ذهب الناس وبقي النسناس

[منذر أبو هواش]

((مجلة المنار ـ المجلد [1] الجزء [44] ص 855 ‌ 9 رمضان 1316 ـ فبراير 1899))

ذهب الناس وبقي النسناس
شكوى الزمان

ذكرنا في عدد سابق أننا روينا في الأحاديث والآثار المسلسلة أن عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها كانت تنشد قول لبيد :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وتقول : ( رحم الله لبيداً ، فكيف لو رأى زماننا هذا ) ويتلو هذا البيت بيتًا آخر روي أنها كانت تنشده أيضاً وهو :

يتأكلون خيانة ومشحة *** ويعاب قائلهم وإن لم يشغب

ويروى أن أعرابيًّا قال لابن عباس رضي الله عنه : إني سمعت عائشة تذم دهرها وهي تتمثل ببيتَيْ لبيد ؟ فقال ابن عباس : لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت عاد دهرها . قيل : وُجد في خزائن عاد سهم مفوق كأطول ما يكون من رماحنا ، وإذا عليه مكتوب :

أليس إليَّ أجياد صبح بذي اللوى *** لوى الرمل فاعذر للنفوس معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها *** إذ الناس ناس والبلاد بلاد

وعن ابن أحمر قال : كنا عند أبي نعيم ، فذكروا قول لبيد ، فقال أبو نعيم :

ذهب الناس واستقلوا فصرنا *** خلفا في أراذل النسناس
من أناس نعدهم من عديد *** فإذا كوشفوا فليسوا بناس
كلما جئت أبتغي النيل منهم *** بدأوني قبل السؤال بياس
وبكوا لي حتى تمنيت أني *** عند هذا خلصت رأساً براس

( النسناس ) بفتح النون وكسرها : حيوان على شكل الإنسان ، هكذا يذكر في معاجم اللغة ، والعامة تسمي به نوعاً من القردة ، فإذا كان يوجد حيوان أقرب إلى الإنسان من القرد وكان هو المسمى بالنسناس فلعله إذا اكتُشف عليه حيًّا أو ميتًا متحجرًا يكون هو الحلقة المفقودة التي يتوقع الظفر بها أهل مذهب النشوء ، ونحن معاشر المليين نقول : إن الإنسان خلق ابتداءً على صورته هذه ، سواء وجدت تلك الحلقة أم لم توجد . وروي أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ذهب الناس وبقي النسناس . قيل : وما النسناس ؟ قال : ( الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس ).

وفي كتاب تفضيل الكلاب ، بعد ذكر بيتي لبيد قال : أخبرنا أبو العباس محمد ابن يزيد النحوي قال : ذكر لي بعض المشايخ قال : كنت عند بشر بن الحارث عشية فرأيته مغمومًا ، فما تكلم حتى غربت الشمس ، ثم رفع رأسه فقال :

ذهب الرجال المقتدى بفعالهم *** والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم *** بعضًا ليدفع معور عن معور

وأنشدنا أيضًا غيره :

ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً *** سُروا وقالوا مرحبًا بالمقبِل
وبقي الذين إذا رأوني مقبلاً *** سيئوا وقالوا ليته لم يُقبل

( وقال آخر ) :

ذهب الذين إذا غضبت تحملوا *** وإذا جهلت عليهم لم يجهلوا
وإذا أصبت غنيمة فرحوا بها *** وإذا بخلت عليهم لم يبخلوا

قال : وأنشدني أبو عبد الله الدستواني :

ذهب الذين هم الغياث المنزل *** وبقي الذين هم العذاب المرسل
وتقطعت أرحام أهل زماننا *** وكأنما خلقت وليست توصل
الناس مشتبهون ، مَن كشفته *** كشفت منه عن الذي لا يحمل
أما الفقير فحاسد متفطر *** حسدًا وأما ذو الثراء فيبخل
ويظن أن له بكثرة ماله *** فضلاً عليك وغيره المتفضل

وأنشدني أبو يعقوب الأديب :

ذهب الكرام فأصبحوا أمواتًا *** ورقًا تطير به الرياح رفاتا
وتبدلت عرصاتهم من بعدهم *** بسوى ثبات الصالحين ثباتا
وبقيت في خلف أحاذر شره *** وأخاف فيه من الصديق بياتا

( وقال آخر ) :

ذهب الناس وانقضت دولة الناس *** فكلٌّ إلا القليل الكلاب
غير أن الوجوه في صور الأنس *** وأبدانهم عليها الثياب
لست تلقى إلا بخيلاً كذوبًا *** بين عينيه للإياس كتاب
إن من لم يكن على الناس ذئبًا *** أكلته في ذا الزمان الذئاب

وقال الشاعر :

ذهب الذين فضولهم معلومة *** ولهم إذا قحط الزمان جِفان
ذهبوا فليس لهم نظير واحد *** إذ لا تراهم - لا أبا لك - كانوا
لم يبق من أهل الفضائل والنهى *** إلا فلان باسمه وفلان

وقال الشاعر :

ذهب الذين عليهم وجدي *** وبقيت بعد فراقهم وحدي
سلف مضى وبقيت بعدهم *** وكذاك يذهب من بقي بعدي

هذا ما يقوله الشعراء في كل زمن ، سواء كان ما قبله شرًّا منه أو خيرًا منه ، فلا يصح للمؤرخ أن يحتج بقولهم في تفضيل زمان على زمان ؛ لأن الدليل مشترك الإلزام .
________________________

((مجلة المنار ـ المجلد [1] الجزء [44] ص 855 ‌ 9 رمضان 1316 ـ فبراير 1899))

[عادل العاني]

استاذنا الأديب الفاضل منذر

مقال رائع , وعرض لما قيل في الناس والزمان.

وتبقى لكل منا رؤيته وفقا لما يحيط به .

تقبل تحياتي وتقديري

[منذر أبو هواش]

أخي عادل العاني
شكرا لمرورك

[زاهية بنت البحر]

أستاذنا الفاضل منذرأبو هواش موضوع رائع نتعلم منه الكثير كي نكون بيقظة دائما فما ذهب يوم وجاء أفضل منه كما يقولون وفي هذا وجهات نظر متباينة فبعض الناس يقول اليوم أفضل من الأمس وهكذا وأظن أن واقع الإنسان وطبيعة حاله فيه هي التي تجعله يفضل الأمس عن اليوم أو العكس..
أخي المكرم قرأت هنا :
ويروى أن أعرابيًّا قال لابن عباس رضي الله عنه : إني سمعت عائشة تذم دهرها وهي تتمثل ببيتَيْ لبيد ؟ فقال ابن عباس : لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت عاد دهرها .

أتراه هذا القول موضوعًا لأن ابن عباس رضي الله عنه يعرف أن ذم الدهر لايجوز في الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :‏
لاتسبوا الدهر فإن الله هو الدهر‏‏

الحديث رواه البخاري ومسلم وهذه بعض رواياته : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر . وفي رواية : قال الله عز وجل يَسبّ ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار . وفي رواية : قال الله عز وجل يؤذيني بن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار . وفي رواية : قال الله عز وجل : يؤذيني بن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره ، فإذا شئت قبضتهما . وفي رواية : لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر ، فإن الله هو الدهر . هذه من روايات الصحيحين . ورواه الإمام أحمد ورواه النسائي في الكبرى والطبراني في الأوسط وفي مسند الشاميين والبخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة والبيهقي في الكبرى وفي الشُّعب وأبو يعلى في المسند . والله تعالى أعلى وأعلم .

http://www.almeshkat.net/index.php?pg=qa&cat=11&ref=36

ودمت بخير
أختك
بنت البحر

[منذر أبو هواش]

يروى أن أعرابيًّا قال لابن عباس رضي الله عنه : إني سمعت عائشة تذم دهرها وهي تتمثل ببيتَيْ لبيد ؟ فقال ابن عباس : لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت عاد دهرها .

أتراه هذا القول موضوعًا لأن ابن عباس رضي الله عنه يعرف أن ذم الدهر لايجوز في الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :‏
لاتسبوا الدهر فإن الله هو الدهر‏‏ الحديث رواه البخاري ومسلم ]
ودمت بخير
أختك
بنت البحر

الأخت زاهية بنت البحر،

كلما طالعت اسمك يا أخت زاهية أتذكر الكاتبة الدكتورة الأديبة بنت الشاطئ لا أعرف لماذا؟

أما عن هذه الرواية فهي لابن عباس وقد قرأتها في موسوعة مجلة المنار، كما أنها موجودة أيضا ضمن كتاب (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) (حرف الميم 54-69) وهذا نصها:

ما بكيت من دهر إلا بكيت عليه‏.‏

من كلام ابن عباس ففي معجم ابن جميع عن الشعبي قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال يا ابن عباس أما تعجب من عائشة تذم دهرها وتنشد قول لبيد‏:‏

ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتأكلون ملاذة ومشحة * ويعاب قائلهم وإن لم يشغب

فقال ابن عباس لئن ذمت عائشة دهرها فقد ذمت عاد دهرها،
قيل: وجد في خزانة عاد سهم مفوق كأطول ما يكون من رماحها مكتوب عليه،

أليس إليَّ أجياد صبح بذي اللوى *** لوى الرمل فاعذر للنفوس معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها *** إذ الناس ناس والبلاد بلاد

فقال ابن عباس ما بكينا من دهر إلا بكينا عليه،
والملاذة من الملاذ وهو الذي لا يصدق في مودته قاله في المقاصد انتهى‏.‏

هذه الرواية ليست قرآنا كريما، وليست حديث شريفا، وليست لدي المعلومات، ولا المراجع الكافية، ولا الأهلية ولا الصلاحية للحكم على صحتها أو عدم صحتها. لكن مع ذلك يمكنني أن أقوم ببعض الاجتهادات.

الأول: عبدالله ابن عباس من كبار الصحابة المحدثين، ومن البديهي أنه يعرف ما نعرفه عن عدم جواز (سب الدهر)، لكن يبدو من سياق الرواية أن الأعرابي وابن عباس هنا لم يكونا يقصدان (الذم) بمعنى (السب) المذكور في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاتسبوا الدهر ...‏). وذلك لأن عبارة (ذم الدهر) هنا هي الموضوع الرئيس للرواية، وواضح منها أن المقصود بالدهر هنا هو (مرور الزمان)، بدليل عبارة البكاء على الدهر، والبكاء منه، ويبدوا أن هذا هو المقصود من عبارة (ذم الدهر)، وواضح أن هذا لا يعني (سب الدهر)‏ أو (سب الذات الإلهية) بأي حال من الأحوال والعياذ بالله.

الثاني: القصد من الرواية هنا هو العظة والعبرة، وليس السرد الديني أو التاريخي، ومع أنني لست متأكدا من اللغة التي كان يتكلم بها قوم عاد، إلا أنني لا أعتقد أن البيتين المذكورين في الرواية، والذين (بكت) بهما عاد على دهرها حقيقيين، وأظنهما من الشعر القصصي المعبر الذي كان متداولا بين العرب في ذلك الوقت، أو أنهما كانا مجرد ترجمة عربية شعرية للنص المنسوب إلى قوم عاد في أحسن الأحوال.

هذا على حد فهمي، والله أعلم.

منذر أبو هواش

[عامرحريز]

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أظن أن ما كانت تقصده السيدة عائشة رضي الله عنها هنا كان من باب ذم "أهل" ذلك الدهر أي الناس وليس الدهر نفسه ، ودليل ذلك بيتا الشعر المذكورين فهما يذمان أهل الزمان وليس الزمان نفسه والله أعلم..

أليس إليَّ أجياد صبح بذي اللوى = لوى الرمل فاعذر للنفوس معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها = إذ الناس ناس والبلاد بلاد

[خليل حلاوجي]

من نوادر شيخنا الشافعي رحمه الله قوله

لم يبق في الناس الا المكر والملق

شوك إذا لمسوا ، زهر ٌ إذا مرقوا

فإن دعتك َ ضرورات ٌ لعشرتهم

فكن جحيما ً لعل الشوك يحترق

\

بالغ تقديري

[رابحة]

السلام عليكم

و أنا أقرا هذه المشاركات تذكرت قول الإمام الشافعي :

نعيب زماننا والعيـب فينـا وما لزماننا عيـب سوانـا

ونهجوا ذا الزمان بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانـا

وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضا عيانـا

و السلام عليكم