احتفالية القدس: ختام موسوم بالنكران !
بقلم: تامر المصري.
لم يكن بالحسبان؛ أن تكون احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009م، أحد عناقيد الاستطلاع، ومجسات النبض الإسرائيلي، لمدى تمسك العرب بالقدس التي اختاروها عاصمة لثقافتهم، على هذا النحو من اللامبالاة والنكوص الرسمي المعلوم. ولم يكن في الوجدان؛ أن تتبدى في علائم النهاية والختام، وإشارات البداية والانطلاق، وما بينهما من مسيرة عمل شاق، تلك الدلالات التي تؤكد بما دخل حيز اليقين، أن تعيين القدس لهذا العام عاصمة للثقافة العربية، لم يكن أكثر من مجرد مجاملة لرفع العتب، لتمضي القدس وأهلها، إلى حيث ما لا يدع للعاتب أن يطلب من العرب أكثر.
فيما لم يكن في أبجدية الفلسطيني المفترضة، لحالة وصال عربي مع القدس المحتلة في محنتها، أن تكون القطيعة، عنوانا من عناوين العلاقة القائمة والصائرة، كإحدى أفصح اللوحات بين الدال والمدلول، على رقعة نسميها الانتماء .. ليبدو؛ وكأن القدس في الذهنية العربية، لا تربطها سوى الاعتباطية، عند حالة ارتجالية قومية، أجادت أن تهوي بنا كلما هويناها.
لقد انتهت احتفالية القدس كعاصمة للثقافة العربية، كما بدأت بعكس التمني، وعلى غير ما يستقيم عليه أو به الطموح، وكأنه التداعي الذي يعيد التذكير بالظروف والمسببات، التي أدت إلى ما تأبدت به الآن المدينة، من شقاء مقيم تحت الاحتلال، بكل تفانين أفاعيله العنصرية، لجهة إلغائها من قاموس العرب.
لقد غرر بنا الرجاء حد السذاجة ـ باستخدام نفس اصطلاح المشرف على الاحتفالية ـ حينما صدقنا وعودات الأشقاء العرب، بالالتزام بما أقروه ماليا، لإنجاح احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية عام 2009م، لتعزيز فرص العمل داخل وخارج المدينة، ونشر الرسالة الفلسطينية العربية المفندة لكل طروحات دولة الاحتلال، برسم يهودية المدينة، تحايلا على التاريخ والجغرافيا. وكان منطقيا في ظل سُعار الاستيطان الإسرائيلي، وما نسمعه عن إدانة عربية لهذا الموال الإلغائي، أن يطمح الفلسطيني بالنذر اليسير، من معونة تأتيه من الأشقاء، لفتح جبهة مقاومة ثقافية بالحدود الدنيا، على عدة جبهات، ومن بقاع مختلفة تتسع لخارطة شتاتنا الممتد، لترد على كل ما تدعيه الجوقات الإسرائيلية العاملة، لصالح فكرة الاستحواذ الاغتصابي بالقدس الشريف. بيد أن الأمل الفلسطيني كان محاطا على ما يبدو بسريالية عبثية، بفعل جديتنا في التصديق، لوعود هزلية، لم ترتق إلى مستوى الحدث ومخاطره .. وكأننا تمرسنا الإصغاء للوهم، ثم لا شيء بعد فقدان كل شيء.
لقد كان العنوان الذي اختارته اللجنة المنظمة، لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية، ينضوي تحت شعار "القدس توحد ولا تفرق"، وذلك في محاولة للقفز عن أية تفاصيل بينية، تتعلق بأي خط سياسي كان، قد تعطل العمل، أو تخلق شرخا في وجه العمل وصورته، على الصعيد الفلسطيني الفلسطيني، أو الفلسطيني العربي، أو الإسلامي المسيحي. بينما كانت القدس بما تتعرض له من أزمات حساسة، في تاريخ هويتها الوطنية والقومية والدينية، وإعلانها عاصمة ثقافية لكل العرب، في ظل ظروفها الاستثنائية المعاشة، أقوى نداء، يمكن أن يوجهه ملتزمون بالقدس، لمن تصورناهم ملتزمين بالقدس أيضا، كي يتخندق الجميع إلى جوارها.. ولكنها العادة؛ في ألا حياة لمن تنادي.
بكل ألم وأسف، لم يتم تنفيذ أي بند، من خطة الترويج الثقافي المقاوم لدولة الاحتلال، من أجل طباعة الكتب والمطبوعات الثقافية، التي كان مقررا لها أن تكون بالمئات، على مدار العام، تتناول بمجملها القدس كحقيقة عربية إسلامية مسيحية، يستحيل شطبها تحت وقع كل الظروف الاحتلالية، وذلك لعدم إيفاء الداعمين العرب، بما التزموا به في ذلك. كما لم يتم توفير المبالغ المأمولة لتمويل نشاطات وفعاليات على خط المناسبة، في الأماكن التي كانت تربة خصبة لذلك، دون أي مبرر أو حجة من المتنصلين من وعودهم.
لقد انتهت الاحتفالية في ميعادها، وإن لم تبدأ بفعل ظروف العدوان على قطاع غزة في ميقاتها المنصوص عليه، بعد أن حققت نجاحا، على أكثر من صعيد، ليس أوله أنها استطاعت أن تستنهض الهمم والطاقات المتبرعة، في نشر رسالتها المنشودة. دون أن ينكر أحد حجم الجهد المبذول من مؤسسات غير حكومية وقليلا حكومية، وجمعيات وجامعات وصحف ومجلات وشخصيات عامة وأفراد عاديين، على مستوى الوطن العربي ومناطق شتى في العالم، سيما الجهد المميز الذي شهدته كل من مصر والجزائر والأردن ولبنان.
نستطيع القول؛ أن احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009م، قد سجلت في ختامها، أحد أقسى مشاهد النكران العربي للقدس الشريف، سيما مع دلالات الحضور الرسمي العربي الضعيف في حفل الختام المركزي، الذي انعقد في مدينة نابلس، بعد أن تغيبت كل الدول العربية رغم الدعوات الرسمية التي تلقتها، من أجل الحضور، إلا من وفود رفيعة المستوى للمملكة الأردنية الهاشمية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة الكويت، وفقط.
إن الغياب عن مثل هذه الفعالية الخاصة بالقدس في ظرفها المعقد حاليا، لا يحتمل أي تبريرات، ولكن تهويمات ستجد طريقها للآذان إن رغب الغائبون والمتغيبون في التعقيب، ولا أنسب من يافطة رفض التطبيع مع دولة الاحتلال .. فالكل سيعلق عليها سبب التغيب أكثر من كونه غيابا.
ومن جهة أخرى، يخامرني سؤال بروح التقصي، لمعرفة سبب تغيب الشقيقة النفطية قطر، عن حضور حفل الختام، وتسلم شعلة الاحتفالية إيذانا بإعلان الدوحة عاصمة للثقافة العربية عام 2010م، كما جرت العادة وسرت الأعراف، بحضور رسمي لأي عاصمة يجيء دورها في التعيين العربي الثقافي للعواصم. وتذهب بي الأسئلة حد الغرابة، لأننا متجاوزون فعليا، ترجيح التغيب القطري انطلاقا من رفض التطبيع، كون الشقيقة قطر، من أول المطبعين إعلاميا مع دولة الاحتلال، وأول الفاتحين ذراعيها لمكتب إسرائيلي يعمل تحت غطاء تجاري، وهي كذلك الدولة العربية الوحيدة، التي حينما استبدت فيها الحمية والشهامة لنصرة أهلنا في غزة إبان العدوان، سارعت بالتنسيق السريع والسهل مع دولة الاحتلال، لإرسال مساعدات طبية عبر أحد الموانئ الجوية الإسرائيلية إلى القطاع .. ما يعني أن تغيب الحضور القطري المستوجب أخلاقيا وبروتوكوليا، عن حفل ختام احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية، يدخل في احتمالية خيارين؛ إما التعالي مع اللامبالاة، أو اللامبالاة مع التعالي .. وكلاهما الواحد يستوجبان الشكر لقطر، والشكر موصول لكل الأشقاء العرب.