الصوت والخطاب.
ممتنعات الترجمة.
أ.د. حبيب مونسي.

***
تمهيد:
قد لا يحسن المبدع التحدث عن المسار الذي سلكه الأثر الإبداعي للخروج في شكله النهائي أثرا مكتملا. ذلك أن المبدع من أسوء الشهود في قضية الآثار الفنية نشأة وميلادا، حتى وإن كانت شهاداتهم، تسعى جاهدة إلى تقديم صورة صادقة عما يعتور الأثر الفني منذ اختماره فكرة في خلد صاحبه إلى تجسّده وجودا مكتملا بين يدي القارئ.لأن استقراء مثل هذه الشهادات يكشف عن فجوات في السيرورة الإبداعية، تتخطاها الملاحظة الشاخصة الواعية، ولا تلامس فيها إلا المظهر الخارجي الناجز، وتغفل عن جملة المتحكمات الخفية التي تتسرب في غياب العملية الإبداعية، والتي تنفتح على جملة من العلاقات الخفية بين عناصر مختلفة، لا يشكل فيها الذاتي إلاّ طرفا ضئيلا لا يمكن الاعتداد به، ولا الاعتماد عليه مؤشرا على الشكل المنتهي.
لقد حاول "ستيفان زفيغ" "STEFAN ZWEIG" (1) منذ أربعينيات القرن الماضي، رصد مثل هذه الشهادات في فصل له بعنوان"سر العملية الإبداعية" ضمن كتابه"الرسائل الأخيرة""DERNIERS MESSAGES" ناهجا سبيلا عكسيا للكشف عن خطوات العملية الإبداعية، معتمدا على منهج علم الإجرام في الانطلاق من الشاهد إلى الغائب.محاولا إعادة تركيب العملية الإبداعية، انطلاقا من الأثر نفسه، مرورا بالمسودات التي خلفها الفنانون في ميادين عامة: رسما، و موسيقى، وشعرا،ورواية..على اعتبار أنها الأثر الشاهد على فعل مقترف من قبل، يحاول الوصول إلى الخطوات المعلنة، وغير المعلنة فيه. محاولة منه رسم الخطاطة التي تسلكها العملية الإبداعية، من لدن كونها فكرة غامضة تختمر في خلد الفنان، ثم تخلقها شكلا غير محدد المعالم والحدود، إلى المحاولات المتكررة التي يعانيها الفنان في إخراجها على هذه الصورة بدل تلك من الأشكال المحتملة. وينتهي "ستيفان زفيغ" أخيرا إلى أن شهادات الفنانين عن أعمالهم، هي أكثر الشهادات تضليلا للباحث المنقب، ذلك لكون جزء مهم من العملية الإبداعية يقع في غفلة الوعي. وأن الآثار المنتهية نفسها، لا تعبر بصدق، ولا تكشف عن حقيقة الخطوات التي سلكتها العملية الإبداعية.فالصورة المنتهية حقيقة أخري في تاريخ العملية نفسها.
وعندما نستعمل هذا النعت "غفلة الوعي" لا نريد منه ما يراه علماء النفس من غياب مطلق للحس، والشعور، والوعي، وإنما نشير إلى عملية تسرب خفي ، تحدث في حضور الفنان وشخوصه العقلي، ولكنه لا يملك قدرة صرفها. بل تتراءى له وكأنها عملية مقصودة شاء لها أن تكون كذلك، وهي في واقع حقيقتها غير ما أراد.إن الذي أملاها في عمق الأثر عامل منفصل عن ذات الفنان الواعية، متصل بها من خلال روابط أكثر خفاء وأوغل في تركيبته النفسية. تلك الروابط التي تعطي للكتابة والإنجاز الفني سمته التمييزية التي تختص به في كل مرحلة من مراحل حياة الفنان. لأنها شروط متغيرة يتحكم فيها الظرف الذي يكتنف الفنان لحظة الإبداع.
وعندما نستعمل اصطلاح "الظرف" لا نريد منه ما يراه علماء الاجتماع، وعلماء النفس، والتاريخ..بل نجنح به صوب ما اعتقدته الشخصانية في تحديدها للفرد. ذلك أن هذه الأخيرة اعتمدت في تصورها للشخص/الذات، مسلكا يختلف عن الصورة القارة التي عرفتها الفلسفات من قبل في تعريفها للشخصية. وكان على الشخصانية أن ترى في الفرد جملة تحققاته الشخصية. ومعنى ذلك أن الشخصية ظرف يكتنف الذات حينا من الدهر، يمثل نوعا نوعيا من الوعي يقع بين أفقين. فإن تغير الوعي وتبدل إطار الأفق ليحتضن الوعي الجديد، فقد خرجت الذات من شخصية لتدخل أخرى.وإذا هي دخلت ظرفها الجديد فقد تغيرت شروط إبداعها جملة..واستتبع ذلك فيها ومنها تلون الأداة الفنية، وتبدل استطاعاتها الإبداعية..
ومنه كان الحكم عليها، أو لها في ظرف من ظروفها المتعددة، واستبقاء هذا الحكم ، أو سحبه على باقي ظروفها الأخرى إجحاف في حقها، وظلم لتنوعها، وقتل لخصائصها، وتجميد لإمكانية التجدد والاستمرارية فيها.فإن قلنا عن فنان أنه رومنسي لأننا قرأنا بعض شعره في ظرف كان الغالب على شعره فيه روح من الرومنسية، فإننا قد حكمنا عليه حكما تأبيديا يصرف الناس عن التنوع الذي قد شهده شعره في المراحل التالية.
والأخطر من ذلك أن الشخصانية، وهي تعدد شخصية الواحد، سيرا وراء التوالي الزمني، تمعن في الاعتقاد بالتجاور والترادف، وتقر بوجود شخصيات متراكبة للذات الواحدة في الظرف الواحد.وقد وجد هذا الفهم عند"د.هـ.لورنس""D.H.LAWRENCE"و"بيرانديللو "PIRANDELLO" تعبيره الفصيح.قال "لورنس" رادا على دعاة الكمال الإنجليز، من خلال حركتهم المسماة "PERFECTIBILITY ":« أي كمال هذا الذي يدعون إليه؟ أهو كمال الإنسان ؟ أي إنسان يقصدون؟ إنني لست رجلا واحدا كما يتوهمون! إنني عدة رجال في هيئة رجل واحد! لأي منهم تريدون له الكمال؟» (2). أو ما قاله"بيرندللو" مخاطبا قارئه :« ..أجل فكر في ذلك مليا..لقد كنت شخصا آخر قبل هذه اللحظة بدقيقة، ليس شخصا آخر وحسب، بل مائة شخص آخر..» (3). وفي اعتراف الرجلين بيان لتجاور الشخصيات في الظرف الواحد، وكأن تجلي الشخصية الواحدة و هيمنتها على الشخصيات الأخرى مرهون بالمصلحة الآنية التي يتوقف عليها الظهور بهذا الوجه بدل ذلك. والفنان أثناء العملية الإبداعية يتقمص قناعا خاصا، وهو يحتفظ في غيابه بأقنعته الأخرى. بيد أن هذه الأقنعة لا تفقد فاعليتها كلية، بل تظل في حالة اندساس تشع منها بعض عناصرها الخاصة، فتشوش على القناع المهيمن. الأمر الذي يسمح بتسرب بعض المعطيات منها إلى حالة الحضور والشخوص، فيكون حضورها في غفلة من الوعي.
ربما بدت هذه الصورة غير واضحة ونحن نجريها في الحقل الأدبي، بعيدا عن المطارحة الفلسفية، ولكنها- وإن حملت بعض سيمات التطرف والشذوذ- أفضل طريقة لرصد التوترات التي تسكن المبدع أثناء عملية الإبداع، والتي يمكن الركون إليها في رصد التوترات التي تنتاب الكتابة فتضفي عليها طابعها الخاص.
ويحق لنا أن نلطف من غلواء هذه النظرة حين نجعل تعريف المبدع في هذا الشكل الرياضي من الكتابة، فنقول: إنه( الفنان+ الشاب أو الكهل + الذكر أو الأنثى + المريض أو المعافى + الشقي أو السعيد + المحافظ أو الليبرالي + المتدين أو المتسيس..).فإذا كان اهتمام الأدب ينصب على السمة الأولى أصالة، فإن إهمال السيمات الأخرى سيضعف القراءة الواعية العميقة، ويجعلها قراءة تجتزئ ببعض حقيقة الفنان دون استكمال حقيقته الكلية.مادامت السيمات الباقية تعمل عملها الدسيس في صلب الأثر الإبداعي، شئنا ذلك أم أبيناه.
إن القراءة وهي تفتح على نفسها هذا الحقل الفسيح المعقد، لا تحاول استكتاب ما سجلته المناهج النقدية القديمة التي رامت ملامسة بعض هذه الجوانب في سعيها لتحقيق نظرتها المعرفية في النص الأدبي، ومن خلال ارتباطها ببعض إنجازات العلوم الإنسانية المتاخمة للأدب.ولكن همها ينصرف إلى ترتيب المتحقق منها في نظرة متكاملة تتيح للقارئ معرفة واقعية بالفنان أثناء سريان العملية الإبداعية، مستفيدة من المعارف الإنسانية جمعاء، حتى تقدم الصورة الأكثر صدقا للأثر الإبداعي أولا، وللعملية الإبداعية ثانية. فإن تمّ لها ذلك، استطاعت أن تعدد مقصديات النص الأدبي، وأن تفتح المعنى على التعدد، والقراءة على الانتشار.
إن فكرة الانتشار التي نجزيها الساعة في خضم القراءة، تجعل هذه الأخيرة مغايرة للنقد ومبتغاه التقليدي.إذ ليس من شأنها الحكم، ولا هو من ديدنها، بل مرادها استكمال الفراغ الباني في النص، وسبر الغياب فيه، وتعديد مقصدياته، وحمله من حالة الكمون إلى حالة الحركة.إن الانتشار فاعلية أخرى اكتسبتها القراءة من قدرة القارئ، من اقتداره الذوقي والمعرفي، ودربته الفنية، ومعاشرته النصوصية. وكلما كان القارئ متمرسا، واعيا بأسباب الإبداع، مدركا لإكراهاته المختلفة، عالما بتشعبات المعنى ومتاهاته، كان قادرا على بعث الحياة في النص.ذلك ما نجده عند "سارتر" "SARTRE" حين رأى في القراءة خذروفا عجيبا لا وجود له إلاّ في الحركة.(4) والمقصود بالحركة ما أشرنا إليه بمصطلح الانتشار(5).
1-التشكيل الداخلي للنص، الغياب وعمق الذات:
قد يسهل علينا إدراك حقيقة الذات المبدعة إذا اعتبرنا الغياب هو ذلك العمق السحيق الذي يشكل جملة الامتدادات التي تتشجر الذات من خلالها لتبلغ مجموع السيمات التي عددناها في الكتابة الرياضية التي استعرناها لخط التعريف السابق، والتي تكون في اجتماعها حقيقة الفنان النفسية والاجتماعية، والفكرية، والسياسية، والمعتقداتية..وما شئنا من امتدادات أخرى.
فالسطح الذي يعرضه علينا النص، سطح أملس بارد، خال من الامتداد، لأنه أديم مسطح، ورقي..أو هو أشبه شيء بوجه المستنقع الراكد الذي تحجب خضرة مائه الملوثة عمقه، وتستر الكائنات الدقيقة التي تموج بالحياة في وسطه.فإذا استطعنا أن نتخطى الوجه الأملس البارد، أن نغوص قليلا فيه، فقد أطللنا ساعتها على عمق الغياب الذي يشكل حقيقة الذات المبدعة.
إننا نزعم الساعة أن أديم النص، يحتفظ بآثار دقيقة، متشابكة، معقدة، إذا تولتها القراءة بالفحص، وجدت فيها ما يفصح عن التوترات التي أنشأت النص، وأملت هندسته، وحددت مقصدياته، وجعلته منفتحا على القراءات المتعددة.هذه الآثار عديدة لا يمكن حصرها في عينات مذكورة محدودة، ولكن عبقرية القراءة ، وكفاءة القارئ يوقفانه على الخاص منها، الذي في إمكانه الإفصاح عن حقيقة النص في جملته.
ولنا أن نبدأ بمثال بسيط يوضح ما نرمي إليه من أمر الآثار، وما نرجوه من فاعليتها في الإنباء عن التوترات التي تسكن النص، وتفتح نافذة الغياب فيه. قال "يوسف غضوب":
نثر الخريف على الثرى أوراقه فتناثرت كتناثر العبرات.
كان النقد القديم لا يجد في مثل هذا الشعر سوى ذلك الروح الرومنسي الذي يستعير عناصر الطبيعة للتعبير عما يختلج في أعماق النفس من حزن وأسى. وتلك حقيقة لا يمكن نكرانها أو تجاهلها، بل هي صلب المعنى الذي من أجله أنشئ البيت الشعري. بيد أن سطح البيت يحتفظ بآثار، تعطي لهذه الحالة النفسية توترا يسلك في ذات الشاعر سبلا لا يمليها الوعي المبدع أصالة، وإنما هي تسربات تنطلق من التشجر الذي تحدثنا عنه من قبل.
وإذا فككنا البيت إلى مكوناته الصوتية، أمكننا إحصاء الآثار التالية: ( حرف الراء:7،حرف الثاء:4، حرف النون:3، حرف التاء:3) ومن الملفت للانتباه أن الهيمنة الصوتية في هذا البيت لحرف الراء، ثم الثاء، ثم النون والتاء. والراء حرف تكراري ما دخل في كلمة إلا وأكسبها سمة المعاودة والاستمرار، وكأنه لا يكتفي بحركة واحدة واثقة، وإنما هو في حاجة إلى المعاودة المستمرة حتى يتأكد من فعله.وكأن الباعث على ترداد هذا الحرف في هذا البيت عامل لا يتصل بالمعنى الذي ابتغاه الشاعر أصالة، وإنما هو تسرب يأتيه من ناحية أخرى. قد يعلمها ولكنها ليست حاضرة في خلده أثناء العملية الإبداعية.إنه صوت يجعل الشاعر وكأنه يحاول لملمة شعثه، يكرر فعلته، وكأن ما يتصل به من شؤون لا يقع في متناول يده، منظما جاهزا، وإنما هو أشتات متفرقات.
والذي يحملنا على هذا الاعتقاد أن الصوت الثاني في مسألة التوتر، هو حرف الثاء.وهو من الحروف الرخوة المهموسة الضعيفة التي يجري فيها الصوت ويتفشى وينتشر مبعثرا على طرف اللسان.وإذا جمعنا بين المعاني الحافة التي يشيعها حرف الراء- الذي هو في اللغات القديمة بمعنى الرأس، والذي قال عند "الخليل بن أحمد الفراهيدي" أنه الرجل الضعيف، وأنه زبد البحر أيضا-(6) وما نستشفه من حرف الثاء من معاني البعثرة والانتشار. أمكننا إلحاق هذه الصفات بالمبدع، لنرى فيه الرجل الكهل الذي بدأت وطأة الحياة تفعل فعلها فيه فكرا وجسدا.
وما مبعث الحزن الذي يلون خلفية البيت إلا من هذا الاجتماع الذي ترك من آثاره الصوتية ما يجعل البيت رثاء للذات على الطريقة الرومنسية المعهودة.أما تساوي الشدة والرخاوة بين حرفي النون و التاء، وتساويهما الترددي يكشف عن محاولة يائسة للاعتدال والمقاومة. وكأن نفس الشاعر تأبى أن تستكين لما يلم بما من ضعف وشتات. إنها حركة مقاومة داخلية تحاول أن تطل محتشمة من خلال أثري النون والتاء. ومن عبقرية اللغة أنها تضيف من دلالتها مقاصد أخرى لا يفطن لها المبدع، تحاول القراءة إعادة ربطها في سلك المعنى الواحد. وإذا تأملنا كلمة "العبرات" أوحى لنا جمعها بالتكرر والاستمرارية والاسترسال لوجود حرف الراء فيها أولا، ولمعنى العبور ثانيا.أنها تدر دوما كما تدر البقرة الحلوب..والتاء عند "الخليل" هي فعلا البقرة التي تحلب دائما، واستشهد بقول "مهلهل:
أبي فراس الهيجاء في كل حومة وجدك عبد يحلب التاء دائما.(7)
وحرف التاء الشديد، المهموس، فيه من الإصرار والعطاء والتجدد، ما يقابل حرف النون الرخو الأنفموي الباكي.الأمر الذي يوحي بوجود محاولات يائسة للتوازي الذي يكابده الشاعر في حياته الخاصة، قبل أن يكابده في ميدان الإبداع.


هوامش:
1-STEFAN.ZWEIG. DERNIERS MESSAGES.P .96.ed.VICTOR .ATTINGER.1949.PARIS.
2-محمد كمال حسن المحامي.سارتر.ص:73. منشورات المكتب العالمي بيروت.1988.
3-بيرندللو.واحد لا أحد ومائة ألف.ص:44.نقلا عن ألبيرس.تاريخ الرواية الحديثة ص:179.(ت) جورج سالم.منشورات عويدات بيروت.1988.
4-أنظر سارتر. ما الأدب؟ (ت) محمد غنيمي هلال.دار العودة (دت) بيروت.
5-انظر حبيب مونسي.فلسفة القراءة وإشكاليات المعنى. رسالة دكتوراه الدولة.مخطوط.بلعباس.
6-يحي عبابنة.النظام السيميائي للخط العربي.ص:54. اتحاد كتاب العرب.دمشق.1998.
7-الخليل بن أحمد الفراهيدي.ثلاثة كتب في الحروف للخليل.ابن السكيت.الرازي.(ت) رمضان عبد التواب.ص:34. مكتبة الخانجي.مصر.1987.