جدارُ " برلين " المرحومُ

د. شاكر مطلق

كنت لا أزال طالباً أدرس الطب في جامعة هامبورغ ، في شمال ألمانيا الغربية ( سابقاً ) ‘ عندما علمت بتقديم عرض مسرحي بإخراج جديد في برلين ، لأوبِّرا " عائدة " التي ألَّفها العبقري الموسيقي الإيطالي " فيردي " لتكون العمل الفنيَّ الذي افتتح بها الخديوي المبذِّر
" إسماعيل" " قناةَ السويس " التي تعود بداياتُها إلى الألف الأول ق. م .
قررت السفر إلى هناك بتاريخ 13/8/1961 ، وسافرت لأشاهد عرضاً فنياً رائعاً . قمت بعدها مع أصدقاء لي بالتَّسكع في شوارع برلين الجميلة والمحاصرة ، ما عدا بعض الممرات ، من قبل القوات السوفييتية ، التي قاتلت بشراسة وشجاعة - إبان الحرب الكونية الثانية – ليكون أحد جنودها أول من ينزل العلم الألماني عن مبنى " الرّايشْ تاغ " – البرلمان – ويقضي على النظام النازي الهتلري ، مع شركائه من البلدان المختلفة . كان تواجد القوات الروسية في القطاع الغربي من المدينة رمزياً كإحدى الدول المنتصرة والمتحالفة في الحرب ، ولكنه كان تواجداً ضخماً على أرض ما عُرِف ذات يوم باسم " جمهورية ألمانيا الديموقراطية " –D.D.R . – المرحومة ، التي كانت تعاني كثيراً من نزوح السكان إلى الغرب ، ناهيك عن الاستنزاف الاقتصادي واليومي الدائم لمواردها الحياتية التي كانت الدولة تدعمها كثيراً من أجل مواطنيها ، بينما الكثيرون من سكان القطاع الغربي يذهبون بقطار المدينة إلى هناك ليشتروا بأسعار زهيدة جداً وبكمياتٍ كبيرة كل ما يحتاجونه، ولاسيما أن فرق العملة بين النظامين كان كبيراً جداً .
بينما نحن نتسكّع في شوارع المدينة إذن ، هبّت علينا رياح شديدة كادت تسقطنا أرضاً ، وعلمت أن عاصفة هوجاء قد حطّمت سدود نهر " الإلبهْ " الضّخم التي تحمي مدينة هامبورغ من المياه ، وكان الطوفان، وقررت العودة فوراً بسيارتي إلى هامبورغ لقلقي الشديد على عائلتي هناك . لكن الأمر لم يكن سهلاً لأن فرق عمل مسلحة من القطاع الشرقي أخذت تمد أسلاكاً شائكة لفصل القسم الشرقي عن الغربي ، الأمر الذي خلق صعوبة في التنقل الآن ، ومن هذه البدايات قام " جدار برلين " وهو ما يعرف عند الألمان باسم جدار العار ، لأنه أودى بحياة العديد من الشرقيين الذين حاولوا بأساليب غريبة وعجيبة اختراقه إلى الغرب .
ستون عاماً مرت الآن على بناء هذا الجدار ، الذي انهار بتاريخ 9/11/1989 ، وكنت يومها شاهداً أيضاً على هذا الحدث التاريخي ، ولم يبق من الجدار إلاَّ قسماً يقارب طوله الكيلو متر والنصف ، رسم فوقه فنانون من مختلف جهات الأرض أعمالاً فنية لا تزال قائمة وتجذب السياح إليها كل يوم ، ناهيك عن تلك القطع الصغيرة من الجدار التي أخذت طريقها إلى البيع ، كتذكار لزمن ولَّى وعبر وإن كان – للأسف – لا يزال قائماً في رؤوس أبناء الشعب الواحد حتى اليوم وبد مرور عشرين عاماً على سقوطه، بسبب التمييز في المعاملة ، والتعامل مع تاريخ دولة ، لم يكن كلّ ما فيها سيئاً – كما يصورونه في ( الغربية ) - وبخاصة في حق الإنسان بالعمل وعلى صعيد الخدمات الاجتماعية وتأمين المواطن من الفقر .
كم من الجدران ارتفعت الآن في جهات الأرض قاطبة من دون أن تجد من ينتقدها أو يطلق عليها اسم جدران العار ، ولاسيما أنها في كثير من المواقع تمثل العار والإفلاس السياسي والفكري والخلقي أيضاً كما هو الحال في جدار الفصل العنصري على أرض فلسطين المحتلة ، وجدران أمريكا بين أحياء دار السلام ، وجدار قبرص العازل وغيره الكثير ، لكنني استثني من هذا جدار الصين العظيم الذي يمتد لآلاف الكيلو مترات ويدخل في البحر أيضاً ، والذي شاهدته ومشيت عليه ذات يوم ، لا لأنه في المحصلة أفضل من غيره ، لأنه كان يرمي إلى حماية " عرش الطاووس " في " المدينة المحرمة " ، عند " ساحة الهدوء السماوي " – تْينْ أنْ مِنْ – وحماية إمبراطورية الوسط الصينية من هجوم البرابرة – وهو لقب أطلقوه على كل ما هو ليس بصيني – ولم يستطع هذا الجدار أن يصد هجمات المغول الذين وصلوا وجلسوا على عرش الطاووس .أستثنيه من النقد لأنه نشأ في ظروف وتاريخ مغرق في القِدم كانت المدن فيه وقبله تحيط نفسها بالأسوار درءاً من الأخطار القادمة من الخارج ، ولم يعد ومن المفروض أن لا يعود هذا النمط من التفكير إلى دماغ " الإنسان العاقل " الذي شطر الذرة ووطأت قدماه القمرَ وصنع الحاسوب والتقنيات العجيبة الآن .
كيف يصح هذا ؟ ولم لا نتعلم ونستخلص العِبر من التاريخ ؟! . قال " مِلْياغَر " - شاعر روما سوري الأصل - قبل ألفي عام :
" لماذا تعجَبُ أن تكونَ سورياً أيها الغريبُ ،بلدٌ واحدٌ هو العالَمُ "
================================================== ==============
حمص – سورية 8/11/2009
E-Mail;mutlak@scs-net.org