الليالي السود في تركستان في رؤية نجيب الكيلاني الروائية
بقلم الدكتور: محمد مصطفى هدارة

منذ عرفت الرواية التاريخية طريقها إلى أدبنا العربي الحديث، اختار الروائيون أحداثاً من التاريخ ثاوية في سجلاته منذ آلاف السنين، تنتمي إلى العصر الفرعوني أو البابلي أو الآشوري، أو إلى الجاهلية العربية، أو إلى التاريخ الإسلامي الحديث كجرجي زيدان الذي كتب عن الثورة المهدية في السودان في روايته (أسير المهدي)، وبعض الذين جعلوا مأساة فلسطين قلب المشرق العربي محور رؤيتهم الروائية، وظلت الأطراف الإسلامية البعيدة في آسيا وإفريقية وأوروبا متوارية عن اهتمام الرواية التاريخية العربية حتى جاء نجيب الكيلاني فاستثار من غياهب النسيان مآسي المسلمين في صراعهم مع الاستعمار والصليبية التي وقعت في العصر الحديث، بل إن تلك المآسي لم تكن منسية فحسب، لكنها غائبة تماماً عن إدراك المسلمين في المشرق والمغرب. فلولا مأساة حرب البوسنة لما أدرك المسلمون المعاصرون وجودة دولة إسلامية في قلب أوروبا، وكذلك الأمر في الشيشان التي برزت بوجهها الإسلامي الجسور في الأحداث الراهنة وهي تصارع الاستعمار الروسي الكئيب.

ويعبر نجيب الكيلاني في حواره مع مصطفى مراد حضرت في أول الرواية عن غياب الدول الإسلامية البعيدة عن ذاكرة المسلمين، بقوله:
- من تركستان.
فكرت قليلاُ ثم قلت: - أهي بلاد ملحقة بتركيا؟
وعلت ابتسامته الساخرة ظلال كآبة وقال: - المسلمون لا يعرفون بلادهم، ما هي صناعتك؟
-طبيب من مصر.
- أفي بلاد الأزهر الشريف ولا تعرف تركستان، حسناً... لا شك أنك تعرف الإمام البخاري والفيلسوف الرئيس ابن سينا والفارابي، والعالم الجهبذ البيروني.
- إنني أعرفهم.
- هم من بلادي.
لقد لخص هذا الحوار القصير تقصير المسلمين في معرفة أوطانهم التي سلخت منهم، وعرفت بتركستان التي أنجبت الأفذاذ من علماء المسلمين في علم الحديث والفلسفة والطب والمنطق والتاريخ، كذلك أبان الحديث (بوجود مصطفى مراد حضرت) أن تركستان لم تزل حية ماثلة في التاريخ المعاصر، ولم تكن ضمن الأمم البائدة في التاريخ. وتتضح مأساة تركستان في بداية الرواية حين قصد الكاتب أن يلقي أضواء كاشفة تبرز القضية وأبعاد الزمان والمكان والحدث، فالتركستان تقع في أقصى الشمال، وقد انقسمت بفعل الاستعمار إلى تركستان شرقية وأخرى غربية، فاحتل الروس تركستان الغربية وضموها إلى جمهوريات الاتحاد السوفييتي، واحتل الصينيون تركستان الشرقية وضموها إليهم وسموها سنكيانج ( أي الأرض الجديدة) وهكذا ضاعت بلاد إسلامية كانت من أعظم بلاد الله حضارة وتاريخاً وكفاحاً ومجداً، إنها الأندلس الثانية. وإذا كانت هذه البلاد الإسلامية قد وقعت في أسر الشيوعية المتمثلة في روسيا والصين فإن سواها قد وقع في قبضة الصليبية أو الصهيونية في التاريخ المعاصر، وما ذاك إلا نتيجة الصراع الدولي بين الأقوياء الذين يجيدون لعبة الكرة التي تتداولها أقدامهم.
وتبدأ الأحداث في عام 1930 حين احتلت الصين إقليم (قومول) في تركستان وأصدر الحاكم الصيني قراراً يلزم أي تركستاني مسلم بأن يزوج ابنته من أي صيني يتقدم لطلب يدها دون اعتبار لاختلاف العقيدة، وبدأ الحاكم بنفسه فتقدم إلى أمير المقاطعة يطلب يد ابنته. وكان هذا القرار بداية الصدام بين الإسلام والإلحاد، فكيف تبيح المسلمة نفسها لصيني لا يؤمن بالإسلام، بل لا يؤمن بأية عقيدة سماوية، وحاول المسلمون الخلاص من هذا المأزق حتى إن كل فتاة مسلمة حاولت جاهدة أن تبحث لها عن رجل مسلم يتزوجها قبل أن تساق كالذبيحة إلى غاز من الغزاة الصينيين أو مهاجر من مهاجريهم وفي الوقت ذاته كان الشرطة الصينيون يجرون الفتيات جراً كي يرغموهن على الزواج من الجنود والمهاجرين، بينما كان الآباء التركستانيون الرافضون تشوي السياط أبدانهم، ويضربون بكعوب البنادق، ويركلون بالأقدام في ازدراء ومهانة، وكثير من المسلمين كانوا – إذا جن الليل- تستروا به للهروب من المدينة ليأووا إلى الجبال أو يهيموا في البيداء. وكان طبيعياً أن يرفض الأمير التركستاني المسلم زواج ابنته من الحاكم الصيني الملحد، فقبض عليه وزج به في السجن، ثم دبر مع مستشاريه حيلة للخروج من هذا المأزق، وكان يفصح عن مشاعره الحقيقة في مناجاة داخلية إذ يقول: " ابنتي بين ذراعيه، يا للمهزلة، إنني أشعر بالتقزز والغثيان، فما بال المسكينة إذا وقعت بين براثن هذا الحيوان"، وتظاهر الأمير التركستاني بقبول خطبة القائد الصيني لابنته، وحين بلغتها هذه الموافقة ولم تعلم السر الكامن وراءها حاولت الانتحار لتؤثر دينها على دنياها، وكان السر وراء الموافقة انتهاز فرصة تجمع القادة الصينيين للاحتفال بزواج قائدهم من أميرة قومول والقضاء عليهم فقد خرج الأهالي عن بكرة أبيهم يفتكون بالصينيين ويستردون بناتهم التعيسات ويحررون الأسرى والمأسورين في السجون ودور الشرطة، ومن بقي من الصينيين كان يفر هارباً، أو يتوسل ضارعاً، أو يسجد على الأرض طالباً العفو. وأحس الأمير أنه أدى واجبه، فقال وهو يضم ابنته إلى صدره: أستطيع أن أقول الآن إنني أمير قومول.. سأظل أميراً طوال حياتي، أعني لن ألقي السلاح ولن أقبل السلام ولن أقبل الهزيمة مرة أخرى، فإذا فشلنا فسأمضي في طريق الجهاد حتى الموت.. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني أن أعيش بها أميراً وأموت بها أميراً وألقى الله مسلماً.
هكذا بدأت الثورة الإسلامية على الاستعمار الصيني، وقد أدرك الثوار أن الاستسلام يجر عليهم الكوارث، فالمنهزم لا حدود لتنازلاته، وليست هناك وسيلة للدفاع عن المقدسات الإسلامية سوى الحرب، فالبحث عن حل سلمي في المواجهة بين الإسلام والإلحاد مضيعة للوقت، لقد انبثقت روح جديدة وسط ظلمات اليأس المدلهمة، فقد انحدر الرعاة بأغانيهم الشعبية من الجبال، وأتي الفلاحون بثيابهم الرثة حاملين أسلحتهم الصدئة يهللون ويكبرون، ومرت الثورة بأطوار كثيرة ما بين هزيمة وانتصار، وحين كانت تلقي الهزيمة أمام طوفان جحافل المستعمرين، كان الثوار يفرون إلى الجبال ويقومون بهجمات انتحارية داخل المدن، واندلعت في خلال مراحل التطور ثورة مقاطعة ( إيلي) بقيادة عالم إسلامي كبير هو الشيخ علي خان الذي استطاع أن يحرر المقاطعة عام 1945، ويصبح رئيساً لجمهورية تركستان الشرقية، ثم انضم إليه البطل الثائر عثمان باتور فحرر مقاطعتين أخريين انتزعهما من أيدي الصينيين، وصح ما قاله منصور (درغا): (كلما حققنا شيئاً من النصر يظهر وجه بلادنا الحقيقي تغمره الفرحة، وتضيء المآذن وينطلق منها التكبير والتسبيح لله.
وتصور أحداث الرواية بطولة الثوار المسلمين إزاء مواجهة بشاعة الاستعمار الصيني الذي كان يهدف إلى محو الإسلام من تركستان، وقد جرد الجيش والشرطة لإرغام الفتيات المسلمات على الزواج من الصينيين، " ليست لديهم أزمة في النساء لكنهم يريدون القضاء على قيم ومبادئ، وقد لقي نحو مائة ألف مسلم مصرعهم على أيديهم، بينما كان في معتقلاتهم حوالي ربع المليون، وكانت موائدهم عامرة بأطيب الطعام، بينما كان الشعب يأكل أوراق الشجرة، وحين تولى الحاكم الجديد (أوجون) السلطة أمر بالقبض على الطبقة المثقفة في تركستان وخاصة الكتاب والشعراء والعلماء وأقام مذبحة رهيبة.
وكانت تركستان الشرقية في فترة من تاريخ نضالها نهب صراع بين الاستعمار الصيني والاستعمار الروسي، وإن كانت وحدة الفكر الشيوعي رابطة قوية بينهما، الأمر الذي جعلهما يتآلفان لمحو الإسلام من البلاد، فكانت الأسلحة الروسية والرجال الروس يتدفقون لمساعدة الحاكم الصيني، كذلك كان الروس يحرضون الطبقات بعضها على بعض، ويوقعون الفتنة بينها، ومثلما استطاع السلاح الروسي أن يقوي شوكة الصينيين، استطاع التخريب الفكري الروسي أن يوهن القوى ويمزق أواصر الوحدة الشعبية، وكان الروس يستولون على إناث الماشية في تركستان ويبعثون بها إلى بلادهم ليقطعوا نسلها. وفي الوجود الروسي في تركستان اختفت عائلات تركستانية بأكملها، كما بلغ عدد المعتقلين ثلاثمائة ألف، حكى بعض من نجا منهم قصص التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له وحين أسروا بعض المسلمين في إحدى المعارك ربطوهم في عجلات الدبابات، وتباروا في تصويب الرصاص على آذانهم وعيونهم.

وكان الصينيون والروس بنشرهم الفساد في المجتمع التركستاني يدعون إشاعة العصرية والحرية، وأول ما يعوق نشاطهم الإسلام المتمكن في وجدان الناس وعقولهم، ولهذا كان أحد قوادهم يقول: عندما نتحرر من التقاليد القديمة وسطوتها نشعر أننا أصبحنا رجالاً عصريين، الرجل العصري إله نفسه، لا تحكمه سماء ولا تخيفه قوة مجهولة، وأتى الصينيون بقوافل من الفتيات الصينيات لنشر الدعارة باسم الحرية والتحرر، وكان يمزقون ملابس المسلمات المحجبات في الطرق العامة ويكشفون وجوههن عنوة باسم التقدم والحضارة، وقد أثمرت هذه الجهود التخريبية بعض النجاح، ولهذا يقول مصطفى مراد حضرت قرب نهاية روايته لمأساة بلاده :" كل شيء من حولنا يتبدل ويتغير بسرعة، الناس والأشياء والأسلحة والمواقف.. كثير من أولادنا ذابوا في خضم الهزيمة، أخذوا يلوون ألسنتهم بكلمات جديدة وشعارات رنانة، والبنات يا إلهي خرجن إلى الشارع سافرات، تيار كاسح من المغالطات والفضائح والانحرافات يجرف كل شيء أمامه باسم التقدم، لقد استطاع الاستعمار الشيوعي في تركستان أن يهيئ مجموعة من الخونة يتعاونون معه ومجموعة أخرى انسحب أصحابها من الحياة ولم يشاركوا في الجهاد، ومجموعة ثالثة كفروا بالله وآمنوا بالفلسفة الماركسية، ومجموعة رابعة من النساء اللائي لا يعرفن شيئاً اسمه الفضيلة، بل يصرح أحد شخصيات الرواية بأن مجموعة ضخمة من أبناء تركستان الشرقية تربوا على المبادئ الشيوعية في روسيا. وحين عين (جانجي) الصيني حاكماً عاماً لتركستان الشرقية كان يعاونه ثلاثة من التركستانيين الذين باعوا أنفسهم للشيطان، كما عين أحمد خان الشيوعي التركستاني رئيساً لثلاث مقاطعات، وأعلن (برهان شهيدي) الشيوعي التركستاني خائن وطنه انضمام تركستان الشرقية للصين الشيوعية بإيعاز من ستالين طاغية روسيا.

إن الحس الإسلامي في روايات نجيب الكيلاني التاريخية عنصر أساسي في فنه الإبداعي، وقد استطاع أن يبرزه في (ليالي تركستان) من خلال الأحداث والشخصيات، فأمير قومول يقول : أعرف أن الإنسان ليس شحماً ولا دماً ولا لوناً فحسب، إنه الفكرة والمعتقد ويقول في موضع آخر: ديننا هو شرفنا ويعبر (خوجة نياز حاجي) عن إرادة القتال عند الثوار المسلمين من مواطنيه مستعيناً بالتاريخ الإسلامي وما يوجهنا إليه القرآن الكريم فيقول: (إذا كنتم تقيسون الجيوش بعددها فوالله إن الإسلام ما كان لينتشر وترفع راية الله في الأرض لو أن المسلمين الأوائل فكروا كما تفكرون، وكأني بكم لم تقرؤوا قول العلي الأعلى (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)، ثم يقدم نقداً ذاتياً لتخاذل المسلمين قائلاً: (علينا معشر المسلمين أن نتخذ القرآن إماماً لنا، فإنه يكفل خير الدنيا والآخرة، والله ما تحكم الأعداء فينا وملكوا رقابنا إلا لأننا تنكرنا لديننا ونبذنا قرآننا وراءنا ظهريا). ويضع الكاتب على لسان (خوجة نياز) نبوءة تحققت وذلك في قوله: (إرادة الله أقوى من أية فلسفة أرضية، إن ما تحسبونه انتصاراً أبدياً لفلسفة من الفلسفات الملحدة إنما هو بريق مؤقت سرعان ما ينطفئ).
ويروي مصطفى حضرت –الشخصية الرئيسة في الرواية على لسان خطيب مسجد في (كاشغر) كلاماً يؤكد الحس الإسلامي الذي يشكل تياراً مهماً في الرواية، وذلك حين يقول: (يا بني إن الإسلام هو العزة، فمن تمسك به عز، ومن تركه ذلك، وبلادنا استسلمت لنوم عميق، وغلبت عليها الدعة والاسترخاء والعبث، وأخذ الناس ينسلون عن الدين عروة عروة، ويؤكد المعنى نفسه أحد القواد المسلمين بقوله: (إننا نعتصم بالإسلام وهو خير درع ضد أي غزو شيوعي أو فكري).
وهذا الحس الإسلامي القوي في روايات الكيلاني التاريخية لا يتحول إلى تعصب ضد الأديان الأخرى فنراه دائماً يؤكد أن الصليبية تنافي المسيحية الصحيحة، يقول على لسان إحدى شخصياته: (طمع فينا قياصرة الروس بتحريض من المتعصبين الأوربيين أدعياء المسيحية).
وهناك عنصر أساسي آخر في روايات الكيلاني التاريخية هو ما أسميه وحدة التاريخ التي تضم أحداث الماضي والحاضر والمستقبل في رؤية واحدة، فهو يعود دائماً إلى تاريخ المسلمين الأوائل ليربطه بالحاضر، لا في بؤرة الصراع فحسب بل ينتقل ببصره في مواقع مختلفة، كما أنه يستشرف المستقبل، فهو يرى في مأساة تركستان أندلساً ثانية، وتذكر إحدى شخصياته الصينيين بأيام بؤسهم حين كانوا يبيعون أطفالهم وبناتهم، كذلك كانت الحروب الصليبية الاستعمارية المتسترة بالدين حائلة له في مواضيع مختلفة.
ويبرز الكيلاني أيضاً وحدة الاتجاه الفكري (الأيدلوجي) الذي يتغلب على فوارق الجنس واللغة والأهداف، فالشيوعية هي التي وصلت بين روسيا والصين فنشأ بينهما تعاون قوي لابتلاع تركستان والقضاء على الإسلام فيها.

ويتميز فن الكيلاني في الرواية برؤية تاريخية واقعية تبدو لنا في (ليالي تركستان) في اهتمامه بالطبيعة الجغرافية لمسرح الأحداث، وإحاطته الواسعة بأسماء الأقاليم والمقاطعات والمدن، وتدقيقه في اختيار أسماء الشخصيات المخترعة في روايته لتتآلف مع أسماء الشخصيات التاريخية، أما روايته للأحداث فتعتمد على التاريخ الصحيح في معظمها، فلا يتجاوزه إلى أحداث أخرى أو إلى شخصيات مشاركة في الأحداث إلا وفق ما يقتضيه البناء الفني في الرواية وإيجاد عنصر تشويق ومتابعة فيها، لكننا لا نراه يلجأ إلى إقحام قصة حب عاطفية للتخفيف من وطأة الالتزام التاريخي- كما كان يفعل جرجي زيدان على سبيل المثال، بل نراه يوظف العاطفة توظيفاً فنياً بحيث تصبح عنصراً أساسياً في نسيج الرواية، وهذا ما نشهده في علاقة مصطفى حضرت بنجمة الليل التي طرأت عليها أحداث متغيرة ارتبطت بالنزعة الدرامية في الرواية وكانت جزءاً أساسياً في صراع الثورة الإسلامية ضد الاستعمار الشيوعي الملحد.
كذلك نجد الصور الفنية في الرواية موظفة توظيفاً جيداً في تصوير الحدث أو الشخصية وليست حلية منفصلة من نسيج الرواية، فالكاتب حين يصور مأساة أمير قومول حين تقدم إليه الحاكم الصيني ليخطب ابنته، يقول في رمز قوي الدلالة على ما كان فيه الأمير من إحباط ويأس:" دخل الأمير قصره، السيوف الأثرية تتدلى في عناء والبنادق الفارغة ساكنة فوق الجدران كجثث الشياه المتعفنة، وتاريخ أجداده نائم في أحضان الصفحات المتراصة التي غلفها الغبار).
ويحلل الكاتب كآبة مصطفى حضرت حين علم أن محبوبته نجمة الليل تزوجت ضابطاً صينياً من خلال صورة فنية دقيقة يقول مصطفى ( وأنا إذ تنطفئ الفرحة في قلبي أشعر أنني أغوص إلى أعماق بعيدة محشوة بالأفاعي والأشباح والدخان الأسود). ويصور الكاتب جو اليأس الذي أحاط بالثوار بعد أن هزمتهم قوى الطغيان من خلال محاورة بين مصطفى ومحبوبته نجمة الليل، موظفاً الرمز من خلال هذا التصوير، إذ يقول" ( وساد الصمت فترة أخرى، كان النسيم بارداً والشمس في المغيب تصب أحزاناً من نوع عجيب، وبعض المآذن القديمة ترقد في صفاء الأصيل كلحن عقيق ذي رنين أثري تاريخي، والقباب نائمة كسلحفاة عجوز). ويعبر الكاتب عن وقوع التركستان في أيدي أعدائها مقهورة بائسة في صورة قوية الدلالة، (البلاد امتدت إليها أيد أسطورية ضخمة تلهو بجماهير الناس، وتخلطهم وتعتصرهم، وتبعثرهم يميناً وشمالاً).
وقد جعل الكيلاني، مصطفى مراد حضرت الراوي الأول للأحداث، بيد أنه أشرك معه رواة آخرين تتقاطع أصواتهم مع صوته في محاولة لتوجيه الأحداث وتنقلها زماناً ومكاناً، هرباً من تضييق الرؤية بالاقتصار على راو واحد، كذلك نجد الكاتب يستخدم عنصر السرد في بعض المواقع في محاولة لتنويع طرق الحكاية. وتتفاوت شخصيات الرواية في أهميتها بالنسبة للأحداث، ومن الطبيعي أن يقدم الكاتب زعماء ثورة التركستان وأقطاب الجهاد بدءاً من أمير قومول، ثم خوجة نياز حاجي وعثمان باتور، من خلال مواقف مؤثرة في الأحداث إلى حد بعيد، وهذه المواقف تكشف سلوك هذه الشخصيات وتحدد ملامحهم النفسية وتسجل أفكارهم. فعثمان باتور- على سبيل المثال قوي العزيمة لا يستسلم لليأس، يلجأ إلى عقله، فحين وجد أن المعركة حول (أورمجي) خاسرة انسحب إلى الجبال قائلاً: (في الإمكان أن نصمد حتى الموت، وهذا شيء عظيم، الأعظم منه أن نبقى أحياء ونطهر أرض الإسلام منهم). ويتأكد لنا الاتجاه العقلاني في شخصية باتور من حديث مصطفى حضرت عنه فهو يقول: (لم يكن عثمان باتور رجلاً ساذجاً غير مدرك لوقائع الأمور ومجريات الأحداث، كان قائداً بطلاً محنكاً، كان يعلم أن العشرين ألف جندي الذين يعتصمون معه بالجبال، لا يستطيعون وحدهم أن يتصدوا لملايين الصينيين). ولكن القوة لا ترهبه ولا تدفعه إلى الاستسلام فهو صامد حتى النهاية، يقول: ( هذا قدرنا، وقد كتب علينا ألا نضع السلاح ما دمنا أحياء، وخير لنا أن نلقى الله من أن نرضخ لحكم الشيوعيين من الصين أو روسيا، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله).
وسقط عثمان باتور في أيدي أعدائه، فنصبوا حفلاً لإعدامه، فكانت نهايته بطولية قوية، ويمثل (منصور درغا صورة للصمود البطولي، لا في مواجهة الالتحام القتالي مع العدو فحسب، بل في مواجهة أصعب المشكلات التي يمكن أن تصيب النفس بالجروح والعقد، وإن كان يقع أحياناً في حالات من فقدان التوازن، لأنه – كما يقول مصطفى حضرت في وصفه- " مثالي حالم.. يحلم دائماً بالتاريخ العاطر، لم يحاول أن يوفق بين الماضي الرائع والحاضر التعس، حتى يحفظ على نفسه شيئاً من التوازن النفسي). وهو لكثرة ما وقع في حياته من مآس- يتساءل في حزن هل لا بد أن يشقى الإنسان حتى يبلغ ينابيع السعادة) ونحس فقده الثقة في حكمة الأحداث فهو يقول" فجعت في الإنسان كإنسان، لماذا تموت زوجتي، ولماذا يموت العجوز أبي، وتراق دماء أمي وإخوتي وعشيرتي، قيل لي إنهم كانوا يتمتمون ببضع آيات من القرآن، وكان أبي يعلو صوته بآية الكرسي، وكان الجلادون يضحكون، لماذا يضحكون".
ويصل منصور إلى حافة الانهيار حين يجد زوجته قد تحولت إلى عاهر بالرغم منها ويفكر في الانتحار لولا إيمانه الذي اعتصم به، لقد أوجعته الهزيمة في أرض المعركة وفقد شرفه.
وشخصية مصطفى حضرت الرئيسة في الرواية تعبر عن روح المقاومة في وطنه التي انطلقت من التمسك بعقيدتها وشهدت انتصارات وهزائم، وكراً وفراً. ولما كان هو الراوي الأول للأحداث قدم لنا تفصيلات دقيقة عن حياته منذ بداياتها فعرفنا أنه من مواليد 1905 في مقاطعة (قومول) التي بدأت منها شرارة الثورة وأنه حفظ القرآن في المسجد وتعلم القراءة والكتابة باللغة العربية وبلغة البلاد، كما تعلم الصينية والمنغولية. وكان يعمل حارساً في قصر أمير قومول، ولهذا كان في قلب الأحداث التي توالت، وتبدأ خيوط قصته العاطفية تتجمع وتتشابك مع أحداث الثورة والمقاومة، فقد كان يحب وصيفة في قصر الأمير اسمها نجمة الليل، كانت تتمنع عليه وترفض الزواج منه، فلما أصدر الصينيون قرارهم بإلزام المسلمات بالزواج ممن هم على غير دينهم تقدمت إليه طالبة الزواج منه، فأبى أن يتزوجها تحت تأثير القرار الصيني.
وتقوم الفتاة بدور بطولي حين تساعد على هرب أسرة الأمير من القصر مضحية بنفسها بالزواج من ضابط صيني، وقد غابت تضحيتها عن فكر أهل المدينة، فلم يعرفوا غير زواجها من الصيني الملحد، وهذا ما أبلغوا به مصطفى فأحس جرحاً دامياً في قلبه حفزه على استمرار المقاومة والنضال، ونراه في لحظة بوح يهتف في أعماقه: ( لقد تبدد الأمل، كل شيء في جوانحي يموت: الحب، الأمل، النصر، كما ماتت بالأمس في قلبي نجمة الليل).
ثم يلتقي مصطفى بنجمة الليل وهي تعيش في أبهة زوجها الضابط الصيني، فيعرف حقيقة تضحيتها واشتراطها على الضابط الإسلام قبل الزواج، وقبوله هذا الشرط، وقد سعت إلى تعيينه في قصرها، وراودته عن نفسه، فاستعصم قائلاً: أنا رجل مسلم أعرف الله، فلما سألته عن سبب قبوله المجيء إلى قصرها، اعترف لنفسه بأن ذلك كان نزوة من نزوات الشيطان. ويعود الحب من جديد بين مصطفى ونجمة الليل حين تقتل بيدها زوجها الصيني الذي كان إسلامه نفاقاً وكان يذيق مواطنيها العذاب والقهر، ويتزوج مصطفى نجمة الليل، ويكون له ولد منها، وتختفي مع ابنها في خضم الأحداث العصيبة التي ألهت مصطفى عن نفسه، حتى إنه كان يستكثر على نفسه السؤال عن زوجه وولده قائلاً: " قد يرميني البعض بالأنانية لأنني أفكر في زوجتي وولدي.. والوطن برمته متعرض للضياع والفناء".
وهكذا تداخلت قصة حب مصطفى حضرت مع أحداث المقاومة ضد الاستعمار في وطنه، فلم تكن قصة مفتعلة منفصلة عن واقع الأحداث. ونجد شخصية نجمة الليل مركبة وليست سهلة ساذجة، فواضح منذ البداية طموحها برفضها الزواج من مصطفى حضرت الذي لم يزد على كونه حارساً في القصر، واستيقظ حسها الإسلامي قوياً حين تقدمت تعرض حبها على مصطفى في محاولة عدم الوقوع في إكراه إذا تقدم للزواج منها صيني، وتعلل مصطفى في رفضه بالثورة فهو يقول لها: كنت أفكر بالأمس في الزواج لأني لم أكن أجد عملاً ذا قيمة أعمله. - اليوم يا مصطفى حضرت. - أفراح الروح معلقة بالسماء، بالجهاد الأعظم. - هذا لا يمنع أن تضمني إليك، تستطيع أن تحارب وأن تنجب الأطفال، وهذا الحوار يبين طبيعة السلوك العملي في شخصية نجمة الليل، وإن كان هذا السلوك قد أدى في بداية الرواية إلى نوع من اليأس إذ سألت مصطفى في إنكار" أتعتقدون أنكم قادرون على هزيمة ملايين الصينيين". واتهمت مصطفى حين رفض الزواج في سبيل الجهاد بأنه يعيش بقلب ميت قبل أن يحين الموت، ولكنه كان موقنا بأن الحب الحقيقي لا يموت ولا يعتريه خوف، بينما رفعه سلوكها العملي إلى القول في حسرة: " لم أذق بعد شيئاً من الحب كباقي النساء". وحين غضب مصطفى حضرت لما سمعه من زواج نجمة الليل بضابط صيني عدها (مجرد إفرازات سامة لهذه الظروف العصيبة) وكان هذا الوصف نتيجة طبيعية لما رماها الناس به من خسة ودناءة ودعارة، باعتبارها قد باعت نفسها ودينها للمستعمرين.
إن مأساة تركستان المسلمة التي نكبت بالاستعمار الشيوعي الصيني الروسي قد تجسدت في رؤية نجيب الكيلاني الإبداعية، واقعاً حياً فيه حقائق التاريخ المعاصر وفيه النبض الإنساني الذي يجعل المأساة عملاً روائياً ذا قيمة فنية عالية.

نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(9-10)بتاريخ(1416هـ)