((مجلة المنار ـ المجلد [ 1] الجزء [40] ص 794 10 شعبان 1316 ـ يناير 1899))
استغاثة عمرها أكثر من قرن 1899
ولا حياة لمن تنادي
الغرب الأقصى
( هل يمكن استرجاع مجد الشرق بقوة الإسلام )
طنجه ( مراكش ) في 6 ديسمبر
لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء
وردت هذه الرسالة الآتية لجريدة المؤيد الغراء ، فأوردناها بحروفها وذيلناها
بما عندنا من الجواب على السؤال الذي بُنيت عليه ، وهي :
مسألة نلقيها على أصحاب النُّهى والأقلام ، نعرضها على أرباب السيادة والأحكام ، نكشفها لأفراد الأمة كبيرها وصغيرها ، رفيعها ووضيعها ، عاقلها وجاهلها .
مسألة حان الخوض في عبابها ، وآن الزمان لكشف نقابها ، والبحث عن أسبابها ، فقد طفحت الكأس ، وسئمت الناس ، وبلغت الروح الحناجر .
ألا ترى إلى الإسلام كيف رقّت حواشيه ، وحطت معاليه ، وعبثت أيدي البغاة فيه ، حتى صارت سماؤه الزاهرة بغيوم الكروب سوداء ، وأرضه الناضرة من دماء أبنائه حمراء .
ألا ترى إلى الشرق كيف تناوشته الأنواء ، وتكالبت عليه الأعداء ، فخرقت
أحشاؤه ، وفتحت أرجاؤه ، وضيق عليه من جميع الأنحاء .
توفرت للإفرنج المعدات ، وكثرت لديهم القوات ، ورأوا الشرق يغشاه سبات الخمول ، ويعتري أهله داء الضعف والنحول ، فحملوا عليه بجيوشهم وأعوانهم ، وزاحموا بنيه في بيوتهم وأوطانهم ، حتى امتلكوا بكرة أقطاره ، وزهرة أمصاره ، ووطدوا العزم لغزو ما بقي مستقلاًّ من أراضيه . يقولون : من فاتنا اليوم فميعادنا معه إلى الغد ، ومن عاهدناه بالأمان فليطمئن إذا شاء على هذا العهد .
هذا وعشائر العرب وجموع المسلمين وشعوب الشرق جمعاء تنظر إلى هذا البلاء ولا تستفيق ، وترضى بالهوان وتطيق ، كأنما فقدت بينهم الحمية ، وماتت من رجالهم روح الأنفة والاستقلال ، أو استحكمت فيهم رهبة العدو فمدوا أعناق التسليم وأقروا له بالخضوع والإذلال ، وأنت إذا حسبتهم تراهم يعدون مئات الملايين يملأون البطاح والوهاد ، بينهم رجال الحروب وأبطال الوغى ، منهم العلماء وأرباب النهى ، دولتهم فيما مضى وصلت الغرب بالشرق ، انبسطت إلى أطراف المعمورة ، خضعت لها برابرة إفريقية في الجنوب ، وهابتها جلالقة الروم في الشمال ، لكن يا للأسف كثرتهم لم تغن عنهم آفة العدو ، ومجد أسلافهم لم يدفع عنهم سيف الأجانب ، فقد امتلكت اليوم دول الإفرنج القسم الأعظم من بلادهم ، واسترقت العدد الأوفر من شعوبهم .
انظر : دولتان قد افترستا زهرة بلدانهم ، وأعملتا السيف في أبنائها ، ودولة أخرى تتحفز للوثوب ، وتتهيأ لقلع أركان مملكتهم ، فرنسا اغتصبت الجزائر وتونس في الشمال ، وغلبت على سودان المغرب في الجنوب ، شقت بطن الصحراء وضيقت على سلطان مراكش ، دافعة عساكرها كل يوم ومن كل ناحية إلى الأمام حتى لا تترك أثراً للسيادة العربية في المغرب .
إنكلترا حكمت سيوفها في سبعين مليونًا من مسلمي الهند ، قبضت على باب المندب وبوغاز السويس في البحر الأحمر ، بسطت جناحيها فوق زنجبار ، قعدت بكلكلها على مصر ، أهلكت في أم درمان في ظرف ساعتين فقط نحو خمسة عشر ألفا من الدراويش ، بل من نخبة رجال العرب ونخوة رجال السودان .
روسيا تستعد كل يوم ، تجند الجنود وتحشد الألوف على الحدود ، تتربص الفرص للوثوب ، وتنتهز يومًا مناسبًا للزحف . وماذا يفعل المسلمون ؟
في الهند ملايين المسلمين تدعو بالنصر لملكة الإنكليز علانية ، وتتغلل صدورها بالغيظ والسخيمة عليها سرًّا ، وقد ملئت قلوبهم بالذل وفقدوا كل نخوة وحمية .
في تركيا اختلفت الأهواء وتعاكست الآراء ، ووقف السلطان وحده يذود عن بيضة الخلافة والملك ، حيث أوروبا بأجمعها تحاربه بالسلم ، وقد تمكن الدخيل في الرعية وانحرفت الأحكام عن جادة الحق في الغالب ، فاختلت لذلك الحكام ، وامتلأت القلوب ضغنًا فوهت بذلك أركان قوة الدولة ، وأخذ الأعداء ينقصون من أطرافها كل يوم وناهيك بما انتهى إليه أمر كريد عبرة .
مصر مسند العرب وعماد الإسلام ، سلمت السيف وخضعت للقدر ، وسكانها الذين استنارت أذهانهم بروح هذا العصر انقسموا إلى حزبين : حزب يفاخر بمعاضدة إنكلترا ، وآخر يباهي بمسالمة فرنسا . سيد البلاد ينام والكدر ملء جفنيه ورجال البرلمان بإنكلترا يبيتون على فرح كامل وسرور شامل .
في تونس والجزائر كلمة ( بونجور) خلفت كلمة (السلام) وخلاعة الإفرنج حلت محل آداب العرب ، وكادت تهتك حرمة الإسلام ، ومراكش المملكة الوحيدة العربية التي حفظت استقلالها إلى الآن استحكمت فيها الفوضى ، ورسخ بأرجائها الجهل ، وحكومتها عوضًا عن أن تكون حامية للشعب وحافظة لحقوقه تهتك أعراضه وتبيح دماءه وتستلب أمواله ، لا ينجو منها عالٍ ولا وضيع .
أما أقطار الصحراء الواسعة وما والاها من سودان الجنوب فسل عنها فرنسا بالغرب ، وإنكلترا بالشرق ، فهما بها أدرى ، وبالكلام عنها أحرى .
هذه هي اليوم حالة الإسلام وحالة الشرق أجمع . سردنا لك حقائقها بأبسط الوجوه وأوضحها ، لم نوشحها بنامق العبارات ، ولم نطلها بزخرف الكلام ؛ حتى تظهر لك ساطعة كالشمس في رابعة النهار . حتى تعلم أن نصيب الشرق في كفة الميزان وأن حالته الحاضرة تنذر بفناء الأمة وذهاب العرب .
هل يمكن إذن رد هجمات الشمال عن الجنوب ، ودفع غارات الإفرنج عن أمم الإسلام ، واسترجاع ما فقد المسلمون من الأملاك والممالك ، والشمال كما تعلم قواته تفوق الآن الحصر ، ومعدات تدهش الفكر ، لم تدركها العرب ولا الترك ولا غيرهم من أمم الجنوب .
نقول : إنه لا يمكن إن دام الحال على هذا المنوال .
ونقول : يمكن إذا صاح صوت من غربي إفريقية وقطع مجاهل الصحراء فرددته أعجاز النيل ، ثم تناقلته وِهاد العربية ووديانها ، فارتجت لدويه الهند وتداولته سهول الشام وجبالها ، فاهتزت لصداه أركان الآستانة العلية ، مكان عرش الخلافة وموضع التاج من رأسها .
أو إذا لفحت ريح من الشرق فزعزعت أهرام مصر وهبت نحو الغرب ، فنبهت أحياء إفريقية واستيقظ الناس واجتمعت الكلمة . ولكن بأي واسطة أو أي سبيل يتم هذا الأمر ؟
ذلك نتركه لفطنة القارئ وحكمته . ومتى تذكر أن الدولة التي قوضت دولة الرومان وبسطت سلطتها من الهند إلى الأطلنطيك إنما قامت عن قبائل متوغلة في الخشونة والهمجية ، أقوى سلاحها الاتحاد والحمية ، يعلم أننا لم نفرض المستحيل ، وأن الدهر أبو الغرائب .
الامضاء
( ن . الفويكي )
( جواب المنار )
قول الكاتب الفاضل : إن رد هجمات الشمال عن الجنوب ودفع غارات الإفرنج عن أمم الإسلام غير ممكن إذا دام الحال على هذا المنوال - قول صحيح لا ريب فيه .
وقوله : ( يمكن إذا صاح صوت من غربي إفريقية إلخ أو إذا لفحت ريح من المشرق إلخ ) محل نظر وبحث ، إذ يتبادر أن مراده بالصوت الصائح ، والريح اللافح ، قيام المسلمين بثورة عامة تبتدئ من الغرب فيليها الشرق ، أو تهب من الشرق فيتزعزع لها الغرب ، وتنهض الأمة نهضة واحدة للتنكيل بالدخلاء الذين عدوا على البلاد مفتاتين ، فاستبدوا بالسلطة واستأثروا بالرياسة . وهذا مراد لا ينال وغاية لا تدرك ، فالمسلمون لا تجمعهم لغة ولا حكومة ، والرابطة الدينية قد سحل مريرها وانتكث فتلها من أجيال طويلة ، بما اعتورها من اختلاف المذاهب ، وتنوع المشارب ، وتمزيق السلطة بتفريقها ، وما تولد عن ذلك من دماء سفكت ، وحرمات انتهكت ، وأرحام قطعت ، وقد آل أمر هذه الفتن فيهم إلى أن استعان كثير من أمرائهم وسلاطينهم بأعدائهم على إخوانهم في الدين ، وأعانوهم عليهم في بعض الأحايين ، ولا أبعد عليك في الشاهد ذهابًا إلى تاريخ الدول المنقرضة ، فإن في هذه الدول المواثل ( جمع ماثل وهو الرسم الذي بقي له أثر ) ما يغني عن الاستشهاد بالأوائل .
إن بريطانيا ما استقرت قدمها في الهند إلا بمعونة الأفغانيين ، وإن فرنسا ما تم استيلاؤها على الجزائر إلا بمساعدة المراكشيين والتونسيين ، وكفى بخذل القريب ، مساعدة للغريب ، وقد كان لدولة الإيرانيين يد عاملة في انتصار روسيا على العثمانيين ، وإن الأمراء الذين أضلوا الأمة عن سواء السبيل ، وفعلوا بها هذه الأفاعيل ، هم الذين يصدونها عن سبيل الاتحاد ، ويحولون بينها وبين كل مراد ، فأَنَّى تتألف عناصرها وتتلاصق جواهرها ، وهذه الآلات المحللة لا تبرح عاملة فيها بالتفريق ، ومتى تبلغ هذه الغاية والقائد هو الذي ينكب بها عن جادة الطريق ، لم يدع أمراء المسلمين وسلاطينهم في بلادهم زعيمًا يرجع إليه ، ولا رجلاً تجتمع القلوب عليه ، إلا وخضدوا شوكته ، وحصدوا نبتته ، إلا ما يكون في البلاد الهمجية من زعماء الفتنة الذين يخرجون على سلاطينهم ، ويعملون قوتهم فيما يصب البلاء عليهم وعلى أمتهم ودولتهم ، كالذين أضرموا نيران الثورة في السودان ، والذين لا يزالون يضرمونها في اليمن ومراكش ، وكل أولئك يصح أن تتمثل الأمة فيهم بقول الشاعر :
وإخوان حسبناهم دروعًا *** فكانوها ولكن للأعادي
وخلناهم سهامًا صائبات *** فكانوها ولكن في فؤادي
وأقول : إن بلاد المسلمين قسمان . قسم له حكومة منظمة ، وجنود معلمة ، كالدولة العلية والدولة الإيرانية[*] .
وقسم ليس كذلك كدولة مراكش ، والقسم الأول فيه بلاد ههمجية لم يسسها النظام ، ولم تنفذ فيها القوانين والأحكام ، فالحكومات أنفسها لا تقدم على محاربة دول الشمال لما تعلم ، ولا يمكن أن يثور الأهالي في البلاد التي لها حكومات منظمة على الإفرنج الذين تبوءوا بلاد الإسلام ، لأن حكوماتهم هي التي تكبح جماحهم ، وتنكث قواهم ، فيكون ذلك سببًا في زيادة ضعفها ، وأما البلاد الأخرى فليس شأنها بأبعد من شأن هذه ، فحضرة الفاضل صاحب المقالة أعلم منا بما يجنيه أهل الريف في بلاد مراكش على حكومتهم من إغارتهم على السواحل وانتهابهم مراكب الإفرنج وتعديهم على أهلها ، فلقد أثقلوا غارب الدولة وحملوها من المغارم التي تدفعها للحكومات الأجنبية باسم الترضية ونحوه ما إذا طال عليه العهد يخرج عن طوق احتمالها ، ويؤدي إلى طموح الأجانب لاحتلالها ، وإذا ضممت إلى تفرق الكلمة وتنكيث القوى وضعف الحكومات حتى عن الرعية في البعض ما عليه دول الشمال القوية الحازمة من الاتفاق والاتحاد على ابتلاع أمم الجنوب وهضم حقوقها ، على اختلاف الوسائل والتنازع في اقتسام الممالك - لاح لك أن الثورة والقيام على الأجانب خطر عظيم عاقبته مظلمة جدًّا ، والنتيجة أن هذا أمر لا يقع ، ولئن وقع فقد يضر ولا ينفع .
إن الشعور بحالة الأمة السيئة صار عامًّا لا يكاد يجهله في جملته أحد ، ولكن الذين يتوقع منهم شعب الصدع ومداواة الكلم ، قد اكتفى أهل النظر والفكر منهم بتأسف العجائز ، وتحسر الزَّمْنى ، بل بما هو أشبه بحزن النسوان ، ومنهم العميان والمخدرو الجثمان الذين لا يبصرون ، ولا يتألمون ، وهم متفقون على أن إصلاح الحال وإزالة الاختلال ، لا يمكن أن يأتي إلا من قبل الحكام ، والحكام ميئوس منهم في أكثر البلاد فالإصلاح كذلك . هذا هو الرأي الغالب على الناس إلا من هداه الله وقليل ما هم .
ومن الناس من يتكلم في الإصلاح بغير هدى ولا عقل منير ، فإما كلام مقطع غير معقول ، وإما تغرير بالعقول ، وأغرب ما كتب في ذلك الكاتبون الحث على الالتجاء لدول أوروبا والاعتماد عليها في إلزام الدولة العلية بالإصلاح على الوجه الذي يرونه أو تراه تلك الدول ، وغاية هذا تسليم البلاد لها ، وقد فندنا هذا الرأي الفاسد من قبل ، وهو لبعض الغارِّين أو الأغرار ، الذين يسمون أنفسهم بالأتراك الأحرار ، والذي نعرف عن النبهاء والمتعلمين في مدارس الحكومة من الأتراك والمصريين أن الإصلاح لا يكون إلا بتقليد أوروبا في جميع الشؤون واتباع سنتها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ، وهو على إطلاقه إضلال أي إضلال ، وذهب بعض المثرثرين في هذا الموضوع إلى أن الإصلاح يتوقف على نهوض الأمة وإلزامها الحكومة بما تريد منها بثورة كثورة الفرنسيس المشهورة ، وقد جربنا هذا وما قبله في مصر ، ولا نزال نتململ من سموم لدغاتهما ، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
فهل نقول بعد هذا : ( يمكن استرجاع مجد الشرق بقوة الإسلام) ؟ نعم وألف نعم ( ولكن بأي واسطة وأي سبيل يتم هذا الأمر) ؟ ترك صاحب المقالة الجواب عن هذا السؤال لفطنة القارئ وحكمته ، ولكن ذكره بما يهديه إليه - ذكره بنشأة الدين ومبدأ ظهوره . ذكره بذلك الانتشار السريع - ذكره بالقوة التي فاضت من قفار القبائل المتوغلة في الخشونة والهمجية ، فغمرت المعروف من مشارق الأرض ومغاربها وأبطلت كل قوة لغيرها وسلطان . ولكن هذه التذكرة تذهب النفوس في تأويلها مذاهب شتى . فمن الناس من يقول : إن ذلك الاتحاد وما كان من آثاره حصل بالإمداد السماوي والمعجزات والخوارق ، ولذلك يعتقد جماهير المسلمين أن الإسلام لا يعود إليه مجده إلا بالمهدي المنتظر أو السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد أضر بهم هذا الاعتقاد ضررًا عظيمًا ، وكان من أسباب ضعف هممهم ، وزلزال عزتهم ، وظهور الفتن والبدع فيهم ( سنبين ذلك في مقالات أخرى ) .
ومن رأي هؤلاء : أن العمل لإحياء مجد الإسلام عبث لا يفيد وأنه لا مندوحة عن الرضى بالضيم ، والخنوع للذل ، حتى يخرج المهدي من الخباء ، أو ينزل المسيح من السماء ، ومنهم من يقول : إن دولتي الرومان والفرس وغيرهما من الدول التي قوض عرش سلطانها المسلمون كانت عند ظهور الإسلام في تفرق وشقاق ، وفساد أخلاق ، فتسنى للمسلمين باجتماعهم واتحادهم الغلب عليهم ، وأما دول الشمال اليوم فهي في أعلى درج القوة والمنعة واجتماع الكلمة ، حتى بين كل دولة وأخرى بالنسبة للاستيلاء على أمم الجنوب ، فمهما اتحد المسلمون واجتمعت كلمتهم لا يتسنى لهم فل جيوشهم ، وثل عروشهم ، بل ربما أفرط بعض هؤلاء فقال: ولا يتأتى لهم تقليص ظلالهم ، بتخييب آمالهم ، لأنهم هضموا ما طمعوا . فترْك الكاتب النبيل بيان السبيل لفطنة القارئ ، لا يأتي بالفائدة المطلوبة ؛ فليس القارئ المخاطب واحدًا وإنما هم قراء مختلفون في المذاهب والآراء ، وهذا ما حدا بنا إلى كتابة هذا الجواب مبينين رأينا في المسألة الذي اهتدينا إليه بعد البحث الطويل والوقوف على آراء الباحثين وهو :
إن أصول الدين الإسلامي وتعاليمه وآدابه الصحيحة هي التي جمعت كلمة قبائل العرب وارتقت بهم من حضيض الهمجية إلى أوج الفضائل ، وأشرفت بهم على دول العالم بالسيادة والسلطان ، وهدتهم إلى العلوم والفنون ، ولا خلاف في أن انحراف المسلمين عن جادتها هو الذي سلبهم ما كسبوا ، فالرجوع إليها هو الذي يؤلف بين قلوبهم ويجمع كلمتهم ويرجع لهم سيادتهم ، وقد بدأ الدين غريبًا وانتشر بالدعوة والتعليم ، ولم تكن الحروب في أثناء الدعوة إلا وسيلة لسماع صوته ( كما سنبينه في فرصة أخرى ) وقد عاد الآن غريبًا وينتشر بالدعوة والتعليم ( وفقا لما ورد في الحديث الشريف ) ولا حاجة مع ذلك إلى الحرب ولا إلى الخوارق والمعجزات لأن الذين يراد إحياء تعاليم الدين وفضائله وآدابه فيهم - أولاً وبالذات - معتقدون أن جميع ما جاء في الدين حق ، وأن القرآن معجزة باقية إلى الأبد ، ولا يصدنا عن الإرشاد والتعليم صاد ، ولا يمنعنا منهما مانع في أمتنا وبلادنا ، ولا في غيرهما . كيف والدعوة إلى الاسلام لا يعارضها في الممالك الغربية معارض ، ولم يلق القائمون بها ذرة من البلاء الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ، ولا الأئمة الذين دعوا إلى البدعة بعده من قبل خلفاء المسلمين وأمرائهم . ولا يتوقف العمل إلا على اقتناع العلماء بأن هذا الإصلاح مطلوب منهم وموكول إليهم ، وهم المسئولون عنه بين يدي الله تعالى ، وأنه لا يتوقف على مساعدة الأمراء والسلاطين ، فضلاً عن كونه لا يأتي إلا منهم ، فإذا أشربوا ذلك في قلوبهم وتقشعت سحب اليأس من نفوسهم وجعلوا إمامهم القرآن وأحيوا معانيه في العقول في دروسهم ومجالسهم وخطبهم ، تهبط على الأمة روح الوحدة من سماء العزة ، فيجتمع شرقيهم بغربيهم ويعيدون للشرق مجده ( ولا يبعد أن يكون هذا مراد صاحب المقالة وإن كان المتبادر خلافه ) نعم ، إن الأمراء والسلاطين إذا ساعدوا العلماء في عملهم هذا وسهلوا لهم سبيله يكون أسرع سيرًا ، وأقرب وصولاً ، وهذا ما حملنا عى كتابة ما ترى في المنار من مقالات الإصلاح الديني واقتراحها على مقام الخلافة الإسلامية أيده الله تعالى وأعزه ، ولكن يجب أن لا ييأس العلماء من روح الله إذا لم يجب الطلب ولم يلتفت إلى الاقتراح ، فقد علمنا التاريخ الحديث أن الأمم في هذه العصور إذا تربت وتعلمت فإنها تربي الحكام والسلاطين والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم[**] .
________________________
(*) تبين لنا بعد ذلك أن الدولة الفارسية ليس عندها جيش منظم .
(**) الغرض تنبيه الأمة إلى قوتها الذاتية ، وتنبيه العلماء إلى أن إحياء الأمة وإعادة قوتها إليها
موكول إليهم وما كتبنا ما كتبناه من اقتراح الإصلاح على مقام الخلافة إلا لتنبيه المسلمين وتذكيرهم
بتلك المسائل المقترحة ، ليوجهوا نفوسهم إليها ، وتذكيرهم بتقصير خليفتهم في خدمة ملتهم ليعلموا
بعد إعراضه عما يقترح عليه أنه لا صلاح لهم به وقد يكون صلاحه هو بصلاحهم .
((مجلة المنار ـ المجلد [ 1] الجزء [40] ص 794 10 شعبان 1316 ـ يناير 1899))
المفضلات