مما تجدر الإشارة إليه إن هذه المقالة أرسلت للنشر في العديد من الصحف الرسمية والمعارضة والمستقلة كـ(26سبتمبر، الثورة، الجمهورية، ملحق الإنسان،الحياة، اليمن، حديث المدينة، الأضواء، أخبار اليوم، الشموع،..) إلا أنها لم ترى للنور طريقا حتى الآن
نقطة نظام لا بد منها
أجهزة القضاء اليمنية أين يكمن الخلل؟ وما الحل؟
د.طارق عبدالله ثابت الحروي.
باحث في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية
d.tat200959@yahoo.com
قد يتبادر للذهن منذ الوهلة الأولى عند قراءة عنوان هذه المقالة إننا بصدد تناول طبيعة الظروف الذاتية والموضوعية المحيطة بأجهزة القضاء، التي يعزي إليها الكثيرين مسئولية ما تعج به البيئة الداخلية من إرهاصات سلبية-وفقا-لمعطيات النظرة التقليدية التي درج الكثيرين بموجبها على تفسير مجريات الأمور العامة الجارية، إلا أننا استميح القراء الأعزاء وصناع القرار المعنيين عذرا هذه المرة- أيضا- تواصلا مني مع سلسلة المقالات التي وعدت بطرحها حول واقع العملية القضائية في بلادنا، وذلك لأني سأبادر إلى تناول موضوع هذه المقالة من زاوية أخرى غير مطروقة البتة؛ من خلال إعادة تسليط الأضواء مرة واحدة على إحدى أهم مصادر الخلل الرئيسة، والتي يسهم في نشوئها وتطورها المعنيين بشئون القضاء في أعلى سلم الهرم القضائي في بلادنا، بالرغم من أنها تبدو للوهلة الأولى في ظاهرها ذات طابع إيجابي إلا أنها تحمل في طياتها بذور الخلل والعوامل المنشئة له والمساعدة على نموه وتطوره دون أن ندري، وبمعنى أخر كي أدخل في صلب الموضوع أطرح سؤالي المحوري هل سلسلة التغييرات التي تطال أجهزة القضاء بين الفينة والأخرى تتأتي-في المحصلة النهائية- ضمن إطار منظومة متكاملة من السياسيات والإجراءات المؤسسية المتبعة في اتجاه إحداث حراك نسبي حقيقي (نوعي/كمي) في واقع ومن ثم مستقبل العملية القضائية برمتها في محاولة منها ليس إلى مواكبة متطلبات المرحلة الحالية فحسب بل وقيادتها وتوجيهها فيما إذا لزم الأمر ذلك ؟ أم إن هذا الأمر برمته لا يتعدى كونه مجرد إجراءات روتينية نسبية مجتزأة ليس لها علاقة بذلك كله؛ لا يقصد من ورائها شئ سوى أنها مجرد محاولات إدارية نسبية يغلب عليها الطابع السياسي فرضتها المرحلة لا تخرج عن كونها مجرد محاولات نسبية في اتجاه تغطية (أو ترقيع) لحالات التراجع والفشل النسبية الشديدة التي تعيشها المؤسسة القضائية في مواكبة متطلبات المرحلة، جراء بقائها متأخرة عنها كثيرا، لدرجة أصبحت بموجبها في موقع المتلقي السلبي-على الدوام- وليس الموجه الرئيس لها؛ بسبب صعوبة-هذا إن لم نقل استحالة- اللحاق بالمتغيرات الرئيسة التي تشهدها الساحة اليمنية؟
والثابت لنا في هذا الأمر إن مصدر هذا التساؤل هو ما تشهده العملية القضائية على أرض الواقع من تراجع حاد في معايير كفاءة الأداء والفعالية الإدارية ومن ثم من تدهور شديد في الأوضاع الداخلية، ولاسيما أن زيارة واحدة إلى أروقة أحد المحاكم التي تعج بها البلاد كفيلة بتوضيح أبعاد الصورة التي أسعى وراء تناولها في مقالتي هذه، إذ أنه على الرغم من استمرار تزايد سلسلة التغييرات الحاصلة في المؤسسة القضائية التي يعلن عنها بين الفينة والأخرى وما يتبعها من بريق إعلامي- دعائي يهول لها كثيرا، إلا أنها تظل محصورة-على الأغلب- في أرض الواقع ضمن إطار التغييرات الشكلية النسبية الخالية من المضمون؛ نظرا لأنها لم تأتي بناء على قراءة متعمقة لمتطلبات المرحلة الأكثر إلحاحا، جراء بقاء أثارها ضئيلة وغير ملموسة على أرض الواقع في ظل استمرار تنامي تراكم ملفات القضايا لسنوات طوال دون حسم، وبالتالي لم ترتقي إلى مستوى المرحلة ومتطلباتها، انسياقا مع ما أثرته من أبعاد في مقالة لنا- في هذا الشأن- نشرتها صحيفة إيلاف بتاريخ22/7/2009م بعنوان " سيادة القانون وإصلاح القضاء هو الحل يا فخامة الرئيس" ، لاسيما إن طبيعة ومستوى ومن ثم حجم التغيرات الجارية كانت ومازالت مجرد إجراءات روتينية بحته لم تخرج عن كونها مجرد عمليات إحلال قاضي محل أخر بغض النظر عما يتمتع به رجال القضاء من قدرات ذاتية بأبعادها المختلفة والقضائية والإدارية منها-بوجه خاص- وفقا- لمعايير وأسس علمية وعملية مبنية على مخرجات عملية (تقييم/ تقويم) الأداء والكفاءة، ومن ثم الفعالية الإدارية، بصورة تجعله أكثر قدرة وقوة على مواكبة متطلبات المرحلة.
وفي المقابل مما لاشك فيه-في هذا الشأن- ونحن نناقش هذه السلسلة غير المترابطة نسبيا من التغييرات الحاصلة على صعيد المؤسسة القضائية، نجد إننا بحاجة ماسة لان تكون عملية الإحلال الجارية أكثر مرونة وانضباطا مع متطلبات المرحلة الحالية- وفقا- للمعايير الموضوعية ضمن إطار منظومة متكاملة من الإصلاحات تمهد من خلالها للمرحلة المقبلة، وإلا تبقى التساؤلات مثارة حول ما جدوى التغييرات الحاصلة في مستوى القيادات العليا في ظل استمرار بقائها-على الأغلب- مجرد إجراءات إدارية شكلية يغلب عليها الطابع السياسي دون الجوهر لم تطال سوى قمة الهرم القضائي في ظل بقاء الجسد بأكمله عليلا ممثلا بـ(القيادات الوسطى والدنيا، الإداريين، المحامين....)، بمعنى أخر إنها لم تخرج عن كونها مجرد عمليات تنقلات للغث والسمين من مكان لأخر، لدرجة تجعلني أتسال كثيرا عن حاجتنا لمثل هكذا إجراءات وسياسات إن لم يتسنى لها أن تؤثر- بشكل مباشر- في واقع ومن ثم مستقبل العملية القضائية وصولا إلى مساسها الايجابي و المباشر السريع بحياة المواطن، لاسيما أن المحاكم حبلى بآلاف الآلاف من القضايا ذات المساس المباشر بحياة المجتمع، والتي يصل عمر البعض منها إلى عشرين عاما فأكثر، لدرجة تدفعني للتساؤل- أيضا- عمن كانوا السبب وراء تعطيل مصالح الأمة وبالتالي المساهمة الفعالة في تأجيج حمى التوترات التي يعج بها الوطن من أقصاه إلى أقصاه؟ ولمصلحة من يعملون؟ ثم ما مصلحتهم من بقاء القضايا عالقة وأحوال المواطنين غير مستقرة ؟ وأخيرا وليس أخرا أعجزت رحم هذه الأمة أن تلد أبناء برره وصالحين يهتمون بشأنها؟ وأين هو مصير مئات بل الآلاف القضاة والإداريين وكذا المحامين الشباب خريجي المعاهد والجامعات من أقسموا بالله يمينا مغلظة بأن لا ينشدوا في أحكامهم سوى تحقيق العدل، ولاسيما إنهم من ستوكل لهم مهمة إحداث التغيير المنشود في الهياكل التنظيمية للمحاكم ؟ ثم هل هنالك عمليات تقييم وتقويم لأداء القضاة وكفاءتهم ومن ثم للفعالية الإدارية في المؤسسات التي يديرونها قبل نقلهم أو إقصائهم من السلك القضائي برمته؟
ومن نافلة القول إن شاءت الصدفة أن أكون حاضرا لأحدى الجلسات في محكمة شرق تعز بتاريخ 29/12/2009م فدار الحديث بين محامي المدعي والمدعى عليه بخصوص تنفيذ حكم قضائي لقضية عمرها قرابة الـ15عاما صدر الحكم فيها قبل أكثر من عام تقريبا لتسديد مبالغ مالية لطرف ثالث (وتناوب القضاة واحد تلو الأخر عليها لإطالة أو منع أية إجراءات فورية لتنفيذ الحكم الصادر بشأنها لأسباب لا نعرفها)، فأفاد محامي المدعي بعد تعديل عدول الطرفين حول ثمن المحل المزمع بيعه بقوله للقاضي لدي مشتري للمحل بـ15مليونا ريال، فرد محامي المدعى عليه وأنا لن أبيعه إلا بـ6 مليون ريال (علما إن حصة الأخير من بيع المحل ما نسبته 74% فكيف يعقل ذلك) فتدخل القاضي موجها حديثه إلى محامي المدعي "اتقي الله في نفسك، حرام عليك، كون واسطة خير..، نحن هنا لإحقاق الحق وليس غيره... ) لدرجة تبلد معها المحامي وعجز عن قول شئ كي تنتهي بذلك فصول المسرحية الـ..... إلى موعد أخر.( سأترك لكم وللقضاء اليمني تقييم ذلك).
وعودا إلى بدء لا يسعني إلا القول بصدق وتجرد موضوعي إن هذا الأمر برمته قد ترتب عليه إفرازات وأثار سلبية وتداعيات كثيرة طالت العملية القضائية برمتها وستطال الأمن المجتمعي، لاسيما إنها تهدد بانتقالها-هذا إن لم نقل انتقلت منذ وقت ليس بالقصير- إلى ساحة الجراك الشعبي بأبعاده الاجتماعية والسياسية- الأمنية فماذا أنتم فاعلون؟، ومن هنا يتسنى لي القول بأهمية إعادة بلورة الملامح الرئيسة في توجهات المؤسسة القضائية ضمن هذا السياق المشار إليه آنفا- هذا أولا- وكذلك في تفعيل أجهزة القضاء من خلال تشكيل لجان قضائية على أعلى المستويات بصلاحيات استثنائية؛ تتولى الإطلاع على واقع العملية القضائية والإدارية ومن ثم البت في كل الملفات العالقة القضايا وتصفيتها وصولا إلى تكليف القضاة بحسم كافة القضايا التي بين أياديهم ضمن إطار زمني محدد- ثانيا- وكذا في تفعيل آليات متعددة للرقابة المشددة داخل أروقة القضاء سواء بحضور القيادات العليا والوسطى جلساته بصورة(منتظمة/مفاجئة) للاطلاع بشكل مباشر على أوضاع المؤسسة القضائية (قضاة، إداريين، محامين، توثيق، أمن....)، وإنشاء صناديق تظلم وشكاوي للمواطنين وغيرهم كي تُفعل أدوارهم فيها، مع وجود ضرورة ملحة بتفعيل آليات الثواب والعقاب في القانون، لأن القانون فوق الجميع.
والله من وراء القصد