تاريخ على مقاس إسبانيا.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

ما هو التاريخ؟

هل هو ”علم دراسة الماضي” أم ”علم التلاعب بأحداث الماضي لتبرير أحداث تجري اليوم”؟

لنتخيل الشكل الذي كان سيكتب به التاريخ لو انتصرت النازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية على ”المدنية” الأمريكو سوفياتية, و كيف كانوا سيدرسونه لنا لو تغلبت القوى الجمهورية في إسبانيا على ”ديكتاتورية فرانكو”. أكيد هو تاريخ مخالف جدا للذي ندرسه اليوم في المدارس و الجامعات.

بإسبانيا, قامت في السنوات الأخيرة محاولات لمراجعة تاريخ البلاد خلال فترة النظام الجمهوري (1931-1936), الحرب الأهلية (1936-1939) و حكم الجنرال فرانكو (1939-1975), محاولات قادها مؤرخون و ساسة عملوا من خلال الدولة على تبرير الحرب الأهلية و استيلاء نظام فرانكو على الحكم. و هم في سعيهم هذا لهم كل ”الحق ” في المطالبة بتصحيح تاريخي يعيد الأمور إلى حقيقتها, طبعا لأسباب ”علمية تاريخية” و أيضا لجبر ضرر الضحايا و تعويض أقاربهم.

غير أن ذاكرة إسبانيا قصيرة جدا و ضعيفة للغاية و متهالكة إلى أقصى حد, خاصة إذا تعلق الأمر بفترات تاريخية تعارض أركانها التأسيسية التي هي جوهر القومية و الأمة الإسبانية. إن تاريخ إسبانيا يُكتب و يُحلّل وفق عقائد راسخة و غير قابلة للنقاش, أهمها:

- وجود إسبانيا كأمة منذ العصور الغابرة, بل منذ بداية الخليقة. وجود لم يقطعه لا الغزو الروماني, و لا الأمازيغي القرطاجي, و لا الغزو القوطي, بل و لا حتى الوجود الإسلامي الذي دام أكثر من 8 قرون.

- وحدة إسبانيا كركن أساسي في التاريخ, و عبره يتم تفسير كل حدث تاريخي و كل سياسة تناقض هذا الركن. فإسبانيا كانت قبل آلاف السنين في نفس الحدود الموجودة عليها اليوم. و بهذا فالأندلس, قطلونية, نافارا, سبتة, مليلية و جزر الكناري هي جزء لا يتجزأ من إسبانيا, و كذلك الحال لجليقية, استرامادورا و غيرها…

هكذا نخرج بالاستنتاج التالي: في إسبانيا كل شيء يناقش إلا هذين الركنين: وجود إسبانيا كأمة منذ القدم و وحدتها التاريخية. و قد حدث حولهما إجماع مطلق و اتفاق تام حتى بين المؤيدين و المعارضين لمراجعة تاريخ القرن العشرين, و تكاد تكون النقطة الوحيدة التي تجمع بين ”اليمينيين” و ”اليساريين”, ”التقدميين” و ”المحافظين”, ”الرسميين’ و ”دعاة المراجعة”. فكل شيء يناقش و يحتمل الوجهين, بل ما شئت من الوجوه إلا العقائد المؤسسة للدولة الإسبانية.

فكيف إذن يرى ”المؤرخون” , "المفكرون” و ”الساسة” الأسبان اليوم تلك المأساة الفظيعة و الإبادة الشنيعة التي تعرض لها الشعب المسلم على أيدي ملكي قشتالة و أراغون –الذين عرفهم التاريخ باسم ”الملوك الكاثوليك”- و كيف ينظرون إلى الاحتفال السنوي بهذه الأحداث في غرناطة كلما حلّ الثاني من يناير.

بالنسبة للذين سنطلق عليهم ”الوطنيون المعترف بهم”, الذين حملوا على عاتقهم هم ”القومية الإسبانية” بالدفاع عنها و مظاهرتها, سقوط غرناطة هو ”أوج” حرب الاسترداد و إتمام الوحدة الإسبانية التي مزّقها قبل 8 قرون غزو الموروس الذين انتهى بهم المطاف بعد انتصار الكاثوليكية إلى الطرد من إسبانبا و رميهم في البحر. هذه النظرة ترتكز على عقائد أسطورية عديدة مثل: ”الغزو العربي”, ”الاسترداد”, ”طرد الموروس” و ”إعادة التوطين”. إن هذه الأساطير الخيالية تحولت مع مرور الوقت إلى تاريخ ثم إلى عقائد لصالح الدولة الإسبانية أحالت جريمة إبادة الشعب الأندلسي المسلم و جرائم اللصوصية و السلب و النهب إلى أعمال بطولية. كما جعلوا لهذه الجرائم أركانا أديولوجية ترتكز على ”القومية الواحدة” (القومية الإسبانية) و ”الدين الواحد”(العقيدة الكاثوليكية). و قد قام بعض المؤرخين المتأخرين بفضح هذه الأساطير المؤسسة للدولة الإسبانية, كمؤلفات إيغناسيو أولاغي, أمريكو كاسترو, غونزاليس فيران و غيرهم.



أما النوع الثاني من الوطنيين الأسبان, و الذين سنطلق عليهم ”الوطنيون المتسترون” أصحاب ”الوطنية النائمة” المنضوون تحت لواء طبقة ”التقدميين” الاجتماعية, فهم يعترفون بالإبادة التي تعرض لها الشعب الأندلسي المسلم و يُدينون الاحتفال بسقوط غرناطة و باقي المدن الأندلسية بدعوى الدفاع عن”تعدد الثقافات” و ”تحالف الحضارات” لكن دون الخروج عن إطار العقائد التي ذكرناها سلفا, أي دون الوصول إلى انتقاد جوهر التاريخ الإسباني, و دون أن يطرحوا للنقاش الأساطير المؤسِّسة, بل يقبلون العقائد الرسمية التي يدين بها ”الوطنيون المعترف بهم”, ك”وحدة إسبانيا” و هي العقيدة التي ترتكز عليها جميع تفسيرات الأحداث التاريخية. هكذا إذن نجدهم –أي ”الوطنيون المتسترون”- يعترفون بالإبادة, يأسفون على صدور مراسيم التنصير و الطرد, لكنهم يبررون للذين تلطخت أيديهم بها و يعتبرونهم ”حكاما عظاما” لأنهم الأركان التي ترتكز عليها ”الأمة الإسبانية”, و التي بدونها سينهار كل شيء, و هذا طبعا أمر يرعبهم, لهذا يفضلون عدم التفكير كي لا ينتهي بهم المطاف بقبول حقيقة أخرى مخالفة فيصطدموا مع مسلماتهم, مع ضميرهم و مع مصالحهم. إنهم لا يريدون التفكير في صحة تلك الأساطير حتى لا يعترفوا أنهم كانوا ضحية كذب الدولة الإسبانية.



أما بخصوص سقوط المدن الأندلسية, فالوطنيون ”المعترف بهم” و ”المتسترون” يتفقون على أن وحدة إسبانيا ”أزلية” و يعتبرون غزو قشتالة للأندلس حربا أهلية بين إخوة انتهى للأسف بهم المطاف إلى ارتكاب جرائم إبادة, لكن دون أن يدينوا المعتدين لأنهم سيدينون بذلك من ”أعادوا تكوين وحدة إسبانيا” و جعلوها تنعم اليوم بالازدهار وسط الأمة الغربية.

كما يرفضون الاعتراف بعدم وجود كيان اسمه ”إسبانيا” قبل القرن 16, و يرفضون أيضا الاعتراف بأن مملكة غرناطة المسلمة كانت دولة مستقلة ذات سيادة قبلت بنود معاهدة تسليم غرناطة بعد أشهر عديدة من حصار عسكري غاشم. إن وضع المشكل في إطاره الحقيقي يثير الرعب في أنفسهم: فمعاهدة تسليم غرناطة هي معاهدة دولية بين دولتين ذات سيادة و عدم التزام قشتالة ببنودها أدى إلى فقدانها لمفعولها و من حق الطرف الآخر المطالبة بتنفيذها و إعادة الأمور إلى نصابها. لكنهم لا يستطيعون تحمل هذه المسؤولية لأنها تعارض العقيدة المقدسة لوحدة إسبانيا, و لا ”الوطنيون المعترف بهم” و لا ”الوطنيون المتسترون” سيعترفون بها, و بهذا الرفض يعبرون عن رغبتهم في تاريخ على مقاس عقائدهم, أي تاريخ مزور , مُوجَّه و مشوّه.



لقد عبّر بلاس انفانتي رحمه الله بكل دقة عمّا مثّله الاحتلال الإسباني-النصراني للأندلس عندما قال: ”الحملات الصليبية ! النهب, القتل, الحرق و الحقد المدمر بقيادة الصليب.”.



المرجع : مقال للأندلسي المسلم علي مونثانو كانو ”La ideologia de la historia”رئيس موقع ”الهوية الأندلسية” ‘’Identidad Andaluza’’و عضو ملتقى ”ابن أمية” Foro Aben Humeya’’. كتبه في 28 يناير 2009.

كتبه أبوتاشفين هشام بن محمد زليم المغربي.