المذهبية ... بين الولاء الوطني والعمالة

كَتَبَ: حبيب اسيود



من المؤكد أن نتائج المحاولات التي نبذلها لفهم أسباب أزمة ما من أزمات المنطقة العربية - الكثيرة - بالإستناد إلى المعطيات المحلية فقط، كثيراً ما تكون مبهمة ومبتورة. لا تصل بنا إلى الفهم الكافي والوصف الدقيق لطبيعة هذه الأزمة. لأن الكثير من الأزمات التي تتسم بالعنف في منطقتنا و تصل إلى حد التمرد والمواجهة المسلحة مع السلطة ليست نتيجة لتفاعلات سياسية وإجتماعية وإقتصادية محلية بقدر ما هي نتيجة لمؤثرات خارجية ترتبط بشروط ومعطيات توفرت في موقع بعيد عن موقع الحدث. أي أن الشروط المحلية مهما تراكمت واستفحلت ووصلت إلى حد الأزمة فهي محددة المعالم والأبعاد وغالباً ما تكون إدارية. لذلك فإن التجارب الدولية في مثل هذه الحالات أثبتت بأن الحلول تكون دائما محلية. بينما الأزمات ذات البصمة الخارجية تكون مقيدة بأجندة خارجية ذات أبعاد أيدلوجية. ربما كانت بعض المظاهر المحلية في مجتمع ما مادة تستثمرها قوة خارجية كما أتفق عليه القول (الإصطياد في المياه العكرة) لتوجد لها موطئ قدم لها وكمنطلق يكسبها الإمتداد والتوغل في هذا الوسط الإجتماعي تسعى لكي تحدث فيه شرخاً رأسياً يضمن لها الحضور الدائم فيه خدمة لأهدافها السياسية.

رب قائل يقول أن عصر المحاور والأقطاب ولّى بسقوط الإتحاد السوفيتي، وأن هذا الفهم لا يتماشى مع واقع عصر سيطرة القطب الواحد. بالتأكيد المحاور الأيديولوجية العالمية إختفت عن حياتنا المعاصرة بسقوط العالم تحت قبضة القطب الواحد. إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور ملامح لنوع جديد من المحاور الإقليمية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وإن كانت قيد الظهور. هذا الظهور الذي بدأت إرهاصاته بعاصفة من الأحداث هنا وهناك من الوطن العربي في السنوات الأخيرة بدءا من لبنان ومرور بالعراق وفلسطين واليمن .... والحبل على الجرار. وليس من العسير التنبؤ بمناطق أخرى تكون مرشحة للانفجار. فبؤر التوتر كثيرة والدواعي لإشعالها أكثر. وكلها تشير بل تفصح بوضوح لا لبس فيه عن قوة إقليمية واحدة دون غيرها وهو النظام الملالي الذي عمل منذ مجيئه إلى سدة الحكم في طهران على رفع شعارات يخفي وراءها طموحاته الإقليمية المثقلة بأطماعه وبأحقاده التاريخية. وشعوب المنطقة كانت تنظر بكثير من الإعجاب والإنبهار لهذه الثورة التي أطاحت بنظام الشاه الذي كان يعتبر أكبر قوة إقليمية يمتلك أكبر قوة عسكرية وأمنية بجانب قوته الإقتصادية فضلا عن كونه أهم حليف للغرب عموما ولإسرائيل وأميركا على وجه الخصوص. مما يعني بأن الأمر لم يكن سوى تغييرا ضروريا إستدعته مهام المرحلة وفق إستراتيجية محور الغرب في ذلك الوقت....هذا مبحث آخر لسنا بصدد الغوص في تفاصيله.

نقول أن شعوب المنطقة - والشعب العربي في مقدمتها - أعجبت بما جرت على الألسن وصف (الثورة الدولة الفارسية) عليها.لأنها جاءت أي (الثورة) في الوقت الذي كان فيه المشروع العربي يتعرض لهزة عنيفة جراء الشرخ العميق الذي أحدثته معاهدة السلام المبرمة بين العدو الإسرائيلي وأكبر دولة عربية (معاهدة كامب ديويد) ... جاءت في الوقت الذي أصبح الحق العربي قابلاً لإعادة النظر فيه على طاولة المفاوضات بدعاوي النظر فيه (بواقعية سياسية).

والصحيح وحال الأمة هكذا عشية سقوط نظام الشاه وصعود الملالي أن الشعب العربي المسلم لم يعجب بالحدث كحدث بقدر ما أٌخذ بتلك الشعارات الإسلامية التي كثيراً ما نادى بالعودة إليها وإحيائها وامتثالها لإحداث التغير الذي عزّ على الشعارات القومية والماركسية أن تحققه على مدى عقود من الإنكسارات ولم يمضي وقت طويل على هذه الزمرة في سدت الحكم لتميط اللثام عن وجهها الحقيقي في الداخل قبل الخارج. تمثل في تصفية الحسابات ليس مع بقايا النظام السابق فقط، بل مع عدد كبير من عناصرها الذين رأت فيهم القوة المتنفذة عقبة أمام تنفيذ خططها وأهدافها. وعليه دشن النظام حكمه بسفك الدماء ونشر الرعب في أرجاء الدولة لتصبح السمة المميزة له في قمع أي صوت يعلو على صوته. والمجال لا يتسع لسرد جرائم النظام الذي إعتمد التمييز العنصري والمذهبي في حملاته التطهيرية ضد العرب والأكراد والتركمان والبلوش.....هذا إذا إعتبرنا عمليات سلب الممتلكات وحملات التهجير الجماعية لأبناء هذه القوميات من مناطقهم الزراعية وتوطين الفرس فيها أقل جرائم هذا النظام وحشية.

وبما أن صورة أي نظام في علاقاته الخارجية هي إنعكاس لسياساته الداخلية، فإن نظام الملالي في الدولة الفارسية نشط في خلق بؤر التوتر في عدد من الدول المجاورة بدعوى الوصاية المرجعية على أتباع المذهب الشيعي من مواطني هذه الدول، وبث روح الولاء للمذهب على حساب الولاء الوطني حتى تتيح له القدرة على التحكم في الإستقرار السياسي لهذه الدول مقابل فرض مشاريعه السياسية إقليميا ودولياً.

ولم تكن نشاطات النظام في هذه الدول وليدة أحداث آنية. بل إن تأطير هذه الخلايا وإعدادها وتهيئتها كان على مدى عمر النظام نفسه. فنذهب أحيانا إلى وصف بعض هذه الخلايا بأنها خلايا نائمة مدخرة إلى أن يحين وقتها. ولكن الراصد لهذه الخلايا في معظم الدول العربية وبعض الدول الإسلامية يجد أن نشاطها في تنامي دائم. فهي تستجيب للإشارات الواردة من المركز حسب الدور المناط بها كرسالة موجهة إلى الدولة التي تنتمي إليها الخلية، وغالباً ما تكون هذه الأدوار عنيفة تتمثل في أعمال الشغب تحت ذرائع حقوقية مختلقة. مثالها ما جرى ويجري في بعض الدول الخليجية. أو تكون هذه الأدوار أمنية إستخباراتية تستهدف هذه الدول. وما تناولته وكالات الأنباء مؤخراً عن وجود 3000 عميلا لأجهزة الأمن الإيرانية خير دليل على ذلك. وحسب هذه الوكالات "قدرت مصادر إستخباراتية غربية أن عدد عملاء إيران في دول مجلس التعاون الخليجي الست وحدها بما يتراوح بين 2000 إلى 3000 عميل غالبيتهم من شيعة الدول العربية وخصوصا حزب الله"اللبناني". فيما يمتلك النظام في طهران نحو 800 عميل إيراني معظمهم يعملون في السفارات والقنصليات الإيرانية تحت حصانات دبلوماسية. وهؤلاء يشرفون على تمويل "الخلايا وتزويدها بالسلاح والمتفجرات والخطط المطلوب تنفيذها".

وإذا كان ما أوردته وكالات الأنباء هو ما تم رصده في دول الخليج العربي، فإن إنكشاف أمر خلية تجسس للدولة الفارسية في مصر مؤخراً ما هو إلا تأكيد لدور هذه الخلايا الخطير في الوطن العربي.

أما الأدوار ذات المستويات الخطيرة التي تضع المعنيين في الدول العربية على المحك الساخن في مواجهة مصدر هذه الأزمات، هو ما وصلت الأوضاع إليه من سوء في كل من العراق واليمن. فتدخل الدولة الفارسية في الشؤون العراقية وإدارتهم للحروب الطائفية وإشاعة الفوضى فيه أمر لا ينكره إلا المتعامين قصداً عن الحقائق. إذ فتحت لهم الأبواب وأتيحت لهم الفرص لفرض إرادتهم على المشهد العراقي ليشاركوا في صياغة العراق القادم مع حلفائهم الذين يتقاطعون المصالح معهم في مستقبل المنطقة. بينما العرب يسجلون غيابا ملفتا من خارطة الأحداث في العراق وفي أحسن الأحوال - إذا أحسنا الظن - مغيبين عمدا ممن انتهى أمر العراق إلى أيديهم وكأن العراق ليس عربياً. و لا نستبعد أن ما يحدث في العراق ما هو إلا مدخلا لمشاريع قادمة في المنطقة العربية.

وتبقى الحرب المستعرة في اليمن آخر حلقات المخطط الصفوي حتى إشعار آخر لتفتيت أمر الأمة الإسلامية. فتسلل الحوثيين إلى أراضي المملكة العربية السعودية، يكشف عن مخطط القائمين على هذا المشروع، ويبطل إدعاءات الحوثيين بأنهم يدافعون عن وجودهم، ويطالبون بحقوقهم ... بل أن هذا التطور في تمرد الحوثيين يؤكد بأنهم كيان مزروع وجد لتنفيذ أجندة خارجية لتوسيع الفرقة بين المسلمين. لعمري أنها فتنة تديرها الدولة الفارسية على نطاق الخارطة الإسلامية غايتها دق أسافين الديمغرافية والسياسية في جسم هذه الأمة لتمزيقها والتحكم في مصيرها ... وما الحوثيين إلا جزءٌ من هذا المخطط. وليعلم الجميع أن هذا المشروع ماض إلى غايته في العراق وبلاد الشام، واليمن، ومصر وكل بلاد العرب والمسلمين.

والتساؤلات الملحة هو: إلى متي هذه المثالية في السياسة العربية في تعاطي مع الآخرين (الأعداء)؟

إلى متى الإحجام من الرد بالمثل وردع كل من تسول له نفسه شراً قبل وصوله إلى تخوم الدار؟

في المقابل لماذا لا يقوم محور عربي يتصدى لهذه الانتهاكات؟



Almadresa1998@yahoo.com