الشهادات العلمية الملعونة و البيئة التعليمية في الجامعات


الدكتور / عبد الفتاح نظمي عبد ربه
أستاذ العلوم البيئية المساعد بقسم الأحياء – الجامعة الإسلامية بغزة
arabou@iugaza.edu.ps

يظن كثير من الناس أن البيئة (Environment) بمفهومها العلمي هي كل ما يحيط بالكائن الحي من عوامل فيزيائية و كيميائية و حيوية تؤثر فيه و تتأثر به، و لكن هنالك عوامل أخرى اجتماعية لها نفس الأثر و من هنا توالت المصطلحات التي توضح المفهوم الأشمل للبيئة فمنها البيئة النفسية و البيئة الأسرية و البيئة المدرسية و البيئة الجامعية و البيئة التعليمية.... و غيرها الكثير، و لعلنا نجد كتاب العلوم الإنسانية يتناولونها بإسهاب في كتاباتهم بل و يحضون على أن تكون تلك البيئات معافاة و سليمة حتى يعم الرخاء و الإنتاج الوفير في ظلالها و في كنفها. إن المجتمعات إنما تقيم بمدى تقدمها و ازدهارها العلمي و اقتران ذلك التقدم بالأخلاق الحميدة و كم حثنا ديننا الحنيف على التحلي بالعلم و الخلق الحسن اللذين هما سر نهضة الأمم، و في هذا يصدق قول الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

إن مما دفعني لتناول موضوع "الشهادات العلمية الملعونة و البيئة التعليمية" هو نص الخبر الذي يقول "فضيحة شهادات دكتوراه في ألمانيا" و الذي أوردته "الجزيرة نت" على صفحتها الإليكترونية بتاريخ 31/8/2009، إذ تشهد ألمانيا في هذه الأيام واحدة من أخطر الفضائح التي أصبحت تهدد مصداقية مجال العلم والفكر و البيئات التعليمية بشكل عام حيث يجري التحقيق مع أكثر من 100 دكتور جامعي بدعوى منحهم درجات دكتوراه مقابل رشى. فهل يقتصر هذا الأمر على ألمانيا التي تتمتع بالسمعة المرموقة في مجال العلوم و التقدم العلمي أم أنه يشيع في بلدان أخرى و على رأسها بعض البلدان العربية و الإسلامية لتصبح بيئاتها التعليمية في خطر بفعل تلك الشهادات الملعونة؟ إن هذا ما نحاول التطرق إليه في هذا التقرير..........

تعتمد جودة البيئة الجامعية على مدى مراعاة إدارة الجامعات للمعايير و المواصفات المعتمدة في كافة مجالاتها الأكاديمية والإدارية و الأنشطة العلمية و المجتمعية التي تقوم بها، و هذا بدوره يهدف إلى تحقيق الرضا العام و دعم العملية التعليمية والإدارية في الجامعات و توفير بيئة صحية بداخلها عنوانها التقدم على أساس المهنية و النزاهة و الشفافية، و بما أن تقييم الجامعات يتم بمدى المنهجية العلمية في التعامل مع الأحداث العلمية و بمدى التقدم العلمي الذي تحرزه تلك الجامعات بما يخدم المجتمعات الإنسانية و بيئة البحث العلمي، كان لزاما على تلك الجامعات أن تنتهج النهج العلمي في اختيار نوعية الشهادات العلمية التي تحتضنها و نعني هنا شهادات الدراسات العليا من ماجستير و دكتوراة التي يحملها الطاقم الأكاديمي و الإداري في تلك الجامعات، كما و يجب على الجامعات لفظ الشهادات الملعونة التي قد تجد سبيلا لتتسلل إلى
بيئاتها فتهتك حرمتها و شرفها.

ما هي الشهادات العلمية الملعونة؟؟

تتعدد أشكال الشهادات العلمية الملعونة التي قد تجد سبيلها إلى الجامعات العالمية و العربية و الإسلامية فتترك تداعيات سلبية على نظام التعليم العالي فيها وعلى البيئة التعليمية برمتها، و لعل من أهم صور التزييف و التلفيق التي تنقلها وسائل الإعلام ما يلي:

1. قيام أساتذة بعض الجامعات بمنح شهادات الماجستير أو الدكتوراة للطلبة غير المؤهلين
مقابل رشى يتلقاها هؤلاء الأساتذة بطرق مباشرة أو غير مباشرة، و لعل الخبر سالف الذكر الذي نشره موقع "الجزيرة نت" يؤكد ذلك، حيث تحقق السلطات الألمانية مع نحو 100 أكاديمي من أساتذة الجامعات في البلاد، في أعقاب تقارير بتلقيهم رشى من عشرات الطلبة مقابل منح الطلبة درجات بالدكتوراة، علما بأن الإشراف على رسالة جامعية (ماجستير أو دكتوراة) يعتبر نوعا من الخدمة العامة، وإنه لا يحق للمشرف العام الحصول على مال من الطلبة في مقابل ذلك.

2. بيع شهادات الدكتوراة للطلبة، و هذا ما كتب حوله الكاتب و المفكر و المحلل السياسي المشهور أ. فهمي هويدي في أبريل 2006 ، حيث يصف ذلك بالفضيحة من العيار الثقيل التي تضرب بقوة سمعة الجامعات و البلدان التي تحتضنها، كما أنها تسلط الضوء على المدى الذي بلغه الفساد حتى طال رأس الهرم التعليمي و هتك عرض أعلى الشهادات وأرفعها، حتى
حولها إلى سلعة مبتذلة تباع و تشترى على أرصفة سوق النخاسة الجديد.
3. قيام بعض الطلبة بسرقة منتجات علمية لآخرين، و غالبا ما تكون هذه المنتجات رسائل علمية حصلت على درجات علمية فيما مضى، و كم سمعنا عن حالات من هذا القبيل و غالبا ما يلجأ لهذا الفعل المشين الطلبة الذين همهم الوحيد هو الحصول على الدرجة العلمية بأسرع وقت و بأي طريقة.

4. قيام بعض الطلبة بتقديم رسائل و بحوث علمية لا ترقى للمستوى المطلوب الذي تعتمده الجامعة المرموقة التي يدرسون فيها و بالتالي يلجأ هؤلاء الطلبة بعد فشلهم في الحصول على الدرجة العلمية من جامعاتهم العريقة التي يلتحقون إلى الحصول على الدرجة نفسها و في وقت
وجيز من جامعات أخرى يثار حولها جدل و شكوك في الأوساط العلمية المختلفة، وقد يستغرب الكثير من الناس عن سرعة اختلاق المشرف على الرسالة؟ و كيف اجتمعت لجنة المناقشة لتقّيم الرسالة و تجيزها؟ و ما إلى ذلك من أسئلة محيرة وكثيرة تجول في بال الناس و مخيلاتهم.

5. قيام بعض الطلبة بالحصول على شهادات مزورة عبر وسطاء غير نزيهين، حيث تظهر على تلك الشهادات الأختام المطلوبة التي قد توحي بصحتها حينا من الزمن.

مخاطر الشهادات الملعونة على البيئة التعليمية يصرح خبراء ألمان بأن النظام التعليمي العالي في ألمانيا قد أصيب بكارثة إثر فضيحة الشهادات، حيث يتغلغل العديد من حملة الشهادات الجامعية العليا المزورة في الكثير من المنشآت الألمانية الكبيرة و العديد من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أن بعض الأساتذة المتهمين في الجامعات الألمانية يحملون شهادات مزورة كذلك، وهو ما من شأنه ترك تداعيات سلبية وشك وريبة إزاء بعض خريجي الجامعات الألمانية بشكل عام. إذا كان هذا ما يقوله الخبراء الألمان فماذا عسى خبراؤنا أن يقولوا، و قد لاحت بوادر استشراء هذا الداء في أجزاء من بلداننا العربية و الإسلامية؟

إن الوضع جد خطير و لاسيما في بلدان العالم الثالث، حيث قلما تقاس قيمة المرء بما يضيفه في مناحي الخير و البناء و المعرفة، و لكنها تقاس بمقدار وجاهته سواء استمدها من مال وفير أو ألقاب كثيرة ستكون يوم الحساب شاهدة على ما اقترفه من إجرام في حق نفسه أو في حق مجتمعه الذي ينتمي إليه، فهؤلاء – كما يذكر أحد الكتاب – ليست لهم أي بصمة على صفحات التاريخ و لن يكون لهم فيه ذكر. إنهم يتعلقون بأهداب الألقاب و لا يرون لأنفسهم إلا من خلالها
حضوراً و لأجل ذلك فهم يستقوون بالباطل دوما أو بأرباب البيئات التعليمية التي يعملون فيها خاصة إذا كان هؤلاء الأرباب من الذين يتسترون عليهم أو لا يستطيعون البوح بحالهم أو قد يكون هؤلاء الأرباب من الذين سبقوهم بالتزييف، فكيف يستقيم الظل و العود أعوج، و لعله يحضرنا في هذا المقام قول الشاعر الذي أحسن وصفهم بما يليق بهم فقال:

مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتصم أيضا و معتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

ختاما، ربما يسأل سائل: هل يستحق مثل هذا الموضوع مثل هذه المساحة على صفحة البيئة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في مفهومنا للبيئة التعليمية التي يتعلم فيها أبناؤنا. أيرضى أحد منا أن يتلقى – و ماذا عساه أن يتلقى – العلم و المعرفة من ذوي الشهادات الملعونة؟ أترك
بالطبع الإجابة للقراء الأعزاء، و إلى لقاء بيئي جديد يجمعنا بكم إن شاء الله في الحلقة الثانية من: كيف يستقيم الظل و العود أعوج؟؟!!