آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: الحدث في الرواية السياسية

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي الحدث في الرواية السياسية

    الحدث في الرواية السياسية
    رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي نموذجاً ( 1 ـ 7)

    بقلم: أ. د. حسين علي محمد
    ..................................

    مقدمة:

    لا يقف النقاد كثيراً عند دور الحدث في بناء الرواية، ولا يدرسون أثره في تكوين الشخصيات وطبع الحوار بطابع خاص، وتشكله ـ أي الحدث ـ في بيئة زمانية ومكانية معيَّنة لا يُمكنه أن يتجاوزها. ولأن الرواية السياسة تقوم في الأساس على أحداث تحمل رؤية يُريد كاتبها إيصالها إلى القارئ فقد اخترنا رواية سياسية لم تأخذ حظها من المتابعة النقدية، مع أهميتها في رصد زاوية لم تلتفت إليها الرواية العربية، في رحلتها التي تُقارب مائة عام، وهو أفق الأسرى وعالمهم الذي مازال بكراً، ومجهولاً لدى جمهرة القرّاء.
    ومن ثم فقد اخترنا رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي لهذه الدراسة التطبيقية، وإذا كانت الدراسات الحديثة تجنح إلى التحليل النصي بتفكيك النصوص وإعادة بنائها من خلال قراءة تحاول أن تُبرز عالمها وجمالياتها الخاصة، فقد كان لزاماً عليَّ أن أقوم بهذا التفكيك والبناء للرواية، لأبرز دور الحدث في بناء الرواية السياسية.
    وقد كُتبتْ عن هذه الرواية كتابات قليلة تتمثّل في بعض المقالات، ومنها مقالة لعبد المنعم عبد القادر في كتاب "لقاء مع الزمن المستباح"(1989م) (ص ص58-69)، ومقالة لعلي عبد الفتاح ذُيِّلت بها الطبعة الرابعة من الرواية (1987م، ص95 فما بعدها)(وكان قد نشرها من قبل في مجلة "الطليعة الأدبية" (بغداد)، عدد أبريل 1986م)، ومقالة لمحمد ناجي المنشاوي: عنوانها «العزف على أوتار ثلاثية الحرب والهزيمة والمقاومة»، نُشرت في كتاب تكريمي عن فؤاد حجازي عنوانه «فؤاد حجازي يقرع الطبول» (2000م).
    لكن أيا من هذه الدراسات لم تُشر إلى الأحداث بوصفها عنصراً مؤثراً في بناء الرواية ـ لا من قريب ولا من بعيد ـ .
    وتقع دراستنا هذه في أربعة مباحث:
    في المبحث الأول، تناولنا: الأحداث والموضوع الروائي.
    وفي المبحث الثاني، تناولنا: الأحداث والشخصيات.
    وفي المبحث الثالث، تناولنا: الأحداث والزمان.
    وفي المبحث الرابع تناولنا: الأحداث والمكان.

    المبحث الأول
    الأحداث والموضوع الروائي

    (1)
    الرواية هي أكثر فنون القول شيوعاً في عصرنا، لأنها «ملحمة العصر الحديث، وقد تغذّت على فنون أدبية عدّة، وورثت دورها الثقافي، وهذا ما يجعلها من أكثر الفنـون الأدبية قدرة على التعبير عن أزمات الإنسان وقضايا الواقع، من خلال حساسية خاصة، والرواية تُجيد طرح الأسئلة وإثارة الانتباه»(1).
    وإذا كان هذا الكلام يصدق على الرواية بعامة، فإن الرواية السياسية تطمح أن تعبِّر عن هموم الشعب، وتصور مراحل كفاحه ضد المستعمر، وتطمح أن تكون ضمير الشعب في نضاله المرير، وتطلعه إلى التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، وسعيه الحثيث والدائم للأفضل والأحسن والأرقى(2).
    وإذا كتب هذه الرواية أديبٌ متمكن من أدواته الفنية، وله رؤية، وله موقف فسيقدِّم رواية إنسانية جديرةً بالخلود، و«حين ينحاز الأديب إلى القوى التي تدفع إلى طريق المستقبل، وتجسد أشواق الإنسان وأحلامه فسيصبح أدبه بالضرورة أدباً إنسانيا، لأن أحداً لا يتصور وجود تناقض أساسي وجذري بين أشواق الإنسان وأحلامه في أي بيئة وفي أي زمان»(3).
    ورواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي(4) رواية سياسية قصيرة من أدب الحرب؛ لغتها تميل إلى الاكتناز، وعدم الثرثرة ـ وهذا ملمح عام في رواياته، فهي جميعاً روايات قصيرة لا تكاد تتعدّى معظمها حاجز الصفحات المئة.
    وهي تصوِّر تجربة ذاتية للسارد / المؤلف في حرب 1967م، فقد كان المؤلف جنديا في هذه الحرب التي هزمت فيها القيادة، بينما ظل الشعب مقاوماً صانعاً للحياة، رافضاً الهزيمة!
    وفؤاد حجازي في هذه الرواية لا ينتج عملاً مُتَخَيَّلاً ذهنيا، وإنما يكتب عن معايشة و"عن تجربة ذاتية عاشها … في الأسر قرابة تسعة أشهر في معسكرات الاعتقال الإسرائيلية، عانى خلالها معاناة شديدة على كل المستويات؛ فعلى المستوى الجسدي عانى الجرح من شظية قنبلة ـ سكنت كتفه ومازالت في جسده حتى الآن … وعلى المستوى النفسي عانى موت الأصدقاء ورفاق السلاح، وما أكثر من أصيبوا واستشهدوا في هذه الحرب. وعلى مستوى الوعي عانى هزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل"(5).
    ولا تكفي مجرد المشاهدة والمعايشة لإنجاز عمل روائي متفوق، فلا بد من قدرة الروائي «على الإمساك بمادته الحكائية، وإخضاعها للتقطيع والاختيار، وإجراء التعديلات الضرورية عليها، حتى تُصبح في النهاية تركيباً منسجماً يتضمّن نظامه وجماليته ومنطقه الخاص»(6).
    ونحن نرى أن الأحداث التي قدَّمها الراوي دارت في دائرة الممكن الحدوث، وكأنه بذلك يفسر عمليا مقولة أرسطو:
    «ليست وظيفة الشاعر أن يقص علينا ما حدث، ولكن ما يُمكن أن يحدث، مما هو ممكن، حسب قانون الاحتمال والضرورة»(7).
    ومن المعروف «أن القصة تروي خبراً، ولكن لا يمكن أن نعد كل خبر أو مجموعة من الأخبار قصة، فلأجل أن يصبح الخبر قصة يجب أن تتوافر فيه خصائص معينة، أولها أن يكون له أثر كلي. وهذا يعني أن مجموعة الأخبار التي تُروى ينبغي أن يتصل بعضها مع البعض الآخر، ليُحدث أثراً كليا. وهذه الأخبار التي تُحدث أثراً كليا، تكون حول موضوع واحد»(8).
    والحدث في القصة ينبغي أن «يخدم الغرض الذي يرمي إليه الكاتب من تأليف قصته، فبقدر ما يُساعد على تحقيق وحدة الانطباع التي لا بد من تحققها في القصة الجيدة، بقدر ما يكون حدثاً فنيا. والحدث عنصر هام من عناصر القصة … ولكنه لا ينبغي أن يكون كل شيء فيها، لأن الكاتب لو ركّز عليه لتحولت القصة إلى مجرد خبر. ولا بد أن تُوظف الأحداث لأداء مواقف لها دلالاتها الخاصة، حتى تتحقق للقصة صفتها الفنية»(9).
    وتتوقف القدرة على السرد في طريقة اختيار الروائي للأحداث، وجعلها «سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع، تسير نحو غاية محددة»(10)، ومدى تعبيرها عن الرسالة التي يُريد إيصالها للمتلقي.
    ومعروف أن «الحدث هو الموضوع الذي تدور حوله القصة، وهو مجموعة من الوقائع الجزئية المترابطة، وهذا الترابط هو الذي يميز العمل القصصي عن أي حكاية يروي فيها شخص لصديقه ما وقع له من أحداث، فأحداث القصة الفنية لها إطار عام، يدفعها في تسلسل إلى غاية محددة»(11).
    إن الأحداث ينبغي أن تكون جزءاً من الحكاية التي تسردها الرواية، فـ«الحكاية هي التي تحدد الأحداث في إطارها المادي، وتشكلها في فكرة نامية متآزرة ترتبط بالزمان، والمكان، والقيم، بغية إحداث أثر كلي يشعر به المتلقي، وينفعل له، ويقتنع به»(12).
    وقد يمتزج الحدث بالوصف ليكون أكثر تأثيراً، ويقوم الوصف في الفنون السردية ـ بوصفه وسيلة فنية أداتها اللغة ـ بدور بالغ التأثير، حيث يستطيع «أن يعكس جميع الدلالات الفكرية والظلال النفسية والشعورية التي تسبح في عوالم الوعي واللاوعي إزاء المواقف المنوّعة، وعن طريق الوصف أيضاً ـ كما هو معروف ـ يُمكن رسم الأشكال والأبعاد الخارجية التي تُحَسُّ بوسيلة من وسائل الإحساس»(13).
    ويرى أحد النقاد أن الحدث هو أهم عناصر القص و«أن كل ما في نسيج القصة يجب أن يقوم على خدمة الحدث، فيساهم في تصوير الحدث وتطويره، بحيث يُصبح كالكائن الحي له شخصية مستقلة، يُمكن التعرف عليها؛ فالأوصاف في القصة لا تُصاغ لمجرد الوصف، بل لأنهل تُساعد الحدث على التطور، لأنها في الواقع جزء من الحدث نفسه»(14).
    (2)
    تحاول الرواية السياسية التي تصور حرباً خاضتها الأمة أن تُصوَّر مأساة الحرب، وتُقدِّم نماذج للضعف البشري عند وقوع الهزيمة، لكنها تجتاز مأساة الهزيمة، وتُقدِّم صوراً من الجهاد ضد العدو، ولا تنسى أن تسجِّل لحظات الضعف البشري التي يُواجهها أبطال الجهاد والتحرير والمقاومة، فهم ليسوا ملائكة، وإنما هم بشر، لهم نزواتهم ولهم أخطاؤهم. وبهذا ترتفع الرواية السياسية ـ التي تصور الحرب والمقاومة ـ إلى سماء الأدب الإنساني العظيم، ولا تقع في وهدة الخطابة والتقريرية.
    ويبدأ حدث الهزيمة من الصفحة الأولى، حيثُ يُطلعنا السارد على مشاهد تصور لحظات انكسار جيشنا أمام جيش إسرائيل، وسنلحظ أننا كنا مسلحين، لكن السلاح مكشوف للعدو، أو في مرحلة تفكيكه ونقله من موقع إلى موقع:
    «كان هناك قطار لا يقل عدد عرباته عن الأربعين يقف في دوران محطة الأبطال، محملاً بالقنابل وذخيرة الدبابات والرشاشات، نقرته مدافع الدبابات الإسرائيلية فتحول بعد دقائق إلى جهنم حمراء، وتطاير مقذوف الطلقات إلى مواقعنا القريبة. وكان يُجاور دوران السكة الحديدية كتيبة مشاة ظهرها للبحر، غادرت موقعها في الساعة الثانية ظهراً لتدعيم القوات الموجودة في رفح، وليتها لم تُغادر موقعها، فبعد أن تحرّكت تسع وعشرون عربة «زل» تحمل أفراد الكتيبة كلهم، وقد فكوا إلى أجزاء مدافع الهاون والمدافع المضادة للطائرات والمدافع المضادة للدبابات، وقبل جرادة بقليل، وفي منتصف الطريق حوّمت حولنا الطائرات الإسرائيلية، فاضطررنا للانتشار في الصحراء المكشوفة. بعد انتهاء الغارة تجمّعنا، لم يكن قد بقي منا حيا إلا القليل، ركبنا العربات إلى محطة جرادة. لم نكد نبحث عن موقع نتحصّن فيه حتى هاجمنا صف من الدبابات لا يقل عن مائتين، ظل يقصفنا حتى صباح اليوم التالي. كانت فرصتنا في عمل شيء معدومة، فتسليحنا الشخصي لا يزيد عن الرشاشات القصيرة والبنادق»(15).
    ومن مشاهد الحرب ينقل السارد لنا بعض أحداث مرّ بها مع رفاقه من الجنود في ليلة السادس من أكتوبر، وسندرك من المشهد أن معمعة الحرب أدركت الطيور أيضاً، كما أدركت الجنود!!:
    «جاء الليل غير هياب، احتل العدو المحطة التي أرقد فيها مع خمسة من الجرحى. نصبوا المدافع فوق رؤوسنا تماماً ووجهوها ناحية البحر. تلفت حولي أفتش في الظلام، وجدتُ وجوهاً لم أتبيّن ملامحها. وكان زملاؤنا قبل رحيلهم قد تركوا لنا بعض الذخيرة في فناء المحطة، امتدت لها نيران الحرائق. ظلت تنطلق دون توقف على فترات متباعدة. وكان في الفناء بعض دجاجات، ملك لعمّال المحطة فيما يبدو، تركوها وهم في عجلة من أمرهم، وبين كل دانة وأخرى تصيح الدجاجات المذعورة صيحات يائسة، وبين حين وآخر نسمع صيحات إحداها وقد تحشرجت، وتصمت الأخريات كأنما تمنح لها الفرصة لتنتهي في هدوء»(16).
    ويقول السارد عن حاله ليلة السادس من يونيو 1967م، أنه كان يتوقّع النهاية ـ ليس في المعركة، فهو لم يحارب ـ وإنما في الحجرة التي يرقد فيها:
    «طوال الليل أسمع قصف المدافع وحركة الجنود الإسرائيليين فوق سطح الحجرة التي نرقد داخلها، وأتوقّع النهاية بين لحظة وأخرى. أخذت أبتهل إلى الله أن ينجيني. ليس من أجلي .. أعلم أني عاق .. ولكن .. من أجل زوجتي. أخذت أسأل الله: ما ذنبها حتى تترمّل مبكراً؟! وقد تزوّجنا عن حب، ولم يمض على زواجنا أربعون يوماً … في الحقيقة عجبت من نفسي. كنت وأنا في الطريق للجبهة أستهين بالموت وأرى فيه راحة، وعلى الأقل الواحد يخلص من مرضه، فأنا مُصاب بالتهاب مزمن في القولون يجعل حياتي جحيماً. ولكن الآن كل ذرة في كياني ترغب في الحياة وتتشبث بها في قوة. أعاود دعاء الله: حياتي لا تهم .. فقط من أجل المسكينة زوجتي»(17).
    لقد وقعت الهزيمة، ومات من مات فيها دون مجابهة حقيقية، وأُسِر من أُسِر، ويُقدم الروائي صورة للأسرى المصريين، يختلط فيها تقديم الحدث بالوصف الذي يُصوِّر المأساة من خلال تأمله في حالة الجنود:
    «مأسورون من أماكن شتى. وجوه وأيدٍ ملطخة بسواد، ودماء متخثرة. ضلوع محطمة. نفوس ذاهلة. أجساد متناثرة على الرمال. تعب سنوات طوال في تثقيف عقول وتربية أجساد ينتهي في لحظة واحدة بعد قصف مدفع. عيون مكدودة غير مصدقة أن ما حدث قد حدث.
    ومن أصوات مزّقها عدم النوم، وأضعفها عدم الأكل سمعت: سيقتلون الضباط، وفي أمكنة يقتلون الجرحى، ويقتلون الفلسطيني فوراً.
    نحن ذاهبون إلى معسكر لتجميع الأسرى في رفح. ترى أية أوامر لدى حُرَّاسه؟! قتل الجرحى أم قتل الضباط؟ أم الإجهاز عليهما معاً؟»(18).
    الصورة ـ كما يُقدمها الروائي ـ قاتمة: فالأسرى في حالة كئيبة،حيث الأيدي ملطخة بالسواد، والدماء متخثرة. وتشير هذه الصورة إلى جراح الهزيمة التي كان يُعاني منها الأسرى، وكأنها لا تكفي، فنرى الخوف يُطاردهم ويهددهم بالمصير المظلم، حيث القتل البارد على أيدي جنود العدو. وما أقسى أن يموت الجندي المُقاتل ـ في غير معركة حقيقية ـ صبراً بأيدي عدوه.
    (يتبع)
    *
    الهوامش:
    ....................
    (1) د. طه وادي: دراسات في نقد الرواية، ط2، دار المعارف، القاهرة 1993م، ص3.
    (2) انظر د. طه وادي: الرواية السياسية، ط1، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة 1996م، ص35.
    (3) د. عبد المحسن طه بدر: الروائي والأرض، ط1، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1971م، ص32.
    (4) ولد فؤاد حجازي في الحسينية بالمنصورة في 8/12/1938م. وحصل على الثانوية العامة عام 1956م، والتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة في العام نفسه، وفُصل منها عام 1959م. شارك في حرب 1967م، وأُسِر فيها، وقضى في سجن عتليت بإسرائيل ثمانية شهور. عمل في مهن مختلفة. أسس عام 1968م سلسلة "أدب الجماهير" في المنصورة، التي أسهمت في حل مشكلة النشر أمام الأدباء الجدد، ونشرت أكثر من مائة عمل. أصدر تسع روايات، وست مجموعات قصصية، وعدداً من المجموعات القصصية والروايات للأطفال، وله مسرحيتان، كما أصدر كتاباً في النقد التطبيقي بعنوان "أوراق نقدية"، وله كتاب يضم فصولاً من سيرته الذاتية بعنوان "أوراق أدبية". (من لقاء شخصي للباحث مع فؤاد حجازي ـ المنصورة، الأحد 15/8/1999م).
    (5) عبد المنعم عبد القادر: قراءة في رواية الأسرى يُقيمون المتاريس، فصل من كتاب "لقاء مع الزمن المستباح"، سلسلة "أدب الجماهير"، المنصورة 1989م، ص58.
    (6) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي: الفضاء، الزمن، الشخصية، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1990م، ص17.
    (7) أرسطو: فن الشعر، ترجمة: إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1989م، ص114.
    (8) د. حسين علي محمد: التحرير الأدبي: دراسات نظرية ونماذج تطبيقية، ط2، الرياض 1421هـ-2000م، ص 290، 291.
    (9) د. عبد الحميد القط: يوسف إدريس والفن القصصي، ط1، دار المعارف، القاهرة 1980م، ص244 (بتصرف).
    (10) د. حسين علي محمد: التحرير الأدبي، ص304، 305.
    (11) السابق، ص296، وانظر: عزيزة مريدن: القصة والرواية، دار الفكر، دمشق 1400هـ-1980م، ص25.
    (12) د. عبد الفتاح عثمان: بناء الرواية: دراسة في الرواية المصرية، ط1، مكتبة الشباب، القاهرة 1982م، ص43.
    (13) د. محمد أبو الأنوار: دور الوصف في البناء الفني القصصي، مجلة «الثقافة العربية» (ليبيا)، مارس 1976م، ص78.
    (14) د. رشاد رشدي: فن القصة القصيرة، ط2، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1964م، ص115، 116.
    (15) فؤاد حجازي: الأسرى يُقيمون المتاريس، ط5، سلسلة «أدب الجماهير»، المنصورة 1995م، ص3، 4.
    (16) الرواية، ص4.
    (17) الرواية، ص4، 5.
    (18) الرواية، ص11.


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الحدث في الرواية السياسية

    الحدث في الرواية السياسية
    رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي نموذجاً (2 ـ 7)

    بقلم: أ. د. حسين علي محمد
    .................................

    ومن خلال المفارقة التصويرية يُرينا أحد الأحداث بشاعة الحرب، وعدم إنسانية العدو، فهذه مجندة تطلب من المهزومين الجرحى أن يُغنوا لها في عرس انتصارها:
    «حضرت فتاة قصيرة بدينة لاح من قسمات وجهها أنها كانت ستبدو جميلة ولكن لسبب ما أخطأها الجمال. سألت: تسمعون «فريد»، لم يجب أحد. طلبت من زميل لنا كان مصاباً بمقذوف ناري في إحدى خصيتيه أن يغني لها إحدى أغنيات فريد. قال بصوت متحشرج: «قسمة، قسمة)» ومع ما نحن فيه فقد كادت الضحكات تفلت منا، والزميل مع ما يعاني منه ابتسم والدمعة تفر من عينيه، ولما أدركت الفتاة ما في صوته من تهكم خجلت من نفسها وانصرفت»(1).
    وفي اختيار الجندي لأغنية فريد الأطرش «قسمة» ما يشي بأن الجندي كان يعزي نفسه بأنه مقسوم عليه أن يغني لأعدائه في انتصارهم عليه!!
    (3)
    يحاول أدب الحرب ـ بجانب تصويره لبشاعة الحرب ـ أن يبرز روح التحدي والمقاومة، وهذا ما نجده في رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس»، حيثُ نقرأ في منتصفها، عن صمود الأسرى، بعد أن شُحنوا في سيارات إلى سجن الأسرى بعتليت، وبعد أن تجاوزوا أحزان الانكسار والهزيمة، حيث يدور حوار بين الأسرى وميخا أحد قواد العدو في معسكر الأسرى حينما أراد أن يقص رؤوس الأسرى عقاباً لهم، بعد معركة محبس المياه التي قادها زكريا:
    «بعد مشادة كلامية رضخ على مضض، وهو يقول:
    ـ أنتم يا جماعة نسيتم أنكم سجناء .. أسرى.
    أجبناه وعجبه يزداد:
    ـ نحن لسنا أسرى يا ميخا .. نحن مقدمة للجيش المصري في عتليت»(2).
    وقد بدأ السارد بتصوير نقل الأسرى من الأماكن التي أُسِروا منها في سيناء إلى إسرائيل، مشيراً إلى العذاب الذي لاقوْه، والقتل الذي كان من نصيب من لا تحظى إجاباته على أسئلة المحققين الإسرائيليين بالقبول. يصف السارد لقاءه بالمأسورين المرضى:
    «حكوا لنا بالهمس عما لاقوه، جرّدوهم من ملابسهم. استجوبوهم. أطلقوا النار على من لم تعجبهم إجابته. كالعادة: لا ماء، ولا خبز. أنزلونا من العربات. جردونا من الأحذية. صافحت أقدامنا قضبان السكك الحديدية الباردة. تعثَّر بعضنا في قطع الزلط والحصى … قال جندي إسرائيلي، وهو يطلب منا أن نُسرع: في الكتاب عندنا مكتوب: لا تأمن عربيا، العربي خائن»(3).
    ويصور السارد الأسرى بعد أن وصلوا إلى المعتقل، وهم يعانون من جراحهم التي طال عليها العهد، دون أن تُعالج:
    «انتظرنا أن يُضمِّدوا جراحنا، وطال انتظارنا ثمانية أيام كاملة. كنت أرى جروح زملائي قد نتنت، وزحفت الديدان على أذرعهم وأجسادهم. كان ذلك يُصيب البدن بقشعريرة، والنفس بتقزز. وكنت أعلم أن جرح كتفي مثلهم، لذلك كنتُ أعاف النظر إليه، وإن كانت رائحته النتنة تملأ خياشيمي في بعض الأحيان كنتُ قرفانا من نفسي جدا»(4).
    ولكن سرعان ما يتماسك السارد والأسرى بعد أن بدأ علاجهم على أيدي الأطباء المصريين الذين أُسِروا أيضاً، فقد قال لهم الإسرائيليون: «هاكم جرحاكم، فعالجوهم»، و«بذل الأطباء جهداً مذهلاً كبيراً دون أدوات جراحية تُذكر، ودون أية أدوية تخدير، ودون أية مضادات للجراثيم»(5).
    وخلال ذلك كانت تتبدّى المقاومة من خلال أحداث سريعة، يسوقها المؤلف في جمله القصيرة اللاهثة، التي تُشبه أسلوب البرقيات، ومن ذلك نتوقف أمام مقطعين:
    *«بين شجيرات الخروع على يمين الذاهب إلى رفح كان هناك كان يرقد شاب مصري، يُطلق عليهم رشاشه. رصاصه لا يُلحق أذى بالدبابات والمدرعات، ولكنه يرفض التسليم. طلبوا منه أن يُلقي سلاحه بمكبرات صوت صغيرة يحملونها في أيديهم. أحضروا له من يكلمه بالعربية. تقدموا إليه من كل جهة وهو يرد عليهم بإطلاق الرصاص»(6).
    *«في رفح فتشونا، وألقونا على ظهورنا. شهروا رشاشاتهم وطبنجاتهم في وجوهنا. علا صياحهم، وكثر جذبهم لأجزاء الرشاشات في محاولة لإخافتنا. أطلقوا النار فوق رؤوسنا. ولكن وجوهنا أبداً صامتة»(7).

    (4)
    ولأن رواية «الأسري يقيمون المتاريس» رواية سياسية، فإننا نجد السارد يتخذ من الحدث وسيلة للنقد السياسي، فيتخذ من حدث إذاعة خبر كاذب أذاعته مكبرات صوت المعتقل عن استقالة الرئيس جمال عبد الناصر وسيلة لنقد عبد الناصر وإبداء رأيه في إدارته للحرب وأدائه لها: «أذاعت مكبِّرات الصوت المثبتة على أعمدة التليفونات بجوار المعسكرات المختلفة نبأ قصيراً: «الرئيس المصري «ناصر» الذي تسبب في حرب الأيام الستة (كما يُطلقون على حرب يونيو) قدّم استقالته». نسبوا النبأ إلى مصادر بيروت الصحفية، والتزموا الصمت.
    لماذا أشاروا إلى الحرب وقد مرت عدة شهور؟ أتراهم يريدوننا أن نعتقد أن إسرائيل قد أرغمته على الاستقالة، أو على الأقل هي أحد الأسباب الرئيسية لذلك أم يُريدون إشعارنا أنهم يتحكّمون في قدر شعبنا، أم ينقلون إلينا إحساسهم بالشماتة في رئيسنا المصري الذي صال بالكلام وجال، وعند النزال أصدر أمره بالانسحاب، ثم بطريقة غير منظمة، أدّت إلى قتل عدة آلاف، وجرح أضعافهم، وأسْر الآلاف، وتشرذم باقي الجيش، وضاعت سيناء. لست أدري بالضبط. كل ما أدريه أننا جميعاً استشعرنا الإهانة»(8).
    والتعليق هنا ـ أو الخروج من الحدث إلى إبداء الرأي ـ مبرر، فالسارد يُبدي رأيه في شخصية سياسية فاعلة، كانت وراء ما هم فيه من هزيمة مرة في سيناء، وأسْر في معتقل «عتليت» بإسرائيل.
    وبعد الفقرة السابقة نرى رد الفعل، فقد قام الأسرى بمظاهرة رافضة لهذه الاستقالة، وكأن الاستقالة تعني على المستوى الفردي ضياع الأسرى، وعلى المستوى الوطني تكريس الهزيمة، ولم تكتف المظاهرة بالهتاف بحياة الرئيس المصري رمزاً للصمود والمقاومة، وإنما هتفت ـ أيضاً ـ بسقوط رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت (ليفي أشكول)، ووزير الحرب (موشي ديان):
    «ما أن أذيع النبأ حتى أصبحت أنفاسنا حارة جميعا حارة لافحة، وكادت أجسادنا تتقد، ورؤوسنا تنفجر،ودون تفكير لما قد يترتّب عليه ما سنفعله، وجدنا أنفسنا نتجمع، ونغلي كالمراجل. أحضرنا صفائح السمن الفارغة من المطبخ .. وفي الحال سارت المظاهرات في كافة المعسكرات، كأنها بتدبير سابق، ودوّت الهتافات:
    ـ ناصر .. ناصر..
    ـ يسقط أشكول .. (رئيس وزرائهم).
    ـ يسقط ديان .. الموت للسفاح ديان»(9).
    لقد كان هذا الحدث مقدمة لمشهد المقاومة الذي أقام فيه الأسرى متاريس، ومنه أخذت الرواية عنوانها(10). ولا نستطيع أن ننقل مشهد المقاومة كاملاً، وسنكتفي هنا بجزء منه:
    «رسمنا النجمة الإسرائيلية على فانلة بيضاء، رفعنا هذا العلم ثم أحرقناه. عادت الهتافات المدوية بسقوط ديان، فلم يملك جنودهم أعصابهم. انطلقت الأعيرة النارية، وكأنما كنا ننتظر هذا، صنعنا سريعاً من فانلة علماً مصريا … صنعنا ساري العلم من يد مقشة. سرعان ما ارتفع العلم، واشتدت المظاهرات عنفاً رغم طلقات الرصاص. من الغريب أن جميع المعسكرات فعلت مثلنا، وفي وقت واحد تقريباً. الأمر الذي أفزعهم، وجعلهم لا يستطيعون التصدي لكل معسكر على حدة. زادوا عدد المدرعات داخل المعسكر، وكثرت حركتها لإرهابنا»(11).
    وقد لاحظنا في الأحداث السابقة أنَّها صوّرت الهزيمة التي جاءت نتيجة طبيعية لعدم استعداد القيادة للحرب، كما صوّرت مُعاناة الجنود المصريين وتخبطهم عندما اشتعلت الحرب، وقد قتل الإسرائيليون الكثيرين منهم، وأُسِر بعضهم في ظروف غير إنسانية.
    ولم تتحسن الظروف إلا نتيجة لمقاومة الأسرى، وقد كانت مقاومة الأسرى بعد أن استوعبوا الهزيمة نفسيا، وحاولوا أن يتصدوا لها حتى لا تتسلل إلى أرواحهم.
    ***

    المبحث الثاني
    الأحداث والشخصيات

    (1)
    للشخصيات دورها المؤثِّر في بناء الرواية السياسية، فهي التي تقوم بالأحداث، وتؤثر فيها، وأفعالها في الرواية ـ ما بين أفعال وردود أفعال ـ هي التي تُحدد مضمون الرواية، وترسم خطابها.
    و«إذا كان الإنسان أهم ثنائية في هذا العالم، فإن السرد فضاء لكل ثنائيات العالم، ففيه يتم فصل الخطاب، ويحضر الإنسان رجلاً كان أم امرأة، ويتخلّق العالم وجهاً آخر للحياة في كل تجلياتها. فعندما يتوتر الواقع يأتي السرد ليدون اختراقاته عبر تشريح الواقع، وفضح خطاباته المؤدلجة. وإذا كان السرد تمثيلاً للواقع، فإنه ليس تمثيلا آليا، بل إنه تمثيل له غاياته ودلالاته»(12).
    والشخصيات ضرورية حيث «لا يكفي الحدث وحده في تأليف قصة ما، بل لا بد من وجود الشخصية التي تدور القصة معها أو حولها، بحيث تبث الحركة فيها، وتمنحها الحياة»(13)، ولكي تتضح «الدوافع التي أدّت إلى وقوع الحدث، لا بد من التعرف على الأشخاص الذين قاموا بالحدث، والحدث في حد ذاته: هو تصوير الشخصية وهي تعمل، فلا يُمكن الفصل بين الشخصية والحدث»(14).
    وشخصيات فؤاد حجازي في هذه الرواية مستمدة من الواقع، ولا نعني بهذا أنها مصورة من معايشته ومعرفته، ومصورة من سيرته الذاتية في معتقل الأسرى بـ«عتليت»، ولكننا نعني بالشخصيات الواقعية أن ينجح الكاتب في إيهامنا أن من يتحدث عنهم ويصفهم إنما هم شخصيات واقعية، وأنه ينجح ـ كذلك «في إيهامنا بأننا نشهد واقع الحياة الفعلي، لحكم شدة المُشابهة بين ما يوضح المؤلف وبين واقع الحياة الفعلية»(15).
    وقد حاول فؤاد حجازي من خلال رسمه لصورة بضعة عشر شخصاً من الأسرى أن يصور مأساة الهزيمة ووقعها الثقيل على نفوسهم، ثم محاولتهم التماسك، فالتصدي لجنود العدو ومحاولة بطشه بهم، فالمقاومة … حتى العودة لأرض الوطن بعد قرابة ستة أشهر. ومن ثم نرى شخصية الأسرى الجماعية تبرز في هذا السياق، ويبرز ضمير الجمع «نا» كشخصية اجتماعية تقاوم، وتُقيم المتاريس الواقعية والنفسية. وهنا يصدق كلام الدكتور شفيع السيد عن فن الرواية على أنه يصور «مشكلات هذا الواقع وهمومه على مستوى طبقة اجتماعية كاملة، وليس على مستوى الفرد، فالشخصية فيها لا تمثل فرداً يعيش أزمته الخاصة، وهمومه الذاتية بعيداً عن التفاعل مع أحداث البيئة الاجتماعية والتأثر بها، وإنما هي أقرب إلى النموذج الاجتماعي الذي يحمل خصائص طبقة اجتماعية بذاتها، ويُعبر عن أفكارها وقيمها»(16).
    (2)
    يرى أرسطو في نظريته للمحاكاة أن المأساة هي أساساً محاكاة لعمل ما، ولذا كان من الضروري أن توجد شخصيات تقوم بهذا العمل، وتكون لكل منها صفات فارقة في الشخصية والفكر تنسجم مع طبيعة الأعمال التي تنسب إليها، وفي هذا الإطار الأرسطي «تكون طبيعة الأحداث هي المتحكمة في رسم صورة الشخصية وإعطائها أبعادها الضرورية والمحتملة، وتُصبح المأساة لا تُحاكي عملاً من أجل أن تُصور الشخصية ولكن بمحاكاتها للعمل تتضمّن محاكاة للشخصية من حيث صفاتها الأخلاقية، وما تعبر عنه من حقائق »(17).
    ويقول هيوم «نحن نستمتع في أثناء عملية القراءة بالصور والشخصيات التي تتماثل مع الموضوعات التي نجدها في زماننا الخاص ومكاننا الخاص، أكثر مما عداها من صور ومكونات»(18).
    وقد قدّم فؤاد حجازي في روايته عدداً من الشخصيات التي من الممكن أن نقابلها في حياتنا، فهي شخصيات منتزعة من البيئة الشعبية التي عاشها وخبرها
    ولم يقدِّم فؤاد حجازي شخصياته من خلال الوصف ـ كما يفعل نجيب محفوظ مثلاً(19) ـ وإنما يمتزج الوصف عنده بالحدث، تستوي في ذلك الشخصية الرئيسة ـ وهي في هذه الرواية شخصية السارد ـ والشخصيات الثانوية.
    ولنأخذ على ذلك أمثلة للشخصية الرئيسة، وهي شخصية السارد:
    لقد فأجأته الحرب التي لم يكن مستعداً لها، وقد قُدِّر له أن يعيش بعد أن مات زملاؤه ليروي لنا هذه الرواية:
    «لم نكد نبحث عن موقع نتحصَّن فيه حتى هاجمنا صف من الدبابات لا يقل عن مائتين، وظل يقصفنا حتى صباح اليوم التالي. كانت فرصتنا في عمل شيء معدومة؛ فتسليحنا الشخصي لا يزيد عن الرشاشات القصيرة والبنادق. وكنت أشكو من جرح في كتفي الأيمن، وبجواري رفاق خرجت أمعاؤهم، وبُترتْ سيقانهم. ومازالوا يتكلمون ويأملون. طلبنا من المعافين أن يذهبوا ناحية البحر ويتركونا لمصيرنا. بعد تردد فعلوا. ولم تلبث الدبابات أن تعقّبتهم، ولم نعد نسمع عنهم شيئاً»(20).
    وبعد أن وقعت الهزيمة نجد السارد يلوم نفسه، لموت زملائه، ويكشف لنا من خلال مجموعة من الأحداث الصغيرة أنه كان مخدوعاً وشارك في خداع الجنود ممن هم أقل ثقافةً ومعرفةً منه:
    «كنت ألوم نفسي لموت متولي وأحمد الزرقا وإبراهيم الجل. ألم أطمئنهم مراراً أننا أقوى من إسرائيل. كنت أقرأ الجرائد وكان فيها الكثير الذي يشهد بتفوقنا، حتى يوم المعركة حين بدأ الهجوم، كنت أقول لهم: أين نحن وأين هم؟! .. قواتنا مثل الأرز، في الخطوط الأمامية. وأذكر أني بعد نطقها مباشرة طب قلبي. طافت بذهني ذكرى الأيام الأولى من يونيو، عند ما كنا نرى قطار العريش عائداً ومحملاً بالدبابات، كانت الدهشة تعترينا جميعاً، ولما لم يرد أحد على تساؤلاتنا، اعتقدنا أن دبابات أخرى مازالت في الخطوط الأمامية. ألم نر بأعيننا في أيام سابقة نفس القطار يشحن دبابات كثيرة في اتجاه رفح؟ ولا تسل عن الغبطة والثقة بالنفس اللذين يحدثان لفرد المشاة حين يرى مدرّعة تسبقه، ولم نكن ندري وقتها .. أننا «المشاة» .. الخطوط الأمامية»(21).
    ورغم أن الرواية على لسان الراوي، إلا أننا يمكننا أن نعتبره راوياً / شاهداً «وهو راو حاضر لكنه لا يتدخّل، لا يُحلل إنه يروي من الخارج، عن مسافة بينه وبين ما ـ أو من ـ يروي عنه. مثل هذا الراوي هو بمثابة العين التي تكتفي بنقل المرئي في حدود ما يسمح لها النظر، وبمثابة الأذن التي تكتفي أيضاً بنقل المسموع في حدود ما يسمح به السمع. وظيفة هذا الراوي هي التسجيل. وإن استخدام أسلوب الراوي / الشاهد تتطلب مهارة عالية من الروائي»(22).
    (يتبع)
    *
    الهوامش:
    ....................
    (1) الرواية، ص13.
    (2) الرواية، ص28.
    (3) الرواية، ص16.
    (4) الرواية، ص25.
    (5) الرواية، ص25.
    (6) الرواية، ص10.
    (7) الرواية، ص11.
    (8) الرواية، ص53.
    (9) الرواية، ص53.
    (10) انظر المشهد كاملاً في الرواية، ص54-58.
    (11) الرواية، ص54، 55.
    (12) د. حسن أحمد النعمي: غواية السرد: قراءة في المقامة البغدادية لل&


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الحدث في الرواية السياسية

    الحدث في الرواية السياسية
    رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي نموذجاً (3 ـ 7)

    بقلم: أ. د. حسين علي محمد
    ..................................

    (3)
    أما الشخصيات الثانوية، فهو يقدمها أيضاً من خلال الوصف الذي يمتزج بالحدث، ولنأخذ مثالاً على ذلك طريقة رسمه لأربع شخصيات، هي: الشيخ جمعة، وأحمد الزرقا، وبدر سليمان، وإبراهيم.
    قد يُمثِّل تقديم الشخصية من خلال الحدث أحياناً قصةً قصيرةً جدا، يقدم من خلالها صورة لشخصية من الشخصيات، ومن هذه الأحداث ما يحكيه عن رحلة المُعاناة داخل عنبر السجن في معسكر الأسرى في الذهاب إلى دورة المياه المتمثلة في إناء من الصفيح «جردل» يقضي فيه الأسرى حاجتهم: «الذاهب في الليل إلى مدخل العنبر حيث جردل البول لا يُصدِّق أنه عاد من رحلته سالماً»(1).
    ويوضِّح ذلك من خلال حدث دال، يقدم من خلاله شخصية «الشيخ جمعة»: «بالقرب من الباب ينام الشيخ جمعة منكمشاً حول نفسه، وخلفه مباشرة جردل البول. كل صباح يُبدي عجبه لأنه مازال حيا يرزق، ولستُ أدري ما الذي كان يُحبب الشيخ في هذا المكان. سنحت فرص عديدة لكي ينتقل إلى داخل العنبر، ولكنه رفض … راضياً أن يؤم المسلمين من مكمنه. ذات مرة كان يقرأ القرآن بعد صلاة العشاء وفجأة دوّت طلقات الرصاص بالقرب منه، فسكت على الفور وانبطح أرضاً. غرقنا جميعاً في الضحك، وسألناه أن يقرأ ولا يخاف، ولكن حياته عنده كانت أغلى من توسلاتنا»(2).
    ويعقب على ذلك الحدث بقوله: «بعدها ظللنا نُعايره بهذه الفعلة»(3).
    وفي تصوير الروائي لشخصية «أحمد الزرقا» يمتزج الوصف بالحدث، يقول في تقديمه:
    «هو تاجر خضر ريفي، من أظرف من قابلتهم في حياتي، تعرفت عليه في «قمة فايد» قبل تحركنا إلى سيناء. من لحظتها لم نفترق قط. هوايته أن يؤم المقاهي، يغادر مقهى ويذهب إلى آخر مباشرة، كأنه واجب مفروض عليه، وعن طريق ارتياد المقاهي معه تعرفت بـ«قمة فايد»، وقضينا عصوراً رائعة على مقهى مواجه للبحيرة، نحتسي الكاكاو، ويقص عليَّ حكايات عن زوجته وأهلها وعن زبائن تجار الخضر» (4).
    إن الوصف هنا يتداخل مع الحدث في تآزر عضوي حميم، فقد تعرف عليه السارد في مقهى، ثم لاحظ حدثا متكررا «يغادر مقهى ويذهب إلى آخر مباشرة، كأنه واجب مفروض عليه»، وعن طريق هذا الحدث المتكرر استطاع أن يدلف إلى داخل هذه الشخصية، معبراً ـ من خلال حدث آخر ـ عن كرمه:
    «يصر على دفع الحساب في «معلمانية»، ظل على ذلك حتى انتهى القليل الذي معه، فقد أخذوه فجأة من السوق دون أن يتمكّن من الاتصال بأهله، عرضت ما في جيبي عليه، أصر على أن ما يأخذه يكون قرضا»(5).
    ويقول عن حبه للتدخين: «كان مدخنا عظيماً، وله في وجهه مدخنتان قلقتان لا تهدآن إلا إذا انسابت الخيوط الفضية منهما»(6).
    ولأن أحمد الزرقا كما قال السارد في فقرة سابقة: «أخذوه فجأة من السوق دون أن يتمكّن من الاتصال بأهله»(7)، فكان من الطبيعي لجيش يتكوّن من أمثاله ـ الذين لم يُتح لهم التدريب الحقيقي والقيادة الحقيقية ـ أن يخرج من المعركة مبكراً، وأن تتناثر أشلاؤه ـ كما يصورها السارد ـ في مشاهد محزنة(8)، وقد مات أحمد الزرقا عندما اشتعلت الحرب، ويصف السارد مشهد موته بقوله: «أثناء خروجي من المحطة رأيت أحمد الزرقا ومتولي على الأرض، كأنهما كانا سيتعانقان لولا أن فاجأهما الموت»(9).
    ومن الشخصيات الثانوية شخصية «بدر سليمان» الذي يعبِّر من خلاله الراوي عن توق الأسرى للعودة إلى مصر، وحلمهم الدائم بالرجوع إلى بلادهم حيث أهلوهم ومواطن أحلامهم.
    وبدر سليمان ـ الذي كان قبل تجنيده «يعمل محصلاً في النقل العام بالإسكندرية»(10) ـ نجد الروائي يقدمه من خلال حدث دال، وهو توقه للعودة إلى مصر، حيثُ يُشيع «بدر» بين الأسرى أحياناً أنهم سيعودون إلى مصر، ويُمثل استعداده للعودة بجمع حاجياته ويطلب من الآخرين أن يجمعوا حاجياتهم، ولأنهم لا يستجيبون لندائه يعود أدراجه إلى عنبر الأسرى:
    «كان يحلو لبدر سليمان أن يقف عند باب العنبر، ويصيح:
    ـ يا «أفندية» .. كل واحد يُحضر عهدته، ويطلع على البوابة.
    وبالفعل يذهب، ويُحضر ما يخصه، ويجري نحو البوابة، مُحدثاً هرجاً. بعد قليل يعود وقد تفتق ذهنة عن لعبة جديدة:
    ـ يا «أفندية» .. اطمئنوا .. العربات أحضرت تعيين شهر مقدماً، ما في مشي قبل ديسمبر»(11).
    ومن الشخصيات التي قدّمها من خلال الحدث شخصية «إبراهيم» الحارس الدرزي لمعسكر الأسرى في جيش الأعداء، وقد قدمه الروائي في لوحة دالة تُشبه القصة القصيرة جدا:
    «حان موعد تغيير الحراس للمرة الثالثة. يستبدلون الحراس مرة كل شهرين. شعرنا بالألم، فهم يتغيّرون ونحن ثابتون كالجبال. وفي كل مرة كنا نُصادف بعض المتاعب:
    ـ ثانية .. نجعل الحراس يعتادون نظامنا ..؟!
    كان رقيب الحراس درزيا اسمه إبراهيم. يتكلم العربية جيدا. وذاع عنه أنه مسلم. توقّعنا منه معاملة أفضل من غيره، ولكنه تصرّف بعنجهية، كأنه حاكم عكا، وليس رقيب معسكر أسرى!. كان لا بد من جهد لتوليفه. لم ننفذ أي تعليمات أصدرها. وكان من هواة إصدار التعليمات. كل دقيقتين يمر، ويطلب منا أن ننظف أمام العنابر. يأخذ غسيلنا على الأسلاك الشائكة إلى الكشك، لأنه ممنوع نشر الملابس على الأسلاك. ظل هكذا عدة أيام. لا تريد "الهيافة" أن تُفارقه. تعمّدنا إغاظته وتنفيذ عكس ما يريده، حتى وجد في النهاية أن نظام المعسكر الذي كان متبعاً قبله على وشك أن يفلت من يده. كنا نضحك عليه وهو يمر في المعسكر عاجزاً عن فرض تعليماته، ومع ذلك يسير وأنفه الأحمر في السماء. فمه مزموم وقد قطّب جبينه، كأنه على وشك تقرير أمر خطير. في النهاية انفرجت شفتاه الرقيقتان عن شبه ابتسامة، وعدل عن مسلكه المتزمت»(12).
    وبراعة الكاتب في تصوير الشخصية كعنصر أساسي من عناصر العمل القصصي الفنية، تجعل القارئ يحس أنه قد نقل شخصياته من زمانها ومكانها المحددين إلى عوالم أخرى أكثر رحابة وأكثر صلاحية لأن تكون نموذجاً بشريا، فقد اشتبكت الشخصية ـ بكل أبعادها الخارجية والداخلية ـ مع عالم الواقع الذي نعيشه، وصوّر لنا مدى تأثرها بهذا العالم، أو تأثيرها فيه(13).
    (4)
    يرى فؤاد حجازي أن جيله أو الجيل الثالث من كتاب الرواية حفل أدبه «بالقيم الشعبية الأصيلة، مثل حب العمل، والتمسك بالأرض، ورفض الهجرة الضارة بالزراعة والتنمية، وحفلت نماذجه بكثير من صور المقاومة، مبتكراً أدوات جمالية بعيدة عن الصراخ والخطابة، وهذا الجيل هو الذي أبدع أدب المقاومة … في السجون أو في الحرب»(14).
    ويعني بـ«القيم الشعبية الأصيلة» أي أنها مستقاة من مفهوم الشعب.
    ولأنه يعي ذلك على المستوى النظري فقد حرص على أن يعبر عنه في رواياته، ومن ثم فإننا نرى الرواية تُعبر عن الرأي الجمعي للشعب في رفض الهزيمة.
    وقد اهتمت الرواية الواقعية التي شاعت في مصر ـ منذ منتصف الخمسينيات حتى منتصف الستينيات ـ قبل قدوم كتاب الرواية الجديدة ببعض القيم الأدبية التي تؤكِّد «إيجابية البطل المتحدَّر من أصول طبقة متدنية، ونبالة الفقراء وانطواءهم على ضرب فذ من الأصالة الإنسانية التي هي جوهرهم، وكأنهم مجبولون على الخير والصلابة والوفاء، برغم غرقهم في حياة عمادها السغب والعناء والجهل»(15). وقد وجدنا أثر ذلك واضحاً في رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس»، في الشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية، رغم أن كاتبنا ينتمي للموجة الجديدة من كتاب الرواية.
    وتقدِّم الرواية بعض الأحداث وكأنها تُقدِّم شخصية واحدة للأسرة، وسنتوقف أمام ثلاثة مشاهد دالة، حيث نرى الحدث يُساق عن الجمع وليس عن شخصية واحدة:
    *نتوقف أمام حدث الأسر بعد الهزيمة في حرب لم يخضها الجنود، يقول السارد ـ في بداية الفصل الثاني ـ معبراً عن الجماعة وتماسكها، وعدم إبداء ضعفها أمام إغراءات الإسرائيليين بالخبز والماء، أو تخويفهم الأسرى بالسلاح:
    «مأسورون من أماكن شتى. وجوه وأيد ملطخة بسواد. ودماء متخثرة، ضلوع محطمة، نفوس ذاهلة، أجساد متناثرة على الرمال … لم يكن أحدنا يتوجّع لأية ضربة تُصيبه. وفي رفح فتشونا وألقونا على ظهورنا. شهروا رشاشاتهم وطبنجاتهم في وجوهنا. علا صياحهم، وكثر جذبهم لأجزاء الرشاشات في محاولة لإخافتنا، أطلقوا النار فوق رؤوسنا، ولكن وجوهنا أبداً صامتة، ذاهلة، صلبة في كبرياء جريح، وألم دفين. بدأت محاولاتهم للنيل من كبريائنا الصلب الجريح، لوّحوا لنا بالماء فلم نتهافت عليه، رشوه فوق رؤوسنا وألسنتنا الجافة في حاجة لقطرات منه. أحضروا كميات من الخبز، وقسموها قطعاً صغيرة فلم يطرق لنا جفن …»(16).
    إن هذا الحدث يكشف عن المعاناة التي شملت جماعة الجنود المصريين ـ الذين هم رمز لمصر جميعاً «مأسورون من أماكن شتى»، والصورة لأول وهلة تُنبئ عن الضعف والتهالك «وجوه وأيد ملطخة بسواد. ودماء متخثرة، ضلوع محطمة، نفوس ذاهلة، أجساد متناثرة على الرمال ». لكن هؤلاء المأسورين الجرحى يشعرون أنهم لا يمثلون أنفسهم، وإنما هم هنا لأنهم جزء من مصر التي هُزمت في الحرب، ومن ثم فهم يتعالون على الأسر والجراح «لكن وجوهنا أبداً صامتة، ذاهلة، صلبة في كبرياء جريح».
    *وفي حدث ثانٍ دال بعْد الأسر بيومين نرى الأسرى يعانون من الأسر والجراح والجوع، ولكن لقمة واحدة تكفي هذه الجموع الكبيرة!، وكأن كل فرد يؤثر الآخرين على نفسه، ويشعر أن في بقائهم بقاءً له، وقدرة على مواجهة هذا الظرف الصعب:
    «بعد ما يقرب من ساعتين تقريباً ـ لست أدري بالضبط ـ فقد بدأ شعوري بالزمن يتلاشى، سمعنا صرير مزلاج العربة يُفتح، لوّحوا بالرشاشات في وجوهنا، كانوا يعرفون ماذا نريد .. أحضروا كوباً من الماء رشوه فوق رؤوسنا، شبت الأجسام في الهواء، كلٌّ يريد قطرة تقيه شر الموت، وكل هذا على حساب الأسرى الذين يتأوهون أسفل العربة. أغلقوا علينا العربة، وتركونا بحسرتنا … لكزني زميل، وأبرز لي قطعة خبز. رغم التفتيش ورغم ما تعرّضنا له من خلع الملابس … كنت أعلم أنه أحوج مني لهذه القطعة. وكأنما أدرك ما يدور في خلدي، فقال: أنت جريح، وقبل أن أقول له: وأنت؟ قال: معي قطعة … ولم تلبث هذه الكسرة أن أظهرت مخبآت أخرى. رغم البؤس والإحساس الجنائزي الذي يسيطر على الجميع رنّت ضحكاتنا»(17).
    *وفي حدث ثالث يصور إصرار الأسرى جميعاً على عدم قول الحقيقة أمام المحققين الإسرائيليين، يقول السارد:
    «أخذت مخابراتهم في استجواب أعداد كبيرة منا. سألوا عن مستوى معيشتنا في مصر، فجأة .. أصبحنا جميعاً نمتلك البوتاجازات والثلاجات والتليفزيونات. أجاب أحد الزملاء ـ وكان قد قرّر من قبل أنه لا يعرف القراءة والكتابة ـ أنه يعمل مهندساً زراعيا، وأنه يمتلك منزلاً. وسألوا أسيراً آخر عن البيت الذي يعيش فيه، فقل إنه «فيلا» فخمة، وليس بها سلم، وأنه يستعمل المصعد فقط.
    وبالرغم من ذلك فقد استمروا في الاستجواب، واستمر الأسرى في هذه الإجابات الأقرب إلى الفكاهة منها إلى تقرير حقيقة»(18).
    ومن خلال هذه الأحداث الثلاثة ـ وغيرها ـ نرى أن «الشخصية الجمعية» للأسرى كانت ماثلة في ذهن الروائي، وحظيت باهتمامه، وقدم من الأحداث ما يُضيء مواقفها، ليظهرها في صورة المتحدي للعدو، الواقف في ثبات وعدم ضعة رغم هزيمة شرسة، اجتهد الروائي في ألا يجعلها مُذلةً لأرواح الأسرى!
    ***

    المبحث الثالث
    الأحداث والزمان

    (1)
    يقول موريس نادو إن «الزمن في الرواية ليس محتوى تتكدّس فيه الأحداث، وإنما هو زمن يرتبط بنا وبحركات وجودنا»(19) وفي رأى ألان روب جرييه أن «الزمن منذ أعمال بروست وكافكا هو الشخصية الرئيسة في الرواية المُعاصرة، بفضل استعمال العودة إلى الماضي وقطع التسلسل الزمني وباقي التقنيات الزمنية التي كانت لها مكانة مرموقة في تكوين السرد وبناء معماره»(20).
    وللزمن هيمنته على الرواية السياسية، فهي تتناول أحداثا في حقبة معينة، وكانت الأحداث ستتغيَّر بالطبع لو جرت في زمن آخر.
    وتُشير رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» في أماكن كثيرة إلى الزمن، بل هي رواية زمنية ـ إن صح التعبير ـ تبدأ أحداثها من الخامس من يونيو 1967م، وتنتهي في الثاني والعشرين من يناير 1968م.
    ويُشير السارد إلى هذا اليوم الذي يصفه بـ«الحزين» في الفقرة الأولى من فقرات الرواية:
    «في صبيحة الخامس من يونيو الحزين عام 1967م، وبالتحديد في الساعة التاسعة كان جندي الشرطة العسكرية الذي يُنظِّم المرور المتجه من العريش إلى رفح ـ يمدُّ ذراعه الأيمن مشيراً إلى رفح، معترضاً بذراعه الأيسر أي عربة من الجيش مهما كانت رتب الراكبين فيها، أن تتقهقر إلى العريش، وظل هذا الجندي يؤدِّي واجبه هو وزملاؤه في الكشك المجاور على أكمل وجه، حتى جاوزت الساعة الرابعة بقليل، حينئذ أخذت دانة ملتهبة، منطلقة من دبابة، على عاتقها مهمة فتح الطريق، أزاحت الجندي والكشك، وعمت الفوضى»(21).
    (يتبع)
    ..................
    الهوامش:
    (1) الرواية، ص39.
    (2) الرواية، ص39، 40.
    (3) الرواية، ص40.
    (4) الرواية، ص5.
    (5) الرواية، ص5.
    (6) الرواية، ص5.
    (7) الرواية، ص5.
    (8) انظر الرواية ص8 وما بعدها.
    (9) الرواية، ص9.
    (10) الرواية، ص42.
    (11) الرواية، ص42.
    (12) الرواية، ص59.
    (13) انظر: توفيق الحكيم: فن الأدب، ط1، مكتبة الآداب، القاهرة د.ت. ، ص226.
    (14) فؤاد حجازي: أوراق نقدية، ط1، سلسلة مطبوعات إقليم شرق الدلتا الثقافي (28)، المنصورة 1998م، ص10.
    (15) د. محمد بدوي: الرواية الجديدة في مصر: : دراسة في التشكيل والأيديولوجيا، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1993م، ص82.
    (16) الرواية، ص11.
    (17) الرواية، ص17، 18.
    (18) الرواية، ص99.
    (19) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، ص112.
    (20) السابق، ص112.
    (21) الرواية، ص3.


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الحدث في الرواية السياسية

    الحدث في الرواية السياسية
    رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي نموذجاً ( 4 ـ 7)

    بقلم: أ. د. حسين علي محمد
    .................................

    ووصفه يوم الخامس من يونيو 1967م بـ«الحزين» مُبَرَّر؛ لأنه كان على المستوى التاريخي / الواقعي العام، مقدمة للهزيمة التي حدثت لنا على أيدي الإسرائيليين، وعلى المستوى الروائي / الخاص: مقدمة للأحداث الضاغطة والأزمنة الحزينة التي ستصوِّرها الرواية.
    ونقرأ في الفصل الأخير من الرواية: «وصلنا القنطرة شرق في حوالي الحادية عشرة من صباح الثاني والعشرين من يناير 1968م»(1).
    ونلاحظ في الفقرتين السابقتين المُقتطفتين من الرواية عناية السارد بتحديد الوقت، ليس باليوم والشهر فحسب، وإنما بالساعة أيضاً.
    ويُشير السارد إلى سطوة الزمن وقسوته في أيام الحرب بقوله: «أما هنا، فالمآسي كثيرة، متلاحقة. كل دقيقة تمر محملة بآلاف المآسي، والإنسان في حاجة لأعمار سكان مدينة هائلة ليستوعب هذه المآسي، ويتأثَّر بها»(2).
    ومن الملاحظ على الأحداث الروائية عند فؤاد حجازي ـ وبخاصة تلك التي تُشير إلى أيام الحرب الأولى (من الخامس إلى التاسع من يوليو) أن يحدد الزمان الذي يرتبط بالمكان في أحد المواقع في مصر إشارة إلى زخم الحياة، وكأن فقد المكان / الأرض ـ في زمن ما ـ يمثل الموت، أو تسرب الحياة.
    ففي الفصل الأول، الذي يقص علينا السارد ما عاناه في اليوم الأول من الحرب، وفي ليلة السادس من يونيو، حيث فلول الجنود تواجه العدو بصدورها المكشوفة دون غطاء جوي، ودون قيادة ميدانية حقيقية فاعلة:
    "في منتصف الطريق حوّمت حولنا الطائرات الإسرائيلية، فاضطررنا للانتشار في الصحراء المكشوفة .. بعد انتهاء الغارة تجمعنا، لم يكن قد بقي حيا منا إلا القليل. ركبنا العربات إلى محطة جرادة. لم نكد نبحث عن مواقع نتحصّن فيها حتى هاجمنا قول من الدبابات لا يقل عن المائتين، ظل يقصفنا حتى صباح اليوم التالي، كانت فرصتنا في عمل شيء معدومة، فتسليحنا الشخصي لا يزيد عن الرشاشات القصيرة والبنادق، وكنت أشكو من جرح في كتفي الأيمن، وبجواري رفاق بُترت أمعاؤهم، وبُترت سيقانهم ومازالوا يتكلمون ويأملون، طلبنا من المُعافين أن يذهبوا ناحية البحر ويتركونا لمصيرنا، بعد تردد فعلوا، ولم تلبث الدبابات أن تعقبتهم، ولم نعد نسمع عنهم شيئاً"(3).
    إن الليل هنا يمثل الموت، ولم ينفع الجنودَ محاولةُ الهروب إلى مواقع حصينة في موقع «جرادة»، والصحراء المكشوفة هنا تمثل عدوا آخر متواطئاً عليهم.
    وفي هذه الليلة الحزينة المكتوية بالرعب، والمشحونة بالهزيمة والموت (ليلة السادس من يونيو الحزين) يتذكر السارد زوجته وسط نيران الحرب، ويتمنى أن يعيش. فكأن المرأة تمثل الخصوبة واستمرار الحياة في مواجهة الصحراء والموت في الزمن الحزين. ويتمنى أن يعبر ليلة السادس من يونيو فكأن الزمان هنا يمثل عدواً أو عائقاً يتمنى اجتيازه (أو الهروب منه) بتذكر الزوجة، التي ترمز هنا إلى الخصوبة والعطاء في الزمن الآتي الجميل:
    "طوال الليل أسمع قصف المدافع وحركة الجنود الإسرائيليين فوق سطح الحجرة التي نرقد داخلها، وأتوقع النهاية بين لحظة وأخرى، أخذت أبتهل إلى الله أن يُنجيني، ليس من أجلي .. أعلم أني عاق .. ولكن من أجل زوجتي. أخذت أسأل الله: ما ذنبها حتى تترمّل مبكراً، وقد تزوّجنا عن حب، ولم يمض على زواجنا أربعون يوماً"(4).
    وتصور الأحداث وطأة الزمن على السارد وعلى الأسرى، وسنرى ذلك من خلال خمسة مشاهد:
    *يقول في المشهد الأول عن الجنود الذين أسرهم العدو الإسرائيلي ووضعهم في عربة قطار أنهم لم يعودوا يحسون بالزمن، فقد كانت المحنة عليهم قاسية: «طال وقوف القطار. الظلام دامس في العربات. الأجساد فوق بعضها. قدم هذا تحت رأس ذاك. ذراع شخص جريح يدوسه آخر دون قصد. صيحات الجرحى تملأ المكان. العطشى جن جنونهم. الاختناق يعصف بالجميع. عربات القطار صغيرة، تسع الواحدة على الأكثر عشرين رجلاً، ولكنهم كدسوا في كل عربة ما لا يقل عن مائة وثمانين رجلاً ... كنا نشعر أننا سنموت على أي حال … بعد ما يقرب من ساعتين تقريباً ـ لست أدري بالضبط ـ فقد بدأ شعوري بالزمن يتلاشى، سمعنا صرير مزلاج العربة يُفتح»(5).
    *ويقول في المشهد الثاني عن الجنود الذين أُسِروا بعدهم، ووصلوا إلى معسكر الأسرى بـ«عتليت» بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر: «رغم أنهم قبضوا عليهم بعدنا بعشرة أيام على الأكثر إلا أننا كنا نسمع منهم في شغف عظيم الأخبار التي سمعوها في تلك الآونة. ومع أن هذه الأخبار قد مرّ عليها ثلاثة أشهر على الأقل، إلا أننا كنا متلهفين لأخبار مصر تلهف السائر في الهجير إلى شجرة ظليلة»(6).
    وتكشف المفارقة بين ثلاثة أشهر وعشرة أيام عن وقوف الزمن (أو عدم جدوى حركته وتدفقه)، فها هم الأسرى يسمعون الأخبار التي مرَّ عليها ثلاثة أشهر وكأنها أخبار جديدة، وكأن لم تجئ بعدها أخبار تتجاوزها أو تُلغيها في زمن ضاغط هو زمن الحرب، لليوم فيه ـ بل للساعة ـ قيمة كبيرة في إعداد العدة للحرب، وانتصار الجيوش أو هزيمتها.
    *وفي المشهد الثالث يُرينا السارد وقع الزمن على الأسير، فلزمن الشتاء حضوره الضاغط عليهم، إن السارد هنا يصوره في صورة ضيف ثقيل حل بالأسرى الذين طالما خافوا من قدومه:
    «نهرب من فكرنا ومن الشتاء الذي حل كضيف ثقيل طال ترقبه»(7).
    *وفي المشهد الرابع نرى السارد يقدم لنا حدث قدوم الشتاء ـ من خلال الوصف ـ الذي يمتزج فيه الحدث الزماني (لقدوم الشتاء) بالوصف المكاني لعنبر الأسرى في «عتليت»، حتى نستطيع أن نرى نفسيات هؤلاء الأسرى من خلال المساحة الكبيرة التي يمتزج فيها الحدث بالوصف:
    «اشتد عصف الرياح وانهمر المطر طول الأسبوع دون انقطاع، فنحّينا باللائمة على من نزعوا الشبابيك. وكان لا بد من علاج سريع، وضعنا مكان الشبابيك «كرتون» صناديق العلب المحفوظة الذي جلبناه من المطبخ، كما فردنا الصحائف واستعملناها في هذا الغرض. وأول يوم أمطرت فيه السماء كان بمثابة محزنة عامة. ها قد جاء اليوم الذي كنا نرتعد لمجرد ذكره»(8).
    فتوحي «طول الأسبوع» بطول معاناة الأسرى من حدث سقوط المطر الذي كان يُشكل مشكلة عليهم، ويؤكد هذا بقوله «دون انقطاع». والجملة الختامية توضح وقع حدوث المطر على نفوسهم، فهو نازلة كئيبة عليهم «ها قد جاء اليوم الذي كنا نرتعد لمجرد ذكره».
    *وفي المشهد الخامس نرى الحزن الذي أحدثه قدوم شهر رمضان الكريم على الأسرى في معتقلهم بإسرائيل بعيداً عن أرض الوطن:
    «توتَّرت أعصابنا قليلاً حين تيقّنا أننا سنقضي رمضان هنا لا محالة، وبدأن نُوطِّن النفس على ذلك. وثمة حقيقة أخرى كنا نهرب منها، فمن يقضي رمضان هنا سيقضي العيد أيضاً، خشينا أن نُواجه بعضنا بعضاً صراحة بذلك … أول ليلة من رمضان كانت محزنة، كل فرد تمثل أهله، واختلج خاطره بذكريات عزيزة: لمة الأسرة حول الطبالي والترابيزات في انتظار انطلاق مدفع الإفطار، وأطايب الطعام، خاصة الكنافة المحشوة بالبندق أو السوداني والزبيب وشراب قمر الدين، والتمر المنقوع في اللبن أو الماء، والسهر والسمر حتى موعد السحور مع الأصدقاء. والمسحراتي يضرب بطبلته مستأنسا بدبيب أرجل المارة، وشعاعات الفوانيس الملونة المعلقة بين شرفات البيوت بعرض بعض الحارات، ومسلسلات وبرامج الإذاعة والتليفزيون .. انخرط بعض الأسرى في بكاء صامت، كنا نفيق من حالة فنُواجه بأخرى … كنا نتوقع أكثر من ذلك في العيد»(9).
    (2)
    ورغم أن لغة الكاتب في سرده تعتمد على نقل مفردات الواقع إلى نصه المُنجَز فإننا نلحظ شعرية اللغة في مشاهد قليلة تتخلل الرواية، ومنها هذا المشهد الذي يقول فيه عن ليْل الأسر، بعد أن تخلّصوا من المُضايقات التي كان يُسببها لهم الحراس من العدو:
    «الآن وقد رأينا بهاء السماء وعمقها اللانهائي تذوب فيه الجبال على البعد، ورأينا الغروب على سفوح الكرمل، شمس آخر النهار الهادئة تشطف الجبل من أدران النهار، وترسل شعاعات شفافة، تكسب خضرة الجبال الداكنة الراسخة جلالاً مهيباً، وتبعث في النفس إحساساً بالهدوء والسكينة والسمو والأسى.
    وبعد فترة وجيزة تسقط الشمس في البحر الذي لا نراه؛ فكأنما تسقط في المجهول، عاكسة بقايا ظلالها الحمراء .. فيشع من الجبال نور باطني، يبذل محاولة غير مجدية لتأجيل المساء، وظلمة الليل لا تتمكن من الجبل؛ فثمة منازل متناثرة بين جنباته لا نستطيع تمييزها في سطوع ضوء النهار، تضيء نوافذها بنور، لا يكسر من حدة الظلمة بقدر ما يتيح لك أن ترى ستارة الليل السوداء، وتكثر الأضواء، وتتنوع على سفوح الكرمل الشمالية حيث تربض حيفا متحفزة لأن تقفز في البحر. وثمة قوس من الأنوار يزداد انحداره كلما اقترب من الشاطئ، وفي نهايته صف من المصابيح تكوّن فيما بينها عقداً صغيراً، كأنه حبات من اللؤلؤ. وفي وسط الأضواء تنبض ألوان حمراء وخضراء تُدغدغ أعطاف الليل»(10).
    ونقصد بالشعرية في النص السابق اللغة التي يوردها الروائي في نصه متجاوزاً بها حدود الزمان والمكان والشيء الموصوف نفسه. وقد رأينا في هذه القطعة التي يتقاطع فيها المكاني / مع الزماني شاعرية اللغة تتمثل في «بهاء السماء»، و«تذوب فيه الجبال على البعد»، و«شمس آخر النهار الهادئة»، و«تسقط الشمس في البحر الذي لا نراه»، و«ستارة الليل السوداء»، و«يشع من الجبال نور باطني» … وغيرها.
    وهناك نبع آخر من الشعرية يتدفّق بهدوء صامت في مثل هذه الرواية «لا يستمد عذوبته من فصاحة الكلمات، ولا من صليل الإيقاع اللغوي الجهير، وإنما من موسيقى الحياة الأليفة، وهي تغمرك بضباب حلو من تفصيلات حية تتفتح عنها ذاكرتك وأنت تمتزج بها وأنت تقرأه فتحقق بينك وبينه درجة عالية من «التماهي» يُساعد عليه ضمير المتكلم عندما يعبر عنك وهو يصف موقفه وشخوصه بصدق بالغ»(11).
    ومن ذلك قول السارد عن عنبر الأسر في الليل:
    «كثيراً ما كان الحراس يتضايقون من تهريجنا وضحكنا داخل العنابر ليلاً، فيرمون بقطع من الحجارة فوق صفوف العنابر، ولما كانت صدئة وبها خروق كثيرة فقد خشينا أن تسقط قطعة منها، فتفلق دماغ أحدنا. ولكن من حسن الحظ أن السقوف مخروطية مضلعة، مما كان يُساعد على تدحرج الحجارة»(12).
    ومنها أيضاً هذا المشهد الذي يختلط فيه الزماني / مع المكاني، وهي عن عنبر الأسرى في الشتاء:
    «لم يخل الشتاء من فائدة. استرحنا من غسيل بدر. كان بدر يمد سلكاً بين عنبرنا وعنبر 1. ينشر عليه غسيله، ويجلس بجوار العنبر. كل شخص يمر تحت الغسيل يصيح فيه:
    ـ حاسب يا أخي ..
    ـ عُدْ من هناك ..
    ويا ويل من تلمس رأسه الغسيل أو يُزيحه بيده إلى جانبه كي يمر. يهب فيه كأنه لوّثه بإشعاع ذري»(13).
    (يتبع)
    .............................
    الهوامش:
    (1) الرواية، ص109.
    (2) الرواية، ص9.
    (3) الرواية، ص3.
    (4) الرواية، ص2.
    (5) الرواية، ص17.
    (6) الرواية، ص42.
    (7) الرواية، ص85.
    (8) الرواية، ص85، 86.
    (9) الرواية، ص94، 95.
    (10) الرواية، ص62، 63.
    (11) د. صلاح فضل: أساليب السرد في الرواية العربية، سلسلة «كتابات نقدية»، العدد (36)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1995م، ص65.
    (12) الرواية، ص41.
    (13) الرواية، ص87، 88.


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الحدث في الرواية السياسية

    الحدث في الرواية السياسية
    رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي نموذجاً (5 ـ 7)

    بقلم: أ. د. حسين علي محمد
    .................................

    المبحث الرابع
    الأحداث والمكان

    (1)
    لا يُراد بكلمة المكان في الرواية «دلالتها الجغرافية المحدودة، المرتبطة بمساحة محدودة من الأرض في منطقة ما، وإنما يُراد بها دلالتها الرحبة التي تتسع لتشمل البيئة وأرضها، وناسها، وأحداثها، وهمومها وتطلعاتها، وتقاليدها، وقيمها. فالمكان بهذا المفهوم كيان زاخر بالحياة والحركة، يؤثر ويتأثَّر، ويتفاعل مع حركة الشخصيات وأفكارها كما يتفاعل مع الكاتب الروائي ذاته»(1).
    ومما لاشك فيه أن الأحداث التي تتعلّق بمكان ما، قد يتعذَّر أو يستحيل حدوثها في مكان مُغاير، فالحدث الذي يدور على سفينة في البحر يختلف عن غيره الذي يكون في صحراء، عن ثالث يكون في مدينة تمور بالحركة والحياة، ومعنى هذا أن الحدث الروائي «لا يُقدَّم إلا من خلال معطياته الزمانية والمكانية، ومن دون هذه المعطيات يستحيل على السرد أن يؤدي رسالته الحكائية»(2).
    ولذا «يجب أن يهتم الكاتب القصصي بتحديد المكان اهتماماً كبيراً ليعطي الحدث القصصي قدراً من المنطق والمعقولية... كذلك ينبغي أن يعنى الكاتب بتصوير مفردات المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات، لأن القارئ قد يستشف من هذا التصوير دلالات كثيرة، تفسر أو تعمق أموراً تتصل بالحدث أو بالشخصيات أو بهما معاً»(3).
    والمكان لا يتشكل في الرواية ولا يأخذ شكله الروائي إلا من خلال ما يرتبط به من أحداث «وليس هناك أي مكان محدد مسبقاً، وإنما تتشكّل الأمكنة من خلال الأحداث التي يقوم بها الأبطال … وعلى هذا الأساس فإن بناء الفضاء الروائي يبدو مرتبطاً بخطة الأحداث السردية، وبالتالي يُمكن القول إنه هو المسار الذي يتبعه تجاه السرد، وهذا الارتباط الإلزامي بين الفضاء الروائي والحدث هو الذي سيُعطي للرواية تماسكها وانسجامها … إن المكان هو أحد العوامل الأساسية التي يقوم عليها الحدث»(4)، ولن تكون هناك رواية ما لم يكن هناك مكان ما يلتقي فيه شخص بشخص، ويقع فيه حدث ما، تحتاجه الحبكة الروائية والموضوع الروائي.
    فالمكان «لا ينفصل عن أشيائه، فهي التي تملؤه، وتمنحه ذلك الثراء الذي يتميَّز به مكان عن آخر»(5). ويرى كثير من النقاد أن المكان يرتبط بالأشياء التي توجد فيه، و«ليس مستقلا عن نوعية الأجسام الموجودة فيه»(6).
    وقد صوّر فؤاد حجازي المكان تصويراً أخاذاً يمتزج فيه الحدث بالغاية من القص، وهو إبراز جمالية المكان مع ملاحظة المعنى الذي يُريد الإلحاح عليه، وهو أنه هناك أرض لا بد من الدفاع عنها وهي أرض الوطن، والدفاع لن يكون سهلاً، وهناك أرض فلسطين التي يحتلها العدو ويسجن فيها أسراه، كما يُذيق الفلسطينيين أصحاب الأرض من العذاب ما لا قبل لبشر بتحمله.
    وتشترك رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» مع بعض قصص مجموعته «سلامات» (التي صدرت طبعتها الأولى في نوفمبر 1969م) في البيئة المكانية، حيث تدور معظم قصص المجموعة حول حرب 1967م، والمكان بالطبع هو شبه جزيرة سيناء.
    يقول فؤاد حجازي على لسان السارد في قصة «سلامات» من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه:
    «طال بنا المسير في وديان سيناء المجهولة لنا، وباشر الجوع والعطش عملهما بهمة، كنا ننظر في إشفاق إلى صديق وهو يضمحل ويذوي يوماً بعد يوم، وعلة جرحه تثقل عليه .. حتى جاء يوم سقط على الرمال الملتهبة من الشمس، ولم تشفع له سنوات عمره، التي لم تتجاوز التاسعة عشرة»(7).
    وسيناء في النص السابق تمثل المكان المجهول للجنود، الذي يُشكل بطبيعته القاسية مهاداً للحرب، وللهزيمة والموت!
    (2)
    ارتبطت الأحداث بالمكان في الرواية من عنوانها، ومن أول فقرة فيها إلى آخر فقرة.
    فحينما نقرأ العنوان «الأسرى يُقيمون المتاريس» ستتخيّل الذاكرة مكاناً يُقيم فيه مأسورون، ولكنهم لا يستسلمون لعدوهم، ولا يجعلون لهذا المكان الذي يقيمون فيه بأرض العدو ـ أو يهيمن عليه في حالة «إسرائيل» فهي مغتصبة أرض فلسطين ـ لا يجعلون لهذا المكان هيمنةً على نفوسهم، أو قهراً لأرواحهم، أو نفياً للحرية التي يحلمون بها.
    وتتوزع الأمكنة التي تحتل فضاء الرواية من الضفة الشرقية للقناة إلى أرض فلسطين المحتلة، التي اغتصبها العدو الإسرائيلي.
    ويحتل الوصف المكاني لعنبر الأسرى في «عتليت» مساحة كبيرة يمتزج فيها الحدث بالوصف كما في هذا المشهد:
    «بعد أن غيّرت جرحي عدة مرات، جعلت أقضي نهاري خارج العنبر وبدأت أدرك ما يُحيط بي. كان المعسكر الذي نُقيم فيه يحتل مساحة كبيرة تقترب من عشرين فداناً. في المقدمة مكاتب الضباط والإداريين والمستشفى، تُجاورها حديقة صغيرة، ثم عنابر من الطوب الأحمر لمبيت جنودهم. في مواجهة العنابر أرض نمت فوقها الحشائش في إهمال. على حافتها مخازن المعسكر وحجرة الإذاعة. يحف بهما ممر فرعي يؤدي إلى طريق طويل رئيسي يقسم المعسكر كله إلى قسمين. على جانبي الطريق عنابر خشبية، سقفها من الصاج المضلع، مخروطية الشكل. كل سبعة أو ثمانية عنابر تُشكِّل معسكراً صغيراً، ومُحاطة بأسلاك شائكة، ولها بوابة خاصة مُعيَّن لها حارس برتبة رقيب وجنديان، ومعهم تليفون. وغير مسموح بالاتصال بين المعسكرات. وكل معسكر صغير مُحاط بأربعة أبراج عالية، في كل منها حارسان، مع كل منهما رشاش قصير. ومن الفتحة أعلى السلم يتراءى لنا على أرضية البرج مدفع «براوننج» جواره صندوقان من الذخيرة. وأعلى البرج كشاف سهل الحركة يُحيل الليل ظهراً. والبرج مجهز بتليفون. والطريق الذي بين المعسكرات يؤدي إلى طريق آخر يلف حول المعسكر كله من الخارج. تجوب فيه ليل نهار عربات جيب مجهزة بمدافع المكنة واللاسلكي. وفي كل عربة داورية من ثلاثة أفراد. وعند أي لغط في أي معسكر نجد إحدى هذه العربات وقفت أمامه، وإن كان الوقت ليلا تسلط ضوء كشافها فيحفر طريقاً في الظلام …»(8).
    ونلاحظ أن هذا الوصف التفصيلي للمكان واتساعه وكثرة أجزائه، وشدة المراقبة من حولـه، يوحي بمفارقة تُبرز لنا ضيق السارد وإحساسه بالضياع، كما قد يوحي من طرف آخر ببداية الوعي بتفاصيل المكان التي سيحاول الأسرى التغلب عليها في المستقبل في إضراباتهم، ومحاولة نفر منهم الفرار إلى مصر، عن طريق لبنان. كما يوحي لنا أيضاً بملمح من ملامح الرواية الجديدة التي تقدِّم لنا الإنسان غريباً في عالم لا يأبه به «ذلك لأن العالم أشياء صلدة لا تعرف العاطفة … ومن ثم فالإنسان غريب، في عالم الأشياء الصامتة الفاقدة للحس»(9).
    ونلاحظ أن وصف المكان هنا جاء من خلال حدث هو شفاؤه من جراحه التي صاحبته فترة، والتي قال عنها في فقرة سابقة: «انتظرنا أن يُضمدوا جراحنا، وطال انتظارنا ثمانية أيام كاملة. كنت أرى جروح زملائي قد نتنت، وزحفت الديدان على أذرعهم وأجسادهم، وكان ذلك يُصيب البدن بقشعريرة، والنفس بتقزز. وكنتُ أعلم أن جرح كتفي مثلهم، لذلك كنت أعاف النظر إليه، وإن كانت رائحته النتنة تملأ خياشيمي في بعض الأحيان. كنت قرفاناً من نفسي جدا»(10).
    وقد اهتم الروائي هذا الاهتمام بالعنبر لأنه المكان الرئيس في الرواية، الذي سيشهد حياة الأسرى اليومية خلال ستة أشهر ـ هي فترة الأسرـ وقد جرت أحداث كثيرة في هذا العنبر، رواها في مشاهد عديدة، منها أربعة مشاهد نتوقف أمامها:
    *في المشهد الأول يُبيِّن كراهية الأسرى للمكان (السجن / عنبر الأسرى) من خلال حدث يتكرر من بدر الذي ينزع شبابيك المعسكر ليشعلها، :
    «كان بدر وقد أطلقنا عليه لقب «الله يكرمه» يُحضر لنا شاياً وسكراً من مخازن مزراخي، وفي كل مرة اعترضتنا مشكلة الوقود كان «الله يكرمه» يقوم بنزع ضلفتي أقرب شباك إليه، وبزاوية حديدية يكسرهما، ويشرع في إعدادهما للاشتعال، وتفنن زميل لنا في صنع مواقد من الصفائح الفارغة … ولو ترك بدر وشأنه لهدم العنبر … وبالفعل كان على وشك هدم العنبر، فقد أشعل نصف نوافذه رغم تحذيرات الزملاء:
    ـ يا بدر .. الشتاء قادم وسنموت من البرد.
    لا يهتم، فيضطر كل من يرقد تحت شباك أن يحافظ عليه، أو على الأقل ينزعه لحسابه، فاستدار بدر يأخذ من شبابيك عنابر أخرى. وعندما تنبّهوا له وشددوا الخناق عليه، نظر لعنبرنا كأنه يراه لأول مرة، واكتشف أن العنبر مصنوع من الخشب، وأن السقف مليء بمراين خشبية، وشرع على الفور في العمل، رغم احتجاج رقيب العنبر. واجه الجميع قائلاً:
    ـ يا عم، اسكت أنت وهو .. هذا مال أعدائنا»(11).
    إن شخصية «بدر» ـ كما قدمها الروائي ـ نموذج للأسرى الذين لم يتكيفوا مع المكان، بل يواجهونه بكراهية ونفور؛ ومن ثم فقد أخذ ينزع الشبابيك ليشعلها ويصنع شاياً فوقها، ويبرر لنفسه أن ما يفعله لا يستحق تقريع زملائه، لخوفهم من برد الشتاء القادم إذا فاجأهم وهم بلا نوافذ تمنع عنهم عن البرد، ويقول إن «هذا مال أعدائنا»، أي لا يجب علينا المحافظة عليه.
    *وفي مشهد ثان يبين لنا السارد كيف كان المكان عدوا آخر لهم، من خلال تصوير حال المعسكر عندما قدم فصل الشتاء:
    «اشتد عصف الرياح وانهمر المطر طول الأسبوع دون انقطاع، فنحّينا باللائمة على من نزعوا الشبابيك. وكان لا بد من علاج سريع، وضعنا مكان الشبابيك «كرتون» صناديق العلب المحفوظة الذي جلبناه من المطبخ، كما فردنا الصحائف واستعملناها في هذا الغرض. وأول يوم أمطرت فيه السماء كان بمثابة محزنة عامة. ها قد جاء اليوم الذي كنا نرتعد لمجرد ذكره. جاء وقد تهرأت «الزنانيب» وهُددنا بالحفاء مرة أخرى .. ومتى؟ .. في عز المطر .. وأرض المعسكر طينة تحيلها المياه إلى طبقة جلاتينية، تصلح ملعباً رائعاً لهواة الزحلقة، وتحوّلت الطرقات بين العنابر إلى جداول صغيرة، ترتفع حيناً حتى تصل المياه إلى شقوق الخشب من أسفل، نسارع إلى نزحها بعيداً، محاذرين أن يصل الماء إلى مستوى رؤوسنا ونحن نيام. وكانت خروق السقف تسمح للمطر بغزو العنبر، تتجمّع في أحد الأركان يكون سقفه خالياً من الخروق نوعاً ما، ونظل طوال الليل نجفف المياه المتسربة، وننزحها بعيداً ناحية باب العنبر .. حتى يغلبنا النعاس»(12).
    وقد لاحظنا في المشهد السابق ـ الذي يمتزج فيه الحدث بالوصف ـ أن المكان هنا (عنبر الأسرى بعتليت) يمثل عدوا لا يقل شراسة عن العدو الصهيوني، فالأرض صارت بحيرة من الطين، والمطر «يغزو» المكان الذي يؤويهم، فكأنه عدو آخر عليهم مقاومته وإعداد العدة لمواجهة أخطاره!!
    (يتبع)
    .........
    الهوامش:
    (1) د. عبد الفتاح عثمان: بناء الرواية، ص59. (بتصرف).
    (2) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، ص29.
    (3) د. طه وادي: دراسات في نقد الرواية، ص36، 37.
    (4) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، ص29.
    (5) خالد حسين حسين: شعرية المكان في الرواية الجديدة، العدد (83)، سلسلة «كتاب الرياض»، الرياض 2000م، ص209.
    (6) د. محمود محمد عيسى: تيار الزمن في الرواية العربية المعاصرة، ط1، مكتبة الزهراء، القاهرة 1991م، ص5.
    (7) فؤاد حجازي: سلامات، ط2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، المنصورة 1999م، ص17.
    (8) الرواية، ص26، 27.
    (9) د. محمد بدوي: الرواية الجديدة في مصر، ص118، وانظر: آلان روب جرييه: نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف، القاهرة د.ت، ص38.
    (10) الرواية، ص25.
    (11) الرواية، ص ص65-67.
    (12) الرواية، ص86.


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الحدث في الرواية السياسية

    الحدث في الرواية السياسية
    رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي نموذجاً ( 6 ـ 7)

    بقلم: أ. د. حسين علي محمد
    ..................................

    *وفي مشهد ثالث يصف أثر المطر على الأسرى غير مُغفِلٍ لجمالية المكان، الذي يصف فيه جبلاً فلسطينيا (هو جبل الكرمل)، ومدينة فلسطينية محتلة (هي مدينة «حيفا») وصفاً جماليا يمتزج فيه حدث الحبس بسبب المطر بحبس الأسرى، مع تصوير انعكاس ذلك على نفسياتهم، متحدثاً بلسان الجماعة، فكأن السارد هنا ـ كالشاعر الجاهلي ـ صوت الجماعة المعبر عنها:
    «ومع أننا رممنا السقوف فلم نسلم من المطر. أحياناً يتغيّر اتجاه الريح فيسقط المطر بزاوية مائلة .. عندئذ تنشع جدران العنابر بالماء، ويتسلّل عبر الفجوات البسيطة بين ألواح الخشب.
    حبسنا المطر والريح داخل العنابر، فلم نكن نخرج طول النهار إلا للضرورة القصوى كإحضار الطعام أو الذهاب إلى دورات المياه العائمة، والتي أصبح استعمالها مغامرة خطيرة. وكان الجو غائماً دوماً والضباب الرمادي يحف بالجبل كالمظلة، والأمطار تهطل دون انقطاع أياماً متتالية، والكرمل يبدو بعد كل مطرة وقد ازداد رقة ورهافة، أما حيفا فكان الضباب يحجبها عن أعيننا أياماً متتالية، ثم تعود إلى الظهور شيئاً فشيئاً، مع انقشاع الضباب. وأحياناً يظللها الغمام ونراها من بعيد في سماء صحوة، ومع توقعنا لهطول المطر عندنا نجد حيفا على صفائها»(2).
    *وفي المشهد الرابع ما يدل على شدة كراهية الأسرى للمكان؛ فقد حاولوا تهريب بعض زملائهم أثناء حفل سمر أقاموه «التفت حلقة من الأسرى حول نفسها. أنشد أحدهم موالا بلديا. نهض وسط الحلقة راقص ماهر أخذ يهتز وهم يصفقون له على الواحدة. استرعى الغناء والتصفيق أنظار الحراس فوقفوا يُشاهدون. جذبت الحلقة المتنامية انتباه حراس البرج القريب فأسندوا ذقونهم على حافته واندمجوا مع الرقص البلدي … وبينما المرقص والغناء على أشدهما زحف أسير في خفة هر بين الحشائش في اتجاه الأسلاك الشائكة التي تفصل معسكر الضباط عن معسكرنا، رفع الأسلاك الملامسة للأرض مسافة قدم وثبت تحتها قطعتين من الخشب على مسافتين متقاربتين ... ظللنا حتى الصباح وكأن أرواحنا مشدودة على أوتار كمان استفسرنا عن المدنيين بالإشارة فتحركت أيديهم وتكلمت عيونهم أن الأمر سار على ما يرام ... »(1).
    وتمثل الفقرة السابقة حدثين ارتبطا بكراهية الأسرى للمكان والنفور منه، إنهم يستحضرون البهجة المفتقدة بالغناء والرقص ـ لهذا المكان الذي ينفي البهجة والسعادة ـ وفي الوقت نفسه يتسلل ثلاثة من الضباط هرباً من المعسكر (أحدهم فلسطيني من مواليد حيفا، ويعرف المنطقة جيدا)(3).
    وإذا كان لعنبر الأسرى (أو ما يُمكن أن نسميه المكان / العدو) هذه القبضة الخانقة، فقد حاول الجنود أن يتكيفوا معه من خلال أحداث أشارت لها الرواية، كاحتفالات يقيمونها(4)، أو مجلة يُصدرونها(5)، أو تكوين لجان فنية ورياضية يتغلبون من خلال أعمالها على الملل الذي يُحاصرهم:
    «تكوّنت في المعسكر لجان رياضية وفنية. تولت اللجنة الرياضية تنظيم دوري للكرة الشراب بين العنابر، وعينت هيئة حكام. وخصصت جوائز للفرق الفائزة ولأحسن لاعب … وتكونت فرق تمثيلية في كل عنبر وأنشأت لها مسرحاً في ربع منه، ولعبت روايات كثيرة، بعضها سبق أن شاهدناها في مصر، وأدخلنا تعديلات عليها، وبعضها مؤلف في الأسر»(6).
    (3)
    وقد تستدعي ذاكرة السارد مكاناً مشابهاً للمكان العدو، ليوازن بينهما، مثلما قال عن سجون مصر بعد وصفه لمعتقل الأسرى في «عتليت»: «ولكن السجون في مصر مشيدة بالحجارة، ولا ينفذ منها الرصاص. وفي سجون مصر لا يطلقون الرصاص إلا فيما ندر. تقضي في السجن فترة عقوبة طويلة، فلا تسمع صوت طلقة واحدة. والسجين في مصر يزوره أهله أسبوعياً، ويستطيع بين حين وآخر أن يأكل طعاماً من منزله، وفي السجن يمارس بعضهم أي رياضة يريدها، بل وبعضهم يمارس هوايات كالموسيقى والتمثيل، وبعضهم يعمل نساجاً أو نجاراً بأجر، وفي السجن مكتبة فلا يضيع الوقت كله هدراً. وأهم من ذلك، أنه يعرف يوماً محدداً يخرج فيه إلى الحرية، مهما كانت جريمته ... أما نحن فمحرومون من هذا كله، ولا نعرف يوماً محدداً للسفر. فمن الجائز جداً أن نعود للوطن غداً. ومن الجائز أن نعود بعد سنوات طويلة. وقد لا نعود أبداً»(7).
    ***
    وإذا كانت المكان / العدو يمثل ضغطاً وقهراً وحزناً، فإن المكان / في أرض مصر، بعد مغادرة معسكر الأسرى يمثل شعوراً جميلاً بالفرحة والسعادة، يجعل السارد غير قادر على الكلام.
    وفي نهاية الرواية نرى الراوي عائداً من الأسر، يسجل لحظةً لا تنسى، يختلط فيها تصوير الحدث بالإشارة إلى معالم المكان، وليشي الحدث بسعادته التي تمثلت في عدم قدرته على الكلام أو التعبير عن مشاعره الفيّاضة وهو يعود إلى وطنه، ويستبدل بالكلام إطلالة الدموع من عينيه!:
    «ومن الضفة الشرقية لقناة السويس رأينا علم بلادنا يرفرف في الضفة الغربية، اختلجت أبداننا، وطفرت الدموع من عيوننا دون إرادتنا .. لم نعد نحس بشيء حولنا سوى أننا نرى الوطن على بعد خطوات … وفي نقطة وهمية في عرض قناة السويس تدفق الدم حاراً في عروقي، وجرفتني انفعالات فيّاضة .. عصاني الكلام … ودموعي أطلّت من مقلتي»(8).
    ويمتزج في الفقرة السابقة الحديث عن العام بالحديث عن الخاص فقد بدأ الفقرة بقوله «ومن الضفة الشرقية لقناة السويس رأينا علم بلادنا يرفرف في الضفة الغربية» ويتوالى التعبير عن الجماعة في «أبداننا، عيوننا، إرادتنا …»، لينتقل الحدث إلى التعبير عن السارد بياء المتكلم حتى نهاية الفقرة «تدفق الدم حاراً في عروقي … جرفتني … عصاني … مقلتي».
    (4)
    تتراوح الأمكنة التي تجري فيها الأحداث بين المكان المغلق والمكان المفتوح ، وإذا كان المكان المفتوح في النص لا يُمكننا مساءلته فإن المكان المغلق يشي في الرواية بالموت والنهاية القريبة، فكأن المكان المغلق في الرواية يرمز إلى الموت، أو يقدم للقارئ سجناً نفسيا آخر، ومن هذا الفضاء المغلق محطة «جرادة» التي قضت فيها فلول الجنود ليلة السادس من يونيو 1967م:
    «جاء الليل غير هياب، احتل العدو المحطة التي أرقد فيها مع خمسة من الجرحى. نصبوا المدافع فوق رؤوسنا تماماً ووجهوها ناحية البحر. تلفت حولي أفتش في الظلام ، وجدتُ وجوهاً لم أتبيّن ملامحها. وكان زملاؤنا قبل رحيلهم قد تركوا لنا بعض الذخيرة في فناء المحطة، امتدت لها نيران الحرائق. ظلت تنطلق دون توقف على فترات متباعدة. وكان في الفناء بعض دجاجات، ملك لعمّال المحطة فيما يبدو، تركوها وهم في عجلة من أمرهم، وبين كل دانة وأخرى تصيح الدجاجات المذعورة صيحات يائسة، وبين حين وآخر نسمع صيحات إحداها وقد تحشرجت، وتصمت الأخريات كأنما تمنح لها الفرصة لتنتهي في هدوء»(9).
    إن موت الدجاج هنا معادل موضوعي للموت الذي يتربّص بالجنود، ومقدمة للنهاية الكئيبة التي تمثلت في موت معظم الجنود وأسر القليل منهم. والفقرة تكشف كلماتها عن المعاناة النفسية الرهيبة التي عاناها الجنود داخل المحطة في هذه الليلة، وانتظارهم أن يحل الموت بهم بين لحظة وأخرى.
    ومن هذا الفضاء المغلق أيضاً: القطار الذي نقلهم من سيناء إلى المعتقل. يقول السارد في بداية الفصل الرابع من الرواية مصورا تململ الأسرى من القطار / الثابت / المغلق، الذي لا يتحرك، والذي أصابهم بالاختناق والضيق، وجعلهم يبدون استياءهم ويُعلنون عن تذمرهم:
    «طال وقوف القطار. الظلام دامس في العربات. الأجساد فوق بعضها. قدم هذا تحت رأس ذاك. ذراع شخص جريح يدوسه آخر دون قصد. صيحات الجرحى تملأ المكان. العطشى جن جنونهم. الاختناق يعصف بالجميع. عربات القطار صغيرة، تسع الواحدة على الأكثر عشرين رجلاً، ولكنهم كدسوا في كل عربة ما لا يقل عن مائة وثمانين رجلاً ... كنا نشعر أننا سنموت على أي حال، فما ضر أن نموت ونحن نرغب في الحياة؟ القادرون منا دقُّوا بأكفهم جوانب العربة الخشبية، ولم تلبث الدقات أن ترددت في باقي العربات في رتابة جنائزية. لم يعد دوي الرصاص ينال منا. ازددنا صياحاً وازدادت تموجات الأجساد داخل عرب السردين المغلقة، وعلا سباب الجرحى. الأجسام يفري بعضها بعضاً»(10).
    خاتمة

    أصبحت الرواية السياسية العربية تحتل حيزاً كبيراً من الإبداع الروائي المُعاصر.
    وتطمح الرواية السياسية أن تعبِّر عن هموم الشعب تعبيراً فنيا مؤثراً، وتصور مراحل كفاحه ضد المستعمر، وتطمح أن تكون ضمير الشعب في نضاله المرير، وتطلعه إلى التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي.
    وإذا كان لعنصر من عناصر البناء الروائي هيمنة في الرواية السياسية، فهو عنصر الحدث؛ حيث يقوم الحدث بدوره المؤثر في تحديد الإطار الموضوعي، والفني من خلال إبراز القضايا التي تريد الرواية طرحها، وتصطنع لذلك الشخصيات التي تقوم بدورها المنوط بها.
    ولأن معرفة البيئة الزمانية والمكانية ضرورية لفهم الواقع وما يدور فيه من وقائع، فإن الحدث الذي يعبر عن سلوك الأشخاص ويُشير إلى القيم التي يمثلونها لا بد أن يكون مستوعباً المقومات العامة للبيئة الزمانية والمكانية، فلا يخرج عنها، ولا يقحم فيها ما لا يوافقها.
    وقد رأينا ذلك تطبيقيا من خلال رواية فؤاد حجازي «الأسرى يُقيمون المتاريس» التي كتبها من واقع تجربة حقيقية له كأحد الجنود الذين وقعت عليهم الهزيمة في 1967م، والذين عانوْا في معسكر الأسرى بـ«عتليت» في إسرائيل سبعة أشهر ونصف، قبل أن يعودوا إلى أرض الوطن.
    وقد أفاد الروائي من هذه الظروف التي عاناها، وقدّم لنا رواية سياسية مكتنزة، توهِمُنا ـ في فنية مقتدرة ـ بالحقيقة، وتشهد لصاحبها بالصرامة في البناء البالغ الإحكام، وفي لغة تطمح أن تتصف بالدقة، وتبتعد كثيراً عن المجاز، وتكاد تكون مثالاً نموذجيا للرواية السياسية.
    ................
    الهوامش:
    (1) الرواية، ص87.
    (2) الرواية، ص71، 72.
    (3) الرواية، ص72.
    (4) انظر احتفال الأسرى بعيد ميلاد ابنة بدر، الرواية ص34.
    (5) انظر حديث الراوي عن مجلة «اللقاء» التي أصدرها الأسرى، الرواية، ص82.
    (6) الرواية، ص81، 82.
    (7) الرواية، ص45.
    (8) الرواية، ص110.
    (9) الرواية، ص4.
    (10) الرواية، ص17.


  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: الحدث في الرواية السياسية

    الحدث في الرواية السياسية
    رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي نموذجاً ( 7 ـ 7)

    بقلم: أ. د. حسين علي محمد
    ..................................


    المصادر والمراجع

    أ-كتب:
    أرسطو:
    1-فن الشعر، ترجمة: إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1989م.
    آلان روب جرييه:
    2-نحو رواية جديدة، ترجمة: مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف، القاهرة د.ت.
    توفيق الحكيم:
    3-فن الأدب، ط1، مكتبة الآداب، القاهرة د.ت.
    حسن بحراوي:
    4-بنية الشكل الروائي: الفضاء، الزمن، الشخصية، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1990م.
    د. حسين علي محمد:
    5-التحرير الأدبي: دراسات نظرية ونماذج تطبيقية، ط2، مكتبة العبيكان، الرياض 1421هـ-200م.
    خالد حسين حسين:
    6-شعرية المكان في الرواية الجديـدة، العدد (83)، سلسلة «كتاب الرياض»، الرياض 2000م.
    ديفيد ديتشس:
    7-منهج النقد الأدبي، ترجمة: د. محمد يوسف نجم، مراجعة: د. إحسان عباس، ط1، دار صادر، بيروت 1967م.
    د. رشاد رشدي:
    8-فن القصة القصيرة، ط2، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1964م.
    د. شاكر عبد الحميد:
    9-التفضـيل الجمالي، سلسلة «عالم المعرفة»، العدد (267)، الكويت 2001م.
    د. شفيع السيد:
    10-اتجاهات الرواية المصرية منذ الحرب العالمية الثانية إلى سنة 1967م: دراسة نقدية، ط1 ، دار المعارف، القاهرة 1978م
    د. صلاح فضل:
    11-أساليب السرد في الرواية العربية، سلسلة «كتابات نقدية»، العدد (36)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1995م.
    د. طه وادي:
    12-دراسات في نقد الرواية، ط2، دار المعارف، القاهرة 1993م.
    13-الرواية السياسية، ط1، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة 1996م.
    د. عبد الحميد القط:
    14-يوسف إدريس والفن القصصي، ط1، دار المعارف، القاهرة 1980م.
    د. عبد الفتاح عثمان:
    15-بناء الرواية: دراسة في الرواية المصرية، ط1، مكتبة الشباب، القاهرة 1982م.
    د. عبد المحسن طه بدر:
    16-الروائي والأرض، ط1، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1971م.
    د. عزيزة مريدن:
    17-القصة والرواية، دار الفكر، دمشق 1400هـ-1980م.
    فؤاد حجازي:
    18-الأسرى يُقيمون المتاريس، ط5، سلسلة «أدب الجماهير»، دار الإسلام للطباعة، المنصورة 1995م.
    19-أوراق نقـدية، ط1، سلسلة مطبوعات إقليم شرق الدلتا الثقافي (28)، المنصورة 1998م.
    20-سلامات، ط2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، المنصورة 1999م.
    د. محمد بدوي:
    21-الرواية الجديدة في مصر، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1993م.
    د. محمد صالح الشنطي:
    22-فن التحرير العربي، ط4، دار الأندلس، حائل 1417هـ-1996م.
    د. محمد مندور:
    23-الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما، نهضة مصر، القاهرة د.ت.
    د. محمود محمد عيسى:
    24-تيار الزمن في الرواية العربية المعاصرة، ط1، مكتبة الزهراء، القاهرة 1991م.
    نجيب محفوظ:
    25-زقاق المدق، ط11، مكتبة مصر، القاهرة 1985م.
    د. يمنى العيد:
    26-تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، ط1 ، دار الفارابي، بـيروت 1990م.
    ب-مقالات
    د. حسن أحمد النعمي:
    27-غواية السرد: قراءة في المقامة البغدادية للحريري، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، السنة (19)، العدد (73)، شتاء 2001م.
    عبد المنعم عبد القادر:
    28-قراءة في رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس»، مقالة في كتاب «لقاء مع الزمن المستباح: دراسة في إبداع فؤاد حجازي»، سلسلة «أدب الجماهير»، المنصورة 1989م.
    د. محمد أبو الأنوار:
    29-دور الوصف في البناء الفني القصـصي، مجلة «الثقافة العربية» (ليبيا)، مارس 1976م.

    (انتهت الدراسة)


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •