لقد كان توطين اليهود في فلسطين خطوة تمهيدية لمعتقد قديم ورد في العهد القديم، أيّده العهد الجديد، ثم يتبع هذه الخطوة هدم الأقصى، ثم إقامة هيكل سليمان المزعوم لتكتمل حلقات العقيدة المؤدية إلى هدف مقدس بزعمهم ألا وهو عودة المسيح، هذه العقيدة صهيونية ومسيحية بروتستانتية في أحد تفسيراتها، والتي يطلق عليها اسم المسيحية الصهيونية.

وتبدأ القصة منذ عام ‏1880‏م حين تبنى الأسقف الإنجليكاني في فيينا "وليم هشلر" النظرية التي تقول إن المشروع الصهيوني هو مشروع إلهي‏، وإن العمل علي تحقيقه يستجيب للتعاليم التوراتية‏.‏

هناك في فيينا تعرف "هشلر" على "تيودور هرتزل" وعلى مشروعه‏،‏ واستطاع أن يوظف علاقاته الدينية والدبلوماسية لترتيب لقاءات له مع القيصر الألماني ومع السلطان العثماني‏،‏ لمساعدته في إقامة وطن يهودي في فلسطين‏.‏ وبرغم أن تلك اللقاءات باءت بالفشل‏، فإن هشلر لم ييأس،‏ فقد انتقل إلى بريطانيا حيث رتّب في عام ‏1905‏ لقاءًا لهرتزل مع "آرثر بلفور"‏.

ومن هناك انطلقت المسيرة نحو تأمين غطاء من الشرعية الدولية للمشروع الصهيوني‏.‏

ولقد كان "لويد جورج" رئيس الحكومة البريطانية آنذاك أكثر شغفًا بالمشروع الصهيوني، وأشد حماسة له من بلفور وزير خارجيته‏؛ فقد‏ ذكر "لويد جورج" في كتابين له هما‏‏ "حقيقة معاهدات السلام"، و"ذكريات الحرب" أن حاييم وايزمن الكيميائي الذي قدم خدماته العلمية لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، هوالذي فتح له عينيه علي الصهيونية‏،‏ حتى أصبح أكثر صهيونية من وايزمن نفسه‏! لذا كان الوعد الذي صدر في الثاني من نوفمبر ‏1917‏ بمنح اليهود وطنًا قوميًا في فلسطين‏ هو النتيجة العملية لمعتقد رسخ في القلوب.‏

أما عن شعب فلسطين فقد نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرية تتعلق بتوطين اليهود في فلسطين عام ‏1952‏، جاء فيها نقلاً عن مذكرة وضعها "بلفور" عام ‏1917‏ ما يأتي‏:‏

ليس في نيتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين‏،‏ مع أن اللجنة الأمريكية تحاول استقصاءها‏.‏ إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية‏.‏ وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل‏،‏ جيدة أم سيئة‏،‏ فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد، وفي الحاجات الحالية، وفي آمال المستقبل‏،‏ وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة‏.‏

كان بلفور من المؤمنين بأن تأسيس وطن لليهود بفلسطين هو هدف إلهي‏ سيمهّد الطريق أمام العودة الثانية للمسيح.‏ وأنه مكلف بالعمل على تنفيذ هذا الهدف‏،‏ وأن عليه تحقيق هذا الهدف أيًا تكن الصعوبات‏.‏

وبالطبع لم يكن العامل الديني هو السبب الوحيد وراء إصدار الوعد‏؛ بل كانت هناك مصالح لبريطانيا ذات بُعد استراتيجي‏.‏ وقد توافق العمل على خدمة هذه المصالح ورعايتها مع هذا الإيمان الديني‏،‏ ما أدى إلى الالتزام بالوعد وبتنفيذه‏.‏ ففي الأساس كانت بريطانيا قلقة من هجرة يهود روسيا وأوروبا الشرقية الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد في بلادهم‏ لأراضيها.‏

وفي عام ‏1902‏ تشكلت اللجنة الملكية لهجرة الغرباء‏، حيث استدعى هرتزل إلى لندن بترتيب من القس هشلر للإدلاء بشهادته أمام اللجنة فكان مما قال‏:‏

لاشيء يحل المشكلة سوى تحويل تيار الهجرة المتزايدة من أوروبا الشرقية‏.‏ إن يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم فأين يذهبون؟ إذا كنتم ترون أن بقاءهم هنا ـ أي في بريطانيا ـ غير مرغوب فيه‏،‏ فلابد من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه، دون أن تثير هجرتهم المشاكل التي تواجههم هنا‏.‏ لن تبرز هذه المشاكل إذا وجد وطن لهم يتم الاعتراف به قانونيًا وطنًا يهوديًا‏.‏

هنا كان لابد بعد صدور قانون بوقف الهجرة في عام ‏1905‏ من تأمين ملجأ بديل‏،‏ فكان قرار بلفور بمنح فلسطين وطنًا لليهود؛ ليعطي من لا يملك إلى من لا يستحق‏.

تم تحقيق الشق الأصعب من الهدف، وهو إقامة "إسرائيل"، وبقي هدم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل المزعوم كمقدمة ضرورية لظهور السيد المسيح عليه السلام، ليبدأ ما يسمى لديهم بالألفية السعيدة، فيخوض معركة "هرمجدون" ضد الأشرار.

وكما كان دعم إقامة إسرائيل والتمكين لها هدف إلهي، وجزء من إرادة الرب لدى هؤلاء، فإن هدم الأقصى وإقامة الهيكل هو جزءٌ آخر من تلك الإرادة، وقد استفادت إسرائيل كثيرًا من تلك التحريفات، واستغلتها تمامًا في الحصول على الدعم المسيحي البروتستانتي، خاصة أن التابعين لتلك الأسطورة لديهم نفوذ كبير، ومنهم كثير ممن يسمون بالمحافظين الجدد، ولهم تأثير على الرؤساء الأمريكيين والكونجرس، كما أن لهم وسائل إعلام قوية، ونفوذًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا جدًا داخل الولايات المتحدة.

وعليه فإن التخطيط لهدم المسجد الأقصى ليس وليد هذه اللّحظة؛ بل هو عمليّة قديمة جديدة تتكرّر وسوف تتكرّر؛ لأنّها جزءٌ لا يتجزّأ من العقيدة الصّهيونيّة، وهي عقيدة لا تخصّ اليهود الصّهاينة وحدهم، بل تخصّ قطاعًا كبيرًا من المسيحيّة البروتستانتية أو المسيحيّة الصّهيونيّة، حيث يؤمن أتباع تلك العقيدة المزعومة أنّ من شروط عودة المسيح ووقوع معركة "هرمجدون" للقضاء على الأشرار "المسلمين تحديدًا"، وبداية ما يسمّى الألفية السعيدة ـ هدم المسجد الأقصى ـ، وإقامة هيكل سليمان مكانه.

ونلاحظ أنّ المؤسّسة الرسميّة الإسرائيليّة لم تطلق بعد إشارة البدء في هدم المسجد الأقصى، على أساس أنّ الظروف لم يتمّ إعدادها بعد في إطار حسابات معيّنة، إلا أنّ تلك المؤسّسة تطرح حاليًا فتح المسجد الأقصى لزيارة اليهود والصلاة فيه لليهود، على غرار ما يحدث في الحرم الإبراهيمي بالخليل الذي فرض عليه التقسيم الوظيفي، فتحول إلى جامع وكنيس معًا.

ولكن على الرغم من ذلك؛ فإن المؤسّسة الرسميّة الصّهيونيّة تقوم من وقتٍ لآخرَ بعمل ضربات وأنفاق، ومشروعات مشبوهة حول المسجد الأقصى وتحته، بهدف زعزعة أساساته تمهيدًا لهدمه أو سقوطه من تلقاء نفسه.

كما أنّ تلك المؤسّسة قامت بضمّ القدس رسميًّا بكاملها إلى "إسرائيل" عقب احتلالها مباشرة، وكثّفت عمليّات الاستيطان فيها وحولها، وهدم بيوت الفلسطينيّين فيها، ومضايقتهم، ودفعهم إلى ترك القدس، وتغيير الطبيعة السكانيّة للمدينة، وطمس المعالم الإسلاميّة والمسيحيّة فيها، بهدف تحويلها إلى الطابع اليهودي، وهذا كله في إطار هدم المسجد كمحصّلة ونتيجة ومن ثم بناء الهيكل.

وفي الإطار نفسه سمحت المؤسسة الرسمية بتأسيس ما يسمى بـ"جماعة أبناء الهيكل"، وحصلت على ترخيص رسمي بممارسة نشاطها تحت مسمى "مؤسّسة العلوم والأبحاث وبناء الهيكل"، ويقوم أعضاء هذه الجماعة المشبوهة حاليًّا بجمع وإعداد المواد اللازمة الخاصّة ببناء الهيكل، وقد أعدّت الجماعة رسمًا تخطيطيًّا للهيكل المزمع إقامته مكان المسجد الأقصى.

يقول زعيم تلك الجماعة الحاخام "مناحم مكوبر": "إنّه في كل الأحوال، وتحت أي ظروف سوف يتمّ بناء الهيكل، وسوف يتمّ هدم المسجد الأقصى، وأنّه في الوقت الذي سنحصل فيه على الضّوء الأخضر سيتم بناء الهيكل خلال بضعة أشهر فقط باستخدام أحدث الوسائل التكنولوجيّة، وأنّ المساجد الموجودة في تلك المنطقة - بما فيها المسجد الأقصى، وقُبّة الصخرة - هي مجرّد مجموعة من الأحجار يجب إزالتها".

تاريخ الاعتداءات على الأقصى السليب

للحرم القدسي تاريخ طويل مع الاعتداءات الإسرائيلية منذ احتلال القدس الشرقية في عام 1967، وصل إلى ذروته في عام 1969، عندما أقدم سائح صهيوني على إحراق المسجد الأقصى؛ ما أدى إلى تدمير منبر صلاح الدين، الذي تم استبداله أخيراً.

وأول الاعتداءات على الأقصى بدأ قبل الاحتلال، وبالتحديد في السادس عشر من يوليه عام 1948، عندما قصفت المجموعات الصهيونية المسجد وساحاته بخمس وخمسين قنبلة.

ومن المعروف أن اليهود يهتمون جدًا بالتواريخ التي لها ذكرى معينة لديهم، وتاريخ 21/8 يعني شيئًا مهمًا في التاريخ اليهودي، وهو تاريخ تدمير الهيكل، ولهذا أرادوا أن يكون نفس التاريخ هو تاريخ حريق المسجد الأقصى المبارك؛ فقد شب حريق في صباح 21/8/1969 بعد أن أدى المصلون صلاة الفجر في المسجد الأقصى المبارك وفرغ المكان من المصلين، وكان في ثلاثة مواضع:

الأول: في مسجد عمر الواقع في الزاوية الجنوبية للمسجد الأقصى، والذي كان يرمز إلى المسجد الأول الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما استلم مفاتيح القدس من بطريك البيزنطيين صفرونيوس الدمشقي، ثم هدمت الزلازل ذلك المسجد قبل عهد الخليفة عبد الملك بن مروان الذي بنى مكانه مسجداً جديداً اكتمل سنة 692م.

الثاني: في منبر صلاح الدين الأيوبي والمحراب، بهدف حرق عنوان النصر الذي أحرزه القائد صلاح الدين الأيوبي عندما حرر القدس من الصليبيين سنة 1187م.

الثالث: في النافذة العلوية الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى وترتفع عن أرضية المسجد حوالي عشرة أمتار، ويصعب الوصول إليها من الداخل بدون استعمال سلم عالٍ، الأمر الذي لم يكن متوفرًا لدى دنيس روهان. وكان حريق هذه النافذة من الخارج وليس من الداخل؛ مما يدل على أن هناك أفرادًا آخرين ساعدوا روهان من الجهة الغربية في الخارج، حيث كانت تحت إشراف الإسرائيليين بعد أن هدموا حارة المغاربة وسيطروا على بوابة المغاربة.

كان الإسرائيليون يعتقدون أن الحريق في المواقع الثلاثة سوف يتصل بعضه مع بعض ويدمر الواجهة الجنوبية للمسجد كليًا، ومن ثم يمتد شمالاً ليأتي على جميع المسجد، إلا أنهم لم يكونوا محظوظين تمامًا؛ لأن النار في خارج النافذة العلوية قد انطفأت بذاتها دون أن يطفئها أحد؛ لسبب بسيط وهو عدم وجود عامل مساعد على الحريق بين هذه النافذة ووسط الجدار الجنوبي للمسجد، لأن مادة النافذة حجرية والجدار الجنوبي من الغرب إلى الوسط كله من الحجر. ولذلك لم يحترق وسط الواجهة الجنوبية والجهة الشرقية، ثم امتدت النار شمالاً وحرقت ما مساحته حوالي 1500 متر مربع من أصل مجموع مساحة مبنى المسجد الأقصى البالغة 4400 متر مربع، أي حوالي ثلث المسجد.

وفي يوم إحراق المسجد قطع الإسرائيليون في بلدية القدس الماء عن المسجد الأقصى المبارك لكي لا يستعمله المواطنون في إطفاء الحريق، كما أن سيارات الإطفاء الإسرائيلية من بلدية القدس حضرت متأخرة بعد أن أطفأ الأهالي المقدسيون جميع النيران، ولم تفعل شيئًا، بل جاءت لكي تصورها وكالات التلفزيون والصحافة العالمية لإيهامهم أنها أدت واجبها. وقد ساعد في إطفاء النار سيارات الإطفاء العربية التي وصلت من الخليل ورام الله.

وقد تم تصوير عملية الإطفاء التي قام بها الشباب المقدسيون الذين استعانوا بالبراميل ونقلوا المياه يدويًا من الآبار الموجودة في ساحات الحرم القدسي الشريف، وأخرجوا السجاد المحترق إلى الساحات الخارجية، وجمع القطع الصغيرة التي بقيت من الحريق من آثار منبر صلاح الدين الأيوبي. وهي محفوظة الآن في المتحف الإسلامي في الحرم القدسي الشريف.

أما زعيم العصابة التي نفذت الحريق "دنيس روهان" فقد حكمت عليه السلطات الإسرائيلية بالجنون وبالنفي إلى بلاده أستراليا، ولم تسجنه ولم تعاقبه بأي شيء آخر، أما باقي العصابة التي ساعدت روهان من الخارج ، وأخرجته بعد الحريق وحافظت عليه من غضب الأهالي المقدسيين، فبقيت مجهولة ولم ينلها أي عقاب.

وعليه فإن هذا الحريق قد تم عن قصد وتعمد وسبق إصرار من الإسرائيليين وخطط له على النطاق الرسمي الإسرائيلي في سنتين متتاليتين 1968 و1969 واشترك فيه أكثر من شخص واحد.

وفيما يلي أهم الأجزاء التي أحرقت داخل مبنى المسجد الأقصى المبارك:

1- منبر صلاح الدين الذي يعتبر قطعة نادرة مصنوعة من قطع خشبية معشق بعضها مع بعض دون استعمال مسامير أو براغي أو أية مادة لاصقة. وكان يرمز إلى انتصار القائد صلاح الدين ودخوله القدس، وبإحراقه أراد الإسرائيليون إحراق هذا الرمز. وكان هذا المنبر قد صنعه نور الدين زنكي وحفظه في مكان اسمه الحلوية في حلب الشهباء في سوريا ونقله صلاح الدين إلى القدس في عام 1187م.

2- مسجد عمر الذي كان سقفه من الطين والجسور الخشبية، ويمثل ذكرى دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس.

3- محراب زكريا المجاور لمسجد عمر.

4- مقام الأربعين المجاور لمحراب زكريا.

5- ثلاثة أروقة من أصل سبعة أروقة ممتدة من الجنوب إلى الشمال مع الأعمدة والأقواس والزخرفة وجزء من السقف الذي سقط على الأرض خلال الحريق.

6- عمودان رئيسان مع القوس الحجري الكبير بينهما تحت قبة المسجد.

7- القبة الخشبية الداخلية وزخرفتها الجصية الملونة والمذهبة مع جمع الكتابات والنقوش النباتية والهندسية عليها.
8- المحراب الرخامي الملون.

9- الجدار الجنوبي وجميع التصفيح الرخامي الملون عليها.

10- ثمان وأربعون نافذة مصنوعة من الخشب والجص والزجاج الملون والفريدة بصناعتها وأسلوب الحفر المائل على الجص لمنع دخول الأشعة المباشرة إلى داخل المسجد.
11- جميع السجاد العجمd.

12- مطلع سورة الإسراء المصنوع من الفسيفساء المذهبة فوق المحراب ويمتد بطول ثلاثة وعشرين مترًا إلى الجهة الشرقية.

13- الجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقناديل والممتدة بين تيجان الأعمدة.
ولقد بلغ عدد الاعتداءات الفعلية المنفذة ضد المسجد 66 اعتداءً كانت الجهات الحكومية للاحتلال مسؤولة عن أكثر من نصفها، فيما بلغ عدد التصريحات العدائية الرسمية والسياسية ضد المسجد 15 تصريحاً، ناهيك عن التكرارات الكثيرة لفحوى هذه التصريحات.