قبل بداية ما يسمى "التحول الدمقراطي" في 10 تشرين الثاني 1989، كانت بلغاريا تعتبر اكثر بلدان المنظومة السوفياتية السابقة قربا من الاتحاد السوفياتي السابق، وكان البعض يسميها "الجمهورية السوفياتية السادسة عشرة". وقد انتهجت القيادة البلغارية القديمة سياسة " لا تخطئ" وهي سياسة تقليد الاتحاد السوفياتي في كل شيء. وكان في هذه السياسة قليل من "الحكمة" وكثير من "الحربقة" البلغارية. فحينما طلع خروشوف بنقده الشهير لستالين تحت عنوان "عبادة الفرد" في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1954، وجدت القيادة البلغارية "ستالينها" بشخص فولكو تشيرفينكوف، الذي كان قد استلم قيادة الحزب والدولة بعد وفاة الزعيم الشيوعي التاريخي غيورغي ديميتروف. ولم تجرؤ القيادة البلغارية السابقة (ومن ورائها قيادة خروشوف ذاته) ان "تدق" بغيورغي ديميتروف (بطل محاكمة لايبزيغ) نظرا لشعبيته البلغارية والدولية الهائلة. وكانت القيادة البلغارية تقلد القيادة السوفياتية في كل شيء. فاذا تحدث خروشوف عن ضرورة اجراء تغيير في ادارة صناعة الخزف السوفياتية، تكسرت مجموعات من طواقم الخزف البلغارية. واذا تحدث خروشوف عن نقص الحليب وضرورة زيادة العناية بالابقار، احتلت صور الابقار البلغارية الصفحات الاولى لجميع الصحف، بما فيها الصحف الفنية والادبية. واذا اجتهد احد المحررين، "دحش" غنمة او معزاية بين الابقار. وبمقدار ما كان هذا الوضع يبدو مستهجنا على المستوى السياسي او الايديولوجي، الا انه كانت له نتائج ايجابية جدا على المستوى الاقتصادي. فغالبية الفروع الصناعية الاستهلاكية البلغارية كانت جديدة، وكذلك قسم كبير من صناعات المنتوجات الاستهلاكية الزراعية ـ الصناعية (كصناعة السجاير، والمعلبات، والبسكويت، والصناعات الجلدية وما اشبه) كانت كلها صناعات جديدة، او موسعة. ومن ثم كانت جودة المنتوجات دائما "مسألة فيها نظر". وكانت بلغاريا "الاشتراكية" تعطي الاولوية في التصدير الى البلدان الغربية، حيث يجري فرز المنتوجات لتصدير الافضل الى البلدان الغربية للحصول على اسعار افضل وبالعملات الصعبة. وبعد البلدان الغربية كانت تعطى الاولوية للتصدير الى البلدان الاسيوية والافريقية "غير الاشتراكية" مقابل اسعار مقبولة للطرفين، ولكنها ادنى بكثير من الاسعار الغربية. وثالثا كان يتم التصدير الى البلدان الاشتراكية (غير الاتحاد السوفياتي)، وغالبا بالمقايضة وبناء على لوائح اسعار او جداول كميات موضوعة من قبل لجان "مختصة" (غالبا حزبية) لا علاقة لها بعملية الانتاج بحد ذاته. واخيرا فإن كل ما يتبقى في المستودعات البلغارية كان يشحن جملة وتفصيلا الى السوق السوفياتية. ويسجل في رصيد بلغاريا لدى الاتحاد السوفياتي. وكان الرصيد التجاري البلغاري ـ السوفياتي دائما لصالح بلغاريا. وعلى هذا الصعيد كانت احيانا تحدث الاعاجيب: كأن تتلقى شبكة التغذية في موسكو شحنة البسة، وتتلقى شبكة الالبسة في طشقند شحنة صلصة بندورة (طماطم) الخ. وفي الغالب فإن كل التلفيات في المعامل البلغارية كانت تشحن الى الاتحاد السوفياتي. وكان الشيوعيون (وغير الشيوعيين) البلغار يسمون السوفيات والروس "الاخ الاكبر"؛ وطبعا كان على هذا "الاخ الاكبر" ان يتحمل كل رفسات "الاخ الاصغر" مهما كانت احيانا مؤلمة. وغالبا ما كانت هذه "المشاكل الفنية البسيطة" تحل بـ"محادثة رفاقية" واحيانا بنكتة بين 2 او اكثر من المسؤولين، واذا زادت تعقيدا تحل على كأسين او اكثر من الفودكا الروسية او الركيّـا البلغارية او الاثنتين معا. وطبعا لم يكن يخلو الامر من تمرير بعض "المغلفات الخاصة" تحت الطاولة، او تأمين بعض الدفعات في بعض الحسابات البنكية "السرية" في بلغاريا او روسيا او الخارج. وفي مقابل ذلك كانت بلغاريا تتلقى كل ما تحتاج اليه من منتوجات، وآلات، وآلات انتاج الآلات، وتراخيص انتاج، واسلحة متطورة، ومواد خام، والوقود (النفط والغاز والوقود الذري)، ومساعدات وقروض مالية بحساب وبدون حساب. وعلى العموم، كان هذا الوضع، على المستوى الانتاجي والاقتصادي والمالي، مريح جدا لبلغاريا، اكثر بكثير مما كان مريحا للاتحاد السوفياتي، الذي كان يحسب حساب الجوانب السياسية والامنية والمخابراتية والعسكرية، اكثر بكثير من الجوانب الاقتصادية. بحيث يمكن القول ان الاتحاد السوفياتي كان يدفع بالاقتصاد مقابل ما يتلقى بالستراتيجية السياسية والعسكرية.
كم كان هذا النمط من العلاقات صحيحا، من زاوية النظر البلغارية، والسوفياتية، ـ هذا يدخل ضمن عملية تقييم تاريخية شاملة. ولكن بالنتيجة، وكترجمة عملية لهذا النمط "الهمشري" من العلاقات، انتشر "الخبراء" و"المستشارون" السوفيات، سرا وعلنا، في كل الدوائر والفروع الرئيسية والهامة، الاقتصادية والسياسية والنقابية والامنية والعسكرية، البلغارية. وصار هؤلاء "الخبراء" و"المستشارون" يتدخلون في جمبع الشؤون البلغارية الصغيرة والكبيرة وكأنهم من اهل البيت. وصارت تسمية "الاخ الاكبر" فعلا اسم على مسمى.
XXX
وبعد 18 سنة من قلب النظام السابق وما سمي "عملية التحول الدمقراطي"، تم قبول بلغاريا عضوا في الاتحاد الاوروبي في مطلع عام 2007. والسؤال الكبير الذي يطرح منذ ذلك الحين: هل استطاعت بلغاريا ان تتحرر من قبضة الاخ الاكبر "الشيوعي"، اي روسيا؟
جوابا على هذا السؤال انقل مقتطفات من مقالة كبيرة للصحفي الفرنسي فرانسوا اوتير، منشورة في "الفيغارو"، ومنقولة في وكالة "إبوخالني فريمينا" (ازمنة تاريخية) البلغارية، وهي بعنوان: "صوفيا الاوروبية لا تزال تحت النفوذ الروسي":
ان المعيشة اليومية، نمط الحياة والتجارة، كلها تذكر بروسيا. وهذا ما يدفع الى اليأس الدبلوماسيين الاوروبيين الغربيين، الذين يعملون على الارض.
ومن سفارة الى اخرى، يجأرون بالشكوى في جوقة واحدة "مافيا، لا يوجد قضاء! لا نريد موديلا روسيا في الاتحاد الاوروبي!".
ومن ثم اذا لم تتبدل هذه النظرة بسرعة، فإن جميع الدبلوماسيين الغربيين الموجودين في صوفيا لن يسمحوا بصرف مبلغ الـ10 مليارات يورو المقرر صرفها من قبل اللجنة الاوروبية الى بلغاريا لمساعدة "عملية التحول الدمقراطي" والتي لا تزال حبرا على ورق. وكأن الامر يتعلق بالكونغو! وكأن صوفيا هي مدينة "بوان نوار" (المعنى الحرفي: النقطة السوداء) في الكونغو. مع انها ـ اي صوفياـ هي اكثر تطورا من مدينة بخارست مثلا.
وبالرغم من الاحصاءات التي يقدمها بعض الاقتصاديين، فإن سكان صوفيا يظهرون نمطا من الحياة لا يمكن ان ينظر بعين الحسد الى الحياة في المدن الاريافية الاوروبية الغربية.
ومع ذلك فإن بلغاريا ينظر اليها على انها جزء من "الشرق المتوحش". وبالحقيقة ان ما يسميه البعض "ثورة 1989" ليست سوى "انقلاب قصر"، او "انقلاب داخلي"، قام فيه "الشيوعيون" الحاكمون السابقون، الان هم "الاشتراكيون"، باقتسام ثروات البلاد.
اما فيما يتعلق بالوطنية الاتنية، التي استخدمها جميع الشيوعيين السابقين، لاخفاء قلب السترة وجها على قفا، فقد كانت الوطنية المعادية للاتراك. الان اصبح ذلك من الذكريات. فمنذ 1989 بدأ المسلمون والاتراك يتمتعون بالحقوق ذاتها، التي يتمتع بها المواطنون البلغار الآخرون.
من اين اذن تتأتى الملامات التي يوجهها الاوروبيون الى البلغار؟ يتساءل فرانسوا اوتير. وهو يجيب: ادركت ذلك حينما حضرت معرضا للمجوهرات الايطالية في محل ازياء في صوفيا: شمبانيا فرنسية وكافيار ايراني. عارضات ازياء طويلات، يرتدين ازياء دريس فان هوتين وديور، يستقبلن الضيوف، الذين وصلوا مع سواقيهم. والحراس المرافقون ينتظرون خارجا في البرد.
ومن خلال الواجهات كان يمكن مراقبة "الشيفات" (الرئيسات) وهن يتعانقن مع "افضل صديقاتهن" تحت لمعات آلات التصوير. المناخ هو تماما بروح ورثة حكام الاجهزة في بيوت الازياء في موسكو.
ويستنتج هذا الصحفي: في بلد يعيش فيه نصف السكان تحت خط الفقر، فإن هذا البذخ هو من الامور التي تضايق دبلوماسيينا. فإن بلغاريا اصبحت جزءا من الاتحاد الاوروبي، الا انها تعيش "ألا روس" (على الطريقة الروسية). وهذا لن يمر.
ان جميع الذين يمكنهم التظاهر بثرواتهم، يفعلون ذلك بلا تردد. وهم العرابون، الذين يتحركون في الشوارع بمواكب من السيارات المصفحة. وهم يتحكمون كالاقطاعيين بمدن كاملة، بل وبمناطق كاملة.
يتوزعون فيما بينهم المرافق العامة. ويتصرفون بالاموال في عصاباتهم. وليذهب الاخرون الى الجحيم. ان بلغاريا تشبه اكثر ما تشبه الان صقلية في اوروبا في القرن الماضي.
وحسب تقدير العديد من الدبلوماسيين الاوروبيين الغربيين، فإن بلغاريا لا تزال تابعة لروسيا. والاثر الذي تركه الاتحاد السوفياتي فيها لا يزال قويا.
ويقيم احد المواطنين المسنين، الذين رافقوا المرحلة "الشيوعية" كلها ثم المرحلة "الدمقراطية"، الوضع كما يلي: "في السابق كنا مضطرين ان نردد ما نقرأه في الجريدة (الحزبية) او نسمعه في الراديو (الرسمي). اليوم يمكننا ان نتكلم بحرية اكبر، ولكن في الاطار السياسي فإن الاشخاص الذين كانوا في السابق لا يزالون هم انفسهم اليوم. ان بلغاريا هي حصان طروادة لروسيا داخل الاتحاد الاوروبي".
واخيرا يتساءل هذا الكاتب الفرنسي: لماذا لا يدعم الاتحاد الاوروبي بقوة الاصلاحيين في النظام؟ ولماذا يضع شروطا تعجيزية للمساعدات؟ الذي يدفع الاموال هو الذي يوجه خط السير، وليس ان تفعل ذلك موسكو التي تريد ان توزع بضاعتها وان تنشط شبكاتها.
ولا يستطيع فرانسوا اوتير ان يجد جوابا للسؤال الذي طرحه هو بنفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل