دراسة تحليلية- في كتاب التراث الشعبي والمواجهة للدكتور محمد بكر البوجي بقلم\ د0 ناصر إسماعيل جربوع (اليافاوي)
بعد معايشة مع "كتاب التراث الشعبي والمواجهة " للدكتور الأديب محمد بكر البوجي من جامعة الأزهر بغزة ، تكوّن عندي رأي ، يرتكز على أساس أن التاريخ ينقسم إلى قسمين: تاريخ رسمي مدّون، وتاريخ شعبي شفاهي، أو شبه مدوّن، أو ممكن اعتباره التاريخ الأدبي المنسي للشعوب والذي لا زلنا نلمس آثاره إلى هذا اليوم في الثقافة العربية، والتاريخ الشعبي هو التاريخ غير المدونّ، وبعضه دُوٍّن ويشمل: الأدب الشعبي كالملاحم، والسّـير العامة، والمغازي، والشعر، والقصص، والأنساب، والذكريات الشخصية، والسّـيرة الذاتية وأدب السمر. وهو تاريخ يعتمد على الأسطورة، ، والمبالغة، وهو التاريخ الأقدم. ويدعوه بعض المؤرخين بتاريخ القبائل، وهذا ما أوضحته ثنايا سطور الكتاب المتناول بين أيدينا ، وكوني متخصص في التاريخ وباحث في التاريخ الشفوي ، تناولت هذا الكتاب القيم من الزاوية التاريخية ومن زاوية التاريخ الشفوي ، والذي أطلق عليه الأستاذ "عبدالله العروي" التاريخ الراكد ، وسماه الباحث "مسعود ضاهر" بالتاريخ الأهلي ، أما المستشرق الإيطالي "ديلافيد " أطلق عليه الأدب شبه التاريخي ، وهذه الرؤية تتفق مع توجهات الدكتور "محمد البوجى" في طريقة تناوله للكتاب ،ولا يختلف المؤرخ البريطاني "جب H. A. R.Gibb " عن تلك التوجهات حين أطلق عليه التاريخ السماعي ، وعند البحث في القواميس التي اهتمت بالجانب التراثي للشعوب ، وبعد دراستي المتعمقة لكتاب التراث الشعبي والمواجهة خرجت ببعض التعريفات المنسجمة مع متن الكتاب - موضوع الدراسة - المتخصص في التاريخ الشفوي فقد ورد في قاموس( لأراوس Larousse ) تعريف التراث الشفاهي الذي هو الوجه الآخر للتاريخ الشعبي أنه: "مجموعة التقاليد من أساطير ووقائع ومعارف ومذاهب وآراء وعادات وممارسات" أما قاموس (روبير) فيُعرفه بأنه "انتقال غير مادي للمذاهب والممارسات الدينية والأخلاقية المتوارثة من عصر إلى آخر بواسطة الكلمة المنطوقة" .

والجدير ذكره أن تطور فكرة تداول التراث الشفوي بدأت عند العرب في القرن الهجري الأول، وبدأت علي شكل روايات شعبية يتداولها الناس كما يتداولون القصص والحكايات، وباعتقادي انه من هنا بدأت فكرة انتشار تداول التراث الشعبي وبرز في هذا المجال (كعب الأحبار (ت 34هـ)، وعبيد بن شرية (ت 70هـ)، وأيوب بن زيد المشهور بابن القرية (ت 84هـ)، وعامر الشعبي (ت 103هـ) ، الذين قدموا لنا روايات شعبية، وتسودها البنية الحكواتية،).
والكتاب المتناول بين أيدينا للدكتور (محمد البوجى)ى يعتبر نموذجًا حياً من الكتب التي اهتمت بجمع التراث الشعبي الفلسطيني، وأضيف إلى سلسلة المحاولات الخالدة التي قامت بها (جامعة بيرزيت فى رام الله ) ومحاولات الأستاذ شريف كناعنة ، وتتويجاً لتجذر الفكر التراثي الذي تأثل في الضفة والقطاع منذ منتصف الثمانينات من القرن العشرين ، وكان لي الشرف للعمل في هذا المجال الذي رسخ فى ذاكرتى متأثرًا بمجهودات جامعتي الأم (بير زيت) ، وقمت مع زملاء وأصدقاء بتشكيل( الجمعية الوطنية للتراث الشعبي الفلسطيني) وبمباركة من الزعيم الراحل ياسر عرفات رحمه الله ..
محتويات الكتاب :
-يتكون الكتاب من 264 صفحة من القطع المتوسط 0
- تناول الكتاب التراثي العديد من المحاور الهامة للقارئ والأدب والتاريخ منها:
-تطور دراسة التراث الشعبي 0
- بداية الاهتمام بالفلكلور الفلسطيني 0
- التراث الشعبي ودلالة المصطلحات0
- الحكاية الشعبية0
- الفرق بين الأسطورة والحكاية الشعبية0
- المثل الشعبي وقصته 0
- المثل الشعبي والشعر 0
- المثل الشعبي في القرآن والسنة 0
- فوائد المثل وقصته 0
- قصص الأمثال الشعبية 0
والملفت للنظر والأمر الذي يستحق الوقوف عنده أن الكتاب ضم (209 ) قصة مثل من أروع الأمثال الفلسطينية التي حاكت التراث الفلسطيني وتعتبر نموذجاً تاريخيًا رائعًا ، جسدت تراث المجتمع الفلسطيني ( مدنه وقراه وباديته ) .
صورت فكرة ايجابية توضح للقارئ - بكافة أعماره - فكرة الانتصار للخير لتزرع لنا نسق قيمي فلسطيني أصيل يبشر بانتصار الوعي، وتقتل فكرة الاغتراب الحضاري الفلسطيني ، وتساعد على إعادة التحام خيوط النسيج الاجتماعي ، الذي ظن البعض أنها بدأت تنفرط ،ومن الصعب إحياءها من جديد ، ويجيء كتاب التراث والمواجه بالمكان والزمان الحقيقي ، لتبذر من جديد محاولة إحياء التلاحم الفلسطيني بكل شرائحه الاجتماعية ، ومما يدعم طرحنا ، ما لاحظناه من تعمد الكاتب لربط أمثاله الشعبية بالقرآن والسنة النبوية ، واثبات نظرية عدم التعارض بين النسق الاجتماعي الشعبي الفلسطيني الحسن والدين الحنيف 0
ولتثبيت نظرية تعميق النسق القيمى الاجتماعي ، والخروج من الاغتراب - سواء من جهة الغربة الذاتية أو العزلة الاجتماعية - تطرق الكاتب إلى عشرات الأمثلة التي تغرز المفاهيم الطيبة في المجتمع الفلسطيني ومنها الأمثلة الكثيرة حول :
- القيم الاجتماعية : الدالة عن الابتعاد عن الذنوب والمفاسد

- القضاء والقدر : وحتمية انتصار إرادة الله الخيرة

- القسمة والنصيب :ومفاهيمه الدالة على حتمية الجد والعمل وعدم التواكل

- الأمانة والسر : ونبذ فكرة الخيانة وسعة الصدر مع الناس

- السياسة : ويتطرق الكاتب في هذ1 المفهوم لأخذ الحيطة والحذر حتى في صغائر الأمور، وينوه إلى عاقبة الظلم

- النباتات : هنا يوضح الكاتب مدى الرابطة السرمدية بين الفلسطيني وبيئته المحلية التي سخرها لعلاج أزماته ، واستغل نباتاتها لتدل على عمق العلاقة بين الفلسطيني وأرضه ومنتجاتها

- الأرقام وأيام الأسبوع : وتدل الأمثال التي جمعها الكاتب هنا على الارتباط الزماني المتبوع بالارتباط المكاني للأرض الفلسطينية المقدسة، عدا عن الاحترام لعنصر الوقت، واستغلاله فيما ينفع المجتمع الفلسطيني

- الطمع والأنانية : يشير هنا الكاتب إلى أمثال تدعم فكرة العمل الجماعي، وعدم تفضيل مصالح الفرد على الجماعة لتزرع للفرد روح التعاون والعمل بروح الفريق

- النظافة : وهى أفضل قيمة اجتماعية، حيث طرح الكاتب في أمثاله قيمة النظافة الشخصية ونظافة المأوي ، لنجد انسجام بين ما طرحه المثل الشعبي مع روح الإيمان التي أكدها الدين الإسلامي

- الزمن والشهور والفصول : يطرح الكاتب عبر هذا العنوان مجوعة من المثال الواقعية ليدلل للقارئ أن الزمن متغير والدنيا دار ممر، ويدعو إلى إتباع فنون التدبر بشئون الحياة ،والنظر إلى المستقبل وتقلباته ليجعل الفرد قادرا على التكيف مع متغيرات المستقبل

- العاقل والمجنون : وهنا نجد دعوة تراثية ظريفة لتحكيم العقل والمنطق في القول والعمل والحديث والسمع

- مقاييس الجمال : يعتبر الجمال قيمة فلسفية ، حيث خصصت له أبواب عدة تحت عنوان الفلسفة الجمالية ، ويدلل الكاتب في سياق أمثاله الشعبية التي طرحها في كتابه عن قيمة الجمال المتبوعة بقيمة الحب الأكثر رقيا ، ليزرع في نفوس المواطنين قيمة بدأت تذوب في ظل العلاقة الآلية الميكانيكية التي باتت تسيطر على الفكر الاجتماعي ، فتغنت أمثاله بجمال القمر، وجمال الطول ، وجمال الغزال ، وركزت أمثاله على خفة الروح والدعابة التي تعزز القيمة الجمالية للحب

- الغربة : وهذه القيمة التي تشد الإنسان إلى وطنه وكراهية العيش في الغربة - لم تنسي الأمثال الشعبية أن تقف عندها بشيء من الإسهاب لتذكر المواطن الفلسطيني أن الغربة لا تبنى المستقبل ، وتدعوه - في حالة الاضطرار للغربة- أن يكون سفيرا للأخلاق ويمثل أهله وبلده بأحسن وجه

- الغنى والفقير والمال : ينبهنا الكاتب في الأمثال التي تتحدث عن المال أن القرش لا يصنع للإنسان قيمة ، ويحذر- بأمثاله - أن القرش الذي لا يبنى من أصول نظيفة نابعة من الكد والعمل الشريف سيذهب أدراج الرياح

- الضيف : إن إكرام الضيف قيمة عربية قديمة عززها القران والسنة النبوية ، لم ينسى الكاتب طرحها في سياق أمثاله ، محاولة منه أن يبعد الإنسان الفلسطيني والعربي عن التفكير المادي ، وإرجاعه إلى قيمة رسخت في أذهان أجدادنا منذ آلاف السنين ، وأكد - عبر أمثاله - على ضرورة إكرام الناس لإفشاء المحبة والوئام الاجتماعي

- الطب الشعبي : ومن الطرائف الشعبية التي طرحها الكتاب بعض من العادات الطبية الشعبية التي كانت متداولة في مجتمعنا الفلسطيني ، واخص هنا ( كاسات الهوا ) التي كانت تضع على ظهر من يعانى من آلام في أسفل الظهر وتجلب له الشفاء ، عدا عن ذكر فضيلة النوم مبكرا ، والبعد عن التعرض للبرد

- علاقة الفرد بالمجتمع : وهنا ختم الكاتب قيمه التراثية بقيمة ايجابية تحدد علاقة الفرد بالمجتمع ، و تساعد على تثبيت العلاقة بين الفرد ومجتمعه ، وعدم الانجرار وراء الثقافة الغربية ، وتدعو إلى تواضع الناس وعدم تصعير الوجه لأحد ، و تدعو إلى السواسية والعدالة الاجتماعية

وقبل أن اختم دراستي لهذا الكتاب التراثي القيم ، الذي أضاف للمكتبة التراثية الفلسطينية نموذجًا ذاخرًا بالحكم والأحكام التي تأثل انتماء الإنسان بأرضه ودينه ومجتمعة ، لابد من الإشارة إلى الصورة التي اختارها الكاتب للصفحات الأخيرة والغلاف ، صورة الفلسطيني جالوت وهو يحمل درعه الفلسطيني المنقوش (بالنجمة السداسية) ليثبت ما قد بدأه الكاتب في مقدمة كتابه أن التراث الفلسطيني تعرض للقرصنة من اليهود وكيانهم ، بإشارة وطنية واضحة من الأستاذ الدكتور محمد بكر البوجى أننا نحن الفلسطينيين أصحاب رسالة، وأصحاب حضارة منذ آلاف السنين ، وما فعله اليهود وأذنابهم من المستشرقين مجرد سحابة صيف سوداء ستنقشع مثل السحابات الملوثة الأخيرة، وستبقى فلسطين بتراثها الإنساني الرائع مقبرة للغزاة ..
د- ناصر إسماعيل جربوع ( اليافاوي ) كاتب باحث في التاريخ الشفوي – موجه التاريخ والقضايا المعاصرة بوزارة التعليم الفلسطينية