دليل فارس النور

ترجم الدليل: عبد الحميد الغرباوي


يا مريم التي حملت دون خطيئة صلي من أجلنا نحن الذين نلجأ إليك آمين.

ريو دي خانيرو
السبت 31 من سنة 1966.

*****


ملاحظة من الكاتب (كويلو)
باستثناء المقدمة و الخاتمة، فإن كل نصوص هذا الكتاب ، نشرت في عمود "مكتوب" بصحيفة" فولها ساو بولو"، و في غيرها من الصحف البرازيلية المختلفة أو الأجنبية، ما بين 1993 و1996 .

*****


من أجل: س.إ. ل.
إدواردو رانجيل
و آن كاريير،
اللذان يُعدان أستاذين في استعمال الصرامة و الرأفة.

*****


" ليس التلميذ أرفع من معلمه،
بل كل من اكتمل تعليمه
يصير مثل معلمه
."

لوقا، الإصحاح السادس، الآية 40 .



تمهيد


قالت المرأة:
" من الشاطئ ، شرق القرية، تتراءى جزيرة تـنتصب عليها كنيسة ضخمة كثيرة الأجراس."
لم يكن الصبي رآها قط من قبل في الضواحي؛ و لاحظ أنها ترتدي ملابس غريبة، وتستر شعرها بحجاب.
سألته المرأة:
" هل تعرف تلك الكنيسة؟ اذهب و زرها، ثم قل لي رأيك فيها."
ذهب الصبي، مفتـتـنا بجمالها، إلى المكان المشار إليه. و هو جالس على الرمل، أمعن النظر في الأفق، لكنه لم ير سوى المشهد الذي اعتاد رؤيته: السماء الزرقاء المتصلة بالمحيط.
سار و هو خائب الظن، إلى أن وصل قرية صغيرة مجاورة، و سأل الصيادين إن كانوا قد سمعوا بجزيرة وكنيسة.
أجابه صياد مسن قائلا:
" أجل! كان ذلك، منذ حقبة بعيدة، في عهد أجدادي الذين كانوا يسكنون هنا. لكن زلزالا حدث، فابتـلع البحر الجزيرة. و رغم ذلك، و إن كنا لم نعد أبدا نستطيع رؤيتها، فلا يزال يحدث لنا، حين تتحرك الأمواج في الأعماق البحرية، سمع قرع أجراس الكنيسة."
عاد الصبي إلى الشاطئ، و أصاخ السمع، و ظل المساءَ كله على تلك الحالة ، لكنه لم يسمع سوى صخب الأمواج و صراخ النوارس.
و لمّا نزل الليل،جاء والداه يبحثان عنه. بيد أنه في صباح اليوم التالي، عاد إلى الشاطئ؛ كانت صورة المرأة تستحوذ على وجدانه، و خيل إليه أن من غير المعقول أن تكذب عليه امرأة في مثل جمالها. و إذا ما عادت ذات يوم، فسيكون باستطاعته أن يقول لها بأنه لم ير الجزيرة، غير أنه سمع قرع الأجراس بفعل تحرك الأمواج.
مرت شهور و هو على هذه الحالة، و لم تعد المرأة، فنسيها الصبي؛ لكنه كان يتذكر وجود كنيسة تحت الماء، والكنيسة تخبئ ، دائما، بداخلها ثروات و كنوز. إذا ما سمع قرع الأجراس، فسيتيقن من أن الصيادين، كانوا على حق في ما قالوه له؛ و هكذا عندما يصير كبيرا، فسيستطيع أن يجمع ما يكفي من المال، لتنظيم رحلة استكشاف و العثور على الكنز المخبوء.
لم يعد يهتم للدراسة، و لا لرفاقه. صار موضوع سخرية محببة لدى الأطفال الآخرين، الذين كانوا يرددون:" لم يعد أبدا مثلنا. إنه يحبذ البقاء جالسا على الشاطئ مواجها البحر، و يتجنب اللعب معنا لأنه يخشى الهزيمة".
كانوا كلهم يضحكون و هم يرون الصبي جالسا على الشاطئ.
و رغم عدم تمكنه من سماع قرع الأجراس القديمة للكنيسة، فإن الصبي، كان، كل صباح يتعلم شيئا جديدا. في البداية، اكتشف أنه لكثرة سماعه لإشاعتهم، لم يعد يسمح لنفسه أن تشرد بفعل تأثير الأمواج. و بعد ذلك بقليل،اعتاد صرخات النورس، و طنين النحل، وحفيف أوراق النخل.
بعد ستة أشهر على أول لقاء له بالمرأة، صار الصبي قادرا على عدم ترك نفسه يستحوذ عليها أي ضجيج...
ـ لكنه و رغم كل ذلك، لم يكن قد سمع بعد قرع أجراس الكنيسة المغمورة.
أتى صيادون آخرون ليقولوا له مؤكدين بإلحاح:
" نحن نسمعها!"
لكن الطفل لم يكن قد سمعها بعد.
بعد وقت قصير، تغيرت أقوال الصيادين:
" أنت تهتم كثيرا لضجيج الأجراس؛ دع عنك ذلك وعد إلى اللعب مع أقرانك. فلعل الصيادين وحدهم القادرين على سماعها".
بعد نحو سنة، قرر الصبي صرف النظر عن الأمر" فهؤلاء الرجال ربما هم محقون. من الأفضل أن أكبر و أصير صيادا، و حينذاك، أعود كل صباح إلى هذا الشاطئ أسمع قرع الأجراس."
و فكر أيضا:
" لعل هذا كله ما هو إلا خرافة، الزلزال حطم الأجراس و لن تقرع أبدا".
في ذلك المساء، قرر العودة إلى بيته.
و هو يقترب من البحر ليودعه، تأمل مرة أخرى الطبيعة، و بما أنه لم يعد يهتم للأجراس، فقد ابتسم لجمال غناء النورس، و هدير البحر، و حفيف أوراق النخل. سمع أصوات أصدقائه في البعيد يمرحون فأحس بالسعادة و هو يدرك أنه يستطيع العودة إلى ألعاب طفولته. كانوا يسخرون منه، ربما، لكنهم سينسون بسرعة ما حدث، و يستقبلونه بحفاوة.
كان الصبي سعيدا و ـ الشيء الذي لا يمكن أن يقوم به سوى طفل مثله ـ حمد الرب لأنه لا يزال حيا. و كان متيقنا أنه لم يضيع وقته، ذلك لأنه تعلم كيف يتأمل الطبيعة و يبجلها.
بعد ذلك، و لأنه كان ينصت إلى البحر، و إلى النورس، و إلى الريح، و حفيف أوراق النخل، وإلى أصوات أصدقائه يلعبون، فقد سمع، أيضا، دقات أول جرس.
و آخر.
و أيضا آخر. إلى اللحظة التي أخذت فيها كل أجراس الكنيسة المغمورة تحت الماء تقرع لتملأه بالفرح.
سنوات بعد ذلك، حين صار رجلا، عاد إلى قرية طفولته، لم يكن في نيته قطعا، إخراج بعض الكنوز المغمورة تحت الماء، فذلك ربما كان ثمرة تخيلاته الصبيانية، وربما أيضا، لم يسمع أبدا قرع الأجراس المغمورة تحت الماء، و رغم ذلك، قرر الذهاب إلى الشاطئ ليسمع صخب الريح و غناء النورس.
و لا تتصوروا مدى دهشته، حين شاهد المرأة التي كانت حدثته عن الجزيرة و كنيستها جالسة على الرمل.
سألها:
" ماذا تفعلين هنا؟"
ـ أنتظرك.
رغم مرور العديد من السنوات، ظلت المرأة محتفظة بنفس المظهر، و بنفس الحجاب يغطي شعرها. لم يكن تأثير الزمن باديا عليها.
سلمته دفترا أزرق، صفحاته خالية من الكتابة.
" اكتب، فارس النور يحترم نظرة الطفل، لأن الأطفال يعرفون كيف ينظرون إلى العالم دون كآبة. و حين يرغب في معرفة إن كان شخص ما جديرا بثقته فإنه ينظر إليه بعيني طفل.
ـ من هو فارس النور؟
أجابت مبتسمة:
ـ أنت تعرفه. إنه القادر على إدراك معجزة الحياة، القادر على المحاربة و حتى الرمق الأخير من أجل ما يؤمن به، و القادر ـ في ذات اللحظة ـ على سماع الأجراس التي يجعلها البحر تقرع في أعماقه.
لم يشهد أبدا يوما على نفسه أنه فارس النور. و بدا أن المرأة خمنت أفكاره.
" الكل قادر على ذلك، و لا أحد يشهد على نفسه أنه فارس النور، علما أن الجميع يقدر أن يكون كذلك."
نظر إلى صفحات الدفتر، ابتسمت المرأة ثانية، و ألحت قائلة:
" اكتب".

ـــ
يتبع