توقف النفوذ العثماني عند أطراف الجزيرة العربية بسبب صعوبة اختراق المحيط الهندي وخطر مجابهة البرتغاليين المسيطرين عليه. واقتصرت السلطة العثمانية على سواحل اليمن وعدن، وعلى مناطق سواكن ومصوع على الساحل الإفريقي الشرقي. واقتصر الحكم العثماني في شمال أفريقيا على المناطق الساحلية، إذ أن الطبيعة الجغرافية والبشرية للمنطقة الداخلية حدّت من توسع العثمانيين فيها.

تقلص نفوذ السلاطين
أثـّر توقف التوسع العثماني على تطور الدولة ككل، خصوصاً وأن الدولة العثمانية كانت قد ازدهرت في الغزو ضد أعداء الدين في أوروبا، وإلى حد ما في فارس. ظهر ضعف الدولة أولا في شخصيات السلاطين أنفسهم، فانسحبوا بالتدريج من المساهمة الفعلية في قيادة الجيش والإدارة، وانقطعوا إلى حياة القصر. وباستثناء السلطان مراد الرابع، الذي أظهر مقدرة كبرى إزاء الأخطار المهددة للدولة من الداخل والخارج، وبخاصة على الجبهة الصفوية، لم يظهر أي سلطان قوي في الفترة بين وفاة السلطان سليمان القانوني (1566) وحكم السلطان سليم الثالث (1789-1807)، وهو الذي قام بأول محاولات الإصلاح.

ونتج عن تقلص نفوذ السلاطين في الحياة العامة أن انتقل زمام المبادرة إلى الصدر الأعظم، فأصبح له ابتداءً من 1654 مقر خاص به، عُرف باسم الباب العالي. اشتهر من الصدور العظام، في النصف الثاني من القرن السابع عشر، أفراد من أسرة كوبريلي. ونظراً لانقطاع السلاطين إلى حياة القصر، ازداد شأن موظفي القصر، وعلى رأسهم القزلار آغا، المسؤول عن الحريم، فأخذ ينافس الصدر الأعظم على النفوذ. وكان لهذا الصراع أثره على حكام الولايات الذين اعتمدوا على الواحد أو الآخر من هذين الموظفين الكبيرين.

التقهقر الداخلي
من مظاهر ضعف الدولة العثمانية أيضاً انحطاط الجيش فيها. ففي أعقاب توقف الفتوحات وتناقص سلطة السلاطين الفعلية فـُقد نظام الجيش، وتضعضعت الإنكشارية، فطمع المسلمون الأحرار بالتجند في صفوفهم للتمتع بامتيازاتهم. وازداد تمرد الإنكشارية وأخذوا يُرهبون السلاطين. وكان أول ضحاياهم البارزين السلطان عثمان الثاني الذي عزلوه ثم قتلوه (1622).

وكان قد نتج عن اعتماد الدولة اعتماداً كبيراً على الإنكشارية، منذ القرن الخامس عشر، أن أهمل الجند من أصحاب الإقطاع، وهم السباهية الفرسان، واستمر هذا الإهمال فيما بعد. وأدى انحطاط هؤلاء الجنود إلى انحطاط نظام الإقطاع بشكل عام، مما أتاح المجال لظهور عناصر مدنية مقربة من السلطات الحاكمة، استطاعت أن تسيطر على الريف وتستثمره لصالحها. وكانت تتصرف بالأرض إما بأخذها كإقطاع أو بالتزام ضرائبها. ورافق ذلك كثير من التلاعب بأموال الدولة، وظهرت قوى محلية تستمد سلطتها من التزام الضرائب.

واشتهر في فترة ضعف الدولة العثمانية الجنود المرتزقة بسبب توفر العناصر البشرية، وبخاصة الريفية، التي لا عمل لها فأخذت تبيع خدماتها. وعمد زعماء محليون ثائرون إلى استئجار هذه العناصر لدعم سلطتهم ضد السلطنة العثمانية وضد بعضهم بعضا.

ونتج عن توقف الفتوحات، وبالتالي انقطاع مواردها، أن ازداد ارتباك الإقتصاد العثماني. وجاء ذلك مع ازدياد عدد الجنود الإنكشاريين والموظفين أصحاب المرتبات. فيما تناقصت واردات الدولة بسبب فساد نظام الإلتزام. وتأثر الإقتصاد العثماني أيضا، لأن الواردات الجمركية على بضائع الشرق الأقصى المارة في الأراضي العثمانية انخفضت، بعد أن نقل جزء كبير من هذه البضائع رأسا إلى أوروبا عبر رأس الرجاء الصالح. ولم تستطع موارد الدولة من المعادن الثمينة تلبية الحاجة المتزايدة للنقد. وجاء تدفق الفضة الرخيصة إلى بلاد حوض البحر المتوسط من العالم الجديد – أمريكا – ليزيد في إرباك النقد العثماني وانهيار قيمة وحدته الفضية. ولهذا أصدرت الدولة العثمانية في عام 1620 وحدة نقد فضية جديدة، هي البارة، لتحل محل الأقجة. ولكن حتى هذه انهارت قيمتها بدورها فأصدرت الدولة عملة جديدة هي القرش، وذلك في الربع الأخير من القرن السابع عشر. ولم يُجدِ ذلك نفعا، فلجأ الموظفون إلى الرشوة، ولجأ أصحاب الرواتب من العساكر إلى فرض ضرائب إضافية. ولم يبق أمام السلطات العثمانية إلا اللجوء إلى الإصلاحات لتحسين أوضاع الدولة. وبدأ ذلك بشكل واضح منذ أواخر القرن الثامن عشر، وبلغ الغاية في القرن التاسع عشر.

التقهقر الخارجي
رافق عوامل الضعف الداخلية هذه ضعف خارجي وتراجع متواصل على معظم الجبهات: ففي الشرق، اضطر العثمانيون إلى عقد معاهدة مع الصفويين في بلاد الفرس عام 1639 وضعت حداً نهائياً لمطامعهم التوسعية في هذا الإتجاه: وفي الشمال الإفريقي، أصبحت تونس والجزائر، مع بقائهما في حظيرة الإمبراطورية، دولتين مستقلتين استقلالا عمليا تاما. وعلى الجبهة النمسوية اضطر العثمانيون بمعاهدة كارلوفتز (1611) أولا إلى الإنسحاب من معظم ممتلكاتهم في هنغاريا والتنازل عن جميع مطامعهم في ترنسلفانيا، ثم بمعاهدة باساروفتز 1718 إلى إكمال جلائهم عن هذه الممتلكات. وعلى الجبهة الروسية انتزع منهم بطرس الكبير مرفأ أزوف 1696 وكاترين الكبيرة شبه جزيرة القرم 1774.

شروح الصور المتصلة بالموضوع
بدأ سليمان القانوني حكمه بحسب التقليد السلطاني، بحملتين هامتين: الأولى ضد بلغراد (1521) فاحتلها، ثم توجه نحو جزيرة رودس التي كانت حتى ذلك الوقت مركزا لفرسان القديس يوحنا، فحاصرها واحتلها (شتاء 1522) وأجلى عنها الفرسان الذين اتخذوا بعد ذلك من مالطة مقراً لهم، حتى أجلاهم عنها نابليون سنة 1798 واحتضنهم الفاتيكان. في ذلك الوقت كانت جيوشه تتجه غرباً نحو هنغاريا وتهزم الجيش الهنغاري في معركة موهاكس (1526). بعد عهده بدأ عهد التقهقر. (هناك منمنمة تظهر السلطان سليمان يتشاور مع مستشاريه. وتبدو في الصورة المدافع التي أصبحت ذات قيمة كبيرة في عمليات الحصار وفي المعارك.

مع أن بناء المساجد والجوامع كان يكاد يسيطر على تفكير سلاطين آل عثمان، وبخاصة الأوائل منهم، فإن إقامة الأبنية ذات الفائدة العامة كانت موضع اهتمامهم أيضا. في الصورة سبيل للماء باسطنبول بناه السلطان أحمد الثالث (1703-1730). كان هذا السلطان يشجع الفنون على أنواعها. وكان شاعراً موهوباً وخطاطاً. وزيره ابراهيم باشا كان بدوره متعلقا بالفنون. سميت الحقبة التي حكم فيها والتي تلتها، حتى عام 1830، "عصر التوليب" لأنها كانت تتسم بطابع غربي سواء في فنها المعماري أو في فن رسم المنمنمات الذي ازدهر في هذه الحقبة ازدهاراً كبيرا. فكانت حياة القصر تقلد إلى حد كبير حياة قصر فرساي، وكان للفن الفرنسي تأثير كبير على فن العمارة والتقنيات الأخرى. عصر "التوليب" استوعب بشكل عفوي تعاليم فن الباروك الأوروبي. دعيت هذه الحقبة بعصر التوليب لرواج زراعة هذه الزهرة الأوروبية فيها.

كان مألوف سلاطين آل عثمان أن يشكروا الله على انتصاراتهم ببناء الجوامع. وجاء جامع السليمية في أدرنة الذي بناه سليم الثاني (1566-1574) شكراً لله على فتح قبرص (1570). كان هذا الجامع، مثل عدد كبير من جوامع النصف الثاني من القرن السادس عشر، من بناء المهندس المعماري سنان الذي اشتهر أيضا ببناء جامع السليمانية (نسبة لسليمان القانوني) في اسطنبول، والذي كان أول من عرف أن ينقل تصميم قبة كنيسة أيا صوفيا إلى الجامع الإسلامي وأن يستبدل بالقبة التي تقوم على عضادات أربع. تحدّر سنان (1489-1588) من أصل رومي في الغالب، من أسرة معماريين، وبدأ عمله في بناء التحصينات.

من مظاهر انحطاط الدولة العثمانية في القرن السابع عشر والثامن عشر وفقدان سلطتها للمحافظة على القانون انتشار الإجرام وازدياد عدد قطاع الطرق. ولذلك كان لا بد من اللجوء إلى أقسى العقوبات كالمشنقة لردع الناس عن الجرائم.

هناك صورة لمحراب جامع صوقللو محمد باشا (اسطنبول) من تخطيط وتنفيذ سنان الذي بنى الكثير من مساجد عاصمة الدولة العثمانية وأدرنة في النصف الثاني من القرن السادس عشر. ويعتبر البعض هذا المحراب أجمل ما بناه سنان إطلاقاً.

والسلام عليكم

المصدر: موسوعة بهجة المعرفة