسي بجنية ؛ فقد تزوج أبوها وهو من عظماء ملوك اليمن امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن. ولما جاء الإسلام ورد ذكر بلقيس في القرآن الكريم، وروي حديث لأبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " أحد أبوي بلقيس كان جنياً "، فكان لهذا أثره في ترسيخ الإعتقاد بإمكان زواج الإنس والجن وأن يثمر هذا الزواج نسلاً.

ولكن ينبغي أن ننظر إلي هذه الأحاديث بحرص فهناك حديث عن الزهري قال : " نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الجن ". وقد اتخذ الفقهاء موقفاً رافضاً ممن أدعي زواج الجن ؛ فالفقيه المصري يونس بن عبد الأعلى (170-264هـ/787-877م) والذي صحب الشافعي وأخذ عنه حين سمع نعيم بن سالم بن قتيبة مولي على بن أبي طالب يقول : تزوجت امرأة من الجن لم يرجع إليه ولم يأخذ عنه. وقد وصف شيخ الإسلام العز بن عبد السلام (1182 – 1262م) الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي (1165 – 1240م) بأنه شيخ سوء كذاب لأنهم تذاكروا يوماً نكاح الجن، فقال ابن عربي : الجن روح لطيف، والإنس جسم كثيف، فكيف يجتمعان ؟ ثم غاب عنهم مدة وجاء وفي رأسه شجة ( جرح ) ، فقيل له في ذلك، فقال : تزوجت امرأة من الجن فحصل بيني وبينها شيء فشجتني هذه الشجة.

زواج الإنس والجن في فكر العلماء

ناقش الجاحظ الإتصال الجنسي بين الإنس والجن فقال : وزعموا أن التناكح والتلاقح ( الإنجاب ) قد يقع بين الجن والإنس لقوله تعالى : " وشاركهم في الأموال والأولاد " (سورة الإسراء آية 64). ويعلق على قوله تعالى " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " (سورة الرحمن آية 56 ، 74) ولو كان الجان لا يفتض الآدميات، ولم يكن ذلك في تركيبه، لما قال الله تعالى هذا القول، وقد تناول الشبلى في كتابه " آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان " الموضوع باستفاضة، وعن إمكان المناكحة بين الإنس والجن يقول : " نكاح الإنس الجنية وعكسه ممكن ". ويمضى الشبلى في الرد على التساؤلات التي يمكن أن تثار : فإن قيل الجن من عنصر النار والإنسان من العناصر الأربعة وعليه فعنصر النار يمنع أن تكون النطفة الإنسانية في رحم الجنية لما فيها من الرطوبة فتضمحل ثمة لشدة الحرارة النيرانية، ويجيب بأنهم ( أي الجن ) وإن خلقوا من نار فليسوا بباقين على عنصرهم الناري بل قد استحالوا عنه بالأكل والشرب والتوالد والتناسل كما استحال بنو آدم عن عنصرهم الترابي بذلك، وأن الذي خلق من نار هو أبو الجن كما خلق آدم أبو الإنس من تراب. ويضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه وجد برد لسان الشيطان الذي عرض له في صلاته على يده لما خنقه, فبرد لسان الشيطان ولعابه دليل على أنه انتقل عن العنصر الناري.

وقد ذهب الإمام محمد على سلامة وهو من العلماء المعاصرين إلي إمكانية وقوع التزاوج بين الجن والإنس ؛ فهو يقول في كتابه "حوار حول غوامض الجن": ولكن عدم الجواز شرعاً شئ ووقوع هذا التزاوج بالفعل شئ آخر لأنه قد يقع رغماً عن أحد الطرفين، بحيث إذا لم يستجب عذب أو قتل، وغالباً ما يكون التناكح بين الجن والإنس من هذا القبيل، ويكون سببه شهوة الجن وعشقه إنسان أو إنسانة ، ويكون كل منهما مقهوراً للجن، وقد يكون التزاوج بينهما باتفاق ورضي، وذلك نادر جداً، وهو محرم شرعاً أيضاً كما ذكرنا ، وفي حالات أندر قد يقهر الإنس الجن الذي يستخدمه على هذا الأمر أي النكاح " . كذلك يري الإمام محمد على سلامة أن قوله تعالى : " ويوم يحشرهم جميعاً يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم " ( سورة الأنعام آية 128) فيه أخبار عن حال الجن والإنس الذين استمتعوا ببعضهم في شهوة الجنس، وغيرها من الشهوات. وعندما سئل مالك بن أنس (ت 795م) عن رجل من الجن يخطب جارية يزعم أنه يريد الحلال . قال : ما أري بذلك بأساً في الدين، ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها من زوجك ؛ قالت : من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك.

وقد احتل زواج الإنس والجن فصولاً في الكتب ، وأحياناً خصصت له كتب بكاملها. فقد جعل أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي في كتابه " الإلهام والوسوسة " باباً لنكاح الجن وكذلك الشبلي في كتابه " آكام المرجان في غرائب أخبار وأحكام الجن "، وكذلك السيوطي في كتابه " لقط المرجان في أحكام الجان ",
أما حامد على العمادي فقد خص زواج الإنس والجن بكتاب أسماه " تقعقع السن في نكاح الجن ".

موقف "الليالي" من نتاج زواج الإنس والجن

أقر القاص الشعبي في حكايات ألف ليلة وليلة عشق الإنس والجن ووافق على زواجهما وممارستهما للجنس، ولكن تحفظ فيما يتعلق بإمكان أن ينجب الجني من الإنسية أو الإنسي من الجنية ؛ ففي كل الحكايات التي عرضنا لها لم يرد ذكر لنتاج هذا الزواج أو الاتصال الجنسي على الرغم من أن " جانشاه " استمر مع الجنية " شمسة " مدة سنتين في ألذ عيش وأهنأه. ولعل ذلك راجع إلي إيمان القاص الشعبي بأن الإنس والجن ليسوا من الجنس نفسه، ولقوله تعالى: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " (سورة الروم، آية 21) والجن ليسوا من أنفسنا فلا يكونون أزواجاً لنا، ولا ينتج عن الزواج بهم ذرية.