إلغاء الجامعات العربية ضرورة مستقبلية
قد يرى كثير من الناس أن إلغاء بعض الجامعات العربية فكرة مستحيلة، ومن الأفضل المطالبة بفتح جامعات جديدة.. لكن الفكرة ليست تهكمية، وليست إمتاعاً أو ترفيهاً.. بل ربما نجد أنّ للفكرة وجهة نظر.. وقد تكون مناسبة، بعد التمعّن فيها وقراءة الموضوع بحيادية حتى النهاية.. الفكرة تكمن في العمل الجدي للوصول مستقبلاً إلى إقفال الجامعات العربية أو بعضاً منها، ولا أقصد كل الجامعات بكل تصانيفها، بل جامعات بعينها، وذلك بهدف إعادة البناء المحكم بشكل يختلف عن كل الطروحات السابقة..
والذي دعا إلى هذه الفكرة جملة قضايا تعاضدت فيما بينها لإنتاج هذه الفكرة (المستحيلة)، التي لو طبقت - وهي طبعاً لن تطبق - سيتم تغيير شكل المجتمعات لتصبح جديدة بالكامل. وبالتأكيد ما نتحدث عنه ليس حلماً، بل أضغاث أحلام... وفكر (تفريطي) لواقع ينذر بأخطار مستقبلية.. يجدر التنبه إليها.
وينبغي التأكيد أولاً أنّ الفكرة لا تبدأ بإغلاق الجامعات؛ أي لا نبدأ من النهاية كما يحدث في معظم الأفكار التغييرية، بل تنتهي بإغلاق الجامعات.
وهناك أسباب كثيرة لطرح هذه الفكرة؛ أولها أننا دائمو النقاش عن مستويات الطلبة في الجامعات، ولدينا قلق كبير على الخريجين الذين باتت مجتمعاتنا لا تستوعبهم ولا يقدمون جديداً، خاصة أن بعضهم يملكون شهادات غير ذي جدوى، وكثير من هذه الشهادات لا تعترف بها بعض دولنا العربية، كما يجد الخريج نفسه بعد دخوله سوق العمل أنّ معظم ما تعلمه مختلف عما في الكتب والمناهج.
هذه نقطة.. أمّا الثانية فهي طازجة جداً، وهي ما رأيناه قبل أسابيع قليلة من انطلاق جامعة كبرى في السعودية وهي جامعة الملك عبدالله، التي تركز على العلوم التطبيقية وأساسها علماء جديون من العالم، مهمتها إشعال جذوة البحث العلمي وفتح الباب أمام الأبحاث المعمقة. ومن الأسباب أيضاً فكرة رائدة عمل عليها متخصص من الشقيقة سوريا بإنشاء روضة للأطفال لا يتم التكلم فيها سوى باللغة الفصحى، حيث تبيّن بعد سنوات تفوق طلاب هذه الروضة - بعد أن وصلوا إلى الصف السادس - على أقرانهم الذين التحقوا سابقاً بروضات تقليدية..
ومن الأسباب أيضاً أن محررة صحافية سألت مدرساً جامعياً يوماً ماذا يتمنى أن يعمل لو كان له الخيار.. فأجابها بأنه لو قدر له أن يعمل الذي يتمناه.. فإنّه يريد أن يكون مربياً في رياض الأطفال.. طبعاً بشرط أن يحظى براتب مناسب. لكي يتخلى عن عمله مع الكبار وهو عمل يدر مالاً أكثر.. لكنّه فضّل العمل مع الأطفال لو كان الأمر أمنيّة.. إذا حقق له المدخول نفسه.. وهذا طبعاً حلم لن يتحقق.
ومن الأسباب أيضاً أنّ قضايا عديدة أثيرت حول موضوع التعليم، منها تأخر الجامعات العربية عن الغربية وعدم ورودها ضمن قائمة الجامعات المتقدمة..
ومنها أن أحدهم قال يوماً لرئيس قسم اللغة العربية في إحدى الجامعات الكبرى، وهو من الكبار في علمه وأدبه: "لو كان الأمر بيدي.. ولو كنت وزيراً للتربية لعينتك مدرساً لأطفال الروضة". فدهش من هذا الطرح.. وتابع قائلاً" "يا سيدي، أنت ستكون مسؤولاً عن تقويم لسان نحو 30 إنساناً عربياً، لتقوّم ألسنتهم وتكون مثل لسانك الذي ينطق الضاد كأعجب وأجمل ما يكون.. وتنتقل مع هؤلاء الصغار مرحلة مرحلة.. وتمسك بأيديهم من الرياض حتى الثانوية".. وأضاف: "تصور يا سيدي لو علّمت هؤلاء ماذا سيكون حالهم؟ هل أنتجت في حياتك الجامعية 30 طالباً – علماء مثلك - من المقومين في اللسان الفقيهين في اللغة، كما تتمنى.. لكنّك بهذه الخطوة ستخرج 30 عالماً حسبما تشتهي وربما أكثر.. وهم بدورهم سيخرج كل واحد منهم 30 عالمأً على الأقل.. واحص بعد ذلك ما شئت".
وتابع يقول: تصوّر يا سيدي لو فرّغنا مجموعة من الأساتذة الكبار لتعليم الأطفال من الروضة حتى الثانوية، ويكون المدرسون من كبار المدرسين في الجامعات وفي كل التخصصات.. تصوّر يا أستاذي ماذا سيحدث عندها؟ وعندما سيتخرج هؤلاء الطلاب ماذا تتوقع أن يكون مستواهم؟".
المهم - وبعيداً عن هذا الاستطراد لنعود إلى صلب القضية وهي إغلاق الجامعات العربية - نحن في دولنا العربية نصرف المليارات سنوياً على الجامعات، لكن الشكوى الدائمة أن كثيراً من الطلاب هم دون المستوى.. بمعنى أن الطالب يصل الى الجامعة دون تأسيس..
ومن نافلة القول إنّ المراحل الأولى من عمر الإنسان هي مرحلة البناء الأولى، ولو كانت هذه المراحل ضعيفة لن تفلح بعدها كثير من المراحل.. وببساطة.. لو نشأ أحدهم على لغة عربية ركيكة لا يمكن أن تقوم لغة الضاد عنده بعد ذلك بسهولة. فنجده يلفظ الثاء سيناً.. والدال ضاداً أو بالعكس.. واحص بعد ذلك الكثير الكثير.. من رفع ما لا يرفع وكسر ما لا يكسر.. وضم مالا يعرف الضم وال الصدَّ..
هذا في لغتنا الأم.. فماذا عن اللغات الأخرى؟ وعن العلوم والحساب والجغرافيا والتاريخ والكيمياء والفيزياء؟ علوم معظمها يصب حفظاً وسكباً في رؤوس الأطفال دون هدف من تحفيز لسبر العلوم وابتكار الجديد منها.. الذي يجب أن يكون أول أهداف التعليم..
ومن الأهمية التأكيد بعد ذلك أنّ الجامعات الحالية ستكون أمام خيارين لا ثالث لهما.. إما أن تتلاشى لوحدها.. لأن الطالب الذي سيتخرج في الثانوية على مستوى التدريس العالي، الذي يقوده مباشرة فطاحل العلماء في مجالهم؛ فإن مناهج الجامعة الحالية ستكون أقل بكثير من مستوى الخريجين، لأنهم أعدوا إعداداً حقيقياً عميقاً منذ مرحلة الروضة.. وبذلك نختصر سنوات دراسته ونكتفي بالثانوية ولن يكون فقط متخصصاً بكلية معينة بل سيكون متمكنا من جميع الكليات لأنه درس جميع المواد على يد خبراء لهم وزنهم الكبير، وبذلك بدلاً أن نضيع سنوات عمره ليصل ضعيفاً الى الجامعة نقلب الصورة ويبدأ بشكل صحيح كما كان يفعل القدماء مثلاً عندما كانوا يرسلون أولادهم إلى البادية لتقويم اللسان بدلاً من أن ننتظر حتى يكبروا فلن يكون التقويم بعد الكبر سهلا.
ومن الأشياء التي يمكن هنا الإشارة إليها.. أننا سنجد بعد 14 عاما وهي سنوات الدراسة من الروضة إلى الثانوية جيلاً فريداً لا يمكن مضاهاته بجيل آخر.. فلا يعود بعدها للجامعات دور يذكر لأن الطفل كبر وشب وعلى العلم والتعلم وأصبح مهيئا للتخصص.. وأصبحت معلوماته أكثر مما يأخذه في الجامعة.. كما يكون قد ملك المفاتيح كلها وأصبح معلماً لنفسه كما كان العلماء ماضياً وكما هم حاضراً..
وبعد ذلك يمكن أن تتحول الجامعات إلى مراكز بحثية معمقة.. وتلغى أولاً بعض الكليات النظرية، لأنها تقدم علوماً يمكن تحقيقها بالنظر والتفكر بعد إعداد أولي مركز، ونتشدد بعد ذلك على التعليم في الكليات التطبيقية، ونجعل البحث ديدن الطالب في الكليات النظرية، وبذا نخفف المصاريف التي ليس لها ضرورة، ونصرفها في التأسيس الأولي كما نصرفها على البحث العلمي لاحقاً..
هذه وجهة نظر..
ولكل وجهة نظر رؤية تعارضها أو تؤيدها.. والباب مفتوح للنقاش..