رد اعتبار

قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي



عبده يفتتح القصة معرفا بنفسه وهمومه

اسمي الثلاثي عبد السميع فارس المنيني.. ولكن أولاد الحرام وأولهم معلمي أبو زكي, ينادوني (يا صبي..) أين الصبي عبده؟ روح يا صبي, تعال يا صبي, على الرغم من أن عمري خمس وعشرين سنة, خمس خمسات بعيون الشيطان. تقول أمي إنني ولدت أيام موسم الباذنجان في السنة التي انفكتْ الوحدة وراح فيها عبد الناصر عن البلد. أسكن أنا وأمي في غرفة على سطح بيت عربي بحارة (الديمجية), وفي البيت غرفتان أخريان. الأولى مؤجرة لعسكري اسمه مفلح ولا يأتي كثيرا إلى غرفته, والثانية مؤجرة لعامل مصبغة كهل يسعل كثيرا ويحب سماع الأغاني القديمة: أنا اللي استاهل – ضيعت مستقبل حياتي – عشقت روحك...
أعمل في بقالية (التقوى) لصاحبها شاكر الفرحان, المعروف بأبي زكي. كل يوم استيقظ الساعة الخامسة مع صوت ديك الجيران الذي يسبق التذكير والأذان الثلاثي من مئذنة جامع (التوبة) في حي العُقيبة.
أطعم الدجاجات في القن تحت دالية العنب الزيني التي أخذ اليباس يسري في لحائها.. وأخرج إلى فرن الخبز المشروح عند الجامع وأعود واعد الشاي على وابور الكاز..
واوقظ أمي, "يا مو.. يا يا مو.. قومي الفطور جاهز."
أمي – الله يحفظها ويعافيها - مع كل لقمة تسأل وتشكو وتطلب:
طعميت الدجاجات؟
ليش ما شطفت أرض الديار!
لا تنسى عشيه تجيب الجبنة المدقوقة ورش عليها حبة البركة..
آه يا ركبي..
أكتبْ مكتوبا لخالتك زهرة بالضيعة وقل لها - ولي على كسرتك - ما تجي تشوفي أختك الباركة في السرير, وروح كراج الباصات واعطية للشوفور هواش وقل له يستعجلها بالقدوم..
صب شاي.
أمي الله يعينها ويعيننا معها مصابة بالروماتيزم. آلامها من ذلك النوع الذي يباغت ويتشبث بمفاصلها المتورمة ولا يرحل عنها حتى آتي بجارتنا أم يسري الممرضة لتعطيها حقنة (الكورتيزون). كم أيقظني صراخها في أنصاف الليالي من شدة ألمها.. الألم لا يرحم.. والحال لا يرحم.. وخليها على الله.
أخرج من الدار حوالي السادسة والنصف صباحا. الصباح دائما يبدأ جميلا وكأنه يريد أن يفتح مع البشر صفحة جديدة. مع خروجي أسمع كل يوم من نافذة الجيران القرآن الكريم من الراديو, وجلبة أسرة حول مائدة الفطور. أسير عبر الطريق المخدد بالحفر المليئة بالوحل وروث الدواب. الطريق من الدار إلى الدكان في (الميسات) يأخذ حوالي نصف ساعة.. طبعا سيرا على الأقدام. في طريقي أتسلى بالنظر إلى زحام ساعة الصبح وضجيج السيارات وهي تعبر الشوارع العريضة. الناس كلهم مثلي ذاهبون إلى أعمالهم, مع فارق ليس بسيطا هو أنهم ينعمون بالدفء داخل سياراتهم المريحة, أو في السرفيسات أو الباصات, وأنا ينخرُ البردُ عظامي. ثمة ما يمدني في طريقي بكثير من الفرح ويشدني إلى الدفء ويجعلني ابدأ صباحا سعيدا, إنه محل فهمي بائع السحلب.
- صباح الخير عم فهمي.
- يا صباح النور بشيخ الشباب.. كيفك يا أبو فارس؟
- خليها على الله يا حجي..
- تعال دفي دمك بزبدية حليب.
أقبض على زبدية السحلب الساخنة براحتي الباردتين وأرشف منها بهناء وبخارها يتلوى مع دفع انفاسي, اتلذذ بطعم السلحب الساخن وبنداء العم فهمي لي بأبي فارس.. اللقب الذي من حقي أن أسمعه من الجميع.. آه.. ما أحلى نداؤه لي بأبي فارس.. العم فهمي هو الوحيد من بين خلق الله كلهم الذي يكنيني بما أحب: أبو فارس.. ألستُ بكر المرحوم الحاج فارس المنيني؟


عبده يتحدث عن كفاحه وحبِّه للقراءة

لا أدري لماذا يغتاظ الناس وعلى رأسهم معلمي أبو زكي عندما يعرفون أنني أقرأ كتبا!
صحيح أنى لم أتمم تعليمي وتركت المدرسة من الصف الخامس, ولم احصل على (السرتفيكا), لكي اشتغل وأعيل أمي.
عملت, وسبَّعتُ الكارات كما يقولون, وجلتُ في الشوارع والحارات, بعت غزل البنات.. اشتري من معمل في حي "السمانة" 15 حبة غزل البنات بعشر فرنكات, أبيع الواحدة بفرنك فيكون ربحي خمس فرنكات, نعمة كريم. وبعت حلاوة سميد, وشعرت أنني قد أصبحت رجلا عندما استلمت عربة بوظة "آسيا" أجول بها شوارع دمشق من القصاع, للتجارة, ثم عائدا لشارع بغداد, من السادات, للقزازين, للدحداح, للأزبكية, لعين الكرش, فالسبع بحرات.. رحلة طويلة أنادي خلالها (بوظة آسيا.. تعا بُورِدْ..) في حين كنت أنا أذوب من سياط شمس تموز وآب. هذا في الصيف, أما في الشتاء فكانت محطتي الأولى في "البزورية" عند بائع مكسرات وقلوبات لا داعي لذكر اسمه. وشكرا لفاعل الخير الذي توسط لي أن أعمل عنده, والذي نال من دعاء أمي وثنائها ما يمكن أن يوزع على حارة بحالها- لكنني سرعان ما تركته بعد أن رابني منه لمساته الخشنة لفخذيّ. فتركت على أثرها دكانه و"البزورية" برمتها, وانتقلت إلى "سوق الحميدية" أبيع فيها جرابات رجالي على بسطة صغيرة.. كنت أنادي على بضاعتي بصوتي النحيل المميز الذي غالبا ما كان يضيع بين أصوات الرجال الثخينة. وكنت اشعر أن صوتي دائما ضائع وسط أصواتهم, فكان لا بد من أن أتعلم الحنكة فجعلتُ أدسُّ صوتي مباشرة بعد انتهاء نداء أحدهم.. ونجحت الطريقة.. وربحت ما فيه النصيب.. أكثر من خمس ليرات في اليوم كنت أعطيها لأمي ولا أبقي منها إلا بضع فرنكات في جيبي لكي اشتري بها كتباً من على البسطات التي تعرض كتبها المستعملة في مداخل المحلات المغلقة أيام الجمع والعطلات. من تلك البسطات قرأت للمنفلوطي ولم افهم شيئا, ثم تعلمتُ كيف أفهم. وقرأتُ جبران ولم أفهم لزمن طويل, ثم تعلمتُ كيف أفهم. وقرأت مصطفى صادق الرافعي ولم أفهمْ شيئا إلى الآن.
أما الكتاب الذي أحببتُ فهو (كرم على درب) لميخائيل نعيمة. إلى الساعة وأنا ما أزال أقرأ بكرمٍ على درب, واصطحبه معي أينما ذهبت.. وأحكي لرفاقي وزبائن المحل عن (كرم على درب), وحِكَم ودرر (كرم على درب).
وكان أجمل وقتٍ حكيت فيه عن الكتاب يوم حكيتُ لليلى, طالبة الفتوة ذات الشريطين الخضراوين على كل كتف. لا أدري كيف كان يخرج الكلام من فمي, وكأن غيري الذي يتكلم وأنا أنصت إليه, حتى قالت لي ليلى:
- يا ولد يا عبده شو هالكلام الحلو! أوعه تكون أنتَ ميخائيل نعيمة وأنا مو دريانة؟..
وضحكَتْ ليلى ضحكة تساوي كنوز الدنيا.. وجنَّ جنوني لصف أسنانها التي مثل اللؤلؤ, وضحكتُ أنا, وإن كنت متألما من ندائها لي (يا ولد).. فقلتُ لها:
- يا ليلى أنا لست ولدا..
فقالت لي كلاما أنساني ألمي:
- يا عبده, أنا لأنني أعزك أداعبُكَ.. أنا أعرفُ أنكَ زينة الشباب.
وضحكتْ عيناها ونقلتْ إليَّ ملايين المعاني التي فاقت كثيرا قدرة ميخائيل نعيمة وغيره على التعبير.. والتي ظللتُ أحملها إلى هذه اللحظة. وصار أن رحلتْ ليلى عن الحي, تماما كما يرحل كل شيء جميل يحبه بسطاء الناس, ولم أعد أراها إلا طيفا في خيالي.. ولم يبقَ لي إلا أنْ أنفِّس عن كربي بالغناء.. فغنيتها كثيرا.. ولا أذكر أنني أحببت في تلك الأيام الخوالي شيئا كما أحببت الأغاني والمواويل الحزينة وماهر العطار وعبد الحليم, وعدوية.
ليلى هي الوحيدة التي كانت تسمعني, وكنت أحس أنها تحب كلامي لدرجة أنني بدأت أغار من كلامي وكأنه غريمي. وذات مرة تحدثتُ مع نبيل, وهو زبون يأتي الدكان ليشتري سجائر فرط, وهو أيضا طالب فتوه وعلى كتفيه شريطين خضراوين. المهم.. حدثتُ نبيل عن (كرم على درب), وعن مارون عبود, وعن "موسم الهجرة إلى الشمال" تلك الرواية السودانية التي اطراها الناقد المصري رجاء النقاش – كنت أدس الأسماء في كلامي حتى يدرك مستمعي مقدار معرفتي.. وصدقوني لم أكن أفعل ذلك تشوفا, بل استصراخا لهم بالا ينادوني (يا ولد) ويدركوا قيمتي. وكنت اشعر أن كلامي (غريمي الذي عشقته ليلى ولم تعشقني) كان ينساب بنفس الدفق وأنا أحدثُ نبيلَ. لكن (نبيل) لم يأبه لكلامي.. ولم أتوقع أن أحدا في العالم يمكن أن يأبه لكلامي مثل ليلى التي راحت وتركت كلامي يجول في الأزقة والحواري ولهانا يبحث عن ليلاه أو عمن يتلقفة بنفس مقدار الحب والتقدير التي تلقفته ليلى. وما أن انتهيتُ حتى قال نبيل كلاما جارحاً لم انسَ وقعه ما دمت حيا:
"لماذا لا تلتفت لشغلك وتدع القراءة لأصحابها؟" ألهب نبيل النار في جوفي, وصرت غابة تستعر فيها النيران, تحرق الأخضر واليابس, وتطول ألسنتها لتنال غيومَ السماء ونجومَها. قلت له:
- ومن قال لك إنني لست من أصحاب القراءة.. وهل تظن أن القراءة حكر على طلاب المدارس؟ فهذا عباس محمود العقاد ترك المدرسة في الصف الخامس. وزكريا تامر- عامل الحدادة - خرج من المدرسة مثلما خرجت أنا. وهاك ياسين رفاعية كان فرانا, أيضا ترك المدرسة من الصف الخامس..
فقاطعني صراخ المعلم:
- يا ولد يا عبده..
فقال نبيل بخبث: كلم معلمك يناديك.
ورحل وهو يسخر مني.

*
صيف دمشق. وما أدراك ما صيف دمشق في آب اللهاب.
نهار طويل.. لذج, حار. وأنا أجوب الطرقات والأزقة المتربة الجافة العطشى تحت شمس لا ترحم. أصعد أدراجا وأنزل أخرى, والعرق ينز من بدني كرشح الماء في جدار عتيق. في آب اللهاب يهون كل شيء أمام الحرارة القاهرة للعزائم, الباعثة على الكآبة والانزواء والقرف من النفس.
سلطان الرغبة والعطش يسيطر على روحي وفكري ونفسي.. فيزيد من شوقي للماء والأماكن الرطبة كشوقي للاعتبار المفقود الذي لم انعم به بعد من ناسي وزبائني ومعلمي أبو زكي.
ها هو النهار قد انتصف, وخفَّتْ أرجل الزبائن, بل كادت أن تنعدم في مثل هذا الوقت من كل يوم.. وكأنهم كلهم متآمرون معي على أن يغيبوا كي ألتمس الإنفراد في الظل والبرودة المغمورة برائحة الزيت البلدي والعطورات والصابون الغار في ظهيرة تلهب الأبدان وتلجيء كل ما يدب على الارض إلى الفيء. المعلم, كعادته كل ظهيرة, ذهب إلى بيته ليأكل ويقيل, وأنا أراني بدافع رغبة سرية مبهمة اجرُّ قدماي ببطء وثبات إلى جوف المكان. أدمنت الطريق إلى مرامي الذي أخذ كالنبتة الوحشية يتنامى ويمتد في ذكورتي الجائعة.

المعلم أبو زكي يحكي عن ذهوله فيما رأى

أنا شاكر الفرحان, أبو زكي, صاحب بقالية (التقوى). كان بودي أن أسهب وأحكي عن نفسي وهمومي فليس هناك أمتع من أن يحكي المرء عن نفسه وما يقهرها ويفضي عن همومه.. لكنَّ المؤلف لا يريدني أن أتدخل أكثر من المقدار الذي خصصه لي في قصته القصيرة قائلا لي: "ابدأ يا شاكر بذكر ما حصل بعدما تركت البيت إلى الدكان قبل وقتك الاعتيادي ودهشتك وذهولك مما رأيت. أريدك أن تركز على ما رأيت. لمِّحْ ولا تصرِّح" قلت للمؤلف: "كما تريد.. وهل ما رأيت يصدق أو ينسى يا أستاذ!"
هادا يا سيدي من كثرة ما قرفتني عيشتي أم زكي من كلامها الدج الذي يجرح ويفتح في المشاعر خدودا وشروخا. رميت ملعقة السكب على مائدة الغداء منفعلا غاضبا فأصابت الرز ونثرته على الطاولة وعلى الأرض والأهم على فستانها المغسول جديد, ودفعت بالكرسي فوقع وأحدث قرقعة, فصرخت أم زكي غاضبة حانقة: "ليش كل هالزعفلة والنتورة, وعاملِّي فرخ البرمبو.. يا ليتك فالح بشي تاني مثل بقية الرجال" , وخرجْتُ غاضبا وأنا اشتم وألعن الساعة التي حويت فيها أم زكي لأنني أعرف ما تقصد من اهانتها لي, وسرت على غير هدى, ولكن قدميَّ لا تعرفان طريقا الا طريق الدكان, وليتني تهت أو انشقت الأرض وابتلعتني ولم أصل إلى الدكان في تلك الظهيرة القائظة الدبقة. وكأن قدميَّ كانتا تستعجلاني لأُتحف ناظريَّ بما لا عين رأت ولا اذن سمعت, واذهل كما لم اذهل بحياتي قط. ولا أدري ما الذي جعلني اسكت عما رأيت ولا انقضُّ على عبده.. وأقول له: "اخس عليك يا عبده!!" وانهال عليه لعنا وضربا, وأدفع به خارج الدكان بلا رجعه! فعلا.. ما الذي جعلني أسكت؟ أهو الذهول الذي يعقد ألسنة الخلق وعقولهم ويجعلهم عاجزين عن أن يتصرفوا كما يمليه الموقف والعقل. أنا أعرف ما الذي أشلني وعقد لساني.. إنه الحظ العاثرعندما يمنح الله مخلوقا شيئاً يخطف امتداده الانظار ويلهبها بالدهشة والذهول, ويحرم آخر من ثلاثة أربعاع تلك النعمة وامتدادها الاسطوري المدهش. بل, الأقهر من ذلك, أنني عندما انحبست انفاس عبده وأحمرت اوداجه وخار متأوها وهو يستحلب اللذة خلال ثواني النشوة الأخيرة التي تشبه ذرى الأشياء وقممها العالية, انسحبت- أنا البدين الثقيل- على رؤوس أصابع قدمي وكأنه لا وزن لي, أحلق في سماء الخيبة والإنكسار, من مكاني حيث شاهدت ما كسَّرَ عيدان نفسي واشعل النيران فيها. نعم, خرجت وكأن على رأسي الطير كي لا يشعر عبده أنني كنت أشهد طقس غيابه. أصبحت على مبعدة أمتار خارج الدكان, وقد بدوت للذين رأوني وكأنني تائه يضرب في الارض دونما هدف. وما هي الا لحظات حتى وقفت, وهدأت سريرتي قليلا, وامتلكت ناصية الحلم, بدليل أنني رددت تحية الأستاذ عبد العظيم الطويل, وهو زبون شأنه كبير .. وعليك السلام أستاذ عبد العظيم. سرت عائدا إلى المحل.. بطيء الخطا, وعندما مددت ناظري للدكان وجدت عبده أمام المحل هامدا ساكنا وكأنَّ كلانا لم يفعل شيئا.


عبده يختم القصة مندهشا

انتبه أيها القاريء الكريم.. إن المتحدث الآن هو عبده, صبي البقال.
إبدأ يا عبده.
حاضر تاج رأسي.
عندما رأيت معلمي أبو زكي قادما نحو الدكان قبل وقته بساعة على الأقل ذهلت وحمدت ربي أنني قد انتهيت من فعلتي منذ دقائق ولم يرني متلبسا بما لا يحمد عقباه. انتفض بدني من همدة الندم لحظة رؤيته وانتصبت واقفا وقد وجدت نفسي أفتح بكل همة صندوقا أتيت به من البزورية كان راكنا تحت شمع الموالد المعلق على واجهة المحل. فتحته وأنا أقول لأبي زكي الذي صار قربي:
"جلبت الهيل والحنة والفواكه المجففة وأكياس الحمام من البزورية هذا الصباح.. أين تريدني أن افرزهم؟"
رفعت رأسي إليه لأنه على غير عادته تأخر في الرد علي, فهالني أن رأيته يتصفح كتابي الذي ركنته عند الصبح قرب الميزان وغطيته بالأكياس.. كان من المفروض أن ينهرني ويمنعني من اضاعة وقتي بجلب الكتب إلى الدكان.. ويا لعجبي! أبو زكي لم يفعل شيئا من هذا بل استمر يتصفح الكتاب متأملا صامتا وكأنه قديم عهد بالقراءة. أتريدون الحق.. أذهلني تصرف أبو زكي.. وكأن ثورة هبتْ على عقله وجرفت كل مواقفه السلبية نحو الكتب ونحوي. ولكنْ عليَّ الا أتعجل في حكمي.. تراه استغرق باسطر استأنسها وسرعان ما سينساها ويلتفت نحوي ويرمي الكتاب في خلقتي ويشتمني. ولكن ما حصل أدهشني.. فقد أغلق أبو زكي الكتاب بتؤده ووضعه على الطاولة وقال لي:
- الكتب غذاء العقل والروح.. أليس كذلك يا أبو فارس.
أبو فارس!! المعلم يناديني بأبي فارس!!
تلفتُ حولي فلم أجد أحدا. أنا المقصود إذا! طبعا أنا المقصود.. هل نسيت أنني أبو فارس على الرغم من أنني لم اسمعها من أحد اللهم الا من العم فهمي بائح السحلب. أجيب المعلم أبو زكي بسعادة واضحة وأقول له الكثير عن الكتاب, وكأنني حنفية وانفتحت, وكان المعلم ينصت إليَّ وقد عقد جبينه فيما بدا لي أنه يحاول أن يفهم ما أقول. ما أروع الهيمنة! للمرة الأولى أشعر أنني مهيمن على معلمي أبو زكي. ها هو يستمع إليَّ كتلميذ صغير.. وها هو يعرف أن الناس في الفهم درجات.. وأن الله حق. ويمضي النهار, وأغلق الدكان, وأودع معلمي:
- تصبح على خير معلم..
- وأنت من أهل الخير.. بكّرْ غدا أبو فارس..
من أعماق قلبي أرد عليه:
- حاضر معلم سأكون هنا قبل الضوء.
ورحلنا, كل من طريق.
وأنا الآن أدفع نصف عمري ثمنا لكي أعرف ما الذي غير المعلم أبو زكي تجاهي. ولكن الذي لا أشك فيه أن كتابي الذي تركته قرب الميزان كان السبب.. كتاب ثخين, ومؤلفه كبير الشأن.
وتوته.. توته.. خلصت الحتوته.

واشنطن 24 آب 2004

نشرت في "أفق" الثقافية أيلول (سبتمبر) 2006