جــــــــــــــــان دارك
إن لإسم جاندارك نغمة محببة وهيبة واعتبارا في نفوس محبي البطولات والحرية في كافة أنحاء العالم. لقد أحبها العالم ولم يكرهها سوى أعدائها الإنكليز الذين دحرتهم في المعارك وفرقت شملهم في ساحات القتال.
أجل، تلك هي قصة البطلة الخالدة جان دارك التي أرسلتها السماء لتحرير فرنسا من أعدائها.
إنها قصة أشهر فتاة عاشت على وجه الأرض، ويصعب تصديق بعض أحداثها وفصولها لتقاطعها وغرابتها. لن نتطرق كثيراً هنا للأحداث شبه الأسطورية بل سنركز على الوقائع التاريخية في المقام الأول.
إنها قصة عذراء أورلين المعروفة عند الإنكليز بإسم جون أوف آرك.
ولدت جان دارك في العام 1411 للميلاد في قرية دمرمي الفرنسية، ولم تكن قد تجاوزت العشرين من عمرها عند استشهادها.
في طفولتها المبكرة كانت ترقص وتغني في أعراس ومهرجانات القرية تحت شجرة الأماني العتيقة التي كانت تظن مع رفيقاتها أن حوريات السماء كانت تهبط لتلعب وتمرح معهن تحت أغصانها الظليلة.
لم تتعلم جان دارك الحروف لأن قليلا فقط من الفتيات في ذلك العهد كن يعرفن القراءة والكتابة، لكنها برعت في غزل الصوف والخياطة والعناية بالكوخ المتواضع الذي كان بيتها، وكانت أحيانا ترعى الأغنام فوق الروابي الخضراء المطلة على قريتها الهادئة. وتلك كانت الثقافة التي يمكن أن تحظى بها أية فتاة عادية في ذلك الزمن.
ولكن (بحسب الرواية)، في سن الثانية عشرة، وبينما كانت جان منهمكة في الخياطة في حديقة كوخها حدث لها أمر غريب وذو شأن. فكأنها سمعت صوت أجراس منبعثة من الكنيسة ورأت عمودا من النور يسقط على الحديقة الظليلة، وشعرت أن صوتا يناديها، فأصغت لذلك الصوت المنبعث من السماء برهبة ودهشة. طلب منها الصوت أن لا تخاف بل تكون رابطة الجأش ثابتة الأعصاب، وأن تكون واعية متيقظة لأن السماء قد اختارتها لمهمة عظيمة. لقد كانت الفتاة التي ستحرر فرنسا من المعتدي وتعيد الملك إلى عرشه.
كان الفرنسيون آنذاك يحاربون بعضهم بعضا وفي نفس الوقت يحاربون ملك الإنكليز الذي كان يطالب بعرش فرنسا، فأرسل جيوشا إلى فرنسا احتلت جزءا كبيرا منها. أما ملك فرنسا الشاب شارل السابع فقد طـُرد من عاصمته ولم يضع التاج على رأسه بعد خروجه المذل منها.
أصغت عذراء فرنسا بافتتان كبير للأصوات التي واصلت التحدث إليها على مدى أربع سنين بكاملها، ومع تلك الأصوات كانت أيضا تبصر أشكال قديسين يظهرون لها في الرؤى. لقد كانوا يعدّونها للعمل البطولي العظيم الذي كانت ستقوم به. ومنذ ذلك الوقت لم تعد جان تلك الفتاة المهتمة باللعب والمرح ، إذ راحت تصلي بدل الرقص وتصرف ساعات طويلة لوحدها في التأمل والاستعداد للمهمة المقدسة التي كانت في انتظارها. حدث كل ذلك لها ولم تخبر به إنسانا على الإطلاق حتى سن السابعة عشرة. عندئذ طلبت منها الأصوات كي تهب لنجدة الملك.
خلال الثلاث سنوات التالية تولت تلك الفلاحة الصغيرة قيادة الجيش الفرنسي الذي أوقع هزائم نكراء بالجيش الإنكليزي، فأعادت تتويج ملك فرنسا، لكنها أخذت أسيرة، وأخيراً أعدمت حرقاً.
لم تعرف أولا السبيل للوصول إلى الملك، ومن كان سيصدق قصتها بأن لديها مهمة من السماء لتحرير بلادها وإعادة مليكها إلى عرشه؟ حتى أفراد أسرتها لم يصدقوا روايتها. أما مستشارو الملك فقد اعتبروها فتاة ساذجة، وربما ممسوسة، فكان من الصعب أن تحظى بالمثول أمام الملك، لكنها أفلحت أخيرا في مسعاها. لقد أقنعت ما يكفي من الناس بتصديق حكاية سماعها الأصوات ومشاهدة الرؤى، وبعد ذلك بقليل أقنعت الملك نفسه بالرغم من رفضه في مبدأ الأمر مقابلتها وتصديق مقولتها.
وضَعَها الملك على رأس جيش مجهز بالعدة والعتاد، فلبست درعاً بيضاء ورفعت فوقها راية وتقلدت سيفا وقادت جيشها من نصر إلى نصر فتوالت انتصاراتها بكيفية مذهلة. لقد دحرت الإنكليز وفكت حصار مدينة أورلينز وتعقبتهم في معركة تلو الأخرى فتغلبت عليهم في كل المعارك.
بعد ذلك سارت مع الملك شارل إلى مدينة رانس وهناك وقفت بجانبه عند تتويجه ملكا على فرنسا. ثم رغبت بالعودة بسلام إلى كوخها في قريتها الهادئة، لكن الملك لم يسمح لها بل طلب منها مواصلة القتال حتى تحرير باريس وكل مدينة فرنسية أخرى من يد العدو.
امتثالاً لأمر الملك بقيت على رأس الجيش، رافضة في نفس الوقت أي مظهر من مظاهر الأبهة والتكريم. ولم تطلب شيئا لنفسها سوى إعفاء قريتها من الضرائب، فاستجيب طلبها وظلت تلك القرية معفية من دفع الضرائب على مدى أربعة قرون لغاية الثورة الفرنسية.
لكن مجد الفتاة وصل إلى نهاية مأساوية. ففي إحدى المعارك وقعت في الأسر، ولم يفعل الملك الذي ساعدته على استعادة ملكه شيئا لافتدائها، فتـُركت لضراوة العدو ووحشيته.
ذاعت شهرتها في كل أرجاء أوروبا ولم يصدق أحد أنها كانت ملهمة في تحقيق بطولاتها الخارقة، فاعتـُبرت ساحرة متعاونة مع الشيطان وحوكمت بتهمة الهرطقة وتعاطي السحر. ولم يعرف التاريخ تصرفا أنبل وأروع من تصرف تلك الفتاة أثناء تنفيذ الحكم فيها. تم تثبيت التهمة عليها، وفي عام 1431 شـُدَّت إلى خشبة وأحرقت حية.
منذ ذلك الحين حتى يوم الناس هذا تعاظمت شهرتها وتألقت كالشهاب.
إنها بطلة بلادها وبطلة العالم، ولم تفخر أمة في العالم ببطلة قومية فخرها بجان دارك (مع أننا نفخر بالبطلة الجزائرية جميلة بوحريد وبغيرها من البطلات اللائي سطرن مآثر بطولية بأحرف من نور.)
لقد ألهمت جان دارك آلاف الرسوم والقصائد والمسرحيات بشتى اللغات. وقد أذهلت النقاد والمؤرخين الذين صرفوا سنوات طويلة بحثا عن الحقيقة المتصلة بتلك البطلة الخالدة في محاولة لمعرفة قدراتها الخارقة التي مكنتها من القيام بكل ما قامت به من بطولات عز نظيرها في تاريخ الإنسانية.
إضافة لتلك البطولات فقد رسمت قديسة وأصبحت تعرف بالقديسة البطلة جان دارك.
والسلام عليكم
المصدر: موسوعات
الترجمة: محمود عباس مسعود
المفضلات