هل يجوز تأخير رمي الطغاة بالاحذية بعد أيام التشريق؟! / د. صلاح سلطان

--------------------------------------------------------------------------------

لاأستطيع أن أخفي دهشتي وسروري بهذا اللون الجديد في الفقه المعاصر وهوالرجم "بالأحذية" الذي قام به السيد منتظر الزيدي المراسل في قناة (البغدادية) الفضائية نيابةً عن أحرار العالم والأمة الإسلامية بقذف "مستر بوش" بأسفلما في قدميه وبكل همة وبكلتا يديه مسجلاً قبلة الوداع لهذا الطاغيةالمتجبر ورئيس النظام الأمريكي المستكبر، والذي كان صاحب الدور البارع في هذا التراجع والتقهقر في العراق وأفغانستان، بعد وعد ووعيد، وبطش وتهديد، وقتل وتخريب، ونهب وتعذيب، فكانت هذه أصدق لغة يمكن أن يودع بها هذا الوغد الحقير بوش الابن الصغير.

وإذا كانت الشرعية الدولية الطاغية والصهيونية الصليبية العاتية تجعل من كبار المجرمين رؤساء ذوي حصانة من المحاكمات العادلة، فإن الرجم بالأحذية هوالمتنفس الوحيد بعد أن صنعوا آلات يمر عليها كل مَن يدخل إلى مجالس كبارالظالمين ويلزم معه أن يخلع الإنسان حذاءه وأن يمرره في الآلات التي صنعتفي أمريكا وبيعت بالمليارات لكي تحرسهم وعملاءهم، فإذا بالحذاء بعد فحصهبدقة، ومسحه بخرقة، ليمر الحذاء ويتطاير في الهواء، وينحني الرؤساء،ويرتعش الأخساء، ويهرول الخفراء، وينتشر في الأجواء، ويتردد في الأصداء،ليعبِّر الضعفاء بالأحذية الخرساء عن رفض الاحتلال الذي أساء في الصباحوالمساء، إلى الأطفال والرجال والنساء، بالإغواء والإيذاء، ليسطروا أمام التاريخ والعالم شيئًا من إباء، وتعبيرًا عن رفض ومضاء لهذا السيل من بطش الأعداء تحت دعاوى صليبية عمياء، فكان خير تعبير للبؤساء رمي بالحذاء قبل مغادرة البيت الأسود مغموسا بالشقاء.
فحيَّا الله أقدامًا استغنت عن الحذاءِ لترفعه من خشاشِ الأرض إلى هامات الرؤساء ليطأطئوا الرأس أمام غضبة الأحرار الكرماء، ولعل هذا هو أول رجم بالحذاء للشيطان الأكبر بعد رجم الشياطين الصغرى عند رمي الجمرات، ولم يفصل بينهما سوى أيام لكنها تحتاج إلى اجتهادٍ جديد: هل يجوز تأخير الرمي بالحذاء للطغاة من الرؤساء بعد أيام التشريق؟!.
اقتراحيمن رحم المعاناة حفاظًا على هامات الرؤساء أن تصدر قرارات حازمة بإيقافتصنيع الأحذية، أو منع دخول أي أحدٍ على الرؤساء إلا حافيًا مغلولَ اليدينمكمم الفم لا يسمح له إلا أن يسمع الأوامر ليعود وينفذ إلهامات ذويالهامات، وقرارات ذوي السلطات، ويعلنون شعارًا قبل الدخول (اخلع نعليك)؛فقد صرنا نخشى كل شيء.
أحسب أنه يجب معه أن يصدر قرارًا بمنع الأحزمة لأنه لا يزال في إمكان أي مظلومٍ ومقهورٍ أن يضرب بالحزام إذا دخل حافيًا.
رغم كل ما يشعر به من ألم أولئك الذين يُفتشون بدقةٍ في المطارات إلا أنني في كل مرةٍ كنتُ أشعر بسعادة مدفونة عندما يتقدم فريق من رجال الأمن حول حذائي وحقيبتي ويحملونها إلى مكانٍ بعيدٍ وأنا أسير (كالملك بغير سلطان) يُحمل حذاؤه وحقيبته، ويقومون بالتفتيش الدقيق وتمرير الحذاء ثانيةً على أجهزةٍ عديدةٍ ثم يتقدَّم أحدهم في أدب جم ليضع الحذاء بين قدمي شاكرًا إياي أن سمحت له أن يتشرف بحمل حذائي بعض الوقت.

حكايات من التاريخ والواقع
1- الحذاء في عهد المغول: أورد المؤرخ العظيم (الجبرتي) مندهشًا ونحن معه أن حاكمًا عربيًّا لما رأى انتصارات "هولاكو" في أرض العراق والشام خشي على عرشه المحدود وكرسيه المترنح، فطلب أن يصنع صندوق من أغلى أنواع الخشب ونادىأفضل الحذَّائين ليصنع له حذاءً فخمًا يليق بمقام "هولاكو"، ونادىرسَّامًا محترفًا ليرسم وجه هذا الحاكم العربي على أسفل النعلين، ووضعالحذاء في هذا الصندوق الفخم، وأحاطه بكل ما عنده من الدرر والذهبوالألماس، وأرسل ولده إلى "هولاكو" راجيًا أن يشرفه بأن يطأ بقدمه وجهه،وأن يُكرِّمه بلبس هذا الحذاء، لكن "هولاكو" المتغطرس المنتفش غضب؛ لأنالحاكم لم يأتِ بنفسه، وهمَّ بقتل ولده لولا شفاعة زوجه، فأخذ الهديةالثمينة، ولم يشرفه بأن يدوس على وجهه وأكمل طريقه في غزو بلده وقتل هذاالزعيم الذليل، لكن هذه الغطرسة التي كانت مع أول الغزو سنة 656هجرية لمتدم طويلاً حتى قيَّد الله للأمة سلطان العلماء العز بن عبد السلام والتحممع خيرِ الزعماء سيف الدين قطز، وأعدَّت الأمة للقوة والجهاد في سبيل اللهفانتصروا على "هولاكو" وجنده وقتلوه شر قتلة، ودخل كثير من المغول فيالإسلام وتحولوا إلى مدافعين عنه بعد أن كانوا حربًا عليه بعد عامين فقطمن هذه الوقعة (658هجرية).
2- أشهر قتل في عالم السياسة ما قامت به شجرة الدر من قتل زوجها ضربًا "بالقبقاب" (حذاء خشبي يعوَّر)، حيث قام الخدم بواجب الضرب بمجموعةٍ كبيرةٍ من "القباقيب"، حتى مات غير آسفة عليه!.
3- كان الإمام الخصاف الحنفي من خيرة العلماء الذين اشتهروا بالفقه السديد، فقد كان خصافًا يصنع ويخصف النعال، ومن روائعه النادرة في تراثنا الفقهي كتاب "النفقات"، وقد تقلَّد ريادة الفُتيا والتدريس للمذهب الحنفي في زمانه، وفي القصة التالية امتداد لهؤلاء الخصافين الحذائين صانعي الرجال والعقول.
4- أفضل حذاء ركبته وصحبته ما ذهبت لتفصيله (وليس شراؤه جاهزًا) سنة 1977م، عند الحاج "محمد حنوت"- رحمه الله- صاحب أشهر محل لتفصيل الأحذية (في شبين الكوم، المنوفية)، ودخلتُ دكانه وشدني صوت الشيخ كشك كالسيف البتار في نقد الظلم والطغيان في ديار الإسلام واستبعاد القرآن والسنة أن تحكم الأمة، ووجد الشيخ الجليل شدة انتباهي فقال لي بعد أن أخذ المقاسات: "ما هي اهتماماتك؟" قلت: "القراءة"، قال: "ماذا تقرأ؟"، قلت: "اقرأ الكتاب كله"، فكرر سؤاله وكررت جوابي، فقال في حكمةٍ نادرة: "يا بني نحن نقرأ لنفهم أولاً، ونعمل ثانيًا، وندعو ثالثًا، والقراءة العامة لا تُساعد على شيء من ذلك، فأقترح أن تقرأ أي كتابٍ مع ضرورةِ تلخيص الأفكار الأساسية والمعاني الجديدة البديعة"!!.
فشكرتهعلى نصيحته لكنه أبى إلا أن ينتقل من مقام الداعية إلى المربي فقال: "سنقوم بتجربة عملية"، فدخل إلى عمق دكانه ليأتي لي بكتاب "منهج التربيةالإسلامية" للشيخ محمد قطب، فقال لي: "اقرأ هذا الكتاب ولخصه، ثم تعالواعرضه لي، فإذا أجدت فلك تخفيض جيد في ثمن الحذاء"، وقد فعلتُ فكان أولكتابٍ اقرأه بوعي ثلاث مرات، واحدة لأخذ الفكرة العامة، والثانية لفهمهالدقيق، والثالية لتلخيصه في نقاط، فكانت هذه محطة كبرى في حياتي حيث ساهمالشيخ في صناعة عقلي حتى اليوم قبل أن يُقدِّم لي حذاءً مريحًا قويًّاصحبني وحده طوال فترة الدراسة في البكالوريوس والماجستير ثم سُرق في أحدالمساجد، ولو كان هذا الحذاء حيًّا لشرفني أن أُهديه لهذا الصحفي "منتظرالزيدي" الذي صار حذاؤه شاهدًا عليه في الدنيا، وأرجو أن يكون شاهدًا له يوم القيامة، هذا إن استطاع أن يقف على قدميه قبل أن يُحمَل على الأعناق.
5- من أوائل العمداء لكلية إسلامية تمَّ تعيينه من السلطة في بلادنا المحروسة، بعد الإجهاز على هامش الحريات في الجامعات، ومُنع الأساتذة من اختيار وانتخاب العمداء، كان أستاذًا في الكلية من غير الكرماء؛ حيث ضرب والده بالحذاء على رأسه، فنُحِّيَ الكرماء، وعُيِّن هذا الذي ألحف في عقوقِ الآباء، وعاش فترة عمادته بين تخبطٍ واهتراءٍ حتى حكم القضاء بتجبره- ليس فقط على الطلاب النجباء- بل على الأساتذة الكرماء، وخرج ذليلا مشيَّعًا بدعوات عليه تصاحبه إلى اليوم اللقاء.
وسنرىالفرق بين حضارة الإسلام في التعامل مع قتلةِ الخليفتين عمر بن الخطابوعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما في محاكمةٍ عادلة، وبين حضارةِ الأمريكانوما سيتعرَّض له هذا الصحفي (وأهله وعشيرته) لمجرد أن قام برجم حذاءيه فيوجه زعيم المحتلين الغاصبين "مستر بوش الصغير" وإن لم يصبه.
أخيرًا اقترح أن يكون يوم 14 ديسمبر يوم الحذاء العالمي، وأن يُباع هذا الحذاء الذي رُجِمَ به الرئيس بوش في مزادٍ علني، وسترون كيف سيصوت العالم لهذا الحذاء في مواجهةِ ظلم الرؤساء!.