لا يمكن بحال من الأحوال ان نؤمن بان قضية التوارث الثقافي لتركة التبعية والخضوع والذل ‏الذي تعاني منه هذه الأمة العظيمة وقلبها العربي النابض , منذ ما يزيد عن قرن من الزمن ‏للمستعمر , هي مسائلة جينية او وراثية ستظل تتوارثها الأجيال العربية جيل بعد جيل , أو ان ‏نصدق بأن قضية التغير وقلب الواقع العربي الأليم اليوم بحاجة الى إبطال من ألف ليلة وليلة , ‏بقدر ما هي إرادة شعبية وقدرة نهضوية على التغيير وقلب الواقع , تحركها مشاعر النفور من ‏الظلم وكراهية الاستبداد والجبروت 0‏
‏ كما إنني لا اعتقد ان ذلك الأمل هو ضرب من ضروب الخيال , و- اقصد – ولادة ‏جيل من الأقلام الثقافية والأدبية العربية النضالية المستقبلية , تستطيع ان تكافح وتناضل بإيمان ‏وشرف , كي تحرر أمتها من هذا كم الهائل من أدبيات الخيانة والعمالة والارتزاق , والتبعية ‏الثقافية والأدبية للمستعمر والمستبد الأجنبي ولأفكاره التغريبية 0‏
‏ نعم , نحن بحاجة ماسة الى جيل عربي واع من الأقلام الثقافية والأدبية النضالية , ‏تمتلك بحق تلك القدرة الإبداعية والإمكانيات الفكرية على تحويل قضايا أمتها الإسلامية وقلبها ‏العربي الى فعل ثقافي يومي , والاهم من هذا وذلك هو ان تفهم تلك الأجيال معنى ذلك الفعل ‏الثقافي بحق , لا كما فهمه البعض – وللأسف الشديد – من أدعياء الثقافة والفكر , على انه ‏مجرد كلمات ميتة في قصيدة , او رواية لا روح فيها , تلقى في ندوة جامعية او مقهى شعبي 0 ‏
‏ فالنضال الثقافي هو اللغز الذي حير المستعمرين منذ ملايين السنين , والمارد الذي ‏ارق كل الطغاة والمستبدين على مدى التاريخ , فهو الروح التي تحرك الشرف في الإنسان , ‏والنار التي تحرق أكوام القش الفاسد في كل ارض , والنور الذي أضاء طريق المكافحين ‏الأحرار الشرفاء في ليالي الزمهرير , وما من امة يفقد مثقفيها وأدبائها روح النضال الثقافي , ‏إلا وتحل بهم لعنة التاريخ , ويقع فيهم وباء الذل والهوان 0 ‏
‏ بل ذهب البعض الى ان ( الثقافة تشكل أساسا رئيسيا لحركة التحرر والتحرير , وان ‏معركة التحرر والتحرير هي وقبل كل شي فعل ثقافي , على حد تعبير " أميلكار كابرال " ) , ‏وبالفعل فان كل الثورات الثقافية والتحررية التي كتب لها النجاح على مدى التاريخ , وحررت ‏أبناء أمتها من أغلال الاستبداد والطغيان والظلم , كانت في بداية الأمر مجرد رماد مشتعل على ‏ورق , ولكنها سرعان ما وجدت الفعل الثقافي على ارض الواقع , والذي حال دون موتها ‏وانطفاء وهجها , فحركات التحرير والتحرر سرعان ما تموت وتنطفئ ان لم تجد لها الفعل ‏الثقافي والعقيدة النضالية التي تزيدها إحراق واشتعال , لتتحول في نهاية الأمر الى واقع ‏ملموس من الحرية 0 ‏
‏ وليس أعظم مثلا على ذلك الفعل الثقافي والفكري من الدين الإسلامي العظيم , ‏فالإسلام في صميمه حركة تحريرية , وحركة ثقافية , وحركة نضالية , وثورة إنسانية , ‏وانقلاب أدبي تاريخي , جاء في زمن طغت فيه الجاهلية وساد فيه الظلم والاستبداد , وانتشرت ‏فيه الأفكار المريضة المنحلة , فكان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى , حركة التحرير الأخلاقية ‏الكبرى في تاريخ البشرية , قيض الله لها من الشرفاء الأحرار ممن لم يبخلوا عليها بدمائهم ‏ولحومهم وأفكارهم , و- باختصار شديد – لقد استطاع الدين الإسلامي العظيم أن يحيي الإنسان ‏بفعل الإنسان من جديد بعد سنين من الموت والجدب الذي أحدثته الجاهلية , يقول سبحانه ‏وتعالى ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس , كمن مثله في الظلمات ‏ليس بخارج منها ) صدق الله العظيم 0 ‏
‏ وهكذا فان حال الأمة اليوم وواقعها المرير المخجل , ليس إلا نتيجة طبيعية لثقافة ‏الإحباط والتردي والجهل الثقافي باليات التغيير الذي يعيشه مثقفونا وأدبائنا في مختلف أرجاء ‏امتنا العظيمة وقلبها العربي النابض , وليس إلا نتيجة طبيعية أخرى , لواقع ثقافي هزيل خلا ‏لسنوات طويلة من عقيدة الفعل الثقافي النضالي الذي يحرك الأمم والشعوب ويدفعها الى الأمام ‏‏, فمتى فقدت الأمة في مثقفيها روح الفعل الثقافي , فلم تعد كتاباتهم سوى طعام يومي يخلو من ‏ملح الكفاح , مات في داخلها الإنسان الحر , ووهج الحرية والشرف , ( فإذا رأيت المظالم تقع ‏‏, وإذا سمعت المظلومين يصرخون , ثم لم تجد الأمة الإسلامية حاضرة لدفع الظلم , وتحطيم ‏المظالم , فلك ان تشك مباشرة في وجود الأمة الإسلامية , فما يمكن ان تحمل القلوب الإسلام ‏عقيدة , ثم ترضى بالظلم نظاما , وبالسجن شريعة )0 ‏
‏ ان أبناء هذه الأمة العظيمة وقلبها العربي , ومنذ ما يزيد عن قرن وأكثر من الزمن , ‏في فلسطين ارض الطهر والرسالات الغالية , وفي العراق العظيم , وفي السودان والصومال ‏وغيرها من حواضر الأمة في مختلف أرجاء المعمورة , يعانون كل أنواع المعاناة من الظلم ‏والاستبداد والطغيان والاحتلال , فهل كان للثقافة والمثقفين , وأصحاب الأقلام وغيرهم , ذلك ‏الحضور الحقيقي والفعل الثقافي المفروض عليهم , لرفع الظلم والمعاناة عن إخوة لهم في ‏مشارق الأرض الإسلامية والعربية ومغاربها ؟ أم ان كل همهم هو ملئ الصحف والمجلات ‏بكتاباتهم الفارغة من الفعل الثقافي ؟ وإقامة الندوات والمحاضرات في أرقى المنتديات ‏والجامعات والمحافل بهدف الترويج لأنفسهم وكتاباتهم لا أكثر ؟ ‏
‏ نعم , وعلى سبيل المثال لا الحصر , وفي قضية من أهم قضايانا العربية المصيرية , ‏فلقد ( نظر جزء كبير من المثقفين – والكتاب والشعراء وغيرهم من أبناء مجتمع الفكر العربي ‏‏- الى الصراع العربي الإسرائيلي – ولا زالوا وللأسف الشديد الى يومنا هذا - من زاوية ‏الدكاكين الثقافية , والتي يستطيع ان يبيع منها كل شي , الرواية , والقصة , والمقالة الأسبوعية ‏‏, والمقالة اليومية , في صحف اليمين , وصحف اليسار والوسط , وتمنى صباح مساء , إلا ‏ينتهي الصراع العربي الإسرائيلي , حتى لا يضطر الى – تسكير - دكانه !! ) 0‏
‏ فمتى يأتي اليوم الذي نشهد فيه ولادة أجيالا فاعلة من أقلام بني امتنا الإسلامية وقلبها ‏العربي النابض !؟ , وهي تكتب لفلسطين والعراق والسودان والصومال وغيره بحرارة الجسد ‏الواحد , وبصوت الفم واحد ؟ ومتى نتحول من كتابات الارتزاق والعمالة والتبعية والمصالح ‏الشخصية والسلطوية , الى أخرى تأخذ على عاتقها هم الشعوب البائسة والمقهورة في جميع ‏أنحاء امتنا العظيمة ؟ وبالتالي تحويل الرسالة الثقافية وأمانة القلم والكلمة الى واقع ملموس لا ‏يسعى الى هدف مادي او شخصي ؟؟!! , والاهم من هذا وذلك هو متى تتحول تلك الكتابات ‏الى فعل ثقافي على ارض الواقع العربي , لا يعد استهلاكا للطاقة الكامنة بل توليدا لها ؟ فنحن ‏بحق بحاجة ماسة الى تغيير الواقع الثقافي والفكري العربي بشكل كامل , وتغليب الفعل الثقافي ‏والفكري والأدبي على هذا الواقع الثقافي المخجل الذي نعيشه اليوم 0 ‏

‏ ‏