هوايات شط العرب



بقلم وعدسة
كاظم فنجان الحمامي

لا تندهش إذا علمت. أن شط العرب يمارس, منذ زمن بعيد, هوايات متعددة, فيها من الطرافة والغرابة ما يبعث على الدهشة والانبهار, نذكر منها هوايته المفضلة بجمع الرمال والأطيان, وتخزين المواد الغرينية, التي تحملها إليه تيارات دجلة والفرات والكارون. ويزداد هوسه بممارسة هذه الهواية الغريبة في مواسم الفيضان. ويحتفظ حاليا بكميات هائلة من الطبقات التي تراكمت في جوفه منذ عشرات السنين. واضعا إياها بشكل تراكمي طبقة فوق أخرى. وكل طبقة تعبر عن تاريخ وظروف الحقبة الزمنية التي تكوّنت فيها. فإذا تحطم زورق ما, وغرق في الماء, واستقر حطامه في قعر النهر, فان شط العرب سيدثره بعد بضعة أسابيع بدثار سميك من الرمال والأطيان. وستأتي فوقه طبقات وطبقات من الطمي, وهكذا احتفظ شط العرب في ذاكرته التراكمية بكل الطبقات التي تحكي قصة ظاهرة الإرساب والترسيب.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
هذه السفينة دفنها شط العرب ولم يظهر منها الآن إلا مؤخرتها

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
وهذه السفينة رماها شط العرب على ضفافه ولم يقرر لحد الآن كيف سيلهو معها

أما المخلفات الحربية كالدبابات والعجلات الثقيلة وبقايا الجسور المحطمة في النهر فقد خصص لها شط العرب متحفا تاريخيا ضخما يليق بها, ودفنها في أماكن متناثرة على الضفتين, ووزعها على طول المجرى المائي الممتد بين القرنة ورأس البشة. وأخفى معالمها تماما بين طبقات الطين والماء, بحيث بات من الصعب العثور عليها, أو الاهتداء إلى مواقعها. ولشط العرب هواية أخرى اشد غرابة من هذه الهواية, فهو يميل دائما إلى ابتلاع السفن الكبيرة, التي ساقتها الأقدار لتتحطم وتنقلب بمحاذاة ضفافه,
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
الناقلة البريطانية العملاقة (التنين) أغرقتها الحروب جنوب الفاو ثم أخذت تغوص وتغوص في أطيان القاع شيئا فشيئا حتى استقرت على هذا الوضع

فما أن يتسرب ماء الشط إلى عنابرها, ويملئ خزانتها, حتى يباشر باستخدام قوته الخفية لسحبها تدريجيا نحو الأسفل, ومن دون أن ينتبه إليه احد, واعتاد على دفن السفن المقلوبة, ومواراتها التراب. على الرغم من أحجامها الكبيرة, وأوزانها الثقيلة. مثال على ذلك نذكر: أن السفينة الهندية الكبيرة التي جنحت عام 1980 في المنطقة الواقعة جنوب جزيرة (أم الرصاص), وتحديدا في منطقة (الكطعة). واستقرت هناك بشكل معتدل على الضفة العراقية, كانت ظاهرة للعيان في العام 1980, بحيث يمكن مشاهدة جسدها وإنشاءاتها العلوية وصواريها ومدخنتها من مسافات بعيدة. أما الآن (2010) فقد غاصت السفينة برمتها في أطيان شط العرب, وانخفض ارتفاعها حتى لم يعد يظهر من أجزاءها الغائرة في الطين سوى قمم صواريها, التي تقزمت شيئا فشيئا, حتى صارت بارتفاع أعواد القصب والبردي, وكأنما انشقت الأرض وابتلعت جسد السفيتة العملاقة,
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
من يصدق إن شط العرب دفن هذه السفينة العملاقة وطوقها بالرمال والأطيان, ووضعها بهذا الشكل خارج الممر المائي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
إن أعماق هذه المنطقة الضحلة اقل من ثلاثة أمتار لكن شط العرب استطاع أن يبتلع هذه السفينة التي يقدر ارتفاعها بأكثر من عشرين مترا

وإذا سنحت لك الفرصة بالتجوال على ضفاف شط العرب ستشاهد رفات السفن العملاقة المدفونة بجوار القرى الفلاحية, وفي سواقي غابات النخيل القريبة من الضفاف. فقد قرر الشط أن يدفنها هناك, ثم ابتعد عن قبورها, وراح يرسم لنفسه ضفافا جديدة خارج محيط الأماكن التي دفن فيها السفن المعطوبة, وهناك مواقع أثرية كثيرة للسفن التي ابتلعها شط العرب في القرن الماضي, والتي مازالت ترقد في مقابر مبعثرة بين غابات أشجار النخيل. وهذا يعني أن حوض شط العرب ينفرد بنشاطات تكتونية عجيبة. بيد إنّ تلك النشاطات التكتونية ظلت خارج دائرة اهتمامات الفرق العلمية المتخصصة بالمسح الجيولوجي والجيمورفولوجي. ولم تُدرس بعناية لغاية الآن.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
سفينة محملة بالسيارات حملها الشط فوق أكتافه

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

ولشط العرب هوايات أخرى لم يزل يمارسها في الخفاء والعلن. فهو يبني ويهدم ويجرف وينحت في جدران ضفافه. ويغير من شكل واتجاه مجراه. فيضيق هنا, ويتسع هناك. وينعطف نحو اليمين هنا, ونحو اليسار هناك, وتتآكل جدران شواطئه في هذه الأماكن, وتتماسك عند تلك المنعطفات. وأحيانا تزداد أعماقه أو تضمحل في ظروف طبيعية شديدة التعقيد.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
لقطات فريدة للمراصد العسكرية الحصينة المشيدة بالخرسانة المسلحة ونلاحظ في الصورة كيف نخرتها التيارات المائية واقتلعتها من مواقعها ومن المتوقع انها ستجرفها نحو قعر النهر

وبالتالي فأن الملامح الرئيسية, لهذا النهر المتمرد على القوانين الجغرافية, تتغير باستمرار, وتخضع لتأثيرات قوة التيارات المائية, وشدة الموجات المدية, وكثافة الحركة الملاحية للسفن التجارية الكبيرة المتحركة ذهابا وإيابا. وبناء عليه نرى أننا في أمس الحاجة الآن إلى التدخل في شؤونه. وشموله بالرعاية الكاملة. ومنعه من مزاولة صخبه وعربدته كيفما يشاء. ويتعين علينا عدم السماح له بممارسة هواياته الجامحة. إذ لابد من ترويضه, ووضعه تحت السيطرة, وإكساء جدرانه بالستائر المعدنية, وتهذيب أعماقه الضحلة, وتخليصه من مخلفات الحروب التي تكدست في بساتينه, وإصلاح حقوله, وصيانة جداوله وتفرعاتها النهرية, وتخليصه من هياكل السفن والقطع الحربية التي انحشرت في بلعومه, وتأهيل ممراته البحرية, وتأثيثها بالفنارات, وتلطيف مياهه التي تلوثت بالنفايات النفطية والسموم الكيماوية, والعناية بثروته السمكية, والاهتمام بواجهاته السياحية, وإحياء تجمعاته الريفية البائسة.
إنّ هذه المعالجات الواسعة تحتاج إلى تنظيم حملات إصلاحية شاملة. وتستدعي قيام المؤسسات المعنية بتنفيذ المشاريع التطويرية الملاحية والتجارية والزراعية والسياحية والاروائية والسيادية اللازمة لتلبية متطلبات النهوض بكل استحقاقات شط العرب. وبخلاف ذلك فانه سيواصل تمرده الطبيعي, وسيدمر ضفافه وسواحله, وربما يؤدي ذلك إلى إصابتنا نحن بإضرار جسيمة يصعب التكهن بنتائجها. وسيترك لنا فوضى عارمة, تنطوي على موروث هائل من المشاكل المستعصية. .