مسـلسـل الدكتورصـابر / الحلقة 5

تمنح جامعة موسكو في كل عطلة صيفية الطلبة الأجانب ( بيتوفكً), اي تذكرة سياحة للأ قامة والتغذية واجورالسفرالى احد مصائف الأتحاد السوفيتي(السابق),لمدة شهرواحد اوتخيًـرهُ السياحة بقطارخاص يطلق عليه اسم ( قطار الصداقة ), يخرج في بداية العطلة الصيفية من موسكو ويتوقف كل يوم في احد المصائف في جنوب الأتحاد السوفيتي على ساحل البحر الأسود في رحلة ترفيهية وتثقيفية, تستغرق شهراً كاملاً !
شارك صابرمع نخبة من الطلبة الأجانب الدارسـين في جامعة موسـكومن الجنسين
و من مختلف القوميات في رحلة القطار الموسوم بـ (قطارالصداقة), و الذي هو عبارة عن قطار فخـم متكون من عدة عربات مريحة, وكل عربة تحتوي على عدة غرف صغيرة تستوعب اربعة اشخاص للجلوس, وبالأمكان تحويلها الى أسـرة مريحة للنوم ليلاً , كما توجد عـربة بمثابة مطعم فخم واخرى كمقهى من الدرجة الأولى !
شـارك الطلبة المغتربون في هذه الرحلة نخبة من الطلبة والطالبات الروس, بهدف التحدث مع الأجانب لتقوية لغتهم الروسـية, ولتوطيد الصداقة السوفيتية معهم!
كان القطار يسير ليلاً و يتوقف نهاراً قبالة احد المصائف المطلة على ساحل البحر الأسود , وما ان يتوقف القطار حتى يهبط معظم الركاب ليتوجهون نحو ساحل البحر (البلاج), المكتض بآلاف المصطافين من الجنسين , وهم بلباس السباحة لعدة ساعات في المياه الدافئة, اوالتسطح على الرمال تحت الشمس الحارقة, من دون كلل او ملل!
كان صابر سعيداً بأختلاطه بتلك الجموع ,... وقد انبهرلمشاهدته الأجسام الـبشـرية الـشـبـه عارية, وراح يحلم بصحبة غادة او قل حورية حسناء قد تزيل عنه الضجر وألم الغربة , متستراً بغطاء الرغبته لتعلم اللفظ السليم للغة الروسية من اهلها مباشرة, فاللغة الروسية اقرب الى العربية من ناحية النحو ان لم تكن اصعب منها بكثير!
يستمر المشاركون بمرحهم حتى موعـد الغداء, فيعودون الى سكنهم في القطار لتغيير ملابس سباحتهم غيرالمحتشمة, حيث ان القوانين المعمول بها عموم (بلاجات) الأتحاد السوفيتي آنذاك تمنع ارتدائها عندما يكون الشخص خارج ساحل البحر فقط !
بعد غروب الشمس لا يسمح لأحد من ركاب قطار الصداقة بالتجول بمحاذات ساحل البحر, وعندما يأتي المساء يستعدون للسهرة في مركزالمدينة,.. على أمل التعرف على نخبة ممتازة من صبايا المنتجع في مقاهيها اومطاعمها, وبالخصوص لمن لم يوفق بصيد ثمين من صبايا قطار الصداقة ، او ان صداقتة لم تتعدى الهـمـس بلا لـمـس, اي
( ناشفه وتمن ) ، مردها الخـجـل او الوازع الديني اوالتخوف من علاقة معمقة!
استمتع "صابر" بهذا الوضع مع الطالبات الروسيات مبرراً ذلك برس تطبيقي في اللغة الروسية ،....وفي احدى الأمسيات دخل احدى المقاهي واجتذبت انتباهه صبية في غاية الوسامة جالسة بمفردها بحـشمة,.. واستسمحها بمشاركتها الجلوس على نفس الطاولة,..فهزت رأسها بالموافقة,وما ان تـمً التعارف معها حتى سألها عن سبب وحدتها و ارتدائها لوشاح أسود على رأسها ,.... فقالت له انها مسلمة واليوم هو الذكرى الأليمة لمقتل الحسين بن علي, وعرف فيما بعد انها (شيعية) من مدينة(مخاج كاله)!
سـعدت الفتاة عندما علمت بسيرة صابر, وانه من طائفتها,.. وعلى الفور طلبت منه تناول العشاء في دارها ليشرح لوالدتها تفسير آيات من القرآن الكريم ويسرد لها قصة مقتل الحسين (ع) !,.. فوافق صابر على الفور, وهكذا وبسرعة البرق تـمً اللقاء مع والدة الصبية, وبلغة روسية ركيكة تمكن صابران يجيب على استفسارات الأم الدينية ,.. ثم هرعت لأعداد الطعام , وظل صابر يتبادل الحديث عن المجتمع المسلم في ظل النظام الشيوعي, وشرحت له بأطناب عن صعوبة اداء الشعائر الدينية علناً, .. وبعد ان تـمً اعداد الطعام , جلس الجميع حول المائدة, وعليها بعض الأصناف, و من اهمها الأكلة الموسـومة بـ " البيتي", وهي اشبه (بالتشريب العراقي او الفتة المصرية) , وهكذا وبعد مجاملات واطراء بكرم هذه العائلة, بدأ يحـس بولعه بهذه الغادة ,.. وأعلمته من انها ما زالت طالبة في السنة الثالثة في كلية الحقوق في موسكووستعود عند بدأ السنة الدراسية, ووعدته باللقاء معه وكتبت له اسم المقهى ووقت وتاريخ اللقاء في موسكو ,..فطار فرحاً, واوصلته الى مقر اقامته في قطارالصداقة والذي سيغادر المنطقة ليلاً الى مصيف آخر.
تعثرحظ صابركالعادة مـرًة اخرى,..حيث لم تطل عليه تلك الحسناء وفق الموعد, ولام نفسه لعدم تسجيل عنوان سكنها او رقم هاتفها, ولكن ما نفع الندم ؟... وهكذا خسـر فرصة لن تتكرروظل خيالها يراوده حتى هذه اللحظة التي سـرد فيها فيها ما جـرى له مع تلك العائلة ، فما زال يراها بشموخها او قـل بـشـحـمها ولـحمها كلما سمع صوتاً للقطار...وصار موقناً بالعبارة التالية :
أن القطار لا يقف لمن لا يجيد الصعود به، وهو لا يفتح
أبوابه لمن لا يجيد فتحها, والنواح لا ينفع مطلقاً!
قبع صابر في سكنه في "موسكو" موشحاً بالحزن على فرصة اشبه بالخيال, فقد كانت تلك الصبية حورية خرجت من بين امواج البحرلتستريح في ذلك المقهى منطوية على نفسها وموشحة بالوشاح الأسود, ليزيد من جمالها الباهر،... والآن ولى كل شيء, وظلً متألماً لفقدان تلك الحورية ، وحاول ان يكون مرحاً وبعلاقة طيبة مع جميع معارفه ، الا انه لم يستطع , وصارت سلوته الوحيدة اغنية سيدة الغناء العربي أم كلثوم:
ربـمـا تـجـمـعـنـا اقـدارنـا ذات يـوم بـعـد ما عـزً اللـقـاء

سارت أمور "صابر" بشكل طبيعي في دراسته وفي علا ئـقـه الأجتماعية ، وتكونت لديه زمالات جديدة لا حصر لها، وصار مكان سكنه ملتقى للعراقيين عندما يأتي المساء في معظم أيام الأسبوع، عدا ليلة الأحد التي يقضيها في مشاهدة فلم سينمائي او مسرح ، وقد سأم من كل علاقة جديدة خوفاً من مطالبته بالزواج الممنوع على طالب البعثة !
أسـتغرب "صابر" من الآراء المغرضة من بعض الطالبات الروسيات, حيث قالت له احداهن : ان العرب يعتبرون اي فتاة ترتبط بصداقة حميمة معه ,..على أنها عاهرة!
ذهـل صابر من هذا الأفك , وقال لها : أن لكل بلد عاداته التي يتمسك بها، فأنت في مجتمع مفتوح لا يعير لعلاقتك بالذكورأهمية،... أما في مجتمعنا، فإن الأمر يختلف، لأن هناك قوانين شرعية تحكم سلوك الفرد في المجتمع ولا يمكن مخالفتها مطلقا لأنها منزلة من السماء ومدونة في القرآن الكريم، ولا يبيح ديننا أي خلوة بين الجنسين قبل إعلان الزواج وشهادة الشهود،.. اي ان اساس الزواج هو الأشهار, ولنا ديننا ولكم دينكم !

في صيف 1962 رغب "صابر" بزيارة الدول الأوربية، وشارك مع بعض الزملاء ً السفر إلى لندن عاصمة إنكلترا بحراً، فتوجهوا بالقطار إلى " لينين كراد " أي مدينة لينين، والتي كانت تعتبرالمدينة الثانية بعد موسكو, وكانت في عهد القياصرة قبل الثورة البلشفية (الشيوعية) هي العاصمة،وقد أهملت قليلاً بعد أن تحولت العاصمة إلى موسكو, إلا أنها حافظت على طابعها المعماري للقرن التاسع عشر، إضافة إلى موقعها الجغرافي وقربها من القطب الشمالي ممّا كساها حلة ممتعة للغاية، حيث يبدأ (النهار), في الصيف بالزيادة و(الليل) بالتقلص،... وقد يتم الغروب عدة دقائق فقط !
يسمى مثل هذا الليل بـ (بِيلي نوج, أي الليل الأبيض)،.. أنه منظرمذهل يهَّزُالناظرله هـزاً, ويُسـبح للخالق على تلك الظاهرة التي لا تتكررهنا إلا مرة في السنة !
صَعَدَ "صابر" ورفاقه ولأول مرة الباخرة الروسية من ميناء " لينين كراد" وكانت من الطراز الأول، أو قل أنها " قصر" شـيد أيام القرن التاسع عشر وزيّن على الطريقة الحديثة التي تبهرالناظرلها , انها تحفة فنية كانت مفخرة للصناعة الروسـية!
ما أن يضع الفرد قـدمـه على أول عتبة ليصعد الباخرة حتى يجد صفاً من المستقبلين وأغلبهم من النساء الروسيات الجميلات يبتسمن له,وما ان يطلب المساعدة حتى تصاحبه واحدة إلى مقصورته تترنح بمعيته, فًيـهـتـزله كيانه مهما كان محتشـماًَ، لأنهن من عالم آخر بملابـس البشـر, زدنً رونقاً بملابس البحارة !
وما أن وضع "صابر" حقائبه في المقصورة المخصصة له حتى خرج ليمتع نظره بدكورات كافة مرافقها , وازداد اعجاباً لما شاهد من زخرفة واثاث بهذه الباخرة !
احتجز صابر "طاولة" في بهو الباخرة الشبيه لأجمل صالون في أرقى فنادق الخمسة نجوم , وهكذا عاش "صابر" ورفاقه في تلك الباخرة ثلاثة أيام ولياليها الأربع، بمتع لا حَصر لها، وفي مساء الليلة الأخيرة كان صابرورفاقه على ظهرالباخرة, وما أن بان ميناء لندن من على بُعد حتى لاحظوا اعداداً كثيرة من مخازن "النفط",..المستورد من حقول النفط العراقية, وراحوا يرقصون بهستريا ويصرخون بالروسي (أَيتَّه ناشا نفتً) , أي أن ما تشاهدونه أمامكم هو مخازن لنفطنا المسـلوب, والناس من حولهم في ذهول ! فمنذ أول اكتشاف النفط ، كانت الحكومة البريطانية تشتريه بثمن بخـس, اويبادلونه مع الحكومة العراقية المكبلة بقيود المستعمر آنذاك, بأسلحة وبمنتجات كمالية ، اضافة الى تثقيف وتطويرالعراق نحو الحضارة الأوربية، إلا أن الواقع الذي لمسه صابر وجماعته عند مشاهدتهم لندن جعلتهم مؤمنين بهيمنة المسـتعمر، فالفرق بين العراق وبريطانيا شاسع ولايمكن ان يتقارب بمرور الزمن , لأنهم غير جادون في تنميته ، حتى صار من المحال أن يصل العراق بمستوى تلك الدول المتقدمة ولوبعد مـآت السنين!
خيَّمتْ الكآبة على "صابر" ورفاقه عندما وصلوا لندن وتجولوا بأشهر شوارعـها الموسـوم بـ "أكسفورد" الذي يضَّمَ بين جانبيه أجمل مخازن الكماليات في العالم، و التي تبهرالمتسـوق , ومن المحال اذا ما دخلها الزبون أن يغادرها من دون شـراء شيئ ما, وقد كسبت تلك البضائع شهرة عالمية لجودة صناعتها، إضافة لأخلاق الباعة الأنكليز المهذبة والتي تختلف تماماً عن سـلوك السياسـين من رجال الحكومة البريطانية !
اي زائر لبريطانيا, يشـعـر بأدب شعبها في تعامله اليومي مع كافة شرائح المجتمع والذي لا ينكره بـشرحتى لو كان من أشد أعداء الحكومة البريطانية !
مضـى أسبوعاً على وجود "صابر" ورفاقه في لندن, لذا قرروا العودة إلى موسكو عن طريق القطار مروراً بألمانيا الشرقية ، وقد كانت سفرة ممتعة لحين وصول القطار إلى الحدود البولونية والتي لا تبعد كثيراً عن الحدود الألمانية.
نبه "صابر" جميع رفاقه لتدقيق تاريخ انتهاء " الفيزة " وفرح الجميع لعدم سقوط فيزتهم، إلا أن سوء القدر جعل القطار يتأخرعن موعد دخوله للأراضي البولونية، بسبب عطل فني ودخل القطار متأخراً الى اول محطة بولونية حدودية عند الساعة الثانية صباحاً, وهذا يعني عملياً تأخرالقطارً يوماً عن موعده المقرر !
دخل جندي الحدود للتفتيش عن صلاحية جوازات السفر، فوجد الجندي انتهاء صلاحية فيزة "صابر" لمدة يوم واحد وطلب من "صابر" النزول معه لتصحيح الفيزة حيث اعتبرت فيزته بما يسمى (اكسباير) أي أنها غيرصالحة وضَجَّ رفاق صابر بالضحك, فهو الذي نبههم بضرورة التأكد من صلاحية فيزتهم إلا أن القدر كان بالمرصاد !
انزعج الجندي من الضحك عليه, حيث لم يكن يتقن اللهجة الروسية, ويتكلمها كأي اجنبي يتكلم اللغة العربية, ... ولذا اخذ جواز سفر صابر, وامره بعصبية بالنزول بمعيته إلى مقر المفرزة العسكرية في محطة القطار, لتصحيح وضعه... فأذعَّنَ "صابر" للأمر وما أن هبط ومسـَّت قدمه أرض المحطة حتى أعطى الجندي أوامره للقطار بالتحرك، وراح رفاق صابر يصرخون، والتفت نحوهم وهو في ذهول تام , حيث لم يكن مرتدياً غير القميص والبنطلون والشـبشـب , وليس في جيبه اية عملة مطلقاً ,.. وتبادل معهم الصراخ،... ولم ينفع ذلك... فقد بدأ القطار بالأبتعاد, وقاد الجندي صابراً إلى مقر اللجنة العسكرية وطلب منه الوقوف وانتظاره لحين العودة !
وقف "صابر"بمكانه ً ينتظر ذلك الجندي, بأمل عودته حيث جواز السفـرمعه, ولكن طال الأانتظار حتى الصباح ,..ولـم يـعـد!
بدأ الموظفون في محطة القطار البولونية بالوصول لعملهم وشاهد صابر من ضمنهم ذلك الجندي اللعين فتبعه وراح يكلمه بالروسي وهو (إمطنـَّشْ) أي لا يسمع ولا يتكلم,... ثم أشـر بيده إلى صابر لكي يتبعه، ودخل معه إلى ضابط برتبة كبيرة وتكلم معه باللغة البولونية القريبة من اللغة الروسية وقال لرئيسه : (هذا الرجل مذنب ), وسلمه جواز سفره, ... وراح الرئيس يدقق به, ...ثم كتب عليه بعض الكلمات وطلب من الجندي أن يقود صابراً نحو القطار المتوقف امام المركز العسكري!
أســتلـم صابر جواز سفره من الجندي البولوني ,وصعد إلى القطار, وبعد لحظات بدأ القطار بالتحرك,.. ففرح صابرلأنتهاء تلك المشكلة وتألم لا بسبب جهله لقوانين (الفيزة)، بل للحظ الذي جعل القطار يتأخر تلك الليلة لبعد ما منتصف الليل، مما جعل ذلك الجندي يخرجه من القطار, ليس فقط بسبب سقوط صلاحية الفيزة وإنما دفاعاً عن كرامته التي أهدرها رفاقه بضحكهم عليه عندما تكلم باللغة الروسية بلهجة بولونية .
جلـس "صابر" على أحد المقاعد الفارغة في عربة قطار عادي ، لاعناً حظه المتعثر وناعياً أحلامه في لقاء " الصديقة " التي تنتظره على رصيف محطة قطارموسكو،.. ثم راح يفكر بما سيقوله لها رفاقه اذا ما سألتهم ( أكـدً سـابر), اي اين صابر؟!
سرح صابربخياله وراح يجتر الذكريات الحلوة وأخذته سُـنة من النوم ولم يشعر إلا والقطار متوقف في المحطة !
ترجل صابر و وجد نفسه من جديد في محطة (برلين الشرقية ), عاصمة المانيا الديمقراطية سابقاً، فذهل لهذه المفاجأة ، فقد كان يظن غير ذلك،... ولم يخطر بباله أن سلطة الحدود البولونية سـتنتقم منه وتعيده الى برلين, لأن القانون السائد في مثل هذه الحالة ينص على تغريم المخالف مادياً, وبدفع رسوم (الفيزة) ويعاد فوراً للواسطة التي وصل بها لتقله الى بلد اقامته!
أخذ "صابر" ينظر بوجوه الناس وهو مهموم، فمنذ الأمـس وهو بدون طعام ولم يذق طعم النوم طيلة الليلة المنصرمة، فكاد أن يسقط من التعب إلى أن وقعت عينه على جندي روسي، وركز "صابر" نظره على العلامة المميزة الموضوعة على قبعة الجندي "المطرقة والمنجل"،... فتقدم نحوه وكلمه باللغة الروسية، فرحب الجندي "بصابر"واستمع بكل أدب لقصته، ثم قاده إلى مركزالأنضباط العسكري الروسي في الطابق الثاني في المحطة ، وبعد استراحة قليلة، طلب الجندي من "صابر" أن يرقد على سرير في غرفة مجاورة ، فرمى "صابر" نفسه وغط في نوم عميق، ولا يدري كم مضى من الوقت، حتى وجد الجندي واقفاً بجانبه وبصحبته شـاب وسيم بملابس مدنية زاهية، وبادر بالسلام على صابر واستمع إلى قصتة, ثم طلب منه التوجه معه فطاوع "صابر" الأمر ونهض بمعية ذلك الرجل الروسي بسيارته الدبلوماسية، وبعد فترة توقفت السيارة أمام مخزن راق للملابس الجاهزة، ثم طلب الرجل من "صابر" أن يختار لنفسه أي شيء يرغبه من الملابس الداخلية وبدلة كاملة،... وهكذا ارتدى "صابر" ملابساً أنيقة, ودفع الموظف الروسي ثمنها ،.. ثم اقتاد بعد ذلك ضيفه إلى فندق ممتاز وتكلم مع الأستعلامات باللغة الألمانية، وبعد أن استلم المفتاح ووقع على ورقة خاصة، التفت إلى "صابر" وحدثه بالروسية، حيث اخبره بضرورة الإقامة بهذا الفندق لحين تسوية التأشيرة (الفيزة), ثم سلمه ظرفاً بعض النقود, ... وأبى "صابر" استلامه، إلا أن الشاب الروسي أكد لصابر أن هذه النقود وجميع ما صرف عليه هو دين بذمته سوف يستقطع من راتبه عند عودته إلى موسكو!
شكرصابر مُضيفه ، وودعه على أمل اللقاء معه بعد أيام، وتوجه نحو غرفته، وعلى اية حال فقد اقام صابربذلك الفندق عدة أيام الى ان اكتملت فيزته.
بعد اسبوعين , حضر الشاب الروسي ومعه جواز سفرصابر, وفيه كافة التأشيرات المطلوبة، وتوجها معاً في الموعد المحدد لأنطلاق القطار المتوجه نحو موسكو، وبعد استكمال الإجراءات الرسمية ودع "صابر" مضيفه ودخل مقطورته ولوح بيده لذلك الإنسان المفعم بالأخلاص لبلده ،... وبدأ القطار بالتحرك ودقات قلب "صابر" تزداد ضرباتها متناغمة مع ضربات عجلات القطار!... وكيف لا ؟!,.. وشوق "صابر" وصل لدرجة الأتقاد، أو قل : أشـواق "صابر" طارت نحو سـماء موسكو باحثة عن الأحبة لتبشـرهم بقدوم "صابر" في القطار القادم من برلين الشـرقية قريباً !
وبعد ثلاثة أيام وصل "صابر" العاصمة موسـكو, ووجد لفيفاً من الزملاء باستقبله بكل حفاوة, حيث علموا بكل ما حصل له عن طريق قسـم الأجانب في جامعة موسـكو!
في اليوم التالي صباحاً عرج صابرعلى قسم الأجانب في الجامعة وأبلغهم بما حدث له في الحدود البولونية، وقدم للمسؤلة رسالة خطية منه الى سـفـارة الأتحاد السوفيتي في برلين يـثمـن فيها موقف الجندي الروسي في محطة قطاربرلين, والخدمة التي قدمها له الشاب ممثل السـفـارة الروسـيـة في المانيا الديمـقـراطية (سابقاً).
اعلمت مسؤلة قسم الأجانب ان مسؤلاً كبيراً في الجامعة كان يتابع موضوعه كل يوم, وعلى اتصال مستمر مع موظف السفارة الذي اعتنى به طيلة فترة أقامته في المانيا! وبعد مرور اكثر من أشهر لم يشعرصابر بأي نقص براتبه، ولما راجع قسم الحسابات في الجامعة لمعرفة سبب عدم قطع ما بذمته لسفارة الأتحاد السوفيتي في برلين، قيل له :
أن كل ما صرف عليه, هدية من سفارة الأتحاد السوفيتي!
شـكـر صابر محدثه وأرسل بطاقة شكرلأعضاء السفارة السوفيتية في برلين الشرقية.
وبعد أن استقر "صابر" بعض الشيء من العناء الذي اكتنفه بسبب رحلته إلى أوروبا، والمطب الذي هزَّ استقراره في الحدود الألمانية- البولونية،... انهمك في متابعة دراسته، والتقى مع أستاذته عدة مرات، وبدأ يطبق خطط البحث بكل جد واجتهاد لفتت له أنظار الطلبة من الروس والعرب!
يتبع في الحلقة / 6