آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: خليل فرح: رجل بقامة أمة

  1. #1
    عـضــو الصورة الرمزية سمل السودانى
    تاريخ التسجيل
    12/05/2009
    المشاركات
    95
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي خليل فرح: رجل بقامة أمة

    جانباً عن فحولة اللغة وفخامة الأسلوب، لا نرى في هذا المدح ما يمكن أن يميّز الخليل فيما نحن بشأنه. ولكنه بعد هذا يشرع في تدبيج المديح لا لبدري بل لأهله وعشيرته، فيقول:

    أبواتكم ملوك من أرقو لي سكّوت
    وكان دمّ الرّجال ليهم شراب ومقوت
    غرب صيصاب جيوشُهم زلّت الجبروت
    كتلوا الجرْدة وفيها سوّوا الفوت

    ويشير الخليل هنا إلى واقعة بعينها، جرت غرب جزيرة صاي من جانب صيصاب، وأبلى فيها أخوه بدري أحسن البلاء. وكنا قد رجّحنا أن تكون تلك الواقعة مما جرى إبّان حملة ود النجومي والمصادمات التي جرت بين جيش الوردياب بقيادة عبد الكريم (أوشّي) خيري وردي وعبد التام محمد علي وردي. وهذه من المرّات ـ على قلّتها ـ التي يأتي فيها ذكر لصيصاب أو لصاي في شعر الخليل بطريقة مباشرة. وقد صدق في ذلك أبو قرون عندما قال بأن الخليل لم يذكر اسم قريته إلاّ مرات قلائل، مثل صدقه في بعض ما قال [بدري كاشف، 2000: 28] "ولد الخليل في منطقة المحس شمال السودان ولعلّ أول ما انسلّ إلى أذنيه المرهفتين وتغلغل إلى دواخله كان صوت آذان الفجر من صوت نوبي ندي، وأنين السواقي ينساب حنيناً وشدواً، ولعلّها أصوات بواخر كتشنر. كل هذه الأصوات تسللت إلى ذلك الوجدان فغمرته إيماناً ورقّةً ووطنيةً وهكذا نشأ الصبي الفذ". دون التعرّض لما يحفل به هذا القول من أغاليط مثل مولد الخليل بمنطقة المحس، والتقعّر الوارد في مسألة أصوات الآذان، إذ إن الصورة بها إسقاط لما عليه واقع الحال الآن من تجاوب أصوات الآذان من كل جانب لكثرة المساجد في زمننا الحاضر، وتجاوزاً لمسألة أبواق بواخر كتشنر بكل زعيقها وإزعاجها ناهيك عما صاحبها من خوف ووجل والتي ربما أوردها صديقنا ذو القرون عن نزعةٍ عسكريةٍ جامحة ـ بعيداً عن كل هذا يبقى اتّفاقنا معه في قوة أثر نشأته الأولى بصاي.
    ولكن فلنتمعّن في قول أحد أبناء صاي ممن كان زين شبابها في زمنه ولا يزال زين رجالها على مرّ الأيام، ألا وهو إبراهيم محمد إبراهيم بلال (حفيد بلال صاحب الجنّة الأولى وابن بلال صاحب الجنّة الثانية كما سيرد أدناه): "... ببساطة فإن للإنتماء آفاقاً في التركيبة النفسية والقيم التي تحكم سلوك الفرد. انتماء الخليل وارتباطه بجذوره النوبية واضح في جملة القيم التي جاء بها كما هي بعض إشاراته الواردة في شعره. ... وأزعم أن خليل فرح تتضح سيرته بهذا النمط من القيم وقد عبّر عنها في مواقفه ... صحيح أن الخليل لم يتحصّل الباحثون له عن شعر مسجّل باللغة النوبية ولكن المقام هنا هو أثر المنبت النوبي للخليل وتجلياته في شعره" [بدري كاشف، 2000: 26]. وهذا هو ما نحن بصدده، ألا وهو إثبات أن قريته (صاي أو صيصاب معاً) هي منبع الصور الجمالية ـ الوجدانية منها والمتعلّقة بالطبيعة؛ وهو ما نؤسس له ببيّنة الارتباط الروحي والوجداني لدى الخليل بأهله وعشيرته، وهو ارتباط لا يقاربه الخليل إلاّ في السياق التاريخي/الاجتماعي للمجموعة النوبية ككل. ففي نفس القصيدة يواصل مفتخراً بأهله:

    إنِحْنا المحس يَحْسِن وِليدنا حتوفُو
    متّحمل جبال الواقعة ساندة كتوفُو
    نارُو بِتوقد الغيرة وتناجي ضيوفُو
    فرّة سِنُّو في دارُو تحاكي سيوفُو

    مما يؤكّد هذا أن الخليل لا يتخلّى عن السياق التاريخي/الاجتماعي حتّى عندما يتناول أحداً من المنطقة النوبية ممن يدخلون في زمرة الأهل بالفهم العام. من ذلك مثلاً قصيدته التي رثى فيها صديقاً له من حلفا دغيم كان يدعى "سرّي" وقد مات شابّاً:

    آهِ .. وا حســرتا يـا ســرّي
    يا اْخــوي ورفيــقي وســرّي
    أحداثِك جِسامْ يا دنيـا ما بِتْسُـرّي
    ونادر نلقى فيك اْلْعَن همومنا بِسَرّي

    ثمّ يتعرّض الخليل لأثر وعمق الفقد الذي رُزئ به بموت صديقه، ولكن في السياق التاريخي/الاجتماعي النوبي:

    صيصاب ودغيم ودار المحس لي قرّي
    لابسة عليك سـواد يا معزّتنـا الحُرّي

    ولنا أن نلاحظ أنه في هذا السياق التاريخي/الاجتماعي النوبي لا يني يذكر ويشير إلى قريته صيصاب واضعاً إياها على قدم المساواة مع المناطق النوبية الكبرى مثل المحس، أرقو والسّكوت ودغيم، ناهيك عن محس أواسط السودان الذين يشير إليهم باسم عاصمة إقليمهم "قرّي" إبّان عهد الفونج.
    هذا ما كان من ذكر الخليل لاسم قريته الصغيرة "صيصاب"، وهو ذكرٌ وإن كان مباشراً إلاّ أنه يشتمل على رمزية الخليل التي قلّما تفارقه. إنها رمز للأصول والمنبت وطيب المحتد. ولكن بجانب هذا هناك أوجه أخرى أكثر عمقاً ورمزيةً يشير فيها الخليل إلى صيصاب (وصاي) في شعره. من ذلك قوله في أشهر أغانيه "عزّة في هواك":

    عزّة ما نسيت جنّة بلال وملعب الشباب تحت الظلال
    ونحن كالزّهور فوق التلال نشابي للنجوم واْنا ضافر الهلال

    ما هي "جنّة بلال" هذه، وأي ملعب للشباب هذا الذي تحت الظلال؟ ثم ماذا يقصد بقوله (كالزهور فوق التلال)، وكيف كانوا يشبّون للنجوم تطلّعاً بينما يتزيّن الشاعر بالهلال؟ هذه الأبيات تبيّن بوضوح ما نعنيه بالبعد الخاص والبعد العام في شعر الخليل. فعلى كثرة معجبي شعره، وباستثناء معميّة (جنّة بلال) التي أثارت بعض التساؤلات، لم يؤثر عن أحد إحساسه بحاجة ماسّة إلى طرح مثل هذه الأسئلة مجتمعة. فكيفما كانت (جنّة بلال) التي يعنيها الخليل، يبدو المعنى واضحاً لا يحتاج إلى شرح. وهذا صحيح إذا ما أُخذت الأبيات في بعدها العام؛ أمّا إذا أُخذت في بعدها الخاص، فإننا نحتاج إلى إيراد قصّة بشأن طقس احتفالي مرتبط بالزواج قد اندثر في صيصاب، وهو ما يعنيه الخليل. وتدليلا على أهمّية البعد الخاص في استكناه الدلالات البعيدة التي يحتملها شعر الخليل نورد اللبس الذي وقع فيه الشاعر مبارك المغربي في كتابه روّاد شعراء الأغنية السودانية (2002: 96-97). فقد أورد الشطرة التالية على أنها (نشابّي للنجوم ونضافر الهلال) أي على وزن (ونفاعل) مبررا ذلك بقوله: "فقد سمعتُ بعض الفنّانين يغنّونها: (نشابّي للنجوم وانا ضافر الهلال) واعتقد أن الخليل غنّاها كما أوردناها". وفي رأينا أن المغربي قد جانبه الصواب وإن بدا له حقّا أن الخليل قد غنّاها (ونضافر الهلال). فربما اختفت أصوات اللين في (وانا) جرّاء الأداء اللحني للأغنية. هذا اللبس سينجلي أمره تماما عندمةا نتعرّض أدناه للدلالات الخاصة في شعر الخليل.
    ترتفع غرب صيصاب كثبان الرمال كالجبال منهالةً على النيل ومغطّيةً أغلب أشجار النخيل إلاّ ما سمق منها فتغطّي أجذاعه. وجبال الرمال هذه قديمة، فقد حكى عنها الرحالة الذين زاروا المنطقة قبل أكثر من قرنين على أقلّ تقدير. فمثلاً بيركهاردت حكى عنها مع أنه لم يتمكن من دخول الجزيرة، إذ رآها من جهة ألبلي وعبري بالضفة الشرقية. لانهيالها على النيل من الضفة الغربية، وبسبب ارتفاع أشجار النخيل داخل صيصاب، تبدو كثبان الرمال للناظر من داخل الجزيرة وكأنها تقع داخل حدود صيصاب. وكما هو الحال في شواهق المرتفعات، يظنّ الناظر إليها من داخل صيصاب وكأنها قريبة جدّاً. على هذه الكثبان التي ترتفع كالجبال كان يجري ذلك الطقس الاحتفالي الذي كان يقام كختام لاحتفالات الزواج. منذ أزمان سحيقة وإلى وقت قريب كان يوقّت في صاي ومجمل بلاد النوبة لليلة العرس باكتمال البدر (ليلة قمر 14) لما للبدر من دلالات مرتبطة بالخصوبة، فضلاً عن الإنارة المجانية التي يشعّها البدر بسخاء. بعد انقضاء تلك الليلة بشهر كامل (ولنلاحظ ارتباط الشهر القمري بمفهوم الخصوبة) كان الشباب من الجنسين في صيصاب يجتمعون على هذه الكثبان كختام لاحتفالات العرس، فيغنون ويرقصون حتى الصبح، بينما أهلهم الكبار يراقبون كل ذلك وهم جلوس في باحة منازلهم بداخل الجزيرة بصيصاب، خاصّةً سوكري.
    الذين عاشوا تلك اللحظات ممن التقيت بهم (ووالدي كان واحداً منهم) سلخوا العمر وهم على استعداد لبيع جزء منه لو أن ذلك كان سيعيد لهم فرحة ليلتهم تلك. فهذا هو ما يعنيه خليل فرح بقوله:

    ونحن كالزّهور فوق التلال نشابي للنجوم واْنا ضافر الهلال


  2. #2
    عضو القيادة الجماعية الصورة الرمزية محمود الحيمي
    تاريخ التسجيل
    25/09/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    1,276
    معدل تقييم المستوى
    10

    افتراضي رد: خليل فرح: رجل بقامة أمة

    شكراً يا سمل على هذه الإضاءة المتميزة لأعمال خليل فرح. ورحم الله خليل فرح الشاعر الفنان الإنسان الذي ألهمت كلماته ملايين السودانيين حب الوطن.

    كل الود


    مُحمدٌ صفْوةُ الباري وخِيرتُهُ

    محمدٌ طاهرٌ من سائرِ التُّهَمِ

    They target our Prophet, we target their profits

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •