Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958
تفاصيل سقوط مدينة غرناطة الأندلسية ومحاكم التفتيش

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: تفاصيل سقوط مدينة غرناطة الأندلسية ومحاكم التفتيش

  1. #1
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    24/12/2009
    المشاركات
    29
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي تفاصيل سقوط مدينة غرناطة الأندلسية ومحاكم التفتيش

    تفاصيل سقوط مدينة غرناطة الأندلسية ومحاكم التفتيش
    موقعة طريف:
    وقد تجلى تحالف ملك المغرب مع ملك غرناطة مرة أخرى في المعركة التي أصيب فيها الملكان بهزيمة فادحة في معركة طريف سنة 741هـ من قبل النصارى .
    منذ ان استعاد الأندلسيون سنة 733هـ بمساعدة بني مرين - حكام المغرب - جبل طارق بعد أن ظل بأيدي النصارى أربعة وعشرين عاما - إذ سقط في أيدي النصارى سنة 709هـ توطدت العلاقة أكثر فأكثر بين بني الأحمر من جهة وبني مرين من جهة أخرى .
    وكان الأندلسيون كلما احسو بخطر النصارى يحدق بهم سارعوا إلىالاستنجاد بإخوتهم في الدين في العدوة المغربية من بني مرين ، وكانوا يقومون بالدور الذي كان يقوم به المرابطون والموحدون من الجهاد في أرض الأندلس "وفي عهد أبي الحجاج يوسف (ولايته 733-755هـ) " .
    كثرت غزوات النصارى لأراضي المسلمين وكان ألفونسو الحادي عشر تحدوه نحو المملكة الإسلامية أطماع عظيمة فكان أن استنجد أبو الحجاج بأبي الحسن سلطان المرينين ، الذي أرسل ابنه أبا مالك إلى الأندلس ، فاخترق سهول الجزيرة الخضراء معلنا الجهاد ، فاجتاح أراضي النصارى وحصل على غنائم لا تحصى غير أن النصارى من قشتالة وأرجوان والبرتغال كونوا
    (1) انظر: ابن جزي ومنهجه في التفسير (1/59).
    اسطولا بحريا متحدا ليستقر بالمضيق فيمنع الإمداد عن جيوش المغرب وسارت قوى النصارى المتحدة للقاء المسلمين وبارك البابا هذه الحملة، فباغتوا أبا مالك عند عودته بالوادي الذي كان يقع بين حدود النصارى وأرض المسلمين فكانت موقعة عظيمة قتل فيها أبو مالك ، وهزم جيشه هزيمة منكرة، وبلغ أبا الحسن المريني الخبر ، فاحتسب عند الله ابنه وشرع في الجهاد من جديد على إثر هذه المعركة. تجهز السلطان أبو الحسن واستنفر معه أهل المغرب فتوافت أساطيل المغاربة بمرسى سبتة تناهز المائة فأخرج الطاغية أسطوله إلى الزقاق (مضيق جبل طارق) ليمنع السلطان من الجواز إلى الأندلس فوقعت معركة بحرية عظيمة أظفر الله المسلمين فيها بعدوّهم وخالطوهم في أساطيلهم واستلحموهم هبراً بالسيوف ، وطعنا بالرماح ، وألقوا أشلاءهم في اليم ، وقتلوا قائدهم ، واستاقوا أساطيلهم إلى مرسى سبتة(1) . ثم بعد أن جلس السلطان للتهنئة وأنشدت الشعراء بين يديه ، استأنف إجازة العساكر فانتظمت الأساطيل سلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة. ونزل السلطان بعساكره بساحة طريف وأناخ بها ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجاج بعساكر الأندلس، وأحاطوا بطريف وأنزلوا بها أنواع القتل ونصبوا عليها الآلات.
    غير أن الطاغية جهّز أسطولاً آخر اعترض به المضيق لقطع المرافق والمؤن عن المعسكر، وطال ثواء المسلمين بمكانهم من حصار البلد، ففنيت أزودتهم وافتقدوا العلوفات فوهن الظفر، واختلت أحوال المعسكر، وحشد الطاغية أمم النصرانية، وظاهره البرتغاليون وبالرغم مما قيل من أن جيش المسلمين كان زهاء ستين ألفاً، فإن طول محاصرتهم للبلد وانقطاع المؤن عنهم
    (1) انظر: ابن خلدون (7/261) نقلاً عن ابن جزي ومنهجه في التفسير (1/72).
    من أول المحرم سنة 741هـ وإلى أوائل شهر جمادي الأولى من نفس العام، ثم المكيدة التي دبرها لهم أعداؤهم وعدم تلافيها كان وراء انكسار شوكتهم(1) وهذه المكيدة كما يصفها ابن خلدون تتلخص فيما يأتي:
    (ولما قرب معسكرهم سرّب الطاغية إلى طريف جيشاً من النصارى أكمنه بها فدخلوه ليلاً على حين غفلة من العسس المسلمين، الذين أرصدوا لهم غير أنهم أحسوا بهم آخر ليلتهم، فثاروا بهم من مراصدهم، وأدركوا أعاقبهم قبل دخول البلد، فقتلوا منهم عدداً ولبّسوا على السلطان بأنه لم يدخل البلد سواهم حذراً من سطوته وزحف الطاغية من الغد في جموعه، وعبأ السلطان مواكب المسلمين صفوفاً وتزاحفوا. كما تولى السلطان يوسف قيادة فرسان الأندلس ولمّا نشبت الحرب برز الجيش الكمين من البلد وخالفوهم إلى المعسكر، وعمدوا إلى فسطاط السلطان ودافعهم عنه الناشبة الذين أعدوا لحراسته فاستلحموهم ثم دافعهم النساء عن أنفسهن فقتلوهنّ وخلصوا إلى حظايا السلطان فقتلوهن، واستلبوهن وانتهبوا سائر الفسطاط وأضرموا المعسكر ناراً وأحسّ المسلمون بما وراءهم في معسكرهم فاختل مصافهم وارتدوا على أعقابهم بعد أن كان ابن السلطان صمم في طائفة من قومه وذويه حتى خالطهم في صفوفهم فأحاطوا به، وتقبضوا عليه وولّى السلطان متحيزاً إلى فئة من المسلمين واستشهد كثير من المسلمين من سادتهم وقادتهم(2).
    وكانت محنة عظيمة لم يشهد المسلمون مثلها منذ موقعة العقاب(3) يقول المقري في وصف هذه الفاجعة:
    (1) انظر: ابن جزي ومنهجه في التفسير (1/73).
    (2) انظر: العبر لابن خلدون (7/261-262) نقلاً عن ابن جزي (1/74).
    (3) انظر: نهاية الاندلس ص128.
    "فقضى الله الذي لامرد لما قدّره أن صارت تلك الجموع مكّسرة ورجع السلطان أبو الحسن مغلولاً وأضحى حسام الهزيمة عليه وعلى من معه مسلولاً.. وقتل جمع من أهل الإسلام ولمّة وافرة من الأعلام.. واشرأبّ العدو والكافر لأخذ مابقي من الجزيرة ذات الظل الوريف، وثبت قدمه إذ ذاك في بلد طريف، وبالجملة فهذه الموقعة من الدواهي المعضلة الداء، والأرزاء، التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب، وقرّت بذلك عيون الأعداء"(1).
    ويرأى الاستاذ نجيب زبيب اللبناني أن هزيمة المرينيين كانت بسبب الخيانة والعمل الاستخباراتي الذي قامت به ممالك النصارى ويرأى أن حكام غرناطة كانوا يتجسسون لصالح النصارى: (فالقشتاليون على سبيل المثال اتخذوا من حكام غرناطة جواسيس لهم في جميع أنحاء المغرب. وفي المناطق المنفصلة عنه مثل المغرب الأوسط وإفريقية وكان بنو زيان في تلمسان والحفصيون في المغرب الأوسط على اتصال مستمر مع حكام غرناطة، ينقلون إليهم كل المعلومات المستجدة عن الدولة المرينية، حتى أنهم صاروا يقومون بدور مخلب القط للقشتاليين فكل المعلومات التي كانت ترد إليهم من الحفصيين والزيانيين كانوا يقدمونها إلى القشتاليين.
    وكثيراً ماحث القشتاليون حكام غرناطة على طلب النجدة من المرانيين للايقاع بالجيوش المرينية وأساطيلها في المكائد والشراك المنصوبة..)(2).
    ولاشك أن العمل الاستخباراتي من الأعمال التي تدمر الأمم إذا لم يكن لها عمل مضاد ضد مخططات الأعداء بل إن نجاح الدول في تحقيق أهدافها منوط بتحقيق هذا المفصل المهم في بناءها.
    (1) انظر: ابن الجزي ومنهجه في التفسير (1/74) نقلاً عن نفخ الطيب (6/317).
    (2) الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والاندلس ، الاستاذ نجيب زبيب (3/81).
    هـ- العلماء الذين سقطوا شهداء في معركة طريف:
    1- أبو محمد عبدالله بن سعيد السلماني، والد الوزير الغرناطي والأديب الكاتب لسان الدين بن الخطيب.
    2- القاضي أبو عبدالله محمد بن بكر الأشعري المالقي، أحد أشياخ ابن الخطيب وصاحب كتاب التَّمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، (كان حسن التخلق عطوفاً على الطلبة محباً للعلم والعلماء مجلاً لأهله مُطَّرح التصنع عديم المبالاة بالملبس بادي الظاهر عزيز النفس نافذ الحكم صَوَّالة معروفاً بنصرة من أزَر اليه. تقدم للمشيخة ببلده مالقة ناظراً في أمور العَقد والحل ومصالح الكافة ثم وُليَّ القضاء بها فأعَزَّ الخُطة وترك الهَوادة ملازماً للقراءة والإقراء محافظاً للأوقات حريصاً على الإفادة. ثم وُلَّيَ القضاء والخطابة بغرناطة"(1).
    "وتصدَّر لبثِّ العلم بالحضارة يقري فنوناً منه جَمَّة فنفع وخَرَّج ودرَّس العربية والفقه والأصول وأقرأ القرآن وعلم الفرائض والحساب وعقد مجالس الحديث شرحاً وسماعاً على سبيل من انشراح الصدر وحسن التجمُّل وخفض الجناح.."(2).
    "واستمر على عمله من الاجتهاد، والرغبة في الجهاد، إلى أن فقد - رحمه الله - في مصاف المسلمين، يوم المناجزة الكبرى بطاهر طريف، شهيداً محرّضاً يشحذ البصائر و (يدمي) الأبطال، ويشير على الأمير من أن يكثر من قول :"حسبنا الله ونعم الوكيل".
    (1) الاحاطة (2/176-177).
    (2) نفس المصدر (2/177).
    3- أبو القاسم محمد بن جُزَيّ وهو أحد أشياخ ابن الخطيب وصاحب المؤلفات. كان "فقيهاً حافظاً قائماً على التدريس، مشاركاً في فنون من عربية وفقه وأصول وقراءآت وأدب وحديث، حافظاً للتفسير، مستوعباً للأقوال، جمّاعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن، تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصالته"(1).
    "فقد وهو يحرض الناس ويشحذ بصائرهم ويثبتهم، يوم الكائنة بطريف.."(2).
    وغير ذلك من الفقهاء والعلماء والصلحاء الذي كان همهم نصرة دين الله والموت في سبيل الله تعالى.
    وبعد معركة طريف أصبحت مملكة غرناطة في مدّ وجز، واعتورتها حالات الحرب والهدنة، والمسالمة والتحالف جنباً مع قشتالة ضد بني مرين، ومع بني مرين ضد قشتالة، أو أراجون حيناً آخر ثم مالبثت هذه المملكة أن أصابها الهرم، ولحقتها الشيخوخة وأضعفها الانقسام والتناحر الداخلي مع الانغماس في اللذات وفي نفس الوقت ضعفت دولة بني مرين المغربية التي كانت عوناً في كثير من الأحيان لمسلمي الأندلس ضد أعدائهم النصارى وكان زمن سقوط دولة بني مرين 869هـ(3).
    واندلعت الحرب الأهلية في داخل غرناطة بسبب النساء حيث أن ملك
    (1) نفح الطيب (5/514).
    (2) نفس المصدر (5/514) نقلاً عن التاريخ الاندلسي ص547.
    (3) انظر: ابن جزي ومنهجه في التفسير (1/74).
    غرناطة أصبح أسيراً لحب امرأة رومية نصرانية تدعى "ثريا" وأصبح أداة سهلة في يد زوجته الفتيه الحسناء وكانت كثيرة الدهاء والأطماع، فقد تطلعت إلى أن يكون ولدها الأكبر السيد يحيى وليَّاً للعهد، وكان المؤهل لولاية العهد ابن عائشة الحرة أبو عبدالله محمد، وتمكنت ثريا من اقناع زوجها أبي الحسن لإقصاء عائشة وولديها حتى اقنعته باعتقالهم جميعاً، وفي برج قمارش أمنع أبراج الحمراء زُجَّت عائشة الحرة مع ولديها، وشدَّد الحجر عليهم، وعُوملوا بمنتهى الشدة والقسوة وانقسم المجتمع الغرناطي إلى فريقين.
    فريق يؤيد السلطان ومحظيته (سيدة غرناطة الحقيقية) المستأثرة بكل سلطة ونفوذ.
    وفريق يؤيد الأميرة الشرعية (عائشة الحرة وولديها).
    ولم تستسلم عائشة الحرة إلى واقعها المؤلم، واتصلت سراً بمؤيديها وأنصارها، وفي مقدمتهم بنو سراج، وتمكنَّت من الهرب من قصر الحمراء في ليلة من ليالي جمادي الثانية سنة 887هـ /1482م بمساعدة بعض المؤيدين المخلصين.
    وظهرت في وادي آش حيث مجمع أنصار ولدها.
    وقرر فرديناند وازبيلا البدء بالحرب بعد أن سنحت الفرصة، وبعد أن دخلت مملكة غرناطة في صراعها الداخلي وسار القواد القشتاليون إلى جنوب غربي غرناطة إلى مكان اسمه الحمة، لضعف وسائل الدفاع عنها من أجل احتلالها ومن ثم احتلال غرناطة ومالقة معاً، وتم لهم ذلك ولم يستطع أبو الحسن ملك غرناطة استردادها، ولكنه استطاع أن يدعم أمير مدينة لوشة الواقعة على نهر شنيل شمال ألحامة وعلى مقربة منها وأن يردّا معاً الإسبان في جمادي الأولى 887هـ/ تموز "يوليه" 1482م.
    وتعاطف الشعب الغرناطي مع الشرعية (عائشة الحرة واضطر ملك غرناطة أن يترك كرسي الملك وفر إلى مالقة، وكان فيها أخوه الأمير أبو عبدالله محمد بن سعد المعروف بالزغل يدفع عنها جيشاً جراراً سيَّره ملك قشتالة لافتتاحها، وجلس ابن عائشة الحرة أبو عبدالله محمد مكان أبيه على عرش غرناطة أواخر سنة 887هـ، وعمره 25 سنة وأراد أن يحذو حذو عمه الزغل في الجهاد، وباشر القتال بنفسه وحقق انتصارات على النصارى وانتزع منهم حصوناً وقلاعاً سنة 888هـ نيسان "ابريل" سنة 1483 إلا أنه وقع أسيراً في يد النصارى في احدى المعارك.
    واستطاع فرديناند أن يجعل من أبي عبدالله الصغير وسيلة لتدمير غرناطة من الداخل ولذلك رفض الأموال الطائلة التي عرضت عليه من أجل فك أسره واستغل النصارى قلة خبرة أبي عبدالله الصغير، وانعدام حزمه، وضعف إرادته، وطموحه للحكم.
    ولما تولى عرش غرناطة ابوعبدالله الزغل واستطاع أن يرد بكل جرأة وشجاعة وبطولة هجمات النصارى إلا أن الكيد النصراني الحاقد استخدام اسلوب تقوية الفتن الداخلية في غرناطة وفي أحرج الظروف أطلق فرديناند سراح أبي عبدالله الصغير، بعد أن و قعه على معاهدة أعلن فيها خضوعه وطاعته لملك قشتالة مدتها عامان، وأن تطبق في جميع البلدان التي تدين بالطاعة لأبي عبدالله الصغير، وأخذ يبث أبو عبدالله الصغير دعوته في شرق الأندلس، والحرب الأهلية قائمة في غرناطة وزاد الأمر سوءاً سقوط مدينة لوشة بيد النصارى في أواخر جمادي الأولى 891هـ / أيار مايو 1486م، وكان موقف أبي عبدالله الصغير أثناء هذه الحوادث الجسام مريباً.
    فهو مازال يشيد بمزايا الصلح المعقود مع النصارى.
    وبقي يستظل بمظاهرته للنصارى وبتأييدهم له.
    وأنه غدا آلة في يد ملك قشتالة يعمل بوحيه وتوجيهه، فهو الورقة الرابحة بيد فرديناند.
    ودعم فرديناند ابا عبدالله الصغير ضد عمه وانقسمت غرناطة إلى شطرين وتحقق لفرديناند ما أراده وسعى إليه، فقد تمزقت دولة الإسلام بالأندلس وستمضي بخطوات سريعة نحو دمارها قبل أن ترجع إلى وحدة صفها مرّة أخرى.
    وشرع فرديناند في محاربة المناطق الشرقية والجنوبية التي تخضع لأبي عبدالله الزغل، وزحف على مالقة وطوقها براً وبحراً في جماد الثانية 892هـ/حزيران يونيه 1487م، وخاف الزغل أن يسير إلى انجادها من وادي آش، خاف غدر ابن أخيه أبي عبدالله الصغير، فاستنجد بسلطان مصر الأشرف قايتباي، ولم يكن من المنتظر أن تقاوم مالقة حتى يأتيها المدد من القاهرة، فسقطت في أواخر شعبان 892هـ/ آب اغسطس 1478م ونكث فرديناند بوعوده التي قطعها لأهل مالقة، فغدر بهم واسترقهم جميعاً، وهذا مثال لسوء طوية نفس فرديناند تجاه المسلمين.
    كانت مصر في تلك الفترة لاتستطيع أن ترسل قواتها إلى الأندلس لأسباب عديدة إلا أن حاكمها المملوكي استعمل الضغط السياسي، فأرسل راهبين لسفارة مصرية مملوكية، إلى البابا أنوصان الثامن، وإلى ملوك النصرانية ليبين لهم أن النصارى في بلاد المسلمين في منتهى الأمان والاطمئنان والحرية والحماية، والمسلمون تسفك دماؤهم، وتستحل حرمتهم، وتغزا أراضيهم في الأندلس وتوعد سلطان المماليك فرديناند إن لم يغيِّر خطته وسياسته تجاه غرناطة، وإلا اضطر إلى تغيير سياسته حيال النصارى في بلاد المسلمين كمعاملة بالمثل استقبل فرديناند السفيرين، ولم يعبأ بوعيد السلطان الأشرف، ولم يغيِّر خطته، ولكنه كتب إليه في أدب المجاملة: "أنهما - فرديناند وزوجه ايزبيلا - لايفرقان في المعاملة بين رعاياهما المسلمين والنصارى، ولكنهما لايستطيعان صبراً على ترك أرض الآباء والأجداد في يد الأجانب، وأن المسلمين إذا شاؤوا حياة في ظل حكمهما راضين مخلصين، فإنهم سوف يلقون منهما مايلقاه الرعايا الآخرون من الرعاية"(1).
    وفشلت المحاولة الدبلوماسية، وتركت غرناطة تلاقي قضاءها المحتوم، ولم ينفذ السلطان تهديده، فلم يضطهد أحداً، لأن الإسلام لايجيز له ذلك. وأخذت المدن تتساقط تباعاً بيد فرديناند، فسقطت المرية في عام 895هـ/1890م واستسلمت بشروط هي أنموذج لشروط سقوط باقي القواعد الإسلامية واهمها:
    1- أن يحتفظ المسلمون بدينهم وشريعتهم وأموالهم.
    2- تخفف عنهم أعباء الضرائب.
    3- ألا يولى عليهم يهودي.
    4- ألا يدخل نصراني في "الجماعة الإسلامية"
    5- وأن يختار الأولاد الذين يولدون من أمهات نصارى الدين الذي يريدون عند البلوغ.. وغيرها من الشروط إلا إن النصارى لايلتزمون بشيء من ذلك بل يسبون النساء ويسترقون الرجال ويغتصبون الأموال.
    وسقطت الثغور التي كانت تصل غرناطة بالمغرب حيث كانت تفد بعض المتطوعة، وانقطعت الصلة نهائياً بعدوة المغرب والشمال الإفريقي(2).
    (1) نهاية الاندلس وتاريخ المنتصرين ص369.
    (2) انظر: مصرع غرناطة ص(72،73،74،75،76،77).
    وتطور سير الأحداث وخضع ابو عبدالله الزغل لملك قشتالة على الرغم من شجاعته وبسالته وبقي الزغل يحكم وادي آش تحت حماية ملك قشتالة، ولم تقبل نفسه الأبيه هذا الوضع المهين، فترك الأندلس مهاجراً إلى المغرب، ونزل وهران، ثم استقر في تلمسان حزيناً على ضياع الأندلس.
    وبقيت غرناطة وعلى عرشها أبو عبدالله الصغير تنتظر مصرعها والضربة القاضية من النصارى(1).
    في سنة 895هـ/1890م، أرسل الملكان الكاثوليكيان - فرديناند وزوجه ايزابيلا - وفداً يطلب تسليم غرناطة من أبي عبدالله الصغير، فثارت نفس أبي عبدالله الصغير لهذا الغدر والخيانة، وأدرك فداحة الخطأ الذي ارتكبه في محالفة هذا الملك الغادر، ومعاونته على بني دينه وعقيدته ووطنه فرفض الانقياد والخضوع وقرر المقاومة وسار فرديناند بجيش تراوح ما بين 50-80 ألفاً، مع مدافع وعُدَد ضخمة، وذخائر وأقوات، وعسكر على ضفاف نهر شنيل على مقربة من غرناطة في 12 جماد الثانية سنة 896هـ/سنة 1491م، وأتلف الزروع والحقول والقرى كي لاتمد غرناطة بأي طعام، وحاصر غرناطة المدينة الوحيدة المتبقية من عز تليد وملك مديد ضارب في ذاكرة التاريخ السحيق وأصبحت محاطة بالعدو من كل جهاتها.
    لقد استبسل المسلمون وتحملوا الحصار بل خرجوا لقتال العدو المحاصر وافسدوا عليه خططه وتدابيره.
    وظهر في تلك المقاومة موسى بن أبي غسّان والذي قرر الموت دون الاستسلام ومن أقواله في ذلك: (ليعلم ملك النصارى أن العربي قد ولد للجواد
    (1) انظر: مصرع غرناطة ص77.
    والرمح، فإذا طمع إلى سيوفنا فليكسبها، وليكسبها غالية، أما أنا فخير لي قبر تحت أنقاض غرناطة في المكان الذي أموت فيه مدافعاً عنه، من أفخر قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين"(1).
    وتولى موسى قيادة الفرسان المسلمين، يعاونه نعيم بن رضون، ومحمد بن زائدة، وتولى آل الثغري حراسة الأسوار، وتولى زعماء القصبة والحمراء حماية الحصون.
    وحل الشتاء، وقلت المؤن، والذخائر ودخل الوزير المسؤول عن غرناطة "أبو القاسم عبدالملك" مجلس أبي عبدالله الصغير، وقال: إن المؤن الباقية لاتكفي إلا لأمد قصير، وإن اليأس قد دبَّ إلى قلوب الجند والعامة، والدفاع عبث لايجدي.
    ولكن موسى بن أبي غسَّان قرر الدفاع ما أمكن، فقال للفرسان "لم يبقى لنا سوى الأرض التي نقف عليها، فإذا فقدناها فقدنا الاسم والوطن"(2).
    استمر الحصار سبعة أشهر، واشتد الجوع والحرمان والمرض، واعيد تقويم الموقف في بهو الحمراء، فأقر الملأ التسليم إلا موسى بن أبي غسان الذي قال بحزم: "لم تنضب كل مواردنا بعد.. ولنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه لخير لي أن أحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة من أن أحصى بين الذين شهدوا تسليمها.."(3).
    وكانت هذه الكلمات الصادقة تخاطب أناس انهزموا في داخلهم وخارت
    (1) انظر: مصرع غرناطة ص81.
    (2) انظر: المصدر السابق ص82.
    (3) انظر: المصدر السابق ص82،83.
    عزائمهم، وضعفت معنوياتهم، فقرروا المفاوضة والتسليم، وكلف لهذه المهمة الأليمة الوزير أبو القاسم عبدالملك(1) جاء في نفح الطيب: "وفي ثاني ربيع الأول من السنة - أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة - استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهناً خوفاً من الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها: تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم على ماكانت، ولايحكم على احد منهم إلا شريعتهم وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لايدخل النصارى دار مسلم ولايغصبوا أحداً، وأن لايولى على المسلمين نصراني أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم قبل وأن يفتك جميع من أسرى في غرناطة من حيث كانوا، وخصوصاً أعياناً نصَّ عليهم، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لاسبيل عليه لمالكه ولاسواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد الجواز للعُدْوة ولا يُمنْع، ويجوزون في مدة عُينت في مراكب السلطان لايلزمهم إلا الكراء ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم من الكراء، وأن لايؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لايقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن من تنصَّر من المسلمين يُوقف أياما حتى يطهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولايعاقب من قتل نصرانيا أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ماسلب من النصارى أيام العداوة، وترفع عنهم جميعهم المظالم والمغارم المحدثة، ولايطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولايدخل مسجداً من
    (1) انظر: سقوط غرناطة ص83.
    مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولايجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن(1).
    ولايمنع مؤذن ولا مُصَلِّ ولا صائم ولاغيره من أمور دينه، ومن ضحك منهم يُعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده ويقول المقري بعد هذا: "وأمثال هذا مما تركنا ذكره" من الشروط(2).
    يقول الاستاذ محمد عبدالله عنان: (وهذا أفضل مايمكن الوصول إليه في مثل هذه المحنة، لو أخلص النصارى في عهودهم، لقد ارتضاها المسلمون والشك يساورهم في وفاء أعدائهم، ولما أنسى فرديناند وايزابيلا ريب المسلمين وتوجسهم أعلنا في يوم 29 تشرين الثاني "نوفمبر" مع قسم رسمي بالله أن جميع المسلمين سيكون لهم مطلق الحرية في العمل في أراضيهم، أو حيث شاؤوا، وأن يحتفظوا بشعائر دينهم ومساجدهم كما كانوا، وأن يسمح لمن شاء منهم بالهجرة إلى المغرب، ولكن سوف نرى أن الإيمان والعهود لم تكن عند ملكي النصارى سوى ستار للخيانة والغدر، وأن هذه الشروط الخلابة نُقضِت جميعاً لأعوام قلائل من تسليم غرناطة، ولم يتردد المؤرخ الغربي بروسكوت نفسه أن يصفها بأنها أفضل مادة لتقدير مدى الغدر الإسباني فيما تلا من العصور"(3) وهذا ما تنبأ به فارس الأندلس موسى بن أبي غسَّان حينما اجتمع الزعماء في بهو الحمراء الكبير ليوقعوا على قرار التسليم وقال: "اتركوا
    (1) المدجنون هم الذين بقوا من المسلمين تحت حكم الاسبان.
    (2) نفح الطيب (6/277/278) نقلاً عن سقوط غرناطة ص83.
    (3) نقلاً عن مصرع غرناطة ص85.
    العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تُخْلقَ لإرسال الدمع، ولكن لتقطر الدماء، وإنى لأرى روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة وسوف تحتضن أمُّنا الغبراء أبناءها أحراراً من أغلال الفاتح وعسفه، ولأن لم يَظْفَر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لن يعدم سماء تغطيه، وحاشا لله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعاً عنها)(1).
    وساد سكون الموت في ردهة قصر الحمراء ، واليأس ماثل في الوجوه ، وغاص كل عزم في تلك القلوب الكسيرة، عندئذ صاح أبو عبدالله الصغير: "الله أكبر لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ولا راد لقضاء الله ، تالله لقد كتب لي أن اكون شقيا ، وأن يذهب الملك على يدي"(2)، وصاح من حوله على : "الله أكبر ولا راد لقضاء الله" وقرَّروا جميعا التسليم وأن شروط النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه .
    نهض موسى بن أبي غسان وصاح: "لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم ، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم ، إن الموت أقل ما نخشى ، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها ، وتدنيس مساجدها ، وتخريب بيوتنا ، وهتك نسائنا وبناتنا ، وأمامنا الجور الفاحش ، والتعصب الوحشي والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاق والمحارق وهذا ماسوف نعاني من مصائب الموت الشريف ، أما أنا فوالله لن اراه"(3)، ثم قام وخرج وجاهد حتى استشهد رحمه الله تعالى .
    (1) انظر: مصرع غرناطة ص86.
    (2) المصدر السابق نفسه.
    (3) المصدر السابق نفسه.
    ولقد صاغ الشاعر عدنان مردم بك هذه الصورة على لسان موسى بن أبي غسان فقال:
    أنا لن أقرّ وثيقةً
    فرضت وأخضع للعِدَا
    ما كان عذري إن جبنت
    وخفت أسباب الردى
    والموت حقٌ في الرقاب
    أطال أم قصر المدى
    إني رسمت نهايتي
    بيدي ولن أترددا
    كنت الحسام لأمتي
    واليوم للوطن الفدى
    أنا لن أعيش العمر
    عبداً بل سأقضي سيدا(1)
    ثالثاً: وصف حي لتسليم غرناطة:
    وفي الثاني من ربيع الأول 897 هـ ، كانون الثاني (يناير) سنة 1492م وفي وقت الصباح تم تسليم المدينة، فما أن تقدم النصارى الأسبان القشتاليون من تل الرحى صاعدين نحو الحمراء حتى تقدم أبو عبدالله الصغير وهو يلبس أثواب الهزيمة وعلى وجهه العار والشنار وقال للقائد القشتالي بصوت مسموع
    (1) سقوط الاندلس ، د. ناصر العُمر ص65.
    "هيا يا سيدي في هذه الساعة الطيبة وتسلم القصور - قصوري باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر أن يستوليا عليها ، لفضائلهما وزلات المسلمين"(1).
    وتم تسليم القصور الملكية والأبراج على يد الوزير ابن كماشة الذي ندبه أبو عبدالله الصغير للقيام بهذه المهمة . وما كاد الكردينال وصحبه يجوزون إلىداخل القصر المنيف حتى صعدوا ووضعوا فوق برجه الأعلى صليبا كبيرا فضيا وبجانبه علم قشتالة وعلم القديس ياقب. وأعلن من فوق البرج ثلاثاً أن غرناطة اصبحت ملكا للملكين الكاثوليكيين.
    وأخذ رنين وبكاء يتردد في غرف قصر الحمراء وأبهائه وكانت الحاشية منهمكة في حزم أمتعة الملك المخلوع في ركب قاتم مؤثر يحمل أمواله وأمتعته ومن ورائه أهله وصحبه القلائل وبعض الفرسان المخلصين وكانت أمه الأميرة عائشة تمتطي صهوة جوادها يشع الحزن من محياها الوقور . وحين بلغ الباب الذي سيغادر منه المدينة إلى الأبد ضج الحراس بالبكاء(2) وتحرك الركب نحو منطقة البشرات وفي شعب من الشعاب المطلة على غرناطة وقف أبو عبدالله الصغير مودعا لمدينته وملكه ، فاجهش بالبكاء على هاتيك الربوع العزيزة ، فصاحت به أمه عائشة الحرة: "إبك مثل النساء مُلكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال"
    إن هذه الكلمة حري بها أن تكون إطارا لمأساة غرناطة وقد جمعت فيها كل العبر والأمثلة والحِكَم .
    (1) الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والاندلس ص(3/124).
    (2) نفس المصدر السابق (3/125).
    يقول الاستاذ نجيب زبيب عن هذه الكلمة : ولما حاولت التعليق عليها ارتعشت يدي وتساقطت الدموع من عيني أسىً وخشوعاً وتهيبا من عظمتها لانها اصبحت كلمة تاريخية . لا بل وأعظم كلمة قيلت في سقوط غرناطة"(1).
    ولقد صوّر أحد الشعراء على لسانها قولها :
    تذكر الله باكياً هل يرد الدمع
    مجداً ثوى وعاراً أقاما
    هدّني فوق خطبنا انك ابني
    يا لأمِّ تسقي العذاب تؤاما
    لم تصن كالرجال ملكا فأمسى
    ركنه اندك فابكه كالأيامى(2)
    يقول المؤرخ عنان: "وتحتل شخصية عائشة الحرة في حوادث سقوط غرناطةمكانة بارزة وليس ثمة في تاريخ تلك الفترة شخصية تثير من الاعجاب والاحترام ، ومن الأسى والشجى قدر ما يثير هذه الأميرة النبيلة من شجاعة واقدام وتضحية"(3).
    إن لبعض النساء مواقف مشرفة في تاريخ الأندلس الجهادي تصلح نبراسا لفتياتنا وأمهاتنا وبناتنا واخواتنا وما قصة عائشة الحرة مع ابناها الا واحدة منها(4).
    وبعد شهور من مصرع غرناطة غادر أبو عبدالله الصغير إلى الغرب مع
    (1) الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والاندلس (3/126،127).
    (2) انظر: سقوط الاندلس ص70.
    (3) نهاية الاندلس بتصرف ص197 نقلاً عن سقوط الاندلس ص69.
    (4) انظر: سقوط الاندلس ص70.
    اسرته وأمواله ، ونزل مدينة مليلة ثم استقر في فاس(1)، مستجيرا بالسلطان أبي عبدالله محمد الشيخ زعيم بني وطاس ، معتذرا عما أصاب الإسلام في الأندلس على يديه ونظم هذا الاعتذار شعرا أبو عبدالله محمد بن عبدالله العربي العُقيلي، وقدمه على لسان أبي عبدالله الصغير لزعيم بني وطاس في رسالة ومنها في مطلعها :
    مولى الملوك ملوك العرب والعجم
    رعيْاً لما مثله يُرْعى من الذِّممِ
    بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن
    جار الزمان عليه جَوْرَ منتقمِ
    حتى غدا ملكه بالرغم مستلباَ
    وأفظع الحظ ما يأتي على الرغم
    حكمٌ من الله حتى لامردَّ له
    وهل مرد لحكم منه منحتم
    وهي الليالي وقاك الله صوْلتها
    تصول حتى على الآساد في الأجَمِ
    كنا ملوكا لنا في أرضنا دول
    نمنا بها تحت أفنان من النعمِ
    فايقظتنا سهامٌ للردى صبب
    يرمي بأفجع حتف من بهنَّ رُمي
    فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا
    (1) نفح الطيب (6/278) نقلاً عن سقوط غرناطة ص96.
    وأي ملك بظلّ الملك لم ينمِ
    يبكي عليه الذي قد كان يعرضه
    بأدمع مزجت أمواهها بدَمِ(1)
    ومرت سنون ، وخبا أثر مصرع الأندلس شيئا فشيئا في نفوس المسلمين ، واسدل ستار من النسيان عليه ، ولكن مأساة المسلمين المتنصرين "أو المور يسكين" لم تقف، وظهرت محاكم التفتيش التي هدفت إلى إبادة المسلمين في الأندلس .
    لقد بدأت بمصرع غرناطة مرحلة مؤلمة ومؤسفة لشعب مغلوب ، وعدو خائن نقض شروط المعاهدة بنداً بنداً ، فمنعوا المسلمين من النطق بالعربية في الأندلس ، وفرضوا إجلاء العرب الموجودين فيها ، وحرق من بقي منهم ، وزاد الكردينال "كمينسس" على ذلك ، فأمر بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية ونظمت أكداسا في اكبر ساحات المدينة ، وفيها علوم لا تقدر بثمن ، بل هي خلاصة ما بقي من التفكير الإنساني وأحرقها(2)، لقد ظن رئيس الأساقفة بفعله ذلك أنه سوف يقضي على الإسلام في أسبانيا وأنى هذا له، وقد تركت حضارة الإسلام في الأندلس من الآثار ما يكفي لتخليد ذكرها على مر الدهور وكر العصور وإن للإسلام جولة وصولة من جديد بإذن الله في ديارنا التي سلبت من أيدينا وسيكون ذلك قريبا عندما يمكن الله لهذه الأمة وإنها لتمر في مراحلها المعاصرة نحو وعد الله بالنصر والفوز والفلاح ، "ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا" .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
    (1) انظر: نفح الطيب (6/618 الى 288).
    (2) انظر: سقوط غرناطة ص98.
    رابعاً: محاكم التفتيش:
    هدفت إلى تنصير المسلمين بإشراف السلطات الكنسية ، وبأشد وسائل العنف ، ولم تكن العهود التي قطعت للمسلمين لتحول دون النزعة الصليبية ، التي اسبغت على سياسة أسبانية الغادرة ثوب الدين والورع ولما رفض المسلمون عقائد النصارى ودينهم المنحرف وامتنعوا عنه وكافحوه ، اعتبرهم نصارى الاسبان ثواراً وعملاء لجهات خارجية في المغرب والقاهرة والقسطنطينية ، وبدأ القتل فيهم وجاهد المسلمون ببسالة في غرناطة والبيازين والبشرات ، فمزقوا بلا رأفة ولا شفقة ولا رحمة وفي تموز (يولية) 1501 أصدر الملكان الكاثوليكيان أمراً خلاصته "إنه لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة ، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها ، ويعاقب المخالفون بالموت أو مصادرة الأموال" .
    فهاجرت جموع المسلمين إلى المغرب ناجية بدينها ، ومن بقي من المسلمين أخفى إسلامه وأظهر تنصره ، فبدأت محاكم التفتيش نشاطها الوحشي المروع ، فعند التبليغ عن مسلم أنه يخفي إسلامه ، يزج به في السجن وكانت السجون مظلمة عميقة رهيبة ، تغص بالحشرات والجرذان ، يقيد فيها المتهمون بالأغلال بعد مصادرة أموالهم ، لتدفع نفقات سجهنم . ومن أنواع التعذيب ، إملاء البطن بالماء حتى الاختناق ، وربط يدي المتهم وراء ظهره ، وربطه بحبل فوق راحته وبطنه ورفعه وخفضه معلقاً ، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه ، والأسياخ المحمية ، وسحق العظام بآلات ضاغطة ، تمزيق الأرجل وفسخ الفك .. ولا يوقف التعذيب إلا إذا رأى الطبيب حياة المتهم في خطر ، ولكن التعذيب يستأنف متى عاد المتهم إلى رشده أو جف دمه(1).
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
    (1) انظر: محاكم التفتيش ص91 نقلاً عن سقوط غرناطة ص100.
    وقرار المحكمة لا يتم إلا عند التنفيذ في ساحة البلدة ، وهو إما سجن مؤبد، أو مصادرة أموال وتهجير ، أو إعدام حرقا وهو الحكم الغالب عند الأحبار الذين يشهدون مع الملكين الكاثوليكيين حفلات الإحراق(1).
    ومما يذكر.. أن هناك عذابا اختص به النساء وهو تعرية المرأة إلا ما يستر عورتها ، وكانوا يضعون المرأة في مقبرة مهجورة ويجلسونها على قبر من القبور ، ويضعون رأسها بين ركبتيها ويشدون وثاقها ، وهي على هذه الحالة السيئة ، ولا يمكنها الحراك ، وكانوا يربطونها إلى القبر بسلاسل حديدية ، ويرخون شعرها فيجللها وتظهر لمن يراها عن كثب كأنما هي جنيَّة لا سيما إذا ما أرخى الليل سدوله، وتترك المسكينة على هذه الحال إلى أن تجن أو تموت جوعا ورعبا(2).
    "لقد قام النصارى بإجبار المسلمين على الدخول في دينهم ، وصارت الأندلس كلها نصرانية ، ولم يبق فيها من يقول: لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . إلا من يقولها في قلبه ، وفي خفية من الناس وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان ، وفي مساجدها الصور والصلبان ، بعد ذكر الله وتلاوة القرآن ، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين ، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين ، لم يقدروا على الهجرة واللحاق بإخوانهم المسلمين قلوبهم تشتعل نارا ، ودموعهم تسيل سيلا غزيرا ، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ، ويسجدون للأوثان ، ويأكلون الخنزير والميتات ، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات ، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
    (1) انظر: سقوط غرناطة ص100
    (2) انظر: محاكم التفتنيش ص93 نقلاً عن سقوط غرناطة ص109.
    ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب ، فيالها من فجيعة ما أمّرها! ومصيبة ما أعظمها وطامة ما أكبرها"(1).
    "وانطفأ من الأندلس الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كان ذلك في الكتاب مسطوراً وكان أمر الله قدراً مقدوراً"(2).
    لقد كانت محاكم التفتيش والتحقيق مضرب المثل في الظلم والقهر والتعذيب.
    كانت تلك المحاكم والدواويين تلاحق المسلمين حتى تظفر بهم بأساليب بشعة تقشعر لها القلوب والأبدان.
    فإذا عُلم أن رجلاً اغتسل يوم الجمعة يصدر في حقه حكماً بالموت، وإذا وجدوا رجلاً لابساً للزينة يوم العيد عرفوا أنه مسلم فيصدر في حقه الإعدام.
    لقد تابع النصارى الصليبيون المسلمين، حتى إنهم كانوا يكشفون عورة من يشكّون أنه مسلم فإذا وجدوه مختوناً أو كان أحد عائلته كذلك فليعلم أنه الموت ونهايته هو وأسرته(3).
    وكان دستور محاكم التفتيش في ديوان التحقيق يجيز محاكمة الموتى والغائبين وتصدر الأحكام في حقهم وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء. فتصادر أموالهم وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق. أو تنبش قبورهم وتستخرج رفاتهم لتحرق في موكب "الأوتودافي" وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
    (1) انظر: نهاية الاندلس ص321 نقلاً عن سقوط الاندلس ص72.
    (2) انظر: سقوط الاندلس ص72.
    (3) انظر: سقوط الاندلس ص10.
    بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده فيقضي بحرمانهم من تولي الوظائف العامة وإمتهان بعض المهن الخاصة(1).
    وكان أعضاء محاكم التفتيش يتمتعون بحصانة خارقة وسلطان مطلق تنحني أمامه أية سلطة وتحمي أشخاصهم وتنفذ أوامرهم بكل وسيلة وكان من جراء هذه السلطة المطلقة أن ذاع في هذه المحاكم العسف وسوء استعمال السلطة والقبض على الأثرياء بل كثيراً ماوجد بين المحققين رجال من طراز إجرامي لايتورعون عن ارتكاب الغصب والرشوة وكانت أحكام الغرامة والمصادرة أخصب مورد لاختلاس المحققين والمأمورين وعمال الديوان وقضاته. وكانت الخزينة الملكية ذاتها تغنم مئات الألوف من هذا المورد. هذا بينما يموت أصحاب الأموال الطائلة في السجن جوعاً.
    وكان العرش يعلم بهذه الآثام المثيرة ولايستطيع دفعاً لها ولأنه كان يرى فيها في الوقت نفسه أصلح أداة لتنفيذ سياسته في إبادة الموريسكيين الذين ظلوا دائماً موضع البغض والريب وأبت اسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها أن تضمهم إلى حظيرتها وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن باخلاصهم لدينهم الجديد ولبثت تتوجس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم وترى فيهم دائماً منافقين مارقين.
    وإليك مايقوله في ذلك مؤرخ إسباني كتب قريباً من ذلك العصر وأدرك الموريسكيين وعاش بينهم حيناً في غرناطة. وكانوا يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد فإذا ذهبوا إلى القداس في أيام الآحاد فذلك فقط من باب مراعاة العرف والنظام. وهم لم يقولوا الحقائق قط خلال الاعتراف وفي يوم الجمعة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
    (1) انظر: ديوان التحقيق والمحاكمات الكبرى لمحمد عبدالله عنان ص24/32 نقلاً عن الموسوعة
    العامة لتاريخ المغرب والاندلس (3/222).
    يحتجبون ويغتسلون ويقيمون الصلاة في منازلهم وفي أيام الآحاد يحتجبون ويعملون. وإذا عُمّدوا أطفالهم عادوا فغسلوهم سراً بالماء الحار. ويسمون أولادهم بأسماء عربية وفي حفلات الزواج متى عادت العروس من الكنيسة بعد تلقي البركة تنزع ثيابها النصرانية وترتدي الثياب العربية ويقيمون حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية(1). وقد وصلت إلى المؤرخين وثيقة هامة تلقي ضوءاً أكبر على أحوال الموريسكيين في ظل التنصير وتعلقهم بدينهم القديم وكيف كانوا يتحيلون لمزاولة شعائرهم الإسلامية خفية ويلتمسون من جهة أخرى سائر الوسائل والأعذار الشرعية التي يمكن أن تبرر مسلكهم وتشفع لهم لدى ربهم(2).
    خامساً: فتاوى هامة :
    وهذه الفتاوى عبارة عن رسالة وجهت من أحد فقهاء المغرب إلى المسلمين الذين أكرهوا على التنصير، حيث قدم لهم بعض النصائح التي يعاون اتباعها على تنفيذ أحكام الإسلام عند الإكراه من قبل القوة النصرانية الحاقدة وكان تاريخ هذه الرسالة سنة 910هـ/28 نوفمبر 1504م.
    وهذا نص الفتاوى:
    "الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما"
    اخواننا القابضين على دينهم، كالقابض على الجمر، من أجزل الله ثوابهم فيما لقوا في ذاته. وصبروا النفوس والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
    (1) أي الأحكام الاسلامية.
    (2) انظر:الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والاندلس (3/223).
    شاء الله من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جناته، وارثوا سبيل السلف الصالح في تحمل المشاق وإن بلغت النفوس إلى التراق، نسأل الله أن يلطف بنا وأن يعيننا وإياكم على مراعاة حقه بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، بعد السلام عليكم من كتابه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيدالله تعالى أحمد ابن بوجمعة المغراوي ثم الوهراني. كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلاً من اخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار والحشر مع الذين أنعم الله عليهم من الأبرار ومؤكداً عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به من بلغ من أولادكم، ان لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحي بين الموتى فاعلموا أن الأصنام خشب منجور وحجر جلمود لايضر ولاينفع وان الملك ملك الله ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله. فاعبدوه واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء، لأن الله لاينظر إلى صوركم، ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة ولو عوماً في البحور وإن منعتكم فالصلاة قفاء بالليل لحق النهار وتسقط في الحكم طهارة الماء وعليكم بالتيمم ولو مسحاً بالأيدي للحيطان فإن لم يكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء والصعيد إلا أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتمَّم به، فأقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله صلى الله عليه وسلم فأتوا منه ما استطعتم. وإن اكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية وأنووا صلاتكم المشروعة وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم ومقصودكم الله. وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وأن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لابنية استعماله. وإن كلفوا عليكم خنزيراً فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين تحريمه. وكذا إن أكرهوكم على محرّم. وإن زوجوكم بناتهم فجائز لكونهم أهل الكتاب وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم ولو وجدتم قوة لغيَّرتموه. وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم ثم ليس عليكم إلاّ روؤس أموالكم وتتصدقوا بالباقي، إن تبتم لله تعالى وإن اكرهوكم على كلمة الكفر فإن أمكنكم التوبة والإلغاز فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئنين القلوب بالإيمان ان نطقتم بها ناكرين لذلك وإن قالوا اشتموا محمداً فإنهم يقولون له مُمَدْ، فاشتموا مُمَداً، ناوين انه الشيطان أو مُمَد اليهود فكثير بهم اسمه وإن قالوا عيسى توفى بالصلب فانووا من التوفية والكمال والتشريف من هذه وإماتته وصلبه وإنشاد ذكره إظهار الثناء عليه بين الناس وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو ومايعسر عليكم فابعثوا فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ماتكتبون به. وأنا أسأل الله أن يديل الكرة للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهراً بحول الله من غير محنة ولا وجلة بل بصدمة الترك الكرام
    ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله ورضيتم به ولابد من جوابكم والسلام عليكم جميعاً. بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسعمائة عرف الله خبره
    "يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى"(1).
    (1) هذه الفتاوى عثر عليها الاستاذ محمد عبدالله عنان خلال بحوثه في مكتبة الفتيكان برومه. انظر الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والاندلس (1/225).
    سادساً:القواعد النصرانية الإسبانية في معاملة من أكرهوا على النصرانية:
    لقد نقل إلى المؤرخين (الدون روني) مؤرخ ديوان التفتيش الإسباني وثيقة من أغرب الوثائق القضائية تضمنت طائفة من القواعد والأصول التي رأى الديون المقدس أن يأخذ بها المسلمون المتنصرين في تهمة الكفر والمروق، وإليك ماورد في تلك الوثيقة الغريبة(1).
    "يعتبر الموريسكي(2) أو العربي المتنَصِّر قد عاد إلى الإسلام: إذا امتدح دين محمد، أو قال إن يسوع المسيح ليس إلهاً وليس إلا رسولاً. أو أن صفات العذراء أو اسمها لاتناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يبلغ عن ذلك. ويجب عليه أيضاً أن يبلغ عما إذا كان قد رأى أو سمع بأن أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الإسلامية. ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة وهو يعتقد أن ذلك مباح. وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثياباً أنظف من ثيابه العادية. أو يستقبل المشرق قائلاً باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح، أو ذبحتها امرأة. أو يختن أولاده أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته في اتباعه هذه العادة، أو يقول انه يجب ألا يعتقد إلا بالله وبرسوله محمد، أو يقسم بإيمان القرآن، أو يصوم رمضان ويتصدق خلاله، ولايأكل ولايشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور) أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر. أو يقوم بالوضوء والصلاة. بأن يوجه وجهه نحو الشرق ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن. أو أن يتزوج طبقاً لرسوم الشريعة الإسلامية. أو ينشد الأغاني العربية.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
    (1) انظر : الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والاندلس (3/226).
    (2) الموريسكي يطلق على المسلم الذي اكره على الدخول في النصرانية.
    أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية. أو أن يستعمل النساء الخضاب في أيديهن أو شعورهنّ، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يلمس بيديه على رؤوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القواعد. أو يغسل الموتى ويكفنهم في أثواب جديدة أو يدفنهم في أرض بكر. أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة منعتا إياه بالنبي ورسول الله. أو يقول إن الكعبة أول معابد الله أو يقول انه لم يُنَصَّر إيماناً بالدين المقدس. أو أن آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله لأنهم ماتوا مسلمين.."(1).
    لقد استمرت محاكم التفتيش الظالمة وأصبح لهذا العمل الفظيع والحقير تلاميذ في الديار الإسلامية والعربية، يمارسون القهر والظلم والجور بكل أنواعه على أبناء المسلمين الذين يطالبون بإعادة نظام الحكم الإسلامي في كافة شؤون حياتهم، إنها حلبة الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والعدل، والظلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
    لقد استمرت محاكم التفيش قروناً عدة وعندما احتل نابليون إسبانية بعد قيام الثورة الفرنسية أصدر مرسوماً سنة 1818م بإلغاء محاكم التفتيش في إسبانيا، ولكن رهبان "الجزويت" أصحاب المحاكم الملغاة استمروا في القتل والتعذيب، فشمل ذلك الجنود الفرنسيين، فأرسل المريشال "سولت" الحاكم العسكري الفرنسي لمدريد الكولونيل "ليمونكي" مع ألف جندي وأربعة مدافع، وهاجم دير الديوان، وبعد احتلال الدير وتفتيشه عنوة لم يعثروا على شيء فقرر الكولونيل "ليموتكي" فحص الأرض، وعند ذلك نظر الرهبان إلى بعضهم نظرات قلقة أمر الكولونيل جنده برفع الأبسطة، فرفعت، ثم أمر بأن يصبوا الماء بكثرة في
    (1) الموسوعة العامة لتاريخ المغرب (3/226،227).
    أرض كل غرفة على حدة، ففعلوا. فإذا الماء يتسرب إلى أسفل في أحدى الغرف، فعرفوا أن الباب من هنا يفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جوار رجل مكتب الرئيس. وفتح الباب بقحوف البنادق، واصفرت وجوه الرهبان وكستها غبرة. وظهر سلم يؤدي إلى باطن الأرض ونزل القائد الكولونيل وجنده. ويذكر هذا الانسان في مذكراته مايلي(1).
    فإذا نحن في غرفة كبيرة مربعة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، ربطت بها سلاسل، كانت الفرائس تقيد بها رهن المحاكمة وأمام ذلك العمود عرش "الدينونة" كما يسمونه، وهو عبارة عن "دكة" عالية يجلس عليها رئيس الديوان(2)، وإلى جانبيه مقاعد أخرى أقل ارتفاعاً معدة لجلوس جماعة القضاة ثم توجهنا إلى غرف آلات التعذيب، وتمزيق الأجسام البشرية. وقد امتدت تلك الغرف مسافات كبيرة تحت الأرض. وقد رأيت بها مايستفز نفسي، ويدعوني إلى التقزز ماحييت رأينا غرفاً صغيرة في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الأفقية ممداً بها حتى يموت. وتبقى الجثة في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من الأجداث البالية تفتح كوة صغيرة إلى الخارج، وقد عثرنا على عدة هياكل بشرية مازالت في أغلالها سجينة.
    والسجناء كانوا رجالاً ونساءً تختلف أعمارهم بين الرابعة عشرة والسبعين، واستطعنا فكاك بعض السجناء الأحياء وتحطيم أغلالهم، وهم على آخر رمق
    (1) انظر: التعصب والتسامح بين المسيحية والاسلام لمحمد الغزالي نقلاً عن مصرع غرناطة.
    (2) رئيس ديوان محكمة التفتيش.
    من الحياة، وكان فيهم من جُنَّ لكثرة مالاقى من عذاب، وكان السجناء عرايا زيادة في النكاية بهم، حتى اضطر جنودنا أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها لفيفاً من النساء السجينات.
    وانتقلنا إلى غرف أخرى فرأينا هناك ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم وكانوا يبدؤن بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين، وذلك كله على سبيل التدريج حتى تأتي الآلة على البدن المهشم، فيخرج من الجانب الآخر كتلة واحدة.
    وعثرنا على صندوق في حجم رأس الإنسان تماماً، يوضع فيه الرأس المُعَذَّب، بعد أن يربط صاحبه بالسلاسل في يديه ورجليه فلا يقوى على الحركة وتقطر على رأسه من ثقب في أعلى الصندوق نقط الماء البارد، فتقع على رأسه بانتظام في كل دقيقة نقطة. وقد جُنَّ الكثيرون من ذلك اللون من العذاب، قبل أن يحملوا به على الاعتراف، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت(1).
    وعثرنا على آلة ثالثة للتعذيب تسمى السيدة الجميلة، وهي عبارة عن تابوت تنام فيه صورة فتاة جميلة مصنوعة على هيئة الإستعداد لعناق من ينام معها، وقد برزت من جوانبها عدة سكاكين حادة. وكانوا يطرحون الشاب المعذَّب فوق هذه الصورة. ثم يطبقون عليه باب التابوت بسكاكينه وخناجره، فإذا أغلق مُزِّق الشاب وتقطّع إرباً إرباً.
    كما عثرنا على جملة آلات لسل اللسان، ولتمزيق أثداء النساء وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب فظيعة، ومجالد من الحديد الشائك لضرب المُعَذَّبين
    (1) انظر: مصرع غرناطة ص112.
    وهم عرايا حتى يتناثر اللحم عن العظم.
    ولما شاهد الناس بأعينهم وسائل التعذيب جُنَّ جنونهم وانطلقوا - كمن به مسّ - فأمسكوا برئيس الدير ووضعوه في آلة التكسير، فدُقت عظامه دقاً، وسحقتها سحقاً.
    وأمسكوا أمين سره، وزفُّوه إلى السيدة الجميلة، وأطبقوا عليهما الأبواب، فمزَّقته السكاكين شر ممزَّق، ثم أخرجوا الجثتين، وفعلوا بسائر العصابة وبقية الرهبان كذلك(1).
    قلت: ومن سنن الله الجارية تسليط بعض الظالمين على بعض ولذلك انتقم الله من هؤلاء القساوسة المتوحشين الذين نزعت من قلوبهم أدنى مشاعر وأحاسيس الإنسانية وانقادوا في حزب الشيطان اللعين.
    المصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدر
    مقتبـــــــــــــــــس من الدكتور علي محمد الصلابي

    التعديل الأخير تم بواسطة أماني أحمد عبدالله ; 17/02/2010 الساعة 02:37 AM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    أمـــــــــــــــــــــــانـــــــــــــــــي
    بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا
    نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا، يَقضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •