ترجمة القرآن بين الممكن والمستحيل من حيث تحقيق الأمانة العلمية وأداء الرسالة الإنسانية

إعداد الباحث:
علي عبدو الإبراهيم
إجازة في اللغة الفرنسية وآدابها
بحث طويل ولكنه جد ماتع ومفيد:
إذا كان التراجمة فرسان التنوير كما يقول بوشكين، فأين تقبع مقولة الإيطاليين " المترجم خائن:"traduttore, traditore" ([1]) وأين تتوضع العبارة الفرنسية traduire, c'est trahir"" بمعنى "الترجمة خيانة " وهل تصدق هذه السمات على الجميع؟ أم أن المشكلة ليست في المترجمين فقط، بل تتجاوز حدود الإمكان البشري مهما بلغ، أمام نصوص ترقى على آناء الزمان والمكان وتعلو على الانتماء لمجموعة عرقية أو قومية وتمحو حواجز الحدود السياسية والقوقعة الفردية لأنها رسالة إنسانية بكل معاني الكلمة.
أليس ثمة معايير critères للنصوص قممها وقيعانها، دقتها وفضفضتها ما علا منها وتقدس، وما دنا منها وتدنس؟ فإن ساوينا بينها فقد دخلنا الفوضوية Anarchisme من أوسع أبوابها وكنا في غيبوبة الفكر المبنية على رفض كل قيم الحياة الحضارية باتجاه نكوص يلغي كل القيم العليا...
أليس ثمة معايير تفرق بين نصوص "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " أنزلت لخير البشرية جمعاء وبين نصوص ليس همها سوى إثارة شهوات الفروج والبطون وإمتاع الحواس الحيوانية في الإنسان في مذاهب إباحية متفلتة من كل قيد اجتماعي وكل قيمة إنسانية عليا (laisser passer,laisser faire).
أليس ثمة معايير تميز الفوارق من حيث المستوى الأسلوبي واللغوي رصانة وسبكاً أو تفككاً وضعفاً؟
أليس ثمة معايير في عوالم الأدب والعلم والفن عموماً وأنوعها المختلفة من شعر ومسرح وقصة وغير ذلك خصوصاً؟...
إن الإحصاءات الأخيرة في معايير الترجمة وحسن الاختيار مخجلة بالنسبة للأمة العربية من حيث الكيف والكم في كل المجالات العلمية والأدبية والفنية سواء تمت الترجمة من العربية إلى ألسنة أخرى أو بالعكس فإن تم شيء من ذلك فلا يصطفى منه في الجملة إلا القليل ([2]).
ثم أليس من أسس الأمانة أن نعرف المدى الذي يحق للتراجمة الدخول به على النصوص؟ وهل ما يولد لديهم من " جميلات خائنات " كما يقول الفرنسيون (les belles infidélles) هن بنات شرعيات لنصوص أمهات، وهل يجوز للتراجمة إدخال آرائهم ومعتقداتهم من حيث أمانة النقل من مرسل إلىمستقبل؟!
هل يجوز لهم الإضافة والحذف أو التحريف والتبديل، ثم كيف لهم أن يقسروا لغة على ما ليس فيها قواعدياً ولغوياً وفكرياً؟
تلك بعض من أسئلة أولى تراودنا عندما نترجم، تتوالد وتزداد عندما نعلو ونحترم المرسل والمستقبل ونحترم الرسالة التي نحن بصدد نقلها ضمن شعور تام بالمسؤولية تجاه أمانة إبلاغ الكلمة...
إن التوغل في جوهر عملية الترجمة والوقوف على سره واكتشاف الثوابت التي تتعدى اللسان المعين إلى اللغة كظاهرة إنسانية مشتركة أمر غاية في الأهمية ولأن الترجمة.. كما يقول جورج مونان "في الشرق كما في الغرب بدأت دينية أي تناولت ما يتصل بالدين والمباحث الدينية" لما لذلك من أهمية بالغة في حياة الإنسان لمعرفة نفسه والكون من حوله ولأن الدين لما يستنفد أغراضه في هذه الحياة ونعتقد أنه لن يستنفدها... وحتى لا تمسي أعمالنا في الترجمة عبثاً ينبغي البحث الدؤوب لنقل ما يهم هذا الإنسان في كل محاوره المادية والفكرية ولسبر ما يرافق النصوص المطروحة من معان وظلال وأسلوب، ولنعلم أن غاية الترجمة هي أن تعفينا من قراءة النص الأصل وأن تجعل النص الموضوع يبقى إياه بعد ترجمته من حيث مطالب المنطق لأن محافظة النص في اللغة الهدف مع كل ما في النص المصدر أمر في غاية الصعوبة من الناحية العملية وذلك لأسباب عديدة تتعلق بالمرسل والرسالة والمتلقي وبذلك يصبح المترجم بآن واحد متمثلاً دور الناقل الحيوي فهو متلق ومرسل لرسالة تعبر عن فكر سواه كمرسل أول وتأخذ منها في فكر مستقبل الترجمة بالإضافة إلى سمتها الفنية علماً قائماً بذاته؟... وهذا ما يدفعنا إلى السؤال الملح ما هي معايير الترجمة السليمة؟ لنستمع إلى ما يقول ماروزو Marouzeau ([3]):"يجب أن تنقل الترجمة المعنى، كل المعنى ولا شيء سوى معنى النص الأصلي. إنه أمر بديهي، إنه المقتضى الأدنى، لكن على الترجمة أن تنقل المظهر أيضاً، يجب أن تنقل إلى أقصى حد ممكن المظهر البنيوي، أي أن عليها أن تتيح للقارئ تكوين فكرة تقريبية على الأقل عن اللغة المنقول عنها، عن خصوصيات مفرداتها وبنائها وطريقتها في المطابقة بين العبارة والفكرة، ويجب أن تنقل المظهر الأسلوبي، أي النوعية والمستوى: شكل عادي، طريف، مهمل، وصفي مبتذل، خطابي، فني شاعري "... وهذه المعايير تثير – كما يقول جورج مونان ([4]) مسألتين رئيستين هما مسألة الاصطلاحات ومسألة التراكيب، ولكل منها دراسات متسعة في مظانها.
ونجد المعنى ذاته في تعريف الترجمة في قاموس الألسنية ([5]): الترجمة هي " ذكر - في لغة أخرى (أو لغة الهدف) - ما كان مذكوراً في لغة (مصدر) مع الحفاظ على المعادلات الدلالية والأسلوبية "traduire: c'est énoncer dans une autre langue (ou autre cible) ce qui a été enoncé, dans une langue source, en concernant les équivalences sémantiques et stylistiques.
لنر الآن ماذا يحدث للمترجمين مشاة جيش الكتاب " كما يسميهم دومنيك أوري Dominique Ouri هل سيدخلون قلعة الترجمة بسهولة أم أنهم يتساقطون واحداً تلو الآخر أمام قلاع النصوص العليا إلهية الإرسال قبل تحريف الكثير مما فيها؟
لقد نقل القديس جيروم Saint Jérome بعض المعاني معكوسة عندما ترجم الكتاب المقدس.
كما اكتُشِفَت لدى أميو Amio معان معكوسة، ولدى بودلير Beaudelaire معان خاطئة عندما كان ترجم آلان بون وها هو أندريه جيدAndré Gide الكاتب الفرنسي المتضلع بالانكليزية يترجم لشكسبير ترجمات لا تشبه مؤلفات شكسبير، ومهما كانت الحواشي في أسفل الصفحات فإن تلك الحواشي عار على المترجم كما يقول " دومنيك أوري ".
"إذن لابد من توفر الكثير من الكفاءات من أجل الترجمة الجيدة - كما يقول روجيه ارنالديز ([6]) - أي لا بد من معرفة اللغة المصدر واللغة الهدف والعلم أو العلوم التي تعالجها الرسالة بالطريقة التي تسمح بالفهم الدقيق لما يريده المرسل (في اختصاصه). وفي هذا الصدد يقول الجاحظ: " على المترجم أن يدرك الموضوع بقدر إدراك الكاتب له " وتقول مريم سلامة كار ([7]) " على المترجم أن يزول أمام ترجمته وأن يكون مخلصاً للنص الأصلي ودون أن يؤثر ذلك في ترجمته. اهـ. وكلما كان الموضوع صعب المنال أثار تحليل النص مشكلات أمام المترجم مما يجعل الترجمة أكثر صعوبة ومما يستدعي كفاءة لغوية أكبر.
ومن هنا تأتي أهمية فهم النصوص المراد ترجمتها ومما يؤكد ضرورة امتلاك المترجم معارف تناسب معارف الكاتب(المرسل)، وأن يكون مخلصاً أميناً لما ينقله عنه وما أكثر الأفخاخ أمامه، وهذا ما يجعلنا أيضاً نؤكد على موضوع التخصصات. ومن هنا نرى أنه من الأشراط الأولية لكل ترجمة حقيقية أن تتسم بمعرفة اللغة والموضوع بالإضافة إلى المهارة التي تتجلى في خاصية إعادة التعبير عن مضمون النص المصدر في النص الهدف.
وهكذا نجد أنه حينما نواجه صعوبات في الترجمة أو حينما تبدو الترجمة مستحيلة فإن ذلك يعزى إلى نقص في المعارف في ذات المترجم (وذات اللغة) وذات الموضوع ولضعف في الطاقات المتخصصة أو الموسوعية ومن لم يحط بالموضوع مفرداته ومصطلحاته وأوجهه الظاهرة والعميقة بالإضافة إلى الإخلاص والأمانة فإنه سيشوه النصوص الأصيلة ويمسخها وعندها تنطبق عليه سمات الخيانة للنصوص وتضيع لديه الأمانات....
سندخل الآن في موضوع أكثر تخصصاً في مشكلات ترجمات القرآن الكريم.. حيث ثمة أكثر من أربعين ترجمة موجودة باللغة الفرنسية وأكثر من مائة ترجمة باللغة الانكليزية كما أن ثمة ترجمات عديدة في اللغات الأخرى...
والسؤال هل هذه الترجمات قد حازت على سمة الأمانة وإلى أي حد؟
ولكن لنتعرف على الرسالة والمرسل والمتلقي قبل أن ندخل بحراً محيطاً لا نزال على شواطئه:
1- الرسالة حسبما اتفق عليه علماء الأصول والفقهاء وعلماء العربية هي: كلام الله تعالى المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم باللسان العربي في المصاحف /المنقول عنه بالتواتر / المتعبد بتلاوته ([8]) " وهي رسالة منزلة بلسان عربي مبين " إنا أنزلناه قرآناً عربياًلعلكم تعقلون"([9]) وللناس كافة " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" ([10])
ولغة القرآن ومعانيه تحمل قدراً لا نهاية له من الفهم والتدبر وتوليد المعاني والاسترسال في النظر دون شطط أو اعتداء على الحدود ([11]) ولأن هذا القرآن معجز أن يؤتى بمثله لأن المرسل هو الأحد العالم بكل أسرار اللغة وما فيها وبكل أسرار الكون وما فيه وبكل ما لدى الإنسان وما فيه " كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير " ([12]). ولذا فإن محاولات ترجمات القرآن ليست حتماً بقرآن فإن صح أن تسمى ترجمة لتفسير معاني القرآن. فإن ذلك يحتاج إلى علوم كثيرة جداًولن يكون إلا شيئاً من أحد أوجه التفسير ويحتاج أيضاً إلى كفاءات خاصة وأشراط التفسير كثيرة.. لأن هذه الرسالة الإلهية الإرسال قد أعجزت أهل اللسان العربي ذاتهم فكيف بالمتسللين؟.
.................................................. .................................................. ....
([1]) - راجع قاموس لاروس Larousse 1985 الملحق: عبارات لاتينية، يونانية، وأجنبية ص XII .
"traduttore, traditore" aphorisme italien, qui signifie que toute traduction est fatalement infidèle et trahit par conséquent la pensée de l'auteur du texte original " .
([2]) – راجع: دراسات في الترجمة والمصطلح والتعريب – شحادة الخوري – دار طلاس – دمشق، طبعة أولى – 1989 .
([3]) - - Jules Marouzeau , "la traduction . P. (47-)
([4]) - المسائل النظرية في الترجمة / ترجمة لطيف زينون، طبعة أولى، دار المنتخب العربي . بيروت 1994 م. ص 9
([5]) - Dictionnaise de linguistique – larousse 1973
([6]) - الترجمة في العصر العباسي، تأليف مريم سلامة كار ترجمة د. نجيب غزاوي – دمشق 1998- منشورات وزارة الثقافة . ص2.
([7]) - نفس المرجع أعلاه ص 91 .
([8]) – المعجزة الخالدة – د. حسن ضياء الدين عتر – دار النصر – حلب – سورية – طبعة أولى 1975 ص 143 .
([9]) – سورة يوسف: 12 الآية 2 .
([10]) – سورة الأنبياء: 21 الآية 107 .
([11]) - عمر شيخ الشباب ص 121 (فصول في التأويل ولغة الترجمة – دار الحصاد 2003 الطبعة الأولى).
([12]) – سورة هود: 11 الآية 1 .

يتبع