(4)

كاد الحوار الذي دار بيني وبين الدكتور شبكة يثنيني عما انتويت ، البيروقراطية التي تعودنا عليها تؤكد استحالة أن يمر تصرف دون موافقة المدير المباشر ، وإذا كان الدكتور شبكة أعلنني صراحة برفضه لسفري فهذا يعني أن المحاولة محكوم عليها بالفشل ،عدت إلى غرفتي بالمستشفى مشحوناً بالغضب ، من حسن الحظ أن الخطاب لم يحدد مهلة لإرسال الرد بصور الأوراق والشهادات وإلا ضاعت الفرصة للأبد ..قلت لنفسي المحاولة الأخيرة ستكون في مكتب وكيل الوزارة الدكتور مردان وهو رجل سئ الطباع يتجنبه معظم الأطباء لسلاطة لسانه وتطاوله الدائم وعدم احترامه لأحد ، أوشكت على التراجع ونسف فكرة السفر من جذورها ، لكن هاجساً داخلياً سيطر على مشاعري ..
لم لاتحاول ؟ لاداعى لمقابلته أو التحدث معه مباشرة ، يكفي أن تترك طلباً عند السكرتيرة ثم المرور لاحقاً لمعرفة النتيجة ، لاداعي للمواجهة حتى لاتنال نصيبك من سلاطة اللسان وسوء الأدب.
تذكرت سخرية الدكتور شبكة من سفري للسياحة في عز الشتاء، وكيف وقفت أدعم موقفي بالمزيد من الأكاذيب ، قلت في نفسي والله معاه حق ..يالي من أحمق قليل التجارب ، كذبة بسيطة كانت كفيلة بفتح الأبواب المغلقة ومع ذلك لم أتقنها !
في الطلب الجديد تجنبت حكاية السياحة وإيطاليا وهذه الخزعبلات ..فهذا الرجل لايعرف الهزار ولن يمررها بسلاسة كما فعل الدكتور شبكة ، ربما ظن أنني أسخر منه أو استهين بعقليته فينالني من رذاذ شتائمه نصيب، نسبة النجاح لم تكن تتعدى خمسة في المائة فليكن إذن طلباً عادياً حتى أقنع نفسي بأنني لم أترك باباً لم أطرقه وبعدها سأنسى الموضوع برمته.
كتبت الطلب وتركته لدى السكرتيرة وانصرفت على عجل خشية أن يطلبني لمقابلته .
في كل صباح ولمدة أسبوع كامل وأنا أتوجس شراً من ردة الفعل على طلب الأجازة ، أتسقط الأخبار لدى مكتب المدير ، أغازل السكرتيرة بكلمات الإطراء لعلها تلمح لأخبار أتت من مكتب وكيل الوزارة ،وكل يوم يمضي يزيدني قناعة بأن طلبي قد رفض وانتهى الأمر وأن الدكتور مردان رأى أنه لايستحق عناء الرد .
ولم يكد ينقضي الأسبوع حتى أسرعت إلى مكتب وكيل الوزارة ، أعددت أكثر من سيناريو للسؤال عن مصير الطلب الذى لم أكتب فيه سوى رغبتي في الحصول على أجازة إعتيادية لمدة أسبوعين لقضائها فى الخارج ودون ان أوضح أين؟ كنت قد استوعبت درس الدكتور شبكة جيداً، أخذت أتسكع فى الممر أما م مكتب السكرتيرة دون أن أدخل إليه، لم تكن الخطوة القادمة قد تبلورت في تفكيري بعد ، فآثرت أن اتمشى لعل الله يفتح عليّ بالتصرف المناسب والذي لايوقعني في الحرج كما حدث في المرة الأولى..
لمحتني السكرتيرة وأنا أتسكع أمام الباب المفتوح فصاحت بصوت عال
- أنت فين يادكتور؟ .. صار لك أسبوع ولم تمر لأخذ الطلب.
أخذ الطلب ؟.. ماذا تعني هذه العبارة ؟ !
الرفض أم القبول أم لاشئ منهما؟
دخلت إلى المكتب وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى ، بينما راحت هي تفتش فيما أمامها من أوراق حتى عثرت على الطلب وناولتني إياه ، جرت عيناي مسرعة على التأشيرة الحمراء التي تذيله . دارت بي الأرض ولم أشعر بما حولي للحظات حتى استحثني صوت السكرتيرة الذي بدا لي وقتها أجمل صوت في الدنيا
- لماذا تقف هكذا ..الحق وقتك واذهب إلى المحافظة لتحصل على الورقة الصفراء..
كان الطلب مذيلاً بموافقة وكيل الوزارة ..لكن ماذا عن الورقة الصفراء ؟ ماهي ؟ ومالزومها؟ ومادخل المحافظ بالموضوع ؟ عشرات الأسئلة حاصرتني ، لم أتمالك نفسي فقبضت على يد السكرتيرة بكلتا يديّ وأنا أشكرها بحرارة وامتنان وكأنها هي التي وافقت..تضاحكت لتشاركني فرحتي وهمست
- ياللا ..طيران على مكتب المحافظ ..الورقة الصفراء تصدر من هناك.

انتظروني