لم يكن وانغ ويه الذي عاش في القرن الثامن الميلادي شاعراً وحسب، بل كان أيضاً خطاطاً ورسّاماً وموسيقاراً وطبيباً؛ لكن شهرته التي خلدها الزمن قامت على موهبتين أساسيتين: عبقريته كشاعر وتأثيره كرسام على الأجيال المتعاقبة. وقد وصف أحدهم أعماله وصفا بليغا عندما قال: ’ لوحاته قصائد وقصائده لوحات‘، وهذا بالفعل وصفٌ دقيق لأنه هكذا عاش حياته واستثمر طاقاته طوال عمره.
وتعتبر أشعاره موازية من حيث الروعة لأشعار كل من توفو وليبو. أما بالنسبة لعمله كفنان فيعتبر عميد الفن الصيني الذي تميز بالرقة والصوفية والواقعية، ولهذا لم يفقد رونقه وقوته على مر الأجيال.

يقال أنه قام برسم صورة على صخرة تلبية لطلب الأمير تشي، وذات يوم هبت عاصفة هوجاء اقتلعت الصخرة من مكانها وألقت بها في إحدى الوديان حيث جرفتها السيول، دون أن تلحق أذىً بالصورة. وعندما عثر حاشية ملك كوريا على تلك الصخرة البديعة، أعجبوا بها أيما إعجاب فحملوها إلى ملكهم. لكن الملك عندما رأى أنها تحمل توقيع وانغ ويه قال وقد اعتراه الخوف: هذه التحفة الفنية النادرة هي بالضرورة من مقتنيات إمبراطور الصين ولا بد من إعادتها إليه، وهذا ما حدث.

عاش وانغ ويه لستين عاماً إبان عصر التنوير الصيني ونظم الشعر وهو في التاسعة من عمره. وفي سن المراهقة نظم ثماني قصائد تحتفي بالطبيعة وتأثيرها العميق في نفسه الحساسة. لقد كان نشيطا في شبابه، طموحا، يقظا، وتواقا لبلوغ المجد الذي تمتع به الأبطال القدامى. ونظم قصائدَ حماسية للقواد والمحاربين الذاهبين إلى جبهة القتال لمحاربة الهمج البرابرة. كما نظم أشعاراً تمجد كل ما هو رائع وجميل في الحياة.
وكونه كان مغرما بالموسيقى، فإن الكثير من أشعاره نـُظم للغناء والإنشاد. كان وانغ ويه يجيد العزف على القيثارة الصينية (البيبا)، وذات يوم دعاه الأمير تشي إلى قصره لحضور وليمة عشاء تكريما للأميرة، وكان قد طلب من العديد من الموسيقيين كي يحضروا، فتنافسوا في عزف روائع ألحانهم لإطراب سيدة القصر، وما أن جاء دور وانغ ويه وأنشد أغنيته الجديدة (ساعة البهجة والإنشراح) حتى انتشت الأميرة بإنشاده وأعلنت فوزه في مسابقة الطرب.

كان وانغ ويه مؤمناً بالصداقة ومخلصا كل الإخلاص لأصدقائه، يفتقدهم إن غابوا عنه ويسعى للتواصل معهم والإطمئنان عنهم. وذات مرة أرسل هذه الأبيات لصديق له وقد اشتاق لرؤياه:

لم نرَ بعضنا منذ فترة طويلة يا صديقي
وكلما ذهبت إلى النهر حيث كنا نلتقي ونتسامر
أتذكر كيف كنا نجلس معا وننظر في عيون بعضنا
لأن قلبينا هما قلب واحد.
ولكم حزنت عندما فارقتني فجأة
ولا زلت أحمل نفس الشعور الآن رغم فراقنا الطويل.

ومع أن وانغ ويه كان ميسور الحال، لكنه كان يشير إلى نفسه بأنه فقير ووحيد ومهجور، لا يسأل عنه أحد. وفيما يلي بعض أشعاره التي تجسد دقة ملاحظته وعمق شعوره:

بيتي الجديد يقف كالحارس على التلة
حيث لم يبق من الغابة القديمة سوى بضع شجرات من الصفصاف المعمر
آه، من يستطيع العيش في هذا البيت
دون أن يتذكر أحزان الماضي؟!

أرى أسراب الطيور سابحة في الفضاء الفسيح
وقد اتشحت سلسلة الجبال بألوان الخريف
وإذ أصعد وأهبط جبل ماتسو
أحس بأصابع الأسى تعتصر قلبي.

أشجار المشمس النحيلة تحيط بصومعتي
والحشائش والأعشاب العطرة تكسو جدرانها
والغيوم السابحة تمر فوقها
يا ليت تلك الغيوم تمطر على الفلاحين المنتظرين هطول خيرات السماء عليهم.

أشجار الصندل تلقي بظلالها على الدروب المقفرة
والأمواج الزرقاء الداكنة تتراقص على صفحة النهر
وها أنا بصمتٍ وسكينة أسلك الدرب الموصل إلى جبل شانغ
دون أن يعرف الحطابون بوجودي.

وسط الغابة الكثيفة ترسل الشمس أشعتها المائلة
فترسم أشكالا غريبة على السرخس الذي بلون الزمرد
ما من أحد سواي في هذا الجبل الوحيد
ومع ذلك أسمع أصواتاً خافتة يحملها الهواء من بعيد.

لقد تحول لون التلال إلى أرجواني بفعل شمس الخريف
وأرى طيراً يناغي إلفه
وبين الحين والآخر أبصر فجوة في السماء ما بين الغيوم
أما الندى فلا وجود له هذا المساء.

الأعناب البرية الخضراء قد نضجت وأصبحت حمراء قرمزية
مع أن الأزهار ما زالت عالقة بالأغصان كالنجوم
تعالوا يا أصحابي! إذ كيف تطيقون الإبتعاد عن هذه الجبال؟
تعالوا لنشرب كأس الصداقة ونفرح ببعضنا.

الطريق الضيق محتجب تحت أشجار الخروب الملكية
والسرخس الأخضر السميك يغطي التربة القابعة في الفيء البارد
ومع أنني منهمك في تنظيف فناء منزلي، أبقى مع ذلك أتطلع إلى بوابة الدار
لعل وعسى أرى صديقي ناسك الجبال وقد حضر فجأة لزيارتي!

زورقي الصغير الخفيف على أهبة الإستعداد لاستقبال الضيوف الكرام
وها هو يطفو الهوينا على سطح البحيرة دون استعجال.
وعندما يزورني الأصحاب نجلس على شرفة المنزل التي تظللها الأشجار
فنحتسي أكواب الشاي ونستمتع بمنظر زهور اللوتس المتفتحة من حولنا!

أرى قارباً صغيراً منطلقاً إلى التلة الجنوبية
لأن التلة الشمالية عسيرة المرتقى.
النهر عريض، وعلى الشاطئ البعيد أبصر عائلات تسير هنا وهناك
لكنني لا أستطيع التعرف على أحد من أفرادها لأن المسافة التي تفصلنا بعيدة فلا يمكنني تمييزهم بوضوح.

أغصان الصفصاف المتمايلة تقترب من بعضها فتتلامس أوراقها الصقيلة الشبيهة بالحرير الناعم
والظلال المنعكسة تحدث تغضنات على صفحة الماء الصافي
أناشدكم يا أصحابي بأن لا تكونوا كتلك الصفصافة الباكية التي تبعث الحزن في نفوس الناس
المرتحلين بعيداً عن ديارهم في أوائل فصل الربيع.

بعد أن ودّعتْ زوجها عند الأصيل
ذهبت إلى الطرف الآخر من البحيرة فجلست هناك وراحت تعزف على نايها
وبين الفينة والأخرى كانت تنظر بلهفة عبر المياه
وترقب الغيوم البيضاء المتهادية فوق الجبل الأزرق.

تحت وقع المطر في فصل الخريف
ينحدر الماء الضحل فوق الصخور الزلقة
والأمواج المتواثبة تضرب بعضها بعضا
مما يبعث الخوف في نفس طائر البلشون المائي فيحجم عن الغوص بحثاً عن الأسماك.

إن من يشرب يومياً من ساقية مسحوق الذهب
سيعمّر لألف عام على الأقل!
عندئذ سيتمكن من المثول أمام إمبراطور الزمرد والعقيق
ممتطياً عربة فاخرة تجرها عنقاء زرقاء وتنين صغير يفور نشاطاً وحيوية.

النهر الأبيض القليل العمق، ذو الماء النقي الرائق
ينطلق عبر الحقول والأشجار الصامتة
في حين تقوم العائلات على ضفتيه الشرقية والغربية
بغسل الحرير تحت أشعة القمر الفضية.

التلة الشمالية تقبع ما وراء البحيرة
وأشجار السرو دائمة الخضرة تضفي لمسة سحرية على المنظر البديع
وإذ أرنو إلى أسفل أبصر نهر الجنوب متعرجاً في طريقه نحو الأفق
وملتمعاً في أشعة الشمس التي تذهّب رؤوس أشجار الغابة الزرقاء.
والسلام عليكم


المصدر: موسوعات وشعراء صينيون
ت: محمود مسعود