باب السراي في الموصل: اكبر الاسواق التجارية في الشرق العربي

عبد الوهاب النعيمي*

لعله من اجمل واوسع الاسواق التجارية ليس على مستوى مدينة الموصل او مستوى العراق فحسب ، بل على مستوى الاسواق العربية المثيلة له كأسواق حلب والقاهرة وفاس في المغرب العربي .. انه سوق باب السراي الذي يعد امتدادا حضريا لسوق الاربعاء الذي عرفته الموصل منذ وقت مبكر في صدر الاسلام ، وامتد الى الزمن الراهن وهو محافظ على نكهته وتميزه وطقوس التجارة والبيع والشراء منذ ذلك الزمن البعيد حتى الزمن الراهن من دون ان تطرأ على وجوده متغيرات غير تلك الملحمية في البناء والوجوه .
سوق تكتنفه برودة مستظلة بعتمة محببة الى النفس، رخوة، أحجمت شمس الصيف ونهاراته القائظة عن اقتحام افيائه الوارفة بفعل أسقفه المزخرفة المرتفعة، وطرقاته المتعرجة المتشعبة كشرايين القلب تتجه كلها الى العمق اذ النبض الدائم تتجانس دقاته الرتيبة مع دقات مطرقة صفار ماهر.
سوق يتداخل بسوق كدهاليز تتداخل مع متاهات تقابلها او تمتد بموازاتها ذات اليمين وذات الشمال، على واجهات دكاكينها الصغيرة التي لا تتسع لأكثر من شخص واحد تتدلى كنوز من تحف ونفائس وعطور وبخور والوان مبهرة من أصناف الاجواخ والزبرجد والحرير الخالص.
ذلكم هو سوق الأربعاء الممتد من عمق تاريخ العصر الأموي مروراً بكل الأحقاب حتى عصرنا الراهن، هو اشهر وابرز الأسواق المعروفة في الموصل منذ الفتح الإسلامي عام 16 للهجرة، وقد شهد اضمامات أضيفت إليه عام 132هـ جاءت متاخمة له مثل سوق الشعارين وسوق الزجاجين وسوق البزازين وسوق القتابين، ثم سوق سعيد بن عبد الملك الذي أنشأه عندما تولى الموصل في خلافة والده، وهي ما عرفت قديماً بالسوق المدورة.
في زمن ولاية إسماعيل بن علي العباسي عام 751م ساءت الأحوال الاقتصادية في مدينة الموصل، وشهدت المدينة موجة من البطالة وعسر المحصول، حينها أمر الوالي بنقل مقابر أهل الموصل التي كانت تحف بالجامع الاموي الى منطقة تدعى (الصحراء).
وكانت هذه المنطقة (الصحراء) تشتهر وما زالت بصناعة التنور الطيني، فهي منذ انتقال مقابر اهل الموصل اليها عام 135هـ وحتى الربع الاخير من القرن الماضي كانت مليئة بالمقابر المسورة وكان (الكوازون) اي صانعو التنور الطيني يتخذون منها ورش عمل لهم في الفسح المفتوحة بين المقابر، كذلك اتخذها النساجون مشاعاً لاعمالهم المتمثلة بغزل الخيوط من مادة الصوف الخام وصبغه وتلوينه، فيما تحولت ارض المقابر القديمة المجاورة للجامع الاموي الى أسواق عامرة ليستقر وضع المدينة اقتصادياً ويصلح امر تجارها، وتستقر تجارتها في مواقعها الجديدة.. الا ان المهدي العباسي أمر عامله موسى بن مصعب عام 167هـ. بهدم تلك السوق التي تحف بالجامع الاموي وإضافة أراضيه الى رحاب الجامع بصدد توسيعه. وبذلك زحفت أسواق المدينة الى بقعة جديدة من الأرض لتتكون فوقها مجموعة من الأسواق والتي تعرف اليوم بسوق باب الطوب، والتي وصفها ابن حوقل بقوله: "وبها لكل جنس من الأسواق الاثنان والثلاثة والأربعة، مما يكون في السوق الواحدة مائة حانوت، وأسواقها جميلة مسقوفة، بها من الفنادق والحمامات والرحاب الواسعة والساحات والعمائر ما دعت سكان البلاد الأخرى فسكنوهاً.
من الأسواق التي استحدثت في المدينة سوق (جهار سوق) اي السوق المربعة او السوق التي يفدها الناس من أربعة أطراف، والذي يعرف اليوم باسم (شهر سوق).
وسوق الأربعاء في الموصل اخذ تسميته من الجهات الأربع، اذ شيد بأربعة منافذ ثلاثة منها تؤدي الى أطراف المدينة من الشمال والجنوب والغرب، والمنفذ الرابع يؤدي الى نهر دجلة باتجاه الشرق.
في الموصل لم تتبين ملامح التسمية لسوق الأربعاء، فثمة من يقول ان التسمية جاءت من قول ابن عباس: "ان نفراً من اليهود اتوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسألونه عن خلق السموات والأرض فقال صلوات الله عليه وسلامه: "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الأرض يومي الأحد والاثنين، ويوم الثلاثاء خلق الجبال، وخلق يوم الأربعاء المدائن والشجر والعمران، وخلق يوم الخميس السماء" وثمة من يستشهد بقول جعفر الصادق (عليه السلام) السبت يوم مكر وخديعة والاحد يوم غرس وعمارة والاثنين يوم سفر والثلاثاء يوم الحروب والاربعاء يوم اخذ وعطاء "يوم تجارة".
في عهد الدولة الاتابكية الممتدة لاكثر من مائة وثلاثين عاماً 521-660هـ صارت الموصل احدى مدن الدنيا العظام بعمائرها واقتصادها، حتى ضاقت بسكانها؛ فخرجوا الى الارباض، وكانت بمنزلة المدينة لسعتها، كما هو حال الربض الاسفل الذي احتوى الاسواق والقيسريات والخانات والمساجد والحمامات بما يعادل ما موجود في اية مدينة غير الموصل، وقد نزل ابن جبير عند زيارته للموصل في الخان المجاهدي بالربض الاسفل.
اما في داخل المدينة القديمة فقد تضاعفت الاسواق والقيسريات حتى بلغت 36 سوقاً كبيراً خصصت لكل بضاعة او صنف اربعة اسواق او اكثر، وفيها قيسريات كبيرة منها قيسرية كبيرة بناها مجاهد الدين قيماز وهي ما تعرف اليوم باسم قيسرية (السبع ابواب) وهي محاددة لسوق الاربعاء. وكان من بين القيسريات، قيسرية خاصة لبيع المسك دكاكينها اثنى عشر دكاناً شيدت بطراز متميز وخاص، فيما كان عدد دكاكين الاسواق (5515) دكاناً تهتم بشؤون التجارة واقتصاد المدينة.
خلال العصر العباسي حققت مدينة الموصل مكانة متميزة تجلت في نشاطها الحضاري والفني والاقتصادي والصناعي والثقافي، وتبوأت الموضع الذي وضعها في مركز حضاري حقق لها الشهرة التي تستحقها والحركة الصناعية والفنية التي ازدهرت في اسواقها، حتى اصبحت من اهم المراكز التجارية على امتداد قرون متعددة.
الرحالة الفرنسي (اوليفييه) الذي مر بالموصل سنة 1794 وصفها بأنها:"اعظم الاسواق التجارية في الشرق" واضاف: ان معظم الاقمشة والعقاقير والسلع تتوفر في المدينة او تمر عبر اسواقها الكثيرة والمتنوعة، لتعبر الى بلاد الاناضول. اما بالنسبة للسلع والبضائع والمواد المعروضة في اسواق الموصل ومستوى اسعارها فيمكن القول بأنها تميزت على الدوام بالوفرة واعتدال الاسعار.
يتميز تخطيط اسواق الموصل بالامتداد الطولي المتثل بوحدات متناظرة من الحوانيت المتلاصقة المنتظمة على ممرات غير واسعة، كما ان اسواق الموصل كانت من اهم الاماكن للممارسات التجارية، حيث يتميز تخطيطها بمحدودية المساحة وعقودها المفتوحة على تلك الممرات الضيقة، وهذا التصميم الذي يرجع باصوله الى العهد الاشوري كان ناجحاً الى وقت قريب لتأدية الغرض التجاري المتمثل بالبيع اليومي وليس الخزن، لان البضائع كان يتم خزنها في الخانات القريبة من الأسواق ولكل مهنة خان محدد تخزن في غرفه البضائع، وهذه العملية عالجت الحيز المكاني المحدود، وأدت إلى زيادة عدد الحوانيت والقيسريات، مما أدى إلى زيادة التعامل التجاري وازدهار الحركة التجارية والاقتصادية في المدينة.
السوق الصغير.. الكبير
سوق الأربعاء الذي ابتدأ صغيراً في زمن الدولة الأموية بمساحة محدودة في المنطقة المحصورة بين رقبة الجسر القديم (نينوى) وشارع النبي جرجيس، واكتسب تسميته من منافذه الأربعة، اخذ بالاتساع في كل الاتجاهات، وازدادت منافذه لأكثر من عشرين في الاتجاهات كافة، واتسعت رقعة حدوده لتشمل رقبة الجسر القديم (نينوى) بدءاً بما يعرف اليوم بسوق (تحت المنارة) مروراً بكل الخانات والقيسريات، ينتهي اليوم بسوق الحصران المتاخم لخان حمو القدو في منطقة باب الطوب- صقور الحضر، وقد ضم بين أجنحته معظم المهن والحرف مثل الصفارين والحدادين والنجارين والسراجين والسمكرية والعطارين والصرافين واليوزبكية والحبالين والخفافين والفحامين والقهوجية والبزازين، وفي سوق باب السراي تجد الخيط، وما بينهما من الملابس الجاهزة، والفرفوري وطيبات ما خلق الله من العسل الخالص النقي بانواعه الابيض والاسود، والسائل والصلد، وحلاوة الراشي بانواعها والسمسمية والمصقول ، وبما تجود عليه اشجار الشمال من زيتون اسود واخضر وتين قلائد ومجفف، وجوز اخضر ويابس الى جانب الفستق الموصلي الذي يتلألأ على صدر المحال كقلائد الاميرات في ابهى حلة واجمل شكل، الى جانب انواع اخرى من (الجرزات) المكسرات الموصلية التي لاتجد مثيلاً لها الا في هذا السوق الرائع الكبير.
===================================
*كاتب وصحفي عراقي راحل