أقدم هذه الدراسة الصادرة منذ أشهر ضمن كتاب :
في جدلية الفكر والأدب.
للأستاذ صلاح داود .. تعميما للفائدة ..
من ألف رسالة الغفران..
لأبي العلاء المعري؟
**سؤال قد يبدو من النوع السريالي.ولكننا نطمح هذا البحث إلى إثبات بعض الحقائق التي تظل مغلقة أمام قارئ رسالة الغفران خاصة أنها ما تزال تعتبر فريدة نوعها في ما تطرقت إليه من قضايا بأسلوب غير مسبوق ولا تابع له في التعامل الساخر مع محتوى هو غاية في الجدية بل في القداسة: المغفرة الإلهية.
فكيف تجرأ أبو العلاء على المجازفة بنفسه ليزج بها في غمار محرم من المحرمات الكبرى وهو الدين ؟ بل إنه جمع إليه بقية المحرمات المعروفة : السياسة والجنس؟ وهل اختار فعلا أن يفتح هذا الباب تلقائيا؟ فقد يكون من السهل فتحه ولكن الخطر كل الخطر في انه إذا فتح يصعب غلقه. فنحن ملزمون تبعا لذلك بالبحث الصارم عن الدواعي الحقيقية لتأليف هذه الرسالة.
فما هي أسباب تأليف رسالة الغفران؟
قد يكون الجواب السهل الواضح السريع هو أنها رد على رسالة (علي بن منصور) المعرف بابن القارح .إلا أن هذا الرأي قد يواجهه {أي مضاد يصعب عليه الاقتناع بهذا الجواب.فما من كتاب بحجم رسالة الغفران وقيمتها يمكن تأليفها لمجرد رد على رسالة. فلا شك أن هناك أسبابا بعيدة في الواقع الاجتماعي العام قد دفعت المعري إلى اقتحام مغامرة صاخبة في ضجة القضايا المضمنة في الرسالة.
ولكن رأبا مضادا قد يصرخ بدوره رافضا الاقتناع بهذا الجواب. فإذا كان للواقع أثر في تأليف الرسالة، فهل كان المعري وحده هو الذي يعيش ذلك الواقع؟
فلماذا لم يهتم غير أبي العلاء بهذه القضايا؟
ألم يقضِّ الأصفهاني مثلا أكثر من خمسين عاما في تأليف "الأغاني" غير عابئ بهموم الواقع وسلبياته؟
إذن؟
إن واجبنا العلمي يقتضي منا التأني والتباطؤ في استتباع جملة من العوامل من هنا وهناك عسى أن نجد في الرسالة وخارجها مما هو متعلق بها، ما قد يميط اللثام عن بعض هذه الحيرة المضنية.
ولننظر أولا إلى رسالة ابن القارح لنرى هل هي حقا دافع قوي ليرد عليها أبو العلاء.
لكن أي ابن قارح يعنينا؟ فهناك ابن القارح كما هو في التاريخ موضوعيا وهناك ابن القارح كما أراد يظهر ذاتيا في صورة باهرة تلونها الأصباغ الناصعة البهاء.
وإن الفصل بين الوجهين غلط علمي لا شك فيه فلا بد من تفحصهما معا في آن واحد.
ابن القارح الوجه الأول:
يمكن التوقف عند نواح أساسية ثلاث كفيلة بفهم شخصية الرجل.
ـ من الناحية الأدبية: هو علي بن منصور، شاعر مداح متكسب ظل مدة طويلة محسوبا على آل المغربي من الشيعة يمدحهم وينعم في وافر نعيمهم.
ـ من الناحية الأخلاقية: كان رجلا مقبلا على الخمرة ومجالس القصف واللهو والمجون والخلاعة وهو من أكبر عشاق الجنس الآخر.
وهو إلى ذلك ناكر للجميل مع أقرب الناس إليه وأكثرهم فضلا عليه حين نكبهم الدهر ودارت عليهم عجلته فهجاهم هجاء مكشوفا فعرف عنه بأنه من ذوي اللسانين لا ذمة له ولا عهد.
ـ ومن الناحية الدينية: هو متلهٍّ عن الآخرة بمتع الدنيا ينهل من لذائذها وآخر اهتماماته الفضيلة.
كل هذه الصفات تقوم شاهدا جليا على أ،ها نقيض صفات المعري الذي طلق الدنيا وانعزل عن الناس وزهد في الملذات وحرّم على نفسه الشهوات وصام الدهر ولم يفطر إلا في العيدين ورفض جراية قدمها له صديقه داعي الدعاة الفاطمي،وأبو العلاء هو الذي وقف موقفا صارما ضد الخمرة لكونها العدو اللدود لعقل الذي طالما مجده المعري إلى حد النبوة:
" أيها الغر إذا خصصت بعقل فاتبعنْه فكل عقل نبي"
كما أن مفهوم المعري للأدب والشعر بالذات، قائم على أنه معنى من معاني الالتزام
والمسؤولية والدفاع عن قضايا الإنسان (الحرية والحق والصدق والعدل..) واللزوميات على سبيل المثال شاهد صارخ على ذلك.
والمعري من أعداء المرأة والجنس ومواقفه مبثوثة هنا وهناك في قصائده.
باختصار فإن "عصارة" ابن القارح لا تتمازج ومزاج المعري كيفما قلّبناها وقلّبناه. والصلة بينهما صلة خطين متوازيين يستحيل تقاطعهما.
إن ابن القارح في الواقع لم يكن ليثير قضية خاصة لدى أبي العلاء فهو واحد من عديد الذين اعتزلهم وليس هو في حد ذاته بدعة.
لكن القضية نشأت حين خلق علي بن منصور نفسُه مصادمة مع الوجه الثاني فيه.
ابن القارح الوجه الثاني:
فقد نصّب نفسه في رسالته إلى المعري
ـ أدبيا: مدافعا عن الشعر غيورا على النحو واللغة يصحح الأخطاء ولا يعبأ بمعاداة أدعياء العلم والأدب له ( رسالة الغفران تحقيق بنت الشاطئ ص27)
ـ أخلاقيا صاحب أمانة متحرقا على ضياع رسالة أبي الفرج الزهرجي التي حمّله إياها ليوصلها إلى المعري فسرقت منه في الطريق.
وهو ممن يكره ذا اللسانين ويلعنه ويلعن معه "كل شقّار (أي كذاب) وكل قتّات (أي نمام).
ـ دينيا: غيورا على الدين وعدوا لدودا للملاحدة والزنادقة زمنهم ابن الراوندي والمتنبي، معلنا في الآن نفسه توبته ومعرضا عن الدنيا ( نفس المصدر ص51)
بل بدا قمة في النبل إذ أنه فسر تنكره لأصدقائه ذوي الفضل عيه من آل المغربي ،لا لدناءة في طبعه بل لغيرته على الكعبة الشريفة .فقد أخذ أبو القاسم المغربي "محاريب الكعبة ـ الذهب والفضة ـ وضربها دنانير ودراهم وسماها الكعبية ...وكم دم سفك وحريم انتهك وحرة أرمل وصبيّ أيتم؟"..(رسالة الغفران تحقيق بنت الشاطئ ص62) وهذا كله تاريخيا خطأ ومحض افتراء.
فابن القارح بدا هنا وجها جميلا تعلوه كثير من الأصباغ الناصعة وتلوح منه كثير من العطور الشذية:متأدب ديان شديد التخلق.وإذا تذكرنا معا أن المعري قد اعتُبِر أحد أهم زنادقة الإسلام الثلاثة( ابن الراوندي وأبي حيان التوحيدي وأبي العلاء) فإننا نرى مقاربة ضمنية ولكنها مكشوفة قصدها ابن القارح بين المعري وابن الراوندي الذي عدّه في رسالته إلى أبي العلاء ضمن الزنادقة الذين تهجم عليهم علنا.إنه يسبه في الخفاء بل في العلن.وإذا اعتبرنا كذلك أن المعري عاشق حتى النخاع للمتنبي أستاذه الروحي وبسبب حبه المفرط له جرّ من رجله في مجلس الشريف المرتضى، ندرك بوضوح أن تهجم ابن القارح على أبي الطيب الأستاذ يشمل آليا تلميذه أبا العلاء. فإذا كان المتنبي ملحدا زنديقا فكيف بختلف عنه تلميذه الذي يتعشّق أفكاره؟
فهل فهم المعري الهمز؟
ليس في الأمر ذكاء كبير، فابن القارح قد عمل على كشف أوراقه فصرح بأنه أعلن توبته، وأنه في انتظار أن يشرفه المعري بالرد على رسالته حتى يسيّرها بحلب مسقط رأسه وغيرها(نفس المصدر ص68) وحتى يجد من الناس معاملة حسنة ما دام شيخ المعرة ذاته قد صار من أصدقائه.
في هذا السياق تفوح رائحة النفاق ساطعة في الأفق فهل من وسيط في الإسلام بين العبد وخالقه؟ فماذا يريد الرجل من المعري إذا كان فعلا قد أخلص النية لله تعالى وتاب توبته النصوح؟ولماذا الوساطة؟
وإذا كان يريد العودة إلى مسقط رأسه حلب فها سيحسن صورته ما سيكتبه عنه المعري عنه إليه؟
وكيف يستطيع أبو العلاء أن يُجَمّله وهو في ذهنه أصلا مشوه الملامح؟ ألم يقل عنه شيخ المعرة حين ذُكر ابن القارح في حضرته:"أعرفه خبرا هو الذي هجا أبا القاسم بن علي بن الحسين المغربي." (رسالة الغفران (رسالة ابن القارح) ص55)
فهل تستطيع أصباغ التجميل التي دهن بها ابن القارح سلوكه السابق أن تغير من تشوهاته في ذهن المعري؟
لحظة المخاض العسيرة:
إذن.".يتم اللقاح" في ذهن أبي العلاء بين:
صورة علي بن منصور كما هو
+ وصورته كما أرادها أنتكون على أحسن وجه وأبهاه
= فـيتم "الحمْل" ويشتد " المخاض" في " رحم" عقلٍ متأزم، فكان لا بد من انتظار لحظة "الولادة" التي هي آتية لا محالة.
وها نحن فنستعد لتسميتها: إنها "رسالة الغفران".
أن ابن القارح يريد أن يضمن لنفسه حسن القبول وتلميع الصورة. فليكن له الجواز الذي به يعبر من الجِلْدة القبيحة على البشرة البهية النقية ، ولتكن ساعة "إنجاب" رسالة الغفران الساعة الحاسمة للحساب .
ابن القارح الوجه الثالث:
وفي رسالة الغفران سنجد علي بن منصور رقم 3 وهو المزيج من الوجه الأول الموضوعي والوجه الثاني الذاتي بواسطة "كيمياء" علائية ستتجلى أسلوبا ومحتوى وأبعادا.
وفي هذا ما يفسر أن لرسالة الغفران وجها وقفًـا، أو ظاهرا وباطنا، أو نصا منطوقا ونصا مسكوتا عنه..ولا مجال لفهم الأبعاد إلا بالمزاوجة بين الطرفين وإلا ظلت القراءة النقدية مغرقة في السطحية تلامس النص ولا تغوص أو قد تخطئ المرام تماما وفي ذلك خيانة كبيرة لفكر أبي العلاء ومواقفه من عصره ومراميه من تأليف الكتاب ، ولربما يضاعف هذا الأمر من اتهام المعري بأبشع تهم الكفر والزندقة .
فظاهر الكلام لا يزيد أحيانا على الطابع الخرافي السردي الساذج ولكن استبطان المرامي هو الذي يعطي الرسالة وزنها الفكري الفلسفي الأدبي بسخريتها التي هي فن وفلسفة وخيالها الذي هو وهم وحقيقة ولغتها التي هي ترسّل وتصنّع، وأماكنها التي هي جنة وجهنم، وأشخاصها الذين هم من كل زمان ومكان ومن كل الأجناس والأديان، إنسا وجانا وحيوانا وحتى جمادا ونباتا (كالسفرجل المتضمن جواري حسانا)، جاهليين وإسلاميين...
فما دخْل كل هذا في الموضوع؟ وكيف "حمَل"المعري بهذا"الجنين" الغريب؟
وما صلته رسالة ابن القارح؟ وهل هذه وحدها قادرة على أن تفعل كل هذا الفعل؟
أليس في طبع المعري الذي هو خليط من الثورة والألم بما هما قوة وضعف معا، ما ساهم في"العبث" بحرمة كثير من المقدسات التي اهتزت في عصر المؤلف؟
وهذا سر العنوان (رسالة الغفران). فهل هي صك جزاء يقدمه أبو العلاء لابن القارح لينال المغفرة مثلما اشتهى بعد أن تظاهر بالتوبة؟ أم هي "كِذبة" يتلاعب بموجبها المعري بصاحبة تلاعب الأسد بفريسته؟
قد يكون هذا كله أول مدخل ندعو القارئ إلى التفكير فيه منذ بداية اطلاعه على أول سطر من سطورها.
فهل الجنة العلائية هي فعلا الجنة السماوية؟
فالرسالة جواز يعبر به ابن القارح من عالم الأرض إلى عالم السماء. ولكن كيف تم العبور وهل صعّد الكاتب صاحبه فعلا إلى العالم العلوي حيث الجنة فعَلاَ به علوّا أم إنه بالعكس أنزل الجنة إليه على الأرض فحط من قدره بطريقة أو بأخرى؟
إن استنطاق منطق الرسالة الذي يسبق الحديث عن الجنة مباشرة قد يكون كفيلا بتوضيح الكثير مما قد يبدو ضريا من الألغاز.فحديث المعري عن الرسالة كان مفصلا ومبوبا .والرسالة التي بعث بها ابن القارح في نظر المعري سطور منجية من اللهب وكل سطر مجموعة كلمات طيبة كالشجر الطيب الثابت الأصل والفارع إلى السماء وكل كلمة مجموعة حروف أشباح نور : إنه القاموس القدسي يسيطر على صفات هذه الرسالة حتى تخالها كتابا مقدسا في منزلة القرآن الكريم .
ـ فالرسالة تنجي من اللهب، ولا لهب فيها
ـ وفيها أشباح نور نورانية وهي صفات ملائكية
ـ وتحتوي شجرا طيبا متصاعدا إلى السماء، وتلك هي الجنة.
فالرسالة والجنة شيء واحد. وابن القارح هو المؤلف الأصلي وما المعري إلا القارئ لها بعين الناقد بإسقاطاته الذاتية.
وإذا كانت رسالة ابن القارح بالأساس كلاما لا فعلا ، فالجنة ليست سوى كلام بعيد عن العمل .
والرسالة مليئة نفاقا وادعاء وتخابثا . من هنا يصبح كل ما قيل عن نورها ظلاما وما اعتبر سطورا تنجي من اللهب إنما هو جحيم في جحيم.
وكل ما وصف بالشجر الطيب ما هو إلا الخبث والفساد .
إنه القياس الخاطئ السفسطائي. وهي الجنة بالمقلوب، أرضية من أوهام رجل يتصنع الفضيلة ويختلق العفة والشرف ويدعي التوبة ومعاداة الزنادقة .
فنحن لم نصعد إلى الجنة لأنها أصلا لا يمكن أن توجد، بل نحن باقون نطوف بين الحروف والسطور والكلمات "القارحية".
إنه الذمّ في قالب مدح .فالظاهر تمجيد وإعجاب والباطن تشنيع واستهجان .
والجليّ جمال وطهر ، والخفيّ قبح وقذارة.
وليس أدل على هذه الثنائية الصارخة من النظر إلى أول صفة نسبها أبو العلاء إلى رسالة ابن القارح :"بحرها بالحِكم مسجور".
فاسم المفعول مشتق من فعل (سجر) بمعنى (ملأ ـ أو: أفرغ) فهو من الكلمات الأضداد.
فالمعري وهو العقل الرهيب والقدرة الفائقة على حفظ غريب اللغة وتأليف أشعار على لسان الجن في "الغفران" وهو الذي يحفظ للكلب وحده أكثر من سبعين اسما ، هل عجز عن أن يجد كلمة ذات مدلول واضح يفيد المدح ، إذا كان فعلا يريد أن يمدح ابن القارح؟
إلا أن المعاملة بالمثل يتعاطاه المعري بكثير من الذكاء والدهاء مع هذا الرجل الذي أظهر خلاف ما فعل و"كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".فليحاربه بنفس سلاحه وليتصنع أنه لم يفهم حتى يستأنس به ابن القارح ليصل باللعبة الهازئة إلى أقصى أبعادها مسخا وتجريحا.
فكل ما ادعاه ابن القارح كذب ولا واسطة في الإسلام، فلتكن الجنة في الغفران هي الأخرى بالقول البعيد عن الفعل.
أفلا يكون ابن القارح قد اخترق حدود ذاته وشخصه ليصبح نموذجا لعصر ورمزا لمرحلة تاريخية تأذى منها المعري إلى حد أنه اختار الرحيل إلى عالم الاغتراب والعزلة .
إلا أن سؤالا رهيبا يفرض نفسه: إذا كان أبو العلاء قد اختار العزلة والانفراد فهل هو فعلا قد انعزل؟ أليست هموم العالم البشري سياسة واقتصادا وأخلاقا ودينا هي التي آلمته وشغلته فما استطاع أن ينعزل وإن توهم العكس؟
فهل هو منعزل عن الناس رغما عنه أم بإرادته، أم هو منشغل بالناس رغما عنه أم بإرادته؟
وإذا كان المعري قد تحرر من العبودية للآخر، ألم تظل حريته مقيدة بالحلم للآخر والألم بسبب الآخر ومن أجله؟ فهل هي الحرية أم القيود في الفكر العلائي؟
شبكة من التداخل الغريب في الشخصية العلائية : أبو العلاء هارب من أبي العلاء إلى أبي العلاء . فأين المفر؟ وأين اللقاء؟.
ولكن.. مرة أخرى يزعجنا أمر لا يمكن التغاضي عـنه: لقد أراد المعري أن يخوض حربا شعواء. ضد النفاق والألاعيب عشقا للفضيلة وغيرة على الدين وإيمانا بفكر الإصلاح والإلتزام، لكنه لم يثِرْ سخطا ولا أثار حفيظة إلا من أهل الدين ومنظري الأخلاق . أليس هذا عجيبا؟
ألم تكن نوايا المعري الفاضلة وولعُه الرهيب بالقيم السامية هي التي ألبت الرأي العام والخاص عليه وخلقت منه رجلا مزعجا بل زنديقا؟
أفلم يكن أبو العلاء واعيا بذلك؟
لعلنا لا نتردد في أن نزعم بصوت صارخ بأن المعري لا يزعجه على الإطلاق أن يكون زنديقا إذا كان مفهوم الزندقة هو الحب والخير والسخط الصريح على القهر والفساد.بل الإزعاج كل الإزعاج أن يلبس لبوسَ التقوى جسمٌ مخادع:
" فانفرد ما استطعت فالقائل الصا ** دق يضحي ثقْلا على الجلساء"
أو:
"كذبٌ يقال على المنابر دائما ** أفلا يميد لما يقال المنبر؟ " (اللزوميات)
إن رسالة الأديب جسيمة وسكوته ما هو إلا خيانة للواجب المقدس.ألم يقتل من قبله ابن المقفع ؟ بل ألم يقطّع إربا إربا وتلقى قطعه في التنور ، لينعم الخليفة المنصور برائحة الشواء ..وما كان ابن المقفع إلا متلذذا مع شاوي لحمه فداء للحقيقة وللأدب الكبير والصغير معا؟
فليس الأدب مطية للمدح والتكسب الدنيوي ..ولعل خير من جارى المعري في موقفه المناهض للكذب هو إبليس نفسه في رسالة الغفران إذ يقول لابن القارح :" من الرجل ؟ فيقول :أنا فلان بن فلان من أهل حلب ، كانت صناعتي الأدب أتقرب به إلى الملوك .فيقول : بئس الصناعة ، إنها تهَب غفة من العيش ..فهنيئا لك إذ نجوت." [يعني من النار]( رسالة الغفران : تحقيق بنت الشاطئ ط6.دار المعارف ص 309)
فالكلمة الحرة عبر التاريخ ظلت غيرَ مرحّب بها من الناس خاصة وعامة.ألم يُتهم بالكفر من قال إن الأرض تدور؟ فهل كان هو المخطئ ، وهو وحيد ، أم الذين قتلوه ، وهم الأغلبية؟
إنه مفترق الطرق يوقفنا فيه أبو العلاء في رسالة الغفران فيصبح قدرنا أن نفكر بمعزل عن التفكير في إرضاء الآخر ، مع التخلص من الرقابة بجميع أنواعها واختراق المحرمات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس.وهي جميعها في الرسالة قد خلخل مفاهيمها أبو العلاء بجرأة فريدة قاسية، وفضْح بشع عنيف، فعرّى بذلك كل مستور من خبيث السرائر وشنيع السلوك ورديء التفكير، وتلك رسالة الأديب الذي آمن أن الأدب لا يكون إلا بالمغامرة والحرية والمسؤولية، بحثا عن التفرد والإضافة والتجاوز حتى لا يفسد الذوق أو تتبلد الإرادة ويُشلَّ العقل وينهار الوجود.، ولو كانت الضرية أن " يُـزنْـدقُـوه".
المفضلات