تأملات في مشروع النهضة العربية..
الدكتور لؤي عبد الباقي
النهوض، لغة، من القيام والارتفاع، وهو يفترض التحرك بعد السكون. والنهضة، في معظم الاستخدامات الاصطلاحية المنقولة عن الغرب، انبعاث جديد في المجال والزمن، يفيد الانتقال المقصود والإرادي من حال إلى حال أفضل. ولكي يتحقق هذا الانتقال الإرادي لا بد أن يسبقه وعي وإدراك بالحاجة إليه؛ أي تصور - صحيح أو وهمي - بتأخر الوضع الراهن في مجالات محددة. لذلك فإن الأوروبيين يستخدمون مفهوم "النهضة" للإشارة إلى الحركة الفكرية والأدبية والعلمية التي انطلقت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر عقب ما اصطلحوا على تسميته بـ "عصور الظلمات".
ولكن رواد النهضة العرب، جيل الطهطاوي والتونسي، لم يستخدموا مفهوم "النهضة" ليعبروا عن هذا المعنى الأخير، حيث لم يجدوا حاجة إلى مثل تلك النهضة أو ذاك الانبعاث، بل كان جل اهتمامهم يصب في الحاجة إلى التحديث التقني والتقدم العلمي والإصلاح الإداري والسياسي؛ أي دون الدعوة إلى تبني المذاهب الفلسفية والفكرية الغربية.
فعند بداية اتصال العرب بالغرب الحديث حيث اطلعوا على التطورات العلمية والتقنية والإدارية التي وصلت إليها المجتمعات الأوروبية، أدركوا الهوة التي تفصل بين مجتمعاتهم وبين تلك المجتمعات، وأيقنوا أن تدارك هذا التأخر لا يمكن دون اقتباس العلوم الحديثة ومكتسباتها، فحاول رواد "النهضة" نقل هذه الصورة إلى مجتمعهم كوسيلة لشرعنة التحديث والاقتباس. من هنا فقد ارتبط مفهوم التحديث، بداية، بالتقدم العلمي والتقني. ولكن، بما أن الهوة الفاصلة بين العرب والغرب كانت سحيقة، كان هذا التحديث المأمول يحمل مفهوم الطفرة أو الانتقال السريع. وإذا كانت الطفرة أو التحديث السريع العلمي والتقني لا يمكن أن يتحقق دون حشد جميع طاقات المجتمع التي، بدورها، تتطلب مشاركة عامة تشمل جميع الشرائح الاجتماعية، فقد وجد رواد النهضة أن ذلك لا يتحقق إلا من خلال حل الأزمات الداخلية والتخفيف من حدة التناقضات الاجتماعية عبر الإجراءات الديمقراطية التي يمكن اعتمادها كآلية لتحقيق وتعزيز مبدأ الشورى، ولضمان حق الأمة في المشاركة في تحديد صيغة التحديث الذي يعود عليها بالخير والصلاح العام. من هنا أيضاً ارتبطت النهضة بالإصلاح السياسي ومحاربة الظلم والاستبداد.
أما تعبير النهضة والنهوض الذي ورد على ألسنة الإصلاحيين، كالأفغاني وعبده، فقد ظهر بمعنى القيام والتحرك لمواجهة الاستعمار الغربي بعد أن كان قد هيمن على العديد من الدول الإسلامية. وقد نبه إلى ذلك محمد عابد الجابري في كتابه "المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية" حيث أشار إلى أن ما "كان العرب بحاجة إليه هو النهوض لمقاومة التدخل الأوروبي والاحتلال الأجنبي .."، وهو نهوض بمعنى القيام والحركة في آن: "القيام بمعنى استجماع القوى والاستعداد، والحركة بمعنى مواجهة التهديد الخارجي"، وليس بالمعنى الأوروبي الذي "يجد مرجعيته في ثقافة أخرى"، حسب تعبير الجابري.
لذلك لا بد من الإشارة إلى أن أسئلة وإشكالات النهضة العربية كانت تختلف عن تلك التي واجهتها وتصدت لها النهضة الأوروبية، ليس فقط من ناحية التحديات الداخلية والخارجية التي واجهتها وتصدت لها، بل أيضاً من ناحية طبيعتها وتجلي التغيرات التي رافقتها.
ولو أردنا أن نشير إلى أهم الفوارق التي تميز إشكالات النهضة العربية عن النهضة الأوروبية نجد، قبل كل شيء، أن بداية النهضة العربية لم تشهد ولادة قوميات متعددة أو قيام دول قومية مختلفة كما حدث في أوروبة. بل ربما، على العكس، نستطيع أن نزعم أن نهايتها وموتها (أي حركة النهضة العربية الأولى) تزامن مع الولادة القومية العربية!
ألم ينتهي مشروع النهضة العربية بهزيمة ميسلون؟ .. ألم تخرج ولادة أيديولوجيا القومية العربية، التي أسقطت التيار العروبي الأصيل في شرك العلمانية، من رحم اتفاقية سايكس - بيكو المتزامنة مع الثورة العربية الفاشلة، التي ساهمت في تحقيق انتصار جيوش اللنبي وغورو؟
هكذا، بينما نشأت القوميات الأوروبية مع صعود وانتشار نهضتها، تبلورت أيديولوجيا القومية العربية مع أفول وتلاشي آمال نهضتها! وأوضح دليل على أن النهضة العربية كانت مشروع قيام في وجه الاستعمار وتصدي له أن انتصار الاستعمار شكل الهزيمة الحاسمة، التي لا يختلف بشأنها أحد، لمشروع النهضة. ولم يكن انتصار الاستعمار، في أي شكل من الأشكال، هزيمة لحركة العلمنة والتغريب، بل كان تعزيزاً وقوة لها. فإخفاق مشروع النهضة لم يكن هزيمة للعلمانية، لأن العلمانية ببساطة لم تكن داخلة في مشروع النهضة، بل ربما كانت من عوامل إخفاقه. إذاً، لم تكن النهضة العربية ثورة علمانية على مؤسسة دينية غير قائمة، وإن حاول البعض، عبثاً، دفعها بهذا الاتجاه.
بدأت العلمانية في أوروبا، خلال عصر نهضتها، كثورة على الكنيسة الكاثوليكية أو كحركة لتحرير العقل وإطلاق طاقاته من أسار طغيانها واحتكارها لمصادر المعرفة، إلا أنها بعد انتصارها على الكنيسة والتخلص من هيمنة رجال الكهنوت تحولت، خلال عصر الأنوار، إلى ثورة شاملة على الدين وعلى الإيمان بالله وبالغيب. الإسلام، على عكس المسيحية، لا يسمح بإنشاء طبقة من الكهنوت، كما أنه لا يسمح لبشر أن يحتكر أو يدعي لنفسه حق التفرد بتفسير الشريعة والاجتهاد فيها. فلم يشهد التاريخ الإسلامي الذي ذخر بالفقهاء والمجتهدين؛ سلطة دينية على غرار سلطة البابا في أوروبا المسيحية. كذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات الإسلامية، كجامعة الأزهر مثلاً، فلم تكن تتمتع بأي سلطة (دينية - مقدسة، أو سياسية) على المجتمع، أو حتى على خريجيها، الذين كانوا ينتمون إلى كافة شرائح المجتمعات الإسلامية، وينتشرون في أصقاع العالم الإسلامي، لنشر العلوم الإسلامية كل على المذهب الذي يتبعه. ليس غريباً، والأمر كذلك، أن يخرج الرائد الأول للنهضة العربية رفاعة الطهطاوي من الأزهر.
أما التيار العلماني العربي الذي رفع شعار المطالبة بتقليد الغرب وتبني ثقافته وقيمه، فقد حاول أن يصنع (بمعنى الفبركة) انحطاطا شاملا كي يصنع نهضة شاملة! لقد ربط النهضة بالفلسفة والأخلاق والقيم الغربية المعادية للقيم والأخلاق الدينية. فدأب على الترجمة والنقل لما أنتجه الفكر الغربي منذ بداية عصر الأنوار، دون أدنى إعمال للعقل في النقد والتقييم. وهو إذ لم يجد كنيسة أو مؤسسة دينية يثور عليها، فقد قام بنقل موقف فكر الأنوار المتطرف من الدين بشكل عام، أي أنه دعا إلى ثورة على الدين والمعتقدات الإسلامية السائدة في العالم العربي.
إنه لمن المتعذر فصل مصطلح "العلمانية" عن بعده القيمي - المادي المعادي للدين. إذ أن مجرد ادعاء الحق باحتكار مرجعية المعرفة "الحقيقية" المتعلقة بالإنسان والكون والحياة؛ يعطي حكم قيمة يحمل ضمنياً (بل أحياناً صراحة) إنكار المرجعية الدينية كمصدر من مصادر المعرفة. وكلمة علمانية لا تدل بحال من الأحوال على حقل من حقول المعرفة، أو على تخصص علمي محدد، كعلم الطب أو الهندسة أو التاريخ .. إلخ، بل إنها نظرية شمولية تفيد نفي الماوراء وإنكار عالم الغيب، وتحقير النظرة الدينية التي تسمها، كما يؤكد العلماني المعاصر عزيز العظمة، بالنظرة "الخرافية إلى شؤون الكون والطبيعة". فاستعمال مفهوم يَسم الدين صراحةً في مجتمع متدين بأنه "خرافة" ليس فقط تحيزاً ضد هذا المجتمع، بل أيضاً معاداة صارخة له، وتحد سافر لمقدساته. والنقطة الأساسية المراد التأكيد عليها هنا هي أن الفكر الذي يستعير أدوات إنتاجه من تجارب غريبة عن مجتمعه بشكل عشوائي، في غياب رؤية واضحة، لا يمكنه سوى أن يكون هامشياً، ومهما تداولت هذا الفكر، المستورد بقوالب جامدة، مجموعات نخبوية معينة ستكون هذه النخب معزولة عن المجتمع، لأنها لا تعبر أو لا تقترب من ملامسة الواقع الموضوعي للمجتمع الذي تنتدب نفسها لمعالجة قضاياه.
وبما أن هذا التيار بقي معزولاً عن المجتمع ومحدوداً بنخبة من المستغربين ضعيفي الأثر والفاعلية، من ناحية، وأن تيار الإصلاح الإسلامي تمكن من كسر الجدار النفسي الذي كان يحول بين المسلمين وبين تفاعلهم مع التطورات العلمية والتقنية العالمية ومكتسباتها الحديثة، من ناحية أخرى، فقد بقي مفهوم النهضة بريئاً وطاهراً، إلى حد ما، من التحيزات العلمانية وأحكامها المسبقة، ومن أرجاس الأيديولوجيات الغربية الحديثة، التي بدأت تفرز صراعات في العالم العربي بعد سقوط وفشل محاولات النهضة، أي بعد رحيل العثمانيين، رحم الله أيامهم! .. إذ برحيلهم ودع العالم العربي آمال النهضة، ليفتح ميادينه للصراعات الأيديولوجية، القومجية والشعبوية والثوروية! وانتصرت "الحداثة" العلمانية الغربية على النهضة العربية، حيث نجحت بأدلجة التحديث، وحولت الجهود الإصلاحية الرامية لحشد الطاقات من أجل مواجهة التحديات الخارجية والداخلية؛ الاستعمارية والاستبدادية، إلى معارك أيديولوجية تبدد الطاقات وتبعثر القوى، فانتصرت الأيديولوجيا وانهزمت النهضة!
والنهضة تغيير، مهما كانت طبيعة أو كان شكل هذا التغيير. والتغيير لا يمكن وصفه وتحليله إلا بعد أن يتحقق وتتضح أبعاده وعوامله. فهل تحققت النهضة العربية لكي نبحث في عواملها ونحلل أبعادها؟
ما من شك في أن آمال النهضة العربية قد لفظت أنفاسها الأخيرة مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، حيث انتهت الثورة العربية ومعها حلم الدولة العربية إلى فشل ذريع بوضع اتفاق سايكس - بيكو حيز التنفيذ. هل كانت النهاية مرتقبة؟ أم أن النهاية كانت، كما البداية، صدمة عنيفة؟ من نابليون إلى اللنبي .. تبدأ النهضة بدخول الفرنسيين القاهرة، وتنتهي بدخولهم دمشق!
إن ما علينا اليوم دراسته هو أسباب فشل النهضة، أو فشل محاولات النهوض؛ فشل التحديث .. فشل الإصلاح .. فشل قيام الدولة العربية "الحديثة" الموعودة .. وأخيراً، وليس آخراً، علينا أن ندرس السبب في أننا لم نشهد، مع ذلك، الهزيمة الماحقة للعلمنة والتغريب!
ومع دخول القرن الحادي والعشرين، ما بين تبدد فكرة الجامعة الإسلامية وتبخر أوهام الجامعة العربية، وبعد إخفاق مشاريع الثورة والتحرر والديمقراطية والتنمية .. إلخ، نتساءل حائرين: هل يمكننا اليوم أن نتعامل مع واقعنا الراهن، وأن نقرأ مستقبلنا على ضوء قراءتنا للماضي وتجاربه؟ أم أن مواقفنا وتحيزاتنا تعكس انتقائية قراءتنا للماضي الذي نبرز منه المحطة التي نريد ونرغب، ونطمس الحقيقة التي تخيفنا ونتشاءم منها؟ بتعبير آخر: هل علينا أن نصنع انحطاطا كي نصنع نهضة؟
دأب الاستعمار، منذ أن انتدب نفسه لإدارة شؤوننا في عهود الانتداب تحت مظلة عصبة الأمم المتحدة، على محاولة إقناعنا بأن انحطاطنا ينبع من "عجزنا المعرفي" و"تخلفنا" اللاعقلاني. ويتفق مع الاستعمار في هذه النظرة المتعالية والمتعجرفة أولئك الذين ينظرون إلى المجتمع العربي من تلك العدسة الاستعمارية الغربية من أبناء أوطاننا المستغربين ليحاولوا إقناعنا بأنه لا سبيل لنهضتنا إلا عبر الولوج في نفق الحداثة التغريبية أو من خلال استنساخ "أدوات الإنتاج المعرفي" و"العقلانية" الغربية لتوطين قيم وأخلاقيات الحداثة التغريبية في التربة العربية.
المفضلات