فرص الديمقراطية في مصر (3):
التعديلات الدستورية لعام 2007



الدكتور لؤي عبد الباقي


كانت التعديلات الدستورية التي طرحها النظام المصري في عام 2007، والتي حاول تسويقها كأحد أهم الإنجازات الديمقراطية في عهد مبارك، محل انتقادات وإدانات واسعة من قبل منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، من ناحية، ومن قوى المعارضة المصرية، من ناحية ثانية. فالمنظمات الحقوقية رأت أن هذه التعديلات تقيد الحريات الفردية، وتفرض المزيد من العقبات التي تعيق المشاركة السياسية في مصر. أما القوى المعارضة فقد وصفتها بأنها ليست أقل من انقلاب على الدستور نفسه، وقضاء كامل على ما تبقى من هامش للعمل السياسي الديمقراطي . كما اعتبرت المنظمات الدولية لحقوق الإنسان هذه التعديلات بأنها، في أقل تقدير، منطلقة من دوافع سياسية بحتة، وأنها تهدف إلى تقويض النشاط السياسي السلمي لقوى المعارضة، من خلال توسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية عبر وضع أسس لقيود قانونية جديدة، كقانون مكافحة الإرهاب الذي أسست له هذه التعديلات .
تعرض الدستور المصري الحالي، والذي بدأ العمل به في عام 1971، لعدة تعديلات أهمها في الأعوام 1980 و2005 و2007. وتعتبر الصلاحيات الواسعة التي يمنحها الدستور لرئاسة الجمهورية من أهم المظاهر التي تخل بالتوازن بين صلاحيات السلطة التنفيذية، والسلطتين التشريعية والقضائية، حيث تجعل رئيس الجمهورية صاحب الهيمنة المطلقة على جميع جوانب الحياة السياسية في مصر. وحسب المادتين (141) و(143)، فإن الرئيس هو الذي يعين أو يقيل رئيس الوزراء ونوابه، والوزراء ونوابهم، والمسئولين المدنيين والعسكريين، والممثلين الدبلوماسيين. ورئيس الجمهورية هو رئيس الدولة (مادة 73)، ويتولى ممارسة السلطة التنفيذية (مادة 137)، وهو أيضا القائد الأعلى للقوات المسلحة (مادة 150)، ويرأس كلا من المجلس الأعلى، الذي يقوم على شئون الهيئات القضائية (مادة 173)، ومجلس الدفاع الوطني (مادة 182)، والشرطة المدنية (مادة 184). أما المادة (136)، التي لم تكن تجيز "لرئيس الجمهورية حل مجلس الشعب إلا عند الضرورة وبعد استفتاء الشعب"، فقد جاءت ضمن المواد التي خضعت للتعديلات الأخيرة، وأصبحت تسمح للرئيس بحل مجلس الشعب دون الحاجة إلى استفتاء. كما يجيز الدستور لرئيس الجمهورية حل مجلس الشورى (مادة 204) وتعيين ثلث أعضائه (مادة 196). إضافة إلى ذلك، يمنح الدستور لرئيس الجمهورية صلاحيات تشريعية وقضائية أخرى، كحق "إصدار القوانين أو الاعتراض عليها" (مادة 112) وحق العفو عن العقوبة أو تخفيفها (مادة 149).
بالرغم من أن الدستور المصري يؤكد بوضوح على استقلالية السلطة القضائية (مادة 165 ومادة 166)، وعلى أن "حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الأعلام مكفولة، والرقابة على الصحف محظورة، وإنذارها أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور"، إلا أنه يمنح السلطة التنفيذية الاستثناء من ذلك في "حالة إعلان الطوارئ" (مادة 48)، التي مازالت سارية تتجدد طيلة عهد الرئيس مبارك، رغم أن الدستور يفرض "في جميع الأحوال [أن] يكون إعلان حالة الطوارئ لمدة محددة" (مادة 148). إضافة إلى ذلك، فإن الدستور أعطى الحق للسلطة التنفيذية بتجاوز القضاء العادي وتشكيل نظام قضائي بديل، من خلال السماح بتشكيل محاكم أمن الدولة (مادة 171) التي يستخدمها النظام كأداة لتقييد الحريات الأساسية والعامة. تشمل هذه التجاوزات، على سبيل المثال، الحبس خارج إطار القانون، وممارسة التعذيب، والمحاكمات غير العادلة للمدنيين أمام المحاكم العسكرية، إضافة إلى تقييد حرية التعبير والتجمع والتنظيم .
لقد جاءت التعديلات الدستورية لعام 2007 في سياق الإجراءات التي اتخذها النظام المصري كرد فعل للشعبية المتنامية لجماعة الإخوان المسلمين والقوة الانتخابية التي حققتها في عام 2005. وقد تم إقرار التعديلات في شهر آذار من عام 2007 بعد عرضها على استفتاء شعبي قاطعته جماعة الإخوان المسلمين، ولم يشارك فيه سوى ما بين اثنين بالمائة (حسب تقدير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان) وعشرة بالمائة (حسب تقدير منظمة العفو الدولية) من الناخبين المسجلين. بيد أن تقديرات المصادر الحكومية تشير إلى مشاركة ما يقارب سبعة وعشرين بالمائة . وقد رصد المراقبون الكثير من التجاوزات والأخطاء، حيث أكدت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بأن غياب الإشراف القضائي الشامل على عملية إدلاء الأصوات أثار الكثير من الشكوك حول إجراءات التصويت، ومهد الطريق أمام السلطات لتزوير الإرادة الشعبية .
ويعتبر قانون مكافحة الإرهاب، الذي جاء ضمن التعديلات، من أهم النقاط التي أثارت الانتقادات، إذ أنه يمنح السلطات الأمنية صلاحيات واسعة للاعتقال خارج إطار القانون وتشديد الرقابة، مما يعزز حالة الطوارئ المثيرة للجدل. كما أن التعديلات تلغي دور القضاء في الإشراف على الانتخابات العامة، وتمنح رئيس الجمهورية صلاحية حل البرلمان بقرار منفرد . وتعتبر التعديلات التي أجريت على المواد (179) و(88) و(5) و(136) الأكثر إثارة للجدل والانتقاد، حيث اعتبرها البعض بأنها تمهد لتحويل مصر إلى دولة بوليسية. فالمادة (179) تسمح بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وتلغي أي أثر للمواد الدستورية (41) و(44) و(45) التي كانت تضمن (نظريا) الحماية للمواطنين ضد الاعتقال خارج القانون، وتمنع تقييد الحريات الفردية، والتفتيش بدون إذن قضائي، وانتهاك الحياة الخاصة. أما التعديل على المادة (88) فينصّ على تشكيل لجنة عليا، ولجان فرعية، للقيام بدور الإشراف على الانتخابات، ليلغى بذلك قرار المحكمة الدستورية العليا لعام 2000، الذي فرض الإشراف القضائي الشامل، وفي ظله ارتفع رصيد نواب المعارضة في مجلس الشعب إلى نسبة غير مسبوقة. أما التعديل في المادة (136) فقد أعطى رئاسة الجمهورية صلاحية حل البرلمان، مما أضاف المزيد من الخلل في التوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.
لقد برز الدافع السياسي وراء التعديلات الدستورية بصورة أكثر جلاءً في المادة (5) التي تستهدف بوضوح جماعة الإخوان المسلمين، حيث أنها تحظر "مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس ديني". وبذلك فهذا التعديل يفسح المجال على مصراعيه أمام السلطة التنفيذية لقمع أو حظر أي منظمة مدنية أو دينية، تحت ذريعة مباشرة النشاط السياسي المخالف للدستور. وبما أن الحزب الوطني لا يمتنع عن استخدام الشعارات الدينية أو المشاركة بنشاطات ذات خلفية دينية، يتضح بأن الدافع الحقيقي وراء هذا التعديل لا يهدف إلى الفصل بين النشاط الديني والنشاط السياسي بقدر ما يهدف إلى تبرير قمع وإقصاء جماعة الإخوان المسلمين من الحياة السياسية. من هنا يتفق الكثير من المحللين والباحثين بأن هذه التعديلات الدستورية جاءت في سياق رد فعل النظام المصري إزاء تزايد شعبية جماعة الإخوان المسلمين بعد الفوز الكبير الذي حققته في الانتخابات التشريعية لعام 2005، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار حملة الاعتقالات المستمرة ضد الجماعة منذ ذلك الحين .