قراءة في "الرّاوي: الموقع والشّكل(بحث في السّرد الرّوائيّ)" ليمنى العيد

محمّد نجيب العمامي

يتكوّن هذا الكتاب من مقدّمة وخاتمة بينهما قسم نظريّ وقراءات لنصوص دارت على مبحث الرّاوي . ومن أهمّ الآراء التي حرصت الكاتبة على بلورتها والدّفاع عنها رأيها في القراءة. فالقراءة عندها قراءتان: قراءة سلبيّة وقراءة إيجابيّة. والثّانية هي القراءة لأنّها تنتج معرفة بالنّصّ . ويتمّ ذلك بفضل تفسير النّصّ ومحاورته أي برفض التّماهي معه والذوبان فيه والخضوع لسطوته وسلطته. ولقد أثار فينا الكتاب تساؤلات هي وليدة قراءة لا تنكر ما وفّره لها الكتاب من متعـة وإفادة . وتتعلّق تساؤلاتنا بمحورين
1- العنوان الفرعيّ وعلاقته بالمدوّنة
العنوان الفرعيّ هو بحث في السّرد الرّوائيّ. ولكنّ المدوّنة شملت "أوديب ملكا" لسوفوكل وقصّة "رائحة الصّابون" لإلياس خوري. فهل يعني هذا أنّ جنس الرّواية يشمل النّصّين المسرحيّ والأقصوصيّ ؟ لقد توقّعت الكاتبة مثل هذا الاعتراض بخصوص النّصّ الأوّل فقط. فقالت مبرّرة إدراجه في كتابها: "نصّ أوديب هو نصّ كلاسيكيّ (كذا) متماسك الصّياغة مبنيّ على احترام قواعد تتعلّق بالزّمان والمكان, وتفرض, في الوقت نفسه, شوق القراءة ومتعتها. أضف أنّ هذا النّصّ يبقى وإن جاء بأسلوب الحوار المسرحيّ حكاية لها مقدّمة وعقدة وحلّ/خاتمة. لذلك فهو يقدّم مادّة طيّعة للتحليل الهيكليّ, في حين تكشف صياغته عن صعوبة في إظهار هويّة الموقع" (ص9). استخدمت الكاتبة في هذا الشّاهد مصطلح نصّ به تتجاوز مسألة الأجناس والحدود الفاصلة بينها. ولعلّنا نوافقها الرّأي لو لم تدرج مصطلحا أجناسيّا محدّدا في العنوان الفرعيّ هو "السّرد الرّوائيّ".
ثمّة إذن تجاوز للأجناس من جهة وتقيّد بها من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك أنّ الحكاية الثّلاثيّة البنية لا تخصّ الرّواية ولا المسرح وإنّما نجدها في أجناس سرديّة أخرى. وهو ما يعني أنها ليست سمة مميّزة لجنس سرديّ بعينه ثمّ إنّ الحكاية في النّصّ السّرديّ مادة خام لا وجود لها خارج الخطاب . وبما أنّ ذات الخطاب هي الرّاوي فالمدخل إلى دراسة الراوي إنّما هو الخطاب وما الحكاية مادة خاما وقولا منجزا سوى بصمة من بصمات الرّاوي العديدة.
وأخيرا يستوقفنا قول الكاتبة: "أضف أنّ هذا النّصّ يبقى وإن جاء بأسلوب الحوار حكاية". يستوقفنا لأنّ النّصّ المسرحيّ الإغريقيّ يتكوّن من قسمين متلازمين هما الإشارات أو الإرشادات الركحيّة والحوار. والقسم الأوّل هو الذي يظهر فيه جليّا ما أسمته الكاتبة باحترام قواعد تتعلّق بالزّمان والمكان أي أنّ الحكاية تستخلص من القسمين لا من الحوار وحده. وينضاف إلى هذا أنّ القسم الأوّل الذي يربط النّصّ كلاما مكتوبا بالعرض أو التّمثيل هو قسم صريح النسبة إلى الكاتب لا إلى الرّاوي.
2 - مسألة المصطلح
نخصّ بالنّظر أكثر مصطلحات الكاتبة تواترا وأغلبها يطالعنا منذ العنوان. ونبدأ بالثّلاثيّ
أ- الموقع/الرّؤية/الصّوت
الموقع, حسب الكاتبة, هو "الذي منه ينهض نصّ أدبيّ معيّن, فيكون به انتظام لغته ويكون به تكوّن فضائه أو عالمه [...] ويسمّيه البعض زاوية رؤية" (ص33). إلاّ أنّ الكاتبة تفضّل مصطلح الموقع لأنّه، في نظرها، " أكثر إحالة على هذه الهويّة الإيديولوجيّة التي له" (ص33).
هذا الوضوح في المستوى النّظريّ رافقه بعض اللّبس في مستوى القراءات. فالموقع فيها موقعُ نظر وموقع فكريّ. ولكنّه أيضا رؤية أو زاوية نظر أو وجهة نظر. فعبارة "تعدّد المواقع" الواردة في عنوان القراءة الخاصّة بميرامار لنجيب محفوظ تعني أيضا تعدّد الرّؤى أو ما يسمّيه جينات بالتّبئير الدّاخليّ المتعدّد . فما يُميّز راويا من آخر, في هذه القراءة, ليس طريقة السّرد ولا الصّياغة أو الموقف الفكريّ , إنّما هو درجة العلـم بالأحداث أو ما يُسمّى بالمـعرفة. والمعرفة من أخصّ خـصائـص التّـبئـير أو الرّؤية. تقول الكاتبة: "ما كان يعرفه عامر وجدي يبدو أنّه ليس كامل المعرفة بل جانبا (كذا !) منها هو الذي يراه من موقعه, حسني علاّم يعرف أيضا ولكن جانبا آخر")ص116).
هكذا يتقلّص الموقع إلى الرّؤية أو التّبئير. وهو ما تؤكّده الكاتبة بقولها: "في هذه
الشّبكة الأفقيّة مواقع هي زوايا نظر محدّدةٌ باللحظة الزّمنيّة لدخول الرّاوي في علاقة مع المرئيّ, يبقى الكلام تأويلاً" (ص116). وترى الكاتبة في تعدّد المواقع في ميرامار "نوعا من التّخلّي عن موقع للثّقافيّ أو عن مفهوم له يَهب الرّاوي كلّية المعرفة وهويّة البطولة" (ص117). وتعتبر هذا التّخلّي خطوة في "اتّجاه ديمقراطيّة التّعبير" (ص115).
إنّ هذا الكلام يطرح أكثر من سؤال. فهو يطابق بين الرّائي: "كلّية المعرفة" والرّاوي: "التّعبير" ويربط بين تقنية سرد وممارسة اجتماعيّة سياسيّة: "ديمقراطيّة التّعبير". وهو ربط يبدو للوهلة الأولى مغريا. فالرّؤية من الخارج تدلّ على حياد الرّاوي الرّائي والرّؤية من الخلف على تسلّط الرّاوي وديكتاتوريّته والرّؤية المصاحبة قد تشير إلى "رؤية للعالم تعلم أنّها فقدت التّحكّم في المعنى والقيم" أو قد تحيل على راو ديمقراطيّ مؤمن بحرّيّة التّعبير تحديدا. ولكن أليست المسألة, في جانب كبير منها، مسألةً فنّيّةً لا علاقة لها بأيّ بعد نفسيّ أو فكريّ ؟ ألا تعني الرّؤية من الخارج جهل القارئ والرؤّية المصاحبة سَجنَ هذا القارئ في منظور شخصيّة. فيُخطئ إذا أخطأت ويجهل ما لم تعلم ممّا قد يكون ضروريّا للفهم ؟
ولكنّ الموقع يختلف أحيانا عن الرّؤية ويُصبح مرادفا للصّوت. تقول الكاتبة: "الموقع الواحد هو الصّوت النّاطق القائل"(ص104). ولكن ألا يُمكن أن تتعدّد الأصوات والموقع واحد؟ ألا يجوز الحديث في هذه الحالة عن صوت متعدّد؟ وقد يختلف الموقع عن الرّؤية والصّوت جميعا فيبدو واقعا على خطّ التّماسّ بين النّصّ وخارجه. ولعلّ هذا التّصوّر قاد الكاتبة، من حيث لا تريد، إلى عزل الموقع عن رحمه أي عن البنية الفنّيّة التي هو أحد مكوّناتها ولا وجود له خارجها. فهي تُخضع النّصّ لموقع هو إلى خارجه أقرب إذ ترفض "تكريسه في بنيته وبالتّالي تكريس المـنـظـور الفـكـريّ الذي في النّصّ" لأنّ "احـترام النّصّ (كداخل) هـــو في وجه هامّ مــــن وجوهه إغلاق النّصّ وإخـضاع القراءة له" (ص106 ). وليس تقديم الكاتبة الموقع على الشّكل سوى ردّ فعل على تهميش المجتمع والمؤلّف سواء من أنصار ما أسمته بالمنهج الشّكليّ أو من الرّوائييّن المأخوذين بلعبة الصّياغة والواقعة رواياتهم تحت وطأة الشّغل على تقنيات السّرد وأدواته (ص125).
ب- المصطلحات المحيلة على أعوان السّرد
الكتاب, كما يدلّ عليه عنوانه, بحث في مسألة الرّاوي. ولكنّ الكاتبة استخدمت في القراءات مصطلحات عديدة مولّدة للّبس ومنها "الرّاوي" (ص80 مثلا) و"الكاتب/الرّاوي" (ص57) و"الرّاوي/الكاتب" (ص68) و"الرّاوي أو الرّاوي البطل" (ص81) و"البطل الرّاوي" (ص84) و"الرّاوي-الشّاهد-الكاتب" (ص95) و"الرّاوية" (ص 175مثلا) و"الكاتب" (ص170). وقد وردت هذه المصطلحات مترادفة حينا و متمايزة حينا آخر.ومن أمثلة الاختلاف قول الكاتبة:"والكاتب الرّاوي يتراجع إلى حدوده ككاتب يتميّز عن الرّاوي, يبتعد عنه" (ص93) وقولها: "لا يغيب الكاتب في "التّيه", لا يسترسل في لعبة الرّاوي" (ص174). ويبدو من الشّاهدين أنّ الرّاوي لم يعد كاتبا يروي ولا راويا يكتب وأنّه مختلف عن الكاتب. وهذا يتأكّد من قول الكاتبة: "الكاتب الذي يروي, يروي ويعرف أو يروي لأنّه يعرف" (ص174).
هذا الشّاهد يثير لدينا سؤالين: أليس الكاتب هو الذي يتخيّل والرّاوي هو الذي يعرف ؟ ثمّ إذا كان الكاتب يروي ويعرف فما جدوى الحديث عن الرّاوي؟ ولعلّ ممّا يعسّر التّمييز بين أعوان السّرد أنّ الكاتب, كما يُفهم من الفصل الخاصّ برواية "التّيه" لعبد الرّحمان منيف ليس كائنا نصّيّا من قبيل ما يُسمّيه البعض "الكاتب الضّمنيّ" وإنّما هو عبد الرّحمان منيف الشّخص التّاريخيّ. تقول الكاتبة: "لا يتردّد عبد الرّحمان منيف, إذ يروي, في أن يكون نطق الذين لا نطق لهم" (ص175) وتقول: "يتقدّم الكاتب راوية[...] يتقدّم الكاتب- الرّاوي" (ص175). وهكذا تنتقل المؤلّفة من العون التّخييليّ إلى العون الواقعيّ وتُلغي الأوّل وتُحلّ محلّه الثّاني دون أن تُقدّم أيّ دليل على أنّ المتكلّم في"التّيه" ليس الرّاوي وإنّما هو عبد الرّحمان منيف. ولعلّ هذا الاستبدال يُردّ إلى موقف قد يبدو, في غياب المصطلحات الدّقيقة , وهو موقف عبّر عنه في القسم الأوّل حين وقع الحديث عن"إمكانيّة استعادة النّصّ من عزلته الأدبيّة لنرى إليه كما هو في واقعه المادّيّ كتابة يُمارسها مؤلّف له وجوده في المجتمع" (ص33).
هذا ويكشف الفصل الخاصّ بميرامار لنجيب محفوظ عدمَ مطابقة الاسم للمسمّى. فالكاتبة تسمّي عامر وجدي تارة بالكاتب الرّاوي (ص120) وتارة أخرى بالرّاوي الكاتب (ص121) وتستدلّ على صفتيه بأنّه "في الرّواية صحافيّ أي هو من يكتب أي من يمكنه أن يرويَ كتابة" (ص121). ولكنّنا نرى أنّ عامر وجدي راو شأنه في ذلك شأن سائر الرّواة الذين ليسوا من الصّحافيّين. وإذا كان عامر وجدي هو الكاتب الرّاوي أو الرّاوي الكاتب فمن وضع العناوين الفرعيّة (عامر وجدي وحسني علاّم ومنصور باهي و سرحان البحيري و عامر وجدي) ؟ ومن نسّق بين الرّواة في خفاء فتقاطعت رواياتهم دون أن يُكرّر بعضها ما جاء في بعضها الآخر ؟ ألا يجوز تسمية هذا الرّاوي "الصّامت النّاطق والسّاكت المتكلّم" راوي الرّواة ؟ ثمّ أليس راوي الرّواة هو نجيب محفوظ وقد تقمّص دور الكاتب الرّاوي فغدا كاتبا نصّيّا له بالكائن الواقعيّ صلات ؟
وقد امتدّ تعدّد المصطلحات فشمل العون الواقعيّ. فإذا هو"الأديب" و"المؤلّف" و"الكاتب". ولعلّ المحيّر في هذا التّعدّد ما أقامته الكاتبة بين هذه المصطلحات من فروق لم تسع إلى توضيحها. فالكاتب هو في مواضع الرّاوي والرّاوي الكاتب والكاتب الرّاوي. وهو في مواضع أخرى غيرها جميعا, بل هو يختلف عن الأديب مثلما يظهر من هذا الشّاهد: "مع صدق التّجربة والقول يقول الأديب أحيانا ما ليس يريد الكاتب قوله"(ص33). فهل الأديب كائن نصّيّ والكاتب كائن غير نصّيّ ؟ وإذا كانا متمايزين فعلا فكيف يمكن المرور من أحدهما إلى الآخر؟
لقد لامست الكاتبة مسألة العلاقة بين أعوان السّرد التّخييليّين والواقعيّين. ولكنّ هذه المسألة تبقى بعد قراءة الكتاب قائمة برمّتها. فما هي حقيقة العلاقة التي تشدّ الكاتبَ الشَّخصَ الواقعيَّ إلى الرّاوي الكائن القصصيّ ؟ بل ما هي العلاقة مثلا بين نجيب محفوظ في المجتمع ونجيب محفوظ في النّصّ ؟ هل هذا هو ذاك أم بينهما فوارق ؟ وفي صورة وجود هذه الفوارق فأين يمكن رصدها ؟ أفي النّصّ أم خارجه أم فيهما معا ؟ وإذا كانت الاستعانةُ بخارج النّصّ ممكنةً في حالات فما العمل إذا كان النّصّ الرّوائيّ مغمورَ الكاتب مجهولَ النّسب إلى بلد بعينه أو إذا أُسقط اسم مؤلّفه وخلا من كلّ العلامات المحيلة على مكاني التّأليف والنّشر وعلى تاريخ الصّدور؟
لقد أعيت العلاقة بين المؤلّف الواقعيّ والرّاوي الكـثــير من المنظّرين. فالمؤلّف قد يُفـصح, كما فـعـل بلزاك ، عن آراء تتعارض وآراءَه ومواقفَه المعلنةَ والواعيةَ. أنذهب مذهب جينات فنقول معه إنّ الرّاوي من خارج الحكاية هو"المؤلّف كما أستخلصه من نصّه أي صورةُ المؤلّف كما يوحي بها نصّه" ؟ ولكن ألا يُمكن أن تكون هذه الصّورة خادعة مُضلّة بما أنّ المؤلّف كما يقول باختين هو الذي خلق هذه الصّورة أي أنّ هذه الصّورة"مخلوقة لا خالقة" ؟ لا نملك جوابا حاسما في هذا الصّدد. ولعلّ الكاتبة لم تساعدنا على السّير في طريق الجواب المقنع بل لعلّها ساهمت في تعقيد الأمر علينا حين أوجدت عونا سرديّا أسمته "السّامع الضّمنيّ" وهو غير القارئ. فإذا كان الكاتب (أو المؤلّف) يُناظره القارئ والرّاوي يُناظره المرويّ له وإذا كان الكاتب الضّمنيّ الذي يقول به البعض يقابله القارئ الضّمنيّ فمن يقابل السّامعَ الضّمنيَّ؟ نُرجّح أنّه صوت (أو متكلّم) ضمنيّ. ولكن من هو وما علاقته بالمؤلّف من جهة وبالرّاوي من جهة أخرى ؟
ولعلّ آخر تساؤل يُثيره فينا هذا الكتاب يتّصل بالعلاقة بين "الموقع" و"الشّكل". فالكاتبة استخلصت بقراءة نقديّة الموقعَ من النّصّ. وذلك بوصفه شكلا دالاّ وحاملا لمضامين. إلاّ أنّها في دراستها لقصّة "رائحة الصّابون" تناولت "تداخل المواقع وتبادلها وضياعها" (ص91) ومرّت إلى"الشّكل في رائحة الصّابون" (ص99) ثمّ انتهت إلى دراسة "موقع النّصّ وموقع السّامع الضّمنيّ" (ص102). فإذا كان موقعُ النّصّ وموقعُ السّامع الضّمنيّ مستخلصين من الشّكل فممّ استخلص ما سبق دراسة "الشّكل في رائحة الصّابون" أي ما ورد تحت عنوان "تداخل المواقع وتبادلها وضياعها" ؟
هذه مجموعة أسئلة خامرنا بعضها حين قرأنا الكتاب منذ أكثر من عقد من الزّمن وخامرنا بعضها الآخر ونحن نُعدّ هذه الورقة ونرجو أن تكون أرضيّة لنقاش نأمل أن يكون ثريّا ومفيدا.