Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958
الأندلسيون ومحاكم التحقيق

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: الأندلسيون ومحاكم التحقيق

  1. #1
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    24/12/2009
    المشاركات
    29
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي الأندلسيون ومحاكم التحقيق

    الأندلسيون ومحاكم التحقيق
    كانت الملكة إيزابيلا كاثوليكية في كل شيء وكانت تجلّ البابا وتنصت له باهتمام وخشوع لكنها لم تكن راهبة في دير. ونجد أن إيزابيلا وحفيدها كارلوس الخامس وحفيد حفيدها فيليب الثاني وحفيد حفيد حفيدها فيليب الثالث استمعوا دائماً إلى الكردينالات جيداً ووضعوا مصلحة الكاثوليكية في مرتبة عالية لكن كان عليهم في النهاية أن يتصرّفوا كملوك مسؤولين أمام الملوك الآخرين وأمام الشعب وأمام النبلاء، وأن يحافظوا على التوازنات القائمة، وأن يأخذوا مصالح مراكز القوى كلّها في الاعتبار. وإيزابيلا الكاثوليكية الورعة لم تكن خادمة للبابا إلا في رسائلها، وربما شعرت بعد تحقيق انتصارها على غرناطة أن البابا مدين لها لا العكس. وإذا أخذنا في الاعتبار الأموال الهائلة التي وفرتها البابوية لتحقيق الانتصار على غرناطة فلعلنا نقول إن إيزابيلا هي التي استغلت حاجة البابوية إلى إحراز تقدم على الجبهة ضد الإسلام. وكانت إيزابيلا ككاثوليكية تقبّل يدي البابا وقدميه إلا أنها تقف في وجهه كملكة وتمنعه من ممارسة صلاحياته في تعيين أساقفة لا تريدهم على غرار ما فعله ملوك قشتالة على مر العصور. ونجد في تاريخ قشتالة عدداً من الأمثلة على ذلك منها اعتراض إيزابيلا عام 1478 على الأسقف الإيطالي الذي اختاره البابا لمنصب أسقف مدينة قونقة. وردّ البابا على هذا الموقف بابقاء المنصب شاغراً اربع سنوات قبل أن يرضخ لرغبتها ويُعيّن أسقفاً اختارته إيزابيلا. وعاد البابا بعد ذلك فاقترح عليها تعيين ابن اخته رئيساً لأساقفة إشبيلية لكنها رفضت هذا الطلب أيضاً. وصحيح أن البابا سيكستوس الرابع هو الذي وافق على إنشاء محكمة التحقيق في قشتالة لكنّه لا بدّ أن يكون ندم بعد ذلك لأنه لم يحفظ خط الرجعة عن طريق الإصرار على فرض آرائه على عمل المحكمة فتركها أداة تستخدمها إيزابيلا كما تشاء، ووضعت ملكها وسلطتها ونفسها في مكان متقدم سبق الكاثوليكية والبابوية بل جيّرت بعض سلطة الكاثوليكية والبابوية لصالحها.
    وإذا كانت إيزابيلا قادرة على رفض مطالب البابا فإن ما لم تستطع رفضه هو مطالب النبلاء، أركان مملكتها، الذين وفّروا القسم الأكبر من آلة الحرب ضد غرناطة. ففي تلك الاثناء لم يكن حتى الملوك الكبار قادرين على الاحتفاظ بجيش كبير. وعندما تنشب حرب ما فإن كل نبيل ودوق وكونت مشارك يتعهد بتقديم عدد معين من المشاة أو الفرسان ويكون له سهم من الغنائم والأسلاب. وكان هؤلاء النبلاء تواقين إلى إشعال الحرب مع غرناطة لأنّ الحرب كانت أهم السبل وأسرعها إلى جمع الثروة والجاه والمناصب الرفيعة. ولما انتهت الحرب وحل السلام سعى هؤلاء إلى جمع ثروتهم من انتاج الأراضي التي اقطعتهم إيزابيلا إياها، وكان عليهم استخدام الأندلسيين لهذه الغاية، لذا كان من شأن الاستمرار في الضغط على الأندلسيين الحاق الضرر بالنبلاء. وهكذا تغلبت مصالح إيزابيلا الملكة على مصالح إيزابيلا الكاثوليكية وقاومت إغراء اقامة محكمة للتحقيق في غرناطة ومنعت عمالها في حالات كثيرة من التدخل في شؤونهم.
    وكانت قشتالة في الطريق إلى أخذ دورها الكبير في أوروبة عندما انفتحت بوابة الكوارث الشخصية على إيزابيلا ففجعت بابنها الوحيد وبقيت ابنتها كاتلينا حبيسة الأديرة في انكلترا وماتت ابنتها إيزابيلا خلال الوضع وفقدت ابنتها خوانا صوابها، وفقدت إيزابيلا حفيدها ميغيل. وهكذا عاشت إيزابيلا سنواتها الأخيرة في شقاء وحزن شبه دائمين وماتت كئيبة مغمومة عام 1504. وقاوم فرناندو تسليم مملكة زوجته إلى فيليب (الوسيم) زوج ابنته خوانا ثم اعترف به ملكاً جديداً على قشتالة لكن فيليب ابن أمبراطور النمسا ماكسيمليان مات عام 1506 فآل إليه عرش قشتالة من دون أي معارضة. ووجد فرناندو نفسه فجأة ملكاً شرعيّاً على كل شبه جزيرة آيبرية باستثناء البرتغال. وكان يستطيع الآن تخطيط مستقبل البلاد في الصورة التي يريدها لكن كان عليه في الوقت نفسه موازنة مصالح مملكته الأرغونية الأصليّة مع مصالح قشتالة خوفاً من أن يثير استياء مراكز القوى فيها خصوصاً النبلاء والكنيسة ومحاكم التحقيق التي بات خيمينس وقتها محققها العام. إلا أن خيمينس كان أيضاً أهم رجل في الكنيسة القشتالية فجمع أطراف السلطتين بيده وتخطت أهميته حدود آيبرية فبات في المرتبة الثانية بعد البابا نفسه. وانتقلت محاكم التحقيق في عهد خيمينس إلى قمة جديدة فقسم البلاد إلى عشر مقاطعات شكّل في كل منها محكمة، ووضع على رأسها محققاً من اختياره. وكان لخيمينس حساب لم يتمكن من تصفيته بعد الثورة الأندلسية الأولى التي تسبب بقيامها، واعتقد بعد استلامه منصب المحقق العام أن الوقت حان، وأراد أن يقيم فرعاً للمحكمة في غرناطة غير أن الملك فرناندو تدخل وكفّ يده عن الأندلسيين في غرناطة متابعاً بذلك النهج الذي اختطته زوجته قبله وللأسباب التي تقدّم ذكرها. وفي عام 1508 أصدر فرناندو مرسوماً أعاد تأكيد المحظورات على الأندلسيين الغرناطيين وشدّد على ضرورة توقف هؤلاء عن ارتداء ملابسهم الأندلسية غير أنه منحهم مهلة سنة ثم سنة اخرى. ولم تعمل السلطات على تنفيذ بنود هذا المرسوم لأن السلطة الأولى المسؤولة عن ملاحقة المخالفين وتوقيع العقوبات بحقهم (أي محاكم التحقيق) لم تكن موجودة في غرناطة. وحاولت محكمة التحقيق في قرطبة، التي كانت الأقرب إلى غرناطة، مدّ صلاحياتها إلى أطراف غرناطة لكن فرناندو حظر ذلك أيضاً.
    وعلى رغم المكانة الكبيرة التي تمتّع بها خيمينس لم يستطع معارضة فرناندو، ولم يجد في غرناطة مسرحاً مناسباً لتحقيق طموحاته الصليبية فتبنّى توصيات إيزابيلا بنقل الحرب إلى الإسلام في العدوة لإضعاف قدرة أهلها على تهديد قشتالة وفق الاستراتيجية القائلة إن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم. ونظّم خيمينس بالفعل حملة كبيرة على وهران عام 1509 انفق عليها من عائدات بيع صكوك الغفران لتمويل الحملات ضد الإسلام، وذُبح في تلك الحملة بين خمسة آلاف وثمانية آلاف شخص، ثم أسس هناك عام 1515 أول محكمة للتحقيق على أرض إسلامية.
    الأندلسيون واللوترية (البروتستانتية)
    عاش خيمينس السنة الأخيرة من حياته وهو يعتقد أن الإسلام أهم خصوم الكاثوليكية القشتالية. لكن الخطر الأكبر لم يأت من المغرب ولا من الأندلسيين بل من كاثوليك مثل خيمينس الذي لم يكن موجوداً للتصدي له. فقبل ثمانية أيام من موته علّق استاذ العلوم اللاهوتية التوراتية في جامعة مدينة فيتنبرغ Wittenberg مارتين لوتر (لوثر) على بوابة كنيسة قلعة فيتنبرغ لائحة احتوت 59 أطروحة للمناقشة حدّد فيها اعتراضاته على صكوك الغفران. ولم يكن لوتر الراهب الكاثوليكي وأحد أهم الدعاة في ألمانيا يقصد من تلك الأطروحات شق الكنيسة ولا الحديث عن فساد الكنيسة الكاثوليكية لأنه كان لا يزال كاثوليكياً ورجلاً من رجال الكنيسة، غير أن نشرها في تلك الفترة بالذات شجّع بعض الألمان على توجيه انتقادات إلى سلطات البابا كاستمرار للصدام الذي نشأ بين الملوك الألمان والباباوات منذ نهاية القرن الحادي عشر. واتسع نطاق هذه الانتقادات مع الزمن فشملت السلطات البابوية الدينية والزمنية، ثم شرعية البابوية نفسها وأدت إلى انفجار صراع ديني دموي رهيب انتهى بأحداث شرخ في الكنيسة الكاثوليكية أهم من الشرخ الذي حدث بين الكنيستين الغربيّة والشرقية قبل نحو خمسة قرون من ذلك في مكان آخر هو القسطنطينية.
    وعكس لوتر مشاعر استياء رجل الشارع الألماني عندما انتقد في 13 تشرين الأول (اكتوبر) عام 1517 تسويق صكوك الغفران مما يفسّر التأييد شبه الفوري الذي حظيت أطروحاته به. فخلال تلك الفترة كان الألمان العاديون يعانون ضائقة مالية سببها جشع التجار المحليين الذين رفعوا الأسعار، وانتشار الأزياء الأجنبية ذات التكلفة العالية في البلاد مما أثّر في الصناعة الوطنية. وجاءت صكوك الغفران فامتصّت جزءاً من السيولة فاتسع نطاق الإستياء الذي ظل مع ذلك مخنوقاً لأن إظهاره كان يعني انتقاد البابوية وبالتالي الكاثوليكية التي كانت مذهب الألمان حتى تلك الفترة. ووجد لوتر نفسه آنذاك في وضع فريد إذ مكّنه تعمّقه في دراسة أصول المسيحية من ملاحظة الاختلاف بين حال الكاثوليكية آنذاك والحال الذي كانت عليه النصرانية في بداية انتشارها، كما وجد اختلافات في الترجمات الكثيرة التي أعدّت للعهدين القديم والجديد.
    وفي زمن لوتر كانت الترجمة "الرسمية" الوحيدة للعهدين القديم والجديد التي اعترفت بها الكنيسة الكاثوليكية هي ترجمة لاتينية عن اليونانية عُرفت باسم Vulgate، أي النسخة الشائعة. ولا تعكس هذه التسمية واقع حال أوروبة لأن تلك النسخة لم تكن في الواقع شائعة إلا في الكنائس والأديرة وبين فئات محدودة جداً من المتعلمين الذين اتقنوا اللاتينية وربما لم يتجاوز عدد هؤلاء واحداً من بين كل عشرة آلاف شخص. وفي البداية كانت التوراة بالعبرية لكن يهوداً كثيرين كانوا ينطقون بالآرامية فوُضعت ترجمة للتوراة بالآرامية اسمها Targum، أي "الترجمة". وعندما مات الإسكندر الأكبر أسس أحد قواده (بطليموس) مملكة في الإسكندرية وبنى مكتبة كبيرة أعد فيها نحو 70 عالماً لاهوتياً عبرانياً ترجمة لقسم من التوراة إلى اليونانية الدارجة آنذاك هي المعروفة باسم Septuagint، أي ترجمة السبعين، وأتم من جاء بعدهم ترجمة التوراة. ومع استمرار انتشار النصرانية تطورت حاجة إلى إعداد ترجمات أخرى في القرن الثاني للميلاد منها ترجمة إلى السريانية التي هي احدى اللهجات الآرامية، وترجمة إلى اللاتينية التي كانت لغة الرومان. وفي عام 504 أتمّ القديس جيروم، بناء على تكليف سابق من البابا دماسوس الأول (366-384)، ترجمة باللاتينية للعهدين القديم والجديد عاد خلال إعدادها إلى ترجمات سابقة. واعتمدت البابوية تلك الترجمة منذ ذلك الوقت واعتبرت الباقي نحلاً، وسرى هذا الاعتبار في ما بعد على الإنجيل الذي ترجمه لوتر إلى الألمانية عام 1517 وعلى إنجيل (القديس) برنابا الذي كان يهودياً قبرصياً اهتدى الى المسيحية ورافق بولس مبشراً.
    ومنذ الاعتماد البابوي لتلك الترجمة نُشرت عشرات الترجمات بلغات كثيرة للعهدين القديم والجديد توخّى بعض المترجمين فيها تنقيتها من الأخطاء الموجودة في النصوص الأولى اعتماداً على توسع المعرفة باللغات القديمة. وجاء لوتر في بداية القرن السادس عشر فأحدث ثورة دينية وأدبية كبيرة عندما ترجم العهد الجديد إلى الألمانية، وبات في استطاعة مواطنين عاديين لا يعرفون اللاتينية قراءة الانجيل بلغة يعرفونها للمرة الأولى. وأشرك لوتر بتوفير تلك الترجمة الناس في ما بعد في الحوار الدائر في شأن طبيعة مهام البابوية، وكان في إمكانهم أن يلاحظوا أن الأنجيل لا يتضمن كثيراً من الطقوس والممارسات الشائعة في الكنيسة الكاثوليكية وليس فيه ما يسوّغ عملاً مالياً مثل تسويق صكوك الغفران لمحو الخطايا.
    ولا نعرف متى طرحت البابوية أول صك غفران ولا سببه، غير أن الهدف من الصكوك الأولى كان مساعدة المذنبين على سلوك طريق سريع لغفران بعض ذنوبهم. وقبل تطوير فكرة بيع الصكوك كانت الكنيسة تقضي على المذنب الذي يعترف بذنوبه الذهاب إلى الديار المقدسة للحج أو المساعدة في بناء كنيسة أو دير أو الصيام والتقشف فترة معلومة وفقاً لطبيعة الذنب المُرتكب، وصار في إمكان هؤلاء بعد ذلك شراء صك الغفران. ويبدو أن دفاتر حسابات تسويق صكوك الغفران قبل عام 1509 اختفت لذا لا يعرف أحد قيمة كل تلك الصكوك لكن بعض التقديرات تعطي فكرة عن قيمتها الهائلة. ففي عام 1487 مثلاً سوّق عدد من الذين خولتهم البابوية القيام بهذا الجهد، بمن فيهم الحكومة القشتالية، صكوك غفران بابوية يُعتقد أن قيمتها وصلت إلى 800000 دوقة ذهبية استخدم معظمها للإنفاق على الحرب ضد غرناطة. وخلال السنوات الأولى من الحرب طلبت إيزابيلا من البابا سيكستوس الرابع زيادة جهود تسويق الصكوك وتيسيرها فأصدر صكوكاً ذات قيمة متدنية وصلت أحياناً إلى ريالين فضيين وأحياناً أقل من ذلك لذا بات في متناول حتى الفقراء شراء هذه الصكوك. كما عمل سيكستوس الرابع على تنويع الغفرانات في هذه الصكوك فباتت تضمّ لائحة طويلة من الذنوب المشفوعة، وجرى في ما بعد صرف وصول استلام تثبت استحقاق مشتري هذه الصكوك أنواع الغفرانات التي مُنحت له.
    ومع مرور الزمن صارت صكوك الغفران واحدة من أهم مصادر التمويل المُتاحة للبابوية، وبدأ بعض مُسوقي هذه الصكوك يبالغون في الغفرانات لزيادة التسويق عن طريق إقناع المشترين بأنها يمكن أن تضمن لهم مكاناً في الجنة. وفي عام 1515 خوّل البابا ليو العاشر رئيس أساقفة مدينة مينز Mainz الألمانية المدعو ألبريشت بيع صكوك الغفران للصرف على صيانة كنيسة القديس بطرس في روما فكلّف شخصاً يدعى يوهان تتسل Tetzel عملية التسويق فصار يقول للناس إن الصكوك التي يبيعها تعفي المذنبين المعترفين من العقاب وتطلق الأرواح من النار. وسمع لوتر ادعاء تتسل فبعث إلى رئيس الأساقفة رسالة احتجاج ضمّنها أطروحاته. واستند لوتر في أطروحاته إلى أن دفع المال للتخلص من الذنوب يصرف الناس عن طلب التوبة الخالصة للذنوب المرتكبة ويمكن ان يساعد على ارتكاب المزيد.
    وفيما عكفت البابوية على دراسة الاطروحات بدأ بعض الألمان توسيع نطاق الخلاف فشمل بعض صلاحيات البابا. وتطور انتقاد تسويق الصكوك إلى حركة ضد السلطات البابوية الزمنية، ثم صارت اللوترية حركة أصولية نصرانية نادت بالعودة إلى نقاء النصرانية الأولى والرجوع إلى تعاليم العهد القديم ونبذ البدع التي دخلت على الدين. وظل لوتر في البداية مصراً على أن انتقاده محصور بتسويق صكوك الغفران ولا يشمل البابا. لكن الفرق بين البابا والكاثوليكية لم يكن واضحاً آنذاك فالبابا رأس الكاثوليكية وانتقاده انتقاد للكاثوليكية لذا فالأطروحات هرطقة تجب محاربتها بكل الوسائل وصاحبها "مهرطق" يجب ألا يبقى كاثوليكياً.وحاولت الكنيسة حتى اللحظة الأخيرة احتواء الخلاف فتشدّد لوتر في مطالبه واقترح اختصار أركان الطقوس الكاثوليكية السبعة إلى اثنين فقط هما التعميد والمناولة. ولم يحتمل البابا ليو العاشر هذا الوضع فلعن لوتر في كانون الثاني عام 1521 وحرمه من الكنيسة.
    وجاءت ولادة الحركة اللوترية فيما كارلوس الخامس يعزّز ممالكه الأوروبية، ووجد نفسه يتصدى للوتر بوصفه أمبراطوراً على ألمانيا وهولندا وأمبراطوراً رومانياً مقدساً (تنصّب عام 1519) وأهم زعيم سياسي في بلاد الكاثوليكية. وحاول كارلوس التوصل إلى حل توفيقي لهذه المشكلة فأعطى لوتر الإمان من الاعتقال واستدعاه للمثول أمام محفل فورمز Worms في ألمانيا الذي عقد في نيسان (إبريل) عام 1521 برئاسته، وأمره بسحب أقواله واطروحاته. وعرف كارلوس أنه ارتكب خطأ كبيراً بدعوة لوتر بعد دقائق من إعطائه الفرصة للكلام، وسنجده يندم على تلك الخطوة بقية حياته.
    لكن التراجع في المحفل لم يعد ممكناً وكان عليه الانصات إلى لوتر وهو يشرح مبدأه القائم على أن الدين في نظره يضع الإنسان مباشرة أمام الخالق، وبأن الله يجعل المؤمنين أخياراً من خلال عطفه عليهم، وبأن خلاص الناس ينبع من الإيمان بالمسيح الذي يوجد فيه فقط الصلاح الكافي لتحقيق الخلاص. وبعدما قدّم لوتر أسباب تبنيه هذا المبدأ قال للمحفل: ”ما لم أكن مقتنعاً بشهادة الكتاب المقدس أو بسبب واضح (لأنني لا أثق بالبابا ولا بالُمجمعات الكنسية ومعروف جيداً أنهما غلطا مراراً وناقضا نفسيهما)، فأنني ملتزم عهدي بالكتاب المقدس الذي اقتطفت منه وضميري أسير كلمة الله. لذا لا استطيع سحب أي شيء ولن أسحب أي شيء فليس سليماً ولا صحيحاً مخالفة ضميري“.
    وأعطى كارلوس لوتر بعض الوقت لمراجعة نفسه، ولما وجده متشبثاً بآرائه أحل دمه ونادى بقتله في سائر ممالكه. وكانت شهرة لوتر ذاعت وقتها والتفّ حوله الناس فخشي أمير ساكسون الألماني فريدريش الملقب بـ"الحكيم" من ثورة الناس عليه إن قتل لوتر أو سلّمه فآواه وحماه. وهكذا وجد لوتر نفسه يقود هذه الحركة الإصلاحية ضد ممارسات البابوية 25 عاماً حتى موته عام 1546. ولا علاقة لكلمة "بروتستانت" بمبادىء لوتر الإصلاحية إذ استخدمت هذه الكلمة للمرة الأولى في محفل عُقد في مدينة شبير Speyer الألمانية عام 1529 "احتج" الأمراء الألمان المساندين للوتر خلاله على الضغوط التي كان كارلوس الخامس يمارسها عليهم للتخلي عن مساندة لوتر. ولم تكن اللوترية حتى ذلك التاريخ وضعت أسس حركتها الدينية التي ولدت بعد عام من ذلك في محفل أوغسبرغ Augsburg عندما قدم إليه فيليب ميلانشتون وثيقة اللوتريين التي عُرفت باسم "اعتراف أوغسبرغ" فاتسع نطاق الخلاف مع الكاثوليكية ليشمل معارضة التبتل وإكرام القديسين والقدّاس وغيرها. وأضافت جماعات إصلاحية مبادىء أخرى إلى اللوترية مثل وقف تعميد الإطفال وتعميد البالغين بدلاً من ذلك (الحركة المُضادة للتعميد Anapaptist). ومن أشهر الكنائس التي تفرّعت من البروتستانتية تلك التي اعتمدت مبادىء المصلح الديني الفرنسي الأصل جان كلفين (1509-1564). ووضع كلفين واحداً من أهم كتب الإصلاح الديني هو "الأسس المسيحية" فصار يُعتبر من أهم اللاهوتيين المصلحين الذين عرفتهم الكنيسة، كما أسس حكومة ثيوقراطية في جنيف وكثر أتباعه في انحاء متفرقة من فرنسا حيث يُعرفون هناك باسم "أوغنو" Huguenots.
    ونعرف هذه الجماعة من المذبحة المروعة التي تعرضت لها على يد أنصار الكاثوليكية في فرنسا عام 1572 بتحريض البابوية والملك الإسباني فيليب الثاني، إلا أن المذابح وقتها باتت مظهراً عادياً من مظاهر الاضطهاد الديني في وسط أوروبة. وفيما بدأت الحركة البروتستانتية تنتشر في شمال أوروبة وانكلترا وحتى في بعض مناطق إسبانيا نفسها، عملت البابوية على توظيف كل اسلحتها لمواجهة هذا الخطر المتعاظم في كل مكان. وسخّر كارلوس الخامس لهذه المواجهة كل طاقات امبراطوريته الهائلة مُستهدفاً في صورة خاصة هولندا التي كانت أكبر قوة اقتصادية في أوروبة ومالكة أعظم أسطول تجاري فيها. وزج كارلوس في هذه المعركة الجيش تلو الآخر، إلا أن محاكم التحقيق باتت وقتها من أهم الأسلحة. ولم يتصومع كارلوس في دير يوست عام 1556 ويتنازل عن الحكم لابنه فيليب الثاني إلا وضحاياه في هولندا يعدّون بين 50 ألفاً و100 ألف شخص، وسيكون فيليب الثاني من بعده مسؤولاً عن قتل وتشريد عشرات الألوف غيرهم.
    ووجد الأندلسيون في البروتستانتية المظاهر التي عرفوها في النصرانية القديمة فهنا وحدانية الرب والمسيح ليس إلهاً وأمّه ليست أمّ الرب والتماثيل في الكنيسة سمات وثنية لا تجدي والعبادة والصلاة والابتهال لله وحده. وتبنّى الأندلسيون في جدالهم مع الكاثوليك القشاتلة الحجج التي قال بها البروتستانت فوضعتهم الكاثوليكية في صف واحد مع أعدائها الإصلاحيين. إلا أن البروتستانتية ليست الإسلام، لذا كان أول اتهام وجهته البابوية إلى لوتر هو أنه يتبنّى التعاليم الإسلامية ويؤيد بحركته هدف المسلمين شق الكنيسة الكاثوليكية. وسعى لوتر إلى دفع هذه التهمة عن نفسه فكتب ضد الإسلام وعدّد انتقاداته للدين الإسلامي ومن بينها عدم الإعتراف بصلب المسيح، لكن التهمة ظلت عالقة به. ودعا مرّة إلى تنظيم حملة صليبية ضد العثمانيين لكنّه عاد وقال إن الحملات الصليبية أعمال مسيحية غير شرعية.
    ونظر الأندلسيون إلى البروتستانت باعتبارهم ضحايا مشتركين لمحاكم التحقيق فساعدوهم في اشكال عدّة، وحصلوا منهم على المساعدة أيضاً خصوصاً من جانب البروتستانت الفرنسيين. واعتنق عدد من الأندلسيين البروتستانتية عن قناعة كما يبدو فيما انضم آخرون إلى اللوترية نكاية بالقشاتلة الكاثوليك وسعوا من خلال دينهم الجديد إلى النفاذ إلى إسبانيا والمساهمة في تدميرها. ومن الأندلسيين البروتستانت المعروفين خوان غونثاليث الذي اعتقله عمال محاكم التحقيق عندما كان في الثانية عشرة من العمر بعدما أشاد بالإسلام. وأصبح غونثاليث في ما بعد قساً وراح ينادي في اشبيلية باصلاح الكنيسة علناً فاعتقله عمال محاكم التحقيق وعذبوه ثم أحرقوه في اشبيلية مع اختين له وعدد آخر من "الهراطقة" في 14 كانون الأول (ديسمبر) 1559. ومن الذين صاروا بروتستانت أيضاً القسيس ألونثو غوديل Alonzo Gudel وكان أندلسي الأب يهودي الأم. ولم تردنا هذه الإشارة إليه لولا أنه قدّم إلى المحاكمة مع قسيس آخر يدعى لوىس الليوني Luis de Leon بتهمة تفضيلهما ترجمة للإنجيل إلى العبرية على الترجمة القشتالية.
    ولعل اشهر الأندلسيين اللاهوتيين البروتستانت على الإطلاق هو كاسيودورو دو لا رينا Casiodoro de la Reina. والثابت أن كاسيودورو من مواليد غرناطة حيث درس العلوم المسيحية وأصبح راهباً كاثوليكياً لكنّه انشق بعد ذلك وانضم إلى اللوترية في بداية عهدها وأصبح واحداً من أهم دعاتها، وساهم في إعداد بعض ترجمات الإنجيل. ونشط كاسيودورو في نشر البروتستانتية في إسبانيا وكان يرسل الأناجيل اللوترية إلى قشتالة في براميل النبيذ من محلته في بال (بازل) في سويسرا حيث كان يقيم مع المصلح الفرنسي جان كلفين، الرجل الأشهر الثاني في الحركة البروتستانتية بعد مارتين لوتر.
    الأندلسيون ومحاكم التحقيق في عهد كارلوس الخامس
    وجد كارلوس نفسه فجأة صاحب سلطة هائلة لم تنافسه في اتساعها وقوتها سوى الدولة السلطانية العثمانية. ووجد كارلوس نفسه فجأة يدافع عن امبراطوريته ضد خطرين داخليين هما الحركة اللوترية في المانيا وسويسرا وثورات أهل المدن في إسبانيا، وخطرين خارجيين هما فرنسا والعثمانيون. وكان القضاء على ثورات أهل المدن لا شيء تقريباً في مقابل خطر التصدي للوترية التي كرّس لها جل حياته الامبراطورية وانتهت باعترافه بالكنيسة البروتستانتية. ولولا صعود اللوترية لكان كارلوس، على الأرجح، حلّ محاكم التحقيق في إسبانيا، إلا أنه بدا واضحاً أنه سيكون في حاجة إلى كل القوى التي يستطيع حشدها دفاعاً عن مصالحه الدولية. ولم يحدث بعد ذلك ما كان سيغيّر رأيه ويلغي محاكم التحقيق أقله للتخلص من سمعتها السيئة في أوروبة. لكننا نجد بعد ذلك سلوكاً عاماً عند كارلوس الخامس واكب فيه تشدّده وتهاونه مع الأندلسيين ازدياد الخطر البروتستانتي أو انحساره، وبمعنى آخر انتصاراته على الأمراء البروتستانت أو هزائمه، وكذا حال الحرب المستعرة في صورة شبه مستمرة مع فرنسا، جارة أرغون الأقرب.
    وألغت السياسة الجديدة التي بدأ كارلوس يفكّر بها ليس فقط تعهدهّ عدم التدخل في الشؤون الدينية لأندلسيي أرغون (بما في ذلك بلنسية)، بل تعهّد كل الملوك الذين سبقوه، ووضع بذلك نهاية لتقليد ملكي استمر نحو ثلاثة قرون. فمنذ القرن الثالث عشر والأندلسيون الأرغونيون يتمتعون بقسط وافر نسبياً من الحرية الدينية والاجتماعية مكّنهم من الاستقرار والنمو. وتبوأ بعض هؤلاء مناصب عالية نسبياً بعدما اثبتوا ولاءهم لأرغون من خلال المشاركة في حرب الفرنسيين الذين حاولوا التوغل في المناطق الشمالية من المملكة. وبما أن عدداً مهماً من هؤلاء كانوا يعملون لدى النبلاء فقد كان في استطاعتهم دائماً الاعتماد على حمايتهم دفاعاً عن المصالح المشتركة. ووقف النبلاء في وجه محاولة فرناندو إدخال محاكم التحقيق إلى أرغون. ولما أصر على ذلك دبّر النبلاء اغتيال المحقق العام بدرو دو أريويس، وتابعوا معارضة قوية لأي توسيع لنطاق محاكم التحقيق خارج حدود مدينة سرقسطة إلى المناطق ذات الكثافة الأندلسية العالية في بلنسية والمدن والأرياف في أرغون. ووجد فرناندو في النهاية أن المحافظة على وحدة مملكته الأرغونية واستمرار تدفق الأموال من الأراضي الميرية التي استأجرها الأندلسيون يستدعيان وضع مصالحها ومصالح النبلاء على رأس أولوياته فوافق على عدد من القوانين التي حظرت تعميد الأندلسيين في أرغون أو طردهم أو التعدّي على أملاكهم أو التدخل في شؤونهم. ولم تلبث سرقسطة أن حذت حذو المدن الأرغونية الأخرى وأقرت عام 1519 هذه الحقوق وباتت جهود محكمة التحقيق فيها موجهة إلى عدد صغير من اليهود المتنصّرين.
    وكان الأندلسيون الغرناطيون سمعوا بنهوض الحركة اللوترية وبنشوب الحرب مع فرنسا، إلا أن كارلوس بدا لهم ملكاً لا يمكن قهره. وكانوا يعتقدون أنه سيظهر امتنانه للولاء الكبير الذي أدّوه له خلال ثورات أهل المدن فيرفع عنهم القيود المفروضة على ممارسة دينهم وعاداتهم بموجب مراسيم ملكية سابقة بعدما خطا خطوة إيجابية بإلزام نفسه في خطاب استلام عرش أرغون بعدم التدخل في الشؤون الدينية للأندلسيين الذين يعيشون في تلك المملكة. وعلى الرغم من أن كارلوس استمع إلى شكاويهم ووعد بدرس مطالبهم إلا أنه كان قرر أن فرنسا يمكن أن تحاول آجلاً أو عاجلاً النفاذ إلى إسبانيا عبر أرغون، وأن الحرب ضد اللوترين تقتضي أولاً ضبط إسبانيا باعتبارها قاعدته الأساسية، والعمل على توحيدها من خلال كثلكة كل من يعيش فيها أياً كان مستقرهم ومهما كانت النتيجة.
    وبما أن هذه السياسة تقتضي الرجوع عن تعهده للأرغونيين عدم التدخل في شؤونهم الدينية فقد كتب إلى البابا يطلب منه أن يحلّه من هذا التعهد. وكان وصول جواب البابا بالموافقة على ذلك في الثاني عشر من آذار (مارس) عام 1524 إيذاناً بإطلاق كارلوس يد محاكم التحقيق لتنفيذ سياسته الجديدة شاملة جميع الأندلسيين في كل مكان من إسبانيا. وفي الفترة القريبة التي تلت موافقة البابا بدأت المحاكم اتخاذ الخطوات العملية لتنفيذ أوامر كارلوس الخامس، ووجد الأندلسيون أنفسهم مرة أخرى في الأجواء التي سبقت نشوب الثورة الأندلسية الأولى مع فارق أساسي هو أن الأندلسيين الأرغونيين كانوا هذه المرة الهدف الرئيس الذي وضعته الحكومة والكنيسة ومحاكم التحقيق نصب عيونها.
    تنظيم ملاحقة الأندلسيين والوشاية بهم
    … ”وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب باصبعه على الأرض. ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاًً بحجر“.
    لماذا لم يستوقف هذا المشهد المُدهش عمّال محاكم التحقيق كما استوقف معظم من قرأ العهد الجديد؟ وإذا كان استوقفهم يوماً وعرفوا بعد استيعابه أهمية الرأفة في تغيير عقول الناس وقلوبهم فلماذا تجاهله معظمهم في تعامله اليومي مع الأندلسيين؟ هل كان القشاتلة مسيحيين أم شيئاً آخر؟ هل اعتبروا أنفسهم جنوداً في جيش كاثوليكية قشتالة ونفذوا الأوامر ثم اعترضوا، أم أنهم لم يعترضوا قط؟ هل كانوا يريدون فعلاً أن يجعلوا من الأندلسيين المُنصّرين بالمراسيم نصارى طيبين، أم كانوا يريدونهم أن يصبحوا شيئاً آخر؟ أين اخطأ استراتيجيو محاكم التحقيق وأين أصابوا؟ وما هي المعادلة الصعبة الهيّنة التي واجهت محاكم التحقيق، ومن الذي حددها فعلاً، ومن خدمت في النهاية؟
    يوجد خطأ كبير ما في هذه المؤسسة. ويوجد خطأ كبير ما في الاستراتيجية التي وُضعت لهذه المؤسسة. ويوجد خطأ كبير ما في قشتالة القرن السادس عشر جعل حدوث الخطأين الأولين ممكناً. وعرفنا الآن ما هو العقاب الذي يمكن ان تُنزله محاكم التحقيق بالخطأة والمخالفين والساخرين من التعاليم الكاثوليكية، لكن ما هي مكافأة من يعصم نفسه وينصاع ويجلس في الكنيسة باحترام ويستمع إلى القداس؟ نكاد نظن أن المكافأة، في معظم الحالات، كانت تجنّب العقاب لا غير. ليس لأن محاكم التحقيق والكنيسة الكاثوليكية القشتالية من ورائها لم تكونا راغبتين دائماً في تقديم المكافأة لأنهما تحدثتا عنها في مناسبات لا تُحصى، بل ربما لأنهما لم تكونا قادرتين على تقديم المكافأة الحقيقية، ولم تكونا في النهاية إلا أداتين استجابتا في معظم الأوقات لمطالب السلطة والشارع القشتالي.
    لماذا؟
    لأن المجتمع القشتالي لم يكن قادراً على قبول أي حل عادل. ولنفترض مثلاً أن عبدالله بن أحمد السّراج الغرناطي اليمني الأرومة تنصّر باختياره وعن قناعة داخلية تامة وصار يأكل لحم الخنزير ويشرب الخمر ويذهب إلى الكنيسة ويجمع لها التبرعات وينصت بخشوع للقداس فأي نصراني سيكون بعد كل هذا؟ سيكون نصرانياً من الدرجة الثانية، أي نصرانياً جديداً Morisco. وهل كان هذا النصراني الجديد يستطيع أن يأمل في أن يصبح يوماً مساوياً للنصراني القديم؟ لا! ليس في معظم الحالات على الأقل. يمكنه أن يصبح متساوياً مع النصراني القديم من جهة الواجبات لكن ليس الحقوق. لماذا؟ لأن شغل المناصب الرفيعة كان يتطلّب مبدأ أهم من مبدأ التنصر هو نقاء الدم، ليس بالانحدار من الأب فقط بل من الجد وجد الجد أيضاً، وربما الرجوع بالنسب الرفيع إلى فارس حارب في معركة العقاب التي قادها ألفونصو الثامن قبل أكثر من ثلاثة قرون. هل يستطيع أحد أن يُثبت شيئاً مثل هذا؟ طبعاً! إذا كان النصراني يستطيع أن يشتري صك الغفران يستطيع أيضاً أن يشتري شهادة نسب تعود به إلى أبعد من معركة العقاب. لماذا نتصوّر أن ما يحدث اليوم لم يحدث في الماضي؟
    وبين عهد المحقق العام الأول لمحاكم التحقيق توماس دي توركيماده والمحقق العام الخامس ألفونصو مانريك تعاقب على هذا المنصب المهم ديثا وخيمينس وأدريان الاترشتي الذي صار بابا في ما بعد. وعمل كل واحد من هؤلاء على تعزيز عمل محاكم التحقيق وتوسيع صلاحياتها ومد أذرعها خلف حدود الممالك التي تشكّل إسبانيا لتصل إلى المُتهمين. ونما مع نمو المحاكم هيكل بيروقراطي كبير ضم عدداً متزايداً من القضاة والمحققين والمعرّفين والعيون (المخابرات) والكتبة والنسّاخين والخطّاطين ومراقبي الكتب والمخطوطات وعمال المطابع الخاصة بالمحاكم والمحاسبين والمخمّنين والمسؤولين عن حجز الأموال وتسويق عقارات المُدانين وأملاكهم الشخصية والطبّاخين والخدم وغيرهم من موظفين وعمّال. وكانت مهمة هذه المحاكم في المراحل الأوليّة محصورة باليهود المتنصّرين وجماعات من القوط استمروا يمارسون المسيحية على المذهب الآريوسي وبعض الأندلسيين في قشتالة أو الفارين من مناطق سكنهم لسبب أو آخر أو الأندلسيين العبيد الذي يهربون من مالكيهم.
    وشهدت مهام محاكم التحقيق اعتباراً من عام 1523 توسيعاً هائلاً في دائرة اهتمامها ومسؤولياتها لم تقتصر على ملاحقة الأندلسيين بل أيضاً على اللوتريين أو أنصارهم في إسبانيا وخارجها. وفي إسبانيا نفسها اعتمدت محاكم التحقيق دائماً وفي صورة حاسمة على وشايات الإسبان بممارسي الهرطقة بموجب المرسوم المشهور الذي أصدرته إيزابيلا. ولم يكن الإبلاغ عن مظاهر الهرطقة واجباً قوميّاً ودينياً فقط بل كان الامتناع عن ذلك جريمة ينزل بمرتكبها عقاب شديد. وقدمت محاكم التحقيق إلى جانب التهديد بالعقاب حافزاً مادياً فكان الواشون يحصلون على مكافآت مالية تتناسب والأحكام التي تصدر على المتهمين في حال ثبوت التهم الموجهة إليهم. وإضافة إلى المكافأة المالية، كانت المحاكم تصرف لبعض الواشين شهادات "حسن سلوك" يمكن استخدامها، إلى جانب شهادات نقاء الدم، لشغل المناصب الرفيعة أو المهمة. ومع الزمن تطورت حاجة لحماية هؤلاء الواشين من انتقام ذوي المتهم المُدان فكانت المحاكم تحفظ سرّية اسمائهم وعناوينهم وتمنع المتهم من مواجهة مُتهمه مهما كانت الظروف أو نوع الاتهام. ولم يكن دافع الوشاية الحصول على المكافأة أو الانتقام دائماً فبعض الوشاة كانوا مواطنين صالحين وكاثوليكيين أتقياء دلّوا على جيرانهم وأصدقائهم انطلاقاً من شعورهم الكاثوليكي العميق بصدق موقفهم وعدالته.
    وكانت المحاكم تصدّر لوائح تنظيمية سنوية تؤطّر الوشاية وتحدد أنواعها، لذا كان سهلاً على الإسبان، وحتى بعض اليهود وربما بعض الأندلسيين أيضاً، التعرّف على نوع الهرطقة الذي يمكن ابلاغه إلى عمّال محاكم التحقيق. إلا أن هذه اللوائح كانت خاصة باليهود وببعض المسيحيين ذوي الممارسات الدينية غير الكاثوليكية. واقتضت ضرورات تنفيذ أوامر كارلوس الخامس وضع لائحة خاصة بالأندلسيين تمهيداً لدعوة الشعب الإسباني إلى الوشاية بهم. ووقعت هذه المهمة على المحقق العام ألفونصو مانريك الذي جمع العناصر والمظاهر القابلة للوشاية بها في لائحة جرى تعليقها في الأماكن العامة يتقدمها أمر بأهمية الوشاية بمن يمارس أياً من البنود المذكورة خلال ستة أيام من رؤيتها أو تعريض نفسه للعقوبات الصارمة ومخالفة تعاليم الكاثوليكية.
    وتضمنت هذه اللائحة 36 بنداً منها أن يسمع الواشي أو يرى: أن دين محمد هو الأفضل، وأن لا سبيل لغيره إلى الجنة، وأن المسيح نبي وليس إلهاً، وأن أمّه لم تكن عذراء، وإذا سمعنا أو رأينا ان المسيحيين الذين تم تعميدهم يقومون ببعض طقوس أعياد دين محمد مثل الاحتفال بيوم الجمعة بأكل اللحم وقولهم إنه حلال وكذلك تزينهم بقميص نظيف وملابس أحسن من بقية الأيام الأخرى، وإذا ذبحوا الدواجن أو الحيوانات قاطعين العنق بسكين وتاركين إشارة على الرأس ومحولين وجهة الرأس نحو المشرق وقائلين "باسم الله" ورابطين أرجل الحيوان المذبوح، وإذا رفضوا أكل لحم الحيوانات غير المذبوحة أو التي ذبحتها النساء، وإذا ختنوا أبناءهم أو لقّبوهم باسماء عربية أو أظهروا الفرح بتلقيبهم بتلك الاسماء ونادوهم بها، وإذا قالوا وجب الإيمان بالله وإن محمداً نبيه، وإذا حلفوا بكل الايمان القرآنية، وإذا صاموا رمضان وراعوا ذلك أثناء عيد الفصح وسلموا بعض الصدقات ولم يأكلوا ولم يشربوا حتى يلاحظوا النجمة الاولى واستفاقوا ليأكلوا قبل طلوع النهار أو غسلوا أفواههم ورجعوا إلى فراشهم، وإذا توضأوا فغسلوا السواعد والأيدي حتى المناكب والوجه والفم والأنف والاذنين والساقين والاعضاء الجنسية، وإذا صلوا وحولوا وجهتهم نحو الشرق فوق حصير أو قطعة قماش ثم حرّكوا رؤوسهم قائلين بعض الكلمات العربية وقائمين بغيرها من الصلوات المحمدية، وإذا احتفلوا بعيد الاضحى بعد الوضوء، وإذا تزوجوا على سنة محمد، وإذا غنوا الأغاني العربية ونظموا حفلات أو رقصات وضربوا آلات موسيقية ممنوعة، وإذا وضعوا على أبنائهم أو أشخاص آخرين شكل يد بخمسة أصابع كذكرى للفرائض الخمس، وإذا احترموا تعاليم الإسلام الخمسة، وإذا غسلوا موتاهم ولفّوهم في كفن من قماش أبيض ودفنوهم في أرض بكر أو في قبر عميق واضجعوهم فيه واضعين حجارة تحت رؤوسهم وتاركين على اللحد أغصاناً خضراء وشيئا من العسل والحليب وطعام آخر، وإذا تذكروا محمداً عند الحاجة وقالوا إنه نبي الله ورسوله، وقالوا إن أول بيت لله هو ببكة، وان محمداً دفن فيها (هكذا جاء في اللائحة)، وإذا قالوا ان العربي يجد الإنقاذ في التجائه الى دينه واليهودي الى عقيدته، وإذا اجتاز أحدهم البلاد الى المغرب أو غيرها وارتد عن المسيحية، وإذا قالوا أو فعلوا أي شيء مرتبط بدين محمد".
    ولم ينتظر عمّال محاكم التحقيق كثيراً إذ بدأت الوشايات تنهمر على قصرهم في بلنسية فور تعميم اللائحة فقبضوا على عدد كبير من الأندلسيين لأسباب اعتبرها الأندلسيون بسيطة، وبدأت مصادرة أملاك المشتبه بمخالفتهم ما أدرجته اللائحة لصالح خزانة الدولة ومحاكم التحقيق والواشين. ووقعت هذه الأعمال على الأندلسيين وقوع الصاعقة فسعوا إلى فتح المفاوضات مع السلطة لكن الأخيرة كانت سلّمت الأمر إلى محاكم التحقيق وبدأ قطار نشاطها يندفع بسرعة كما لو كان بالقوة الكامنة. وفي 28 نيسان (إبريل) عام 4251 استقبل المحقق العام مانريك في مدينة برغش الواقعة في قشتالة القديمة شمال البلاد وفداً أندلسياً واستمع إلى شكاويهم من تشدّد عمّاله في معاملتهم "وحصلوا منه على وعد بتوخّي العطف على الموريسكيين".
    وليس هناك ما يُثبت أن مانريك هدّأ تسارع ملاحقة الأندلسيين بعد ذلك إذ أجبرَ رئيس محكمة التحقيق في بلنسية غاسبار دافالوس أسقف وادي آش وعمّاله عدداً كبيراً من الأندلسيين على قبول التعميد.ويحمّل التعميد معنى مهماً هنا لأن الكاثوليكية تعتبره عقداً بين المُعمّد والكنيسة فإذا أخلفه حق عليه العقاب ويجب على محاكم التحقيق اعتقاله أينما كان ومهما كانت جنسيته. وعندما فرضت الكنيسة على الأندلسيين قبول هذا العقد لم يبق بعد ذلك سوى متابعته لذا نجد أن مانريك أمر في أيار (مايو) من العام التالي (1525) جميع الأندلسيين المُعمدين بالتوجه إلى كاتدرائية بلنسية لإبرائهم من تهم الهرطقة، وتوّعد من يرتد منهم بعد التعميد بالإعدام ومصادرة الأموال والممتلكات. وفي 13 أيلول (سبتمبر) عام 1525 وجّه كارلوس إلى الأندلسيين في بلنسية أمراً بقبول التعميد رغبة في "إنقاذ أرواحكم وانتزاعكم من الضلال الذين تعيشون فيه"، وتبع ذلك قرار في 16 تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه بإجبار الأندلسيين على التعريف بأنفسهم عن طريق وضع هلال من قماش أزرق على قبعاتهم بحجم البرتقالة، ولحق به أيضاً قرار آخر صدر في 18 تشرين الثاني من العام ذاته بأجبار الأندلسيين على الإبلاغ عن أي أندلسي يرجع إلى الإسلام.
    أما آخر سلسلة القرارات التي عرفها العام 1525 فهو الذي صدر في الثامن من كانون الاول ونصّ على وجوب قيام محاكم التحقيق والكنيسة بتعميد جميع الأندلسيين قسراً قبل 31 كانون الثاني (يناير) من العام بعده. وكان القرار منتهى ما تحمّله أندلسيو أرغون فثاروا في انتفاضة اشترك فيها نحو 26 ألف عائلة موريسكية أو نحو 130 ألف شخص انتقل قسم منهم خلالها إلى الجبال خصوصاً جبال Espadan لكن جيش كارلوس الخامس هاجم الثائرين وتمكّن من إنهاء تلك الانتفاضة كما تمكّن قبلها من انهاء انتفاضة شملت عدداً كبيراً من الأندلسيين الذين احتموا بالجبال.
    ولم يكن تحرّك كارلوس الخامس في مملكة غرناطة أقل سرعة من تحرّكه في أرغون إذ أمر بتأسيس محكمة للتحقيق في مدينة غرناطة عام 1526، وقدمت في أيار (مايو) عام 1529دفعة من الضحايا احرقوا في احتفال خاص تألّفت من المتهمين الآتين: ملحد، مزور جوازات مرور باسم محاكم التحقيق، ثلاثة رجال تزوجوا من أكثر من امرأة واحدة، ثلاث ساحرات، 44 يهودياً متنصّراً، 22 يهودية متنصّرة، أندلسيين مسلمين، سبعة رموز شخصية ليهود متنصّرين فارّين، عشرة رموز شخصية ليهوديات متنصّرات فارّات من محاكم التحقيق، رمز لأندلسي مسلم فر من وجه عمال محاكم التحقيق.
    تخفيف الضغوط عن الأندلسيين
    بدأت سياسة كارلوس الخامس تتغير في نهاية العشرينات من القرن السادس عشر. ففي عام 1528 أمر المحقق العام لمحاكم التحقيق بعدم التدخل في شؤون الأندلسيين الموجودين في إقطاعية مونزون (منتيشون) الواقعة في الشمال الشرقي من سرقسطة في الطريق بين مدينتي لاردة ووشقة. وتابع كارلوس سياسة التهدئة في السنوات اللاحقة فوجّه محكمة التحقيق في بلنسية في 21 كانون الثاني (يناير) 4351 بالامتناع عن مصادرة أي أملاك جديدة تخص الأندلسيين المتهمين بالهرطقة لمدة 40 سنة. ولحق بذلك (1535) قرار تبنّاه المجلس الأعلى في بلنسية يحظر تطبيق عقوبة الحرق على الأندلسيين المُعمدين. وفي عام 1536 أصدر كارلوس قراراً يقضي بعدم مصادرة أملاك الأندلسيين في المستقبل، وقراراً آخر منع تدخل محكمة التحقيق في شؤون الأندلسيين في بلنسية وقطالونيا، كما رافق هذه القرارات قرار خاص بمملكة غرناطة تضمن منع محاكم التحقيق من التدخل في شؤون أهل غرناطة لمدة 04 سنة، وبات واضحاً أن كارلوس غيّر سياسته.
    لماذا؟
    توجد أسباب محلّية ودوليّة عدّة وراء تتابع القرارات بكف يد محاكم التحقيق عن تجمّعات أندلسية معينة في إسبانيا شملت الأندلسيين في أرغون ومملكة غرناطة وقشتالة خصوصاً قشتالة القديمة شمال البلاد. ويمكن البرهنة على الطابع الاقتصادي لهذه القرارات لارتباطها بحصول كارلوس الخامس على دفعات نقدية كبيرة لمرة واحدة ودفعات سنوية و"تبرعات" من جانب الأندلسيين للمساهمة في تغطية نفقات محاكم التحقيق المتزايدة باستمرار. وضمّت الكنيسة الكاثوليكية بعد عاصفة العشرينات من القرن السادس عشر الألوف من المُعمّدين الأندلسيين الجدد الذين لم تكن هناك ثقة بصدق إيمان معظمهم. لكن خزانة الدولة خسرت مباشرة أو من خلال الحصة التي كانت تقتطعها من إيرادات محاكم التحقيق مبالغ كبيرة، قابلتها خسارة نسبية كبيرة لحقت بخزانات الممالك المحليّة والمجالس البلدية التي كانت "تجبي" من الأندلسيين أنواعاً عدّة من الدفعات في شكل كفالات مالية وغرامات وضرائب محلية على الأرباح والانتاج والمبيعات وغيرها.
    وكان النبلاء والإقطاعيون أكبر المتضررين مباشرة من قرارات تعميد الأندلسيين وملاحقتهم خلال تلك الفترة المضطربة. وحاول كارلوس الخامس تلطيف وقع قراراته على اقتصاد النبلاء من خلال منحهم أوقاف المساجد الأندلسية في أرغون بعد تحويلها إلى كنائس فلم يلق هذا الاجراء قبول الجميع. وتطورت معارضة قوية لهذه السياسة واستطاع النبلاء في النهاية ثلم شفرة قرارات الامبراطور محليّاً ثم إفشال تنفيذها كمقدمة لتجميدها مدة 04 سنة في قسم كبير من أرغون ومملكة غرناطة. وربما كانت حصة الدولة من الأموال والممتلكات التي صادرتها محاكم التحقيق من الأندلسيين كبيرة في البداية وعوّضت تراجع الدخل من الأراضي الميرية التي استأجرها الأندلسيون، ثم فقدوا بعد المرحلة الأولى من المصادرات والغرامات قسماً مهماً من ثروتهم. ووجدت محاكم التحقيق بعد ذلك أن عليها رفع عدد حالات المصادرة لضمان استمرار المستوى نفسه من تدفق الأموال عليها وعلى الدولة.
    ونعرف أن الأندلسيين في غرناطة تعهّدوا لكارلوس الخامس بالطاعة لكن الطاعة لم تكن آنذاك العملة التي يريدها كارلوس. ففي عام 1529 ضرب العثمانيون حصارهم الأول على فيينا، عاصمة القسم الغربي من امبراطورية كارلوس المتروكة في عهدة أخيه فرديناند، ووجد نفسه بلا جيش ولا مال لدعم دفاعات النمسا، فتدخل في الشؤون الدينية لأمراء ألمانيا فقاموا عليه مما اضطره إلى الموافقة على معاهدة "الصلح الديني" في نورمبرغ عام 1532 للحصول على الدعم العسكري من الأمراء اللوتريين ضد العثمانيين.
    وفي الوقت نفسه بدأت سفن خير الدين بربروسا اعتراض السفن الإسبانية وشن عشرات الغارات على المدن والمواقع المنتشرة على سواحل إسبانيا وإيطاليا فنظّم حملة احتل خلالها تونس عام 1535 ثم اشتعلت الحرب مرة أخرى بينه وبين فرنسا في العام بعده. ولم يصل كارلوس إلى أوج قوته إلا عام 1544 عندما وافق فرانسيس الأول على مساعدته ضد الأمراء البروتستانت في ألمانيا وتخلّى لكارلوس عن نابولي في مقابل إعادة دوقية برغندي.وكان قبل ذلك فشل في حملته على الجزائر ثم خسر بودابست فالمجر كلّها لصالح العثمانيين.
    واقتضى تمويل كل هذه الحروب ضخ المال في الخزانة أكثر مما اقتضى ضخ مزيد من الأندلسيين المُعمدين في الكنيسة الإسبانية، إلا أن الحصول على مال الأندلسيين في مقابل اعطائهم الحرية الدينية المحدودة، لم يكن وقتها العامل الأساسي إذ كان العثمانيون والمغاربيون يعرفون ما يحصل في إسبانيا وكان حرق الأندلسيين واضطهادهم دافعاً لتنظيم مزيد من الحملات الجريئة على إسبانيا ومعاملة الأسرى الإسبان في بعض الحالات بقسوة تماثل قسوة معاملة الأندلسيين خصوصاً على يد البحّارة الأندلسيين الذين كانوا هربوا من إسبانيا إلى الجزائر وتونس.
    ولا يمكن بسهولة معرفة تأثير "عامل الردع" هذا لكن لا بدّ أن يكون، إضافة إلى الأسباب التي تقدم ذكرها، لعب دوراً في انتقال سياسة كارلوس الخامس جزئياً من العقوبات البدنية إلى عقوبا ت مالية يقول مؤرخ فرنسي هو فنسان برنارد ان قيمتها بلغت 6.597 بليون مرابطي بين اعتلاء كارلوس العرش ونشوب الثورة الأندلسية الكبرى عام 1568.
    الأندلسيون ومحاكم التحقيق في عهد فيليب الثاني
    أطلق صلح "كريسبي" Crespy عام 1544 مع فرنسا يد كارلوس في التصدي للأمراء البروتستانت وأنزل بهم هزيمة منكرة في وقعة مهلبرغ Muhlberg عام 1547لكن الحظ خانه عام 1552 فهرب من وجههم بعد هزيمة شنيعة. وفي العام الأخير نفسه وقف في وجه كارلوس أكبر عدوين أوروبيين له بعدما أيدت فرنسا الأمراء البروتستانت لقاء الحصول على ثلاث مناطق ألمانية محاذية لفرنسا هي ميتس وتول والفردان. وقامت حرب بين إسبانيا من جهة والفرنسيين والأمراء الألمان استمرت خمس سنوات أخفق كارلوس خلالها في استعادة المناطق الثلاث فتنازل لابنه فيليب عام 6551عن عرش تربّع على إسبانيا والمنطقة التي نعرفها اليوم باسم بلجيكا ونابولي ومعظم الأميركتين الوسطى والجنوبية (استكملت إسبانيا فتحهما في حدود 1550)، وأخيراً هولندا التي كانت أغنى ممالك فيليب الثاني وأهم دولة تجارية ومالية في أوروبة.
    ودفع كارلوس بإخفاقه ثمن عجزه عن فهم الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت وراء صعود حركة اللوترية بتلك السرعة إذ كان يحاول مصالحة هدفين لم يعد ممكناً مصالحتهما آنذاك هما رغبته في إقامة امبراطورية دولية كاثوليكية مضادة للإصلاح يسيّرها سياسياً ودينياً من خلال الضغط على البابا ويكون فيها حاكماً مطلق الصلاحية وفق مفاهيم العصور الوسطى، ورغبة الأمراء الألمان في إقامة الدولة الوطنية التي يستطيعون المشاركة في صنعها وتسييرها في أجواء عصر النهضة الفكرية والحريّات الفرديّة. وإذا كان هذا الهدف يقتضي تأييد مذهب غير المذهب الكاثوليكي الذي يؤيده الامبراطور فليكن لأن هؤلاء الأمراء وجدوا أنفسهم يقاومون كارلوس والبابوية والكاثوليكية في شخص واحد هو كارلوس.
    وكان كارلوس كاثوليكياً تتلمذ على يد الكاهن الذي اصبح في ما بعد البابا أدريان الرابع لكنّه لم يكن متعصباً لأن المكان الذي ولد فيه (غنت) لم يكن يعرف العصبية السائدة في إسبانيا. ومع ذلك نجده يلجأ إلى حل قشتالي طوّرته جدته إيزابيلا القشتالية لمواجهة مشكلة في أوروبة فسيّر الجيوش إلى خصومه ومنتقديه في البداية ثم سلط عليهم محاكم التحقيق التي احرقت أول ضحاياها الأوروبيين في بروكسل عام 1523، أي بعد أقل من سنتين من إهدار دم لوتر. وباتت هذه المحاكم أهم الأسلحة التي استخدمها كارلوس في هولندا ضد اللوتريين وفي إسبانيا ضد الأندلسيين.
    ووجد فيليب الثاني بين يديه هذه الممالك الهائلة ومعها كل المشاكل التي عجز أبوه عن حلّها. وإضافة إلى العثمانيين الذين زادوا إلى قوتهم العسكرية البرية التي لا تُقهر قوة بحرية لا تُقهر أيضاً، كان الفرنسيون مستعدين للتحرك ضد عدوهم الأكبر إسبانيا عند أول فرصة سانحة، وكانت البروتستانتية تنتشر بسرعة في شمال أوروبة وبدأت تهدد بتقليص مساهمة هولندا الغنية في خزانة إسبانيا. ولم يحاول فيليب معالجة مشاكله بطريقة تختلف عن أبيه أو عن جدة جدته إيزابيلا فعزز محاكم التحقيق في هولندا وأعطاها صلاحيات واسعة وسيّر هو الآخر الجيوش لقتل الهولنديين حتى ليُقال إن القائد العسكري الإسباني دوق ألبة الملقب بـ"الحديدي" تبجح بعد عودته من هولندا إلى قشتالة عام 1573 بأنه سبب قتل 18.900 هولندي وإجبار 60 ألف شخص على الفرار من البلاد. وظل الهولنديون يعانون عسف الإسبان نحو 80 سنة ولم يتمكنوا من التخلص منهم إلا بعد حرب استقلال طويلة تُوّجت بإبرام صلح لاهاي عام 1648.
    وكانت محاربة انتشار اللوترية وتفرّعها الآنابابتيستي في هولندا واحدة من الأسباب التي دفعت إسبانيا إلى ارتكاب فظائع هائلة هناك، غير أن السبب الأهم بكثير كان استمرار السيطرة الإسبانية على الثروة الهائلة التي تمتعت بها هولندا إذ كانت الأموال التي تدخل خزانة إسبانيا من مختلف الضرائب المفروضة على الهولنديين سبعة أضعاف قيمة الفضة التي تدفقت إلى مدريد من العالم الجديد. وكانت روتردام وأنتويرب محطتين يمر من خلالهما نصف التجارة العالمية، فيما كانت بورصة أنتويرب تؤدي في تلك الفترة الدور الذي تلعبه لندن اليوم كأهم سوق مالية في أوروبة. ولم تقتصر أهمية هولندا على قدراتها التجارية والمالية الهائلة إذ كانت أيضاً "قلعة أوروبة"، وكانت أقاليمها تحيط بفرنسا لذا كان استمرار الوجود الإسباني فيها حاسماً. وتسبّب الخوف من خسارة هولندا في زيادة تشديد إسبانيا قبضتها الحديد فاشتكى الناس من جور محاكم التحقيق وظهرت معارضة لوجود الأيقونات في الكنائس وتطورت حركة مقاومة شعبية قادها نبيل شاب يُدعى إيغمونت Egmont وزعيمان آخران هما وليام الأورانجي (الملقب بالصامت) وهورن Hoorn. واشتدت هذه المقاومة فأرسل فيليب الثاني دوق ألبه إلى هولندا عام 1566 فقمع الحركة بالقوة وشكّل محاكم عسكرية بعد سنة من ذلك قررت اعدام إيغمونت وهورن عام 1568-، ولم يبق من قادة الحركة الشعبية سوى وليام الأورانجي الذي سيتولى تنظيم المرحلة الأولى من التصدي للوجود الإسباني إلى حين اغتياله.
    وفي العام الأخير نفسه اندلعت الثورة الأندلسية الكبرى لاسباب يتماثل عدد مهم منها مع الاسباب التي أدّت إلى الاضطرابات في هولندا. وكانت سياسة فيليب الثاني حيال الأندلسيين السياسة نفسها التي اختطها حيال الهولنديين بعناصر تضمّنت التدخل العسكري الواسع النطاق وتكثيف دور محاكم التحقيق. وكان دور القوة العسكرية حاسماً لكن في البداية فقط. فبعد سحق أي تمرد بقوة السلاح تأخذ القوة العسكرية مكاناً خلفياً مُراقباً فيما ترمي محاكم التحقيق كل ثقلها لضمان استمرار"تهدئة" كلا الأمتين الأندلسية والهولندية من خلال أساليب اتبعتها المحاكم خلال حكم كارلوس الخامس وأساليب جديدة أقرها فيليب الثاني عندما منح المحاكم صلاحيات شبه مطلقة. وتمكّن اليهود والأندلسيون دائماً تقريباً من شراء حرياتهم المحدودة من إيزابيلا وفرناندو وكارلوس الخامس، وسيستمر الأندلسيون في تقديم الثمن إلى فيليب الثاني لكنهم لن يحصلوا في مقابله على الحريات التي كانوا يحصلون عليها أيام أبيه كارلوس الذي مات عام 1558 ومات معه تعهّده كفّ يد محاكم التحقيق عن الأندلسيين في مملكة غرناطة ومعظم مناطق أرغون مدة 40 سنة.
    وورث فيليب من ابيه أمبراطوريته لكنه ورث من إيزابيلا تعصبها الكاثوليكي ذا الصبغة القشتالية، ومن توركيماده تقشفه ومن خيمينس صليبيته، وبدا في قصر الاسكوريال الذي عاش فيه ملكاً ينتمي إلى العصور الوسطى أكثر من انتمائه إلى عتبات العصور الأحدث. وأمضى فيليب معظم عمره وهو يحاول إبقاء أمبراطوريته في الماضي الذي تصور وجودها فيه، وسخّر لهذا الهدف معظم قدرات ممالكه وطاقاتها المالية والبشرية. أما المواصفات التي وضعها لهذا المكان العتيق في عقله العتيق فهي المواصفات نفسها التي وضعها للعالم الذي يريده ورمز إليه بقصر الإسكوريال الذي عاش فيه. والإسكوريال (بدأ بناؤه عام 1563) مجمّع كبير يقع على بعد 48 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من مدريد يحتوي كنيسة كاثوليكية مُقببة وكلّية وديراً وقصراً تحيط به أسوار تحيط أسوار أكبر منها بالمجمع كلّه، أي عالم فيليب الثاني كلّه. ولم يأتمن فيليب الثاني عالمه لأحد، ولم يكن يتخذ قراراً قبل التفكير فيه إلى حد الإفراط أحياناً، وإذا اتخذه فهو كتابة لا يحتمل التأويل الممكن في القرارات الشفهيّة. وكان البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية إلا أن فيليب اعتبر نفسه زعيماً للكاثوليكية في كل مكان، وأخضع كل الإرادات البابوية المتصلّة بممالكه لموافقته المسبقة فبدت البابوية في بعض فتراتها جزءاً من الممالك الإسبانية، والبابا واحداً من رعيّة فيليب الثاني.
    محاكم التحقيق كذراع للسلطة
    وجد الأندلسيون أنفسهم عام 1568 مجبرين على التصدّي لاستفزاز محكمة التحقيق الغرناطية بإعلان الحرب على أكبر قوة أوروبية. وتوجد أسباب عدّة أشعلت شرارة الثورة أهمها الأوضاع الاقتصادية المتردّية. فبين عام 1550 وعام 1570 استولت محاكم التحقيق على أملاك 1400 أندلسي في مملكة غرناطة وحدها، وصادرت أموال عدد كبير آخر وأوقعت بحق أعداد كبيرة أخرى غرامات مالية وعقوبات اخرى تضمّنت الحرق والسجن والجلد والعمل في القواديس. ولا نملك أي أدلة قاطعة تثبت أن الوضع نفسه لم ينطبق على مجموعات كبيرة من الأندلسيين في أرغون. فبعد قسر عدد كبير من الأندلسيين في مملكة غرناطة وبلنسية وغيرهما على التعميد صارت محاكم التحقيق تعتبر اتهام الأندلسيين بممارسة أي شعائر إسلامية أو عادات عربية من تلك الواردة في لوائح الوشاية ارتداداً عن الكاثوليكية. وكانت الخطوة الأولى التي تُقدم عليها محاكم التحقيق في حال توجيه هذه التهمة الحجز على أموال المتهم وأملاكه. ولم يكن عدم إثبات هذه التهمة يؤدي دائماً إلى رفع الحجز عن هذه الأموال والممتلكات إذ وجدت المحاكم دائماً تقريباً ممارسة معينة كانت يمكن استخدامها مسوّغاً لاستبقاء الحجز. إلا أن ثبوت هذا الارتداد كان يعني في معظم الحالات الموت حرقاً أو إعداماً، ومثله أيضاً ثبوت محاولة الأندلسيين نشر الإسلام بين النصارى الإسبان.
    وفيما عهد فيليب الثاني إلى دون خوان قيادة الجيوش للقضاء على الثورة الأندلسية الكبرى (1569- 1571)، أوكل مهمة مراقبة الأندلسيين للمحقق العام اسبينوزا الذي أمر عمّاله بأهمية متابعة أي شبهة أو وشاية ضد أي أندلسية أو أندلسي. وكان يكفي آنذاك تقدّم شاهد واحد بشهادة أو وشاية على أندلسي لاعتقاله فوراً وإيداعه سجون محاكم التحقيق وتعذيبه أو معاقبته بالعمل ثلاث سنوات في السفن، في حين كان اتهام شاهد واحد شخصاً غير أندلسي لا يكفي. وإذا حدث ولم يعترف الأندلسيون لعمال المحاكم بالجرم المسند إليهم فإن أقل العقوبات التي كانت تطبّق بحقهم هي الجلد أو دفع الغرامات المالية الكبيرة. وكانت هذه المحاكم تفرض على السجين دفع مبلغ فوري تصرف منه جزءاً لإطعامه وتأخذ الجزء الآخر مساهمة إجبارية من السجين في تغطية نفقات محاكم التحقيق. وإذا لم يتوافر المبلغ المطلوب (أحياناً 20 دوقة ذهبية) كان العمّال يصادرون أملاكه ويبيعون منها ما يكفي لتحصيل المبلغ.
    وعندما نقول إن اسبينوزا أمر عمّاله بمتابعة أي شبهة أو وشاية على أي أندلسي، أو أن المحقق العام الآخر فرناندو فالديس Fernando Valdés أمر جميع الكنائس بوجوب إبلاغ محاكم التحقيق بأي معلومات تتضمن هرطقة أسرّ بها أي أندلسي خلال اداء الاعتراف للكاهن في الكنيسة، فإننا لا نريد بذلك تجنيب فيليب الثاني مسؤولية هذه السياسة الاضطهادية بحق الأندلسيين. نحن لسنا هنا حيال بطانة فاسدة حول ملك عادل لا يعرف ماذا يدور في مملكته، بل حيال ملك ذكي واثق من نفسه كان يخوض بكامل وعيه حرباً بلا هوادة ضد خصومه أياً كان دينهم لخدمة مصالحه التي رأى أنها متوافقة مع مصالح الكاثوليكية. ولا نعرف أي محقق عام عارض إيزابيلا ومن جاء بعدها. ولا نملك أي دليل على أن المحققين العامين وضعوا سياسات لم يوافق عليها الملك أو لم تكن "تفسيراً" اجتهادياً لتلك السياسات، بل يمكن القول ان محاكم التحقيق تعدّت حتى على بعض أهم حقوق الكنيسة الكاثوليكية مثل اعطاء الأمان لمن يلتجىء إلى الكنيسة، والمحافظة على سرّية الاعترافات، ووضعت قراراتها فوق قرارات البابا لأن ما أمر به المحقق العام فالديس مخالفة واضحة لأمر وجّهه البابا بولس الرابع إلى كهنة الاعتراف في الكنائس الإسبانية بتاريخ 32 حزيران (يونيو) عام 1556 خوّلهم قبول الاعترافات من دون الرجوع إلى محاكم التحقيق.
    وتكشف دراسة ممارسات محاكم التحقيق في إسبانيا في القرن السادس عشر دوراً لهذه المحاكم يختلف كثيراً عن الدور الذي تصوّره الباباوات الذين أعطوا هذه المحكمة شرعيّة التأسيس. فالهدف هنا لم يعد يقتصر على محاربة أعداء الكنيسة الكاثوليكية بل على محاربة أعداء الامبراطورية الإسبانية السياسيين تحت غطاء اتهامهم بالهرطقة سواء كانت هذه الاتهامات حقيقية أو مجرد اختلاق. ولم تستطع محاكم التحقيق التحوّل إلى سلطة ضمن سلطة في أي وقت من الأوقات، ولم تتعد ممارساتها ما سمحت به الدولة. فهيمنة ملوك إسبانيا على المحاكم مطلقة دائماً فإذا منعوها من التدخل في شؤون الأندلسيين امتنعت بلا جدال، وإن أفلتوها على الأندلسيين فلا خلاص من سجونها وتعذيبها ومصادراتها. وهكذا باتت محاكم التحقيق "أداة أساسية في ضمان سلطة مطلقة" لملوك إسبانيا. وليس لدينا من الحقائق ما يكفي للاستنتاج بأن كارلوس أو فيليب كانا أكثر اهتماماً بوسائل تحقيق الأهداف التي رسماها لمحاكم التحقيق من اهتمامهما بالغاية. وكانت أهداف كارلوس وفيليب كبيرة لذا كانت الصلاحيات المُعطاة إلى محاكم التحقيق كبيرة، وكلاهما، كما إيزابيلا من قبلهما، منعا البابا من "التدخل" في قرارات المجلس الأعلى لمحاكم التحقيق على الرغم من أنه هو الذي يعيّن المحقق العام رئيساً لهذا المجلس الذي كان يُطلق عليه اسم "رئيس مجلس جلالته المقدس والعام التابع لمحاكم التحقيق المقدسة".
    إن هذه المهمة المنفصلة المزدوجة في آن هي التي قادت بعض المؤرخين إلى اتهام محاكم التحقيق بأنها كانت أكبر جهاز استخبارات إرهابي عرفه العالم، وإلى إفراغ معظم المحتوى الديني من مهمة محاكم التحقيق، وإلى إدانة جميع المشاركين فيها، وإلى دعوة البابا إلى الاعتذار عن كل ما حدث في الماضي. أما أهم هدف من كشف ممارسات محاكم التحقيق على الإطلاق فهو توعية الناس لكي يمنعوا قيام مثل هذه المؤسسات في المستقبل. ويمكن ان تبدأ هذه المحاكم بمجموعة مُحددة من الضحايا لكنها لا تلبث أن تكتسب زخماً بالقدرة الكامنة فيستخدمها الملوك الزمنيون والدينيون على حد سواء لإحراق أعدائهم ومصادرة أملاكهم كما حدث عندما "أقنع" الملك الفرنسي هنري الثامن البابا كليمنص بتسليط محاكم التحقيق على فرسان الهيكل الذين قال بابا قبله ان السيطرة على المناطق المقدسة في المشرق ما كانت ستستمر من دونهم ومن دون الفرق الدينية الأخرى.
    محاكم التحقيق كدائرة للجباية
    نعود بداية إلى التذكير والاستذكار بأهمية تجنّب التعميم فلا بدّ أن عدداً كبيراً من عمّال محاكم التحقيق كان مقتنعاً بأهمية عمله للمحافظة على وحدة الدولة والدين، وربما اعتقد كثيرون أن جهدهم ما هو إلا إسهاماً عن صدق وعقيدة في إصلاح حال الخطأة ودفعهم في اتجاه الخلاص كمقدمة لدخول الجنة. ومع ذلك لا بدّ من التذكير والاستذكار أيضاً بأن صلاحيات عمّال محاكم التحقيق تضمّنت أعظم صلاحية يمكن امتلاكها وهي تقرير الموت والحياة. وعلينا أن نفترض القداسة في جميع عمّال محاكم التحقيق بلا استثناء لكي نبعد عنهم شبهة استغلال سلطتهم لتحقيق مآرب شخصية أو للحصول على الرشوة أو قسر النساء الأندلسيات على الرضوخ لرغباتهم الجنسية أو استغلال ضعف الأطفال للغاية نفسها. وليس في وثائق محاكم التحقيق المُتاحة للباحثين ما يثبت أن عمّال محاكم التحقيق فعلوا هذه الأشياء، إلا أن بعض الأندلسيين وجه إليهم هذه التهمة وغيرها فقالوا إنهم «ذئاب مفترسة بلا رحمة، ومحكمتهم تعجرف واختلاس ولواط وفجور وشتيمة وجحود وغرور وتكبّر واستبداد وسرقة وظلم».
    ومن الثابت المدعوم بالوثائق والأرقام أن العاملين في محاكم التحقيق ساهموا في اقتطاع جزء كبير من الثروة الأندلسية وتحويلها إلى خزانة الدولة أو استخدامها لتغطية نفقاتهم وربما الصرف على نشاطات الرهبانيات التي كانوا ينتسبون إليها. ويجب القول إن محاكم التحقيق لم تكن السبب في إيقاع نفسها في هذا المأزق الذي حولها إلى مؤسسة تشبه الشركة. فالسبب هو النظام التأسيسي لمحاكم التحقيق الذي فرض عليها تغطية نفقاتها ذاتياً، أي من إيرادات مصادرة أموال ضحاياها وممتلكاتهم والغرامات المالية المفروضة على الخطأة. ولم يكن تأمين التمويل الذاتي مشكلة كبيرة عندما كانت في إسبانيا محكمة واحدة لها مهمات محددة ومحدودة. لكن محاكم التحقيق في القرن السادس عشر أصبحت مؤسسة كبيرة تطلّب تمويلها مبالغ طائلة وكان عليها ان "تجبي" هذا التمويل من ضحاياها لأن كارلوس الخامس وفيليب الثاني وسّعا مهماتها لكنهما لم يوفرا الاعتمادات المالية لتغطية هذا التوسّع. ومع ذلك لم يكن تأمين التمويل الذاتي مشكلة عندما كان ضحاياها من الاثرياء اليهود أو الأندلسيين فربما استطاعت محاكم التحقيق تغطية نفقاتها طول السنة من مصادرة أموال وممتلكات ثري كبير واحد، وتحويل الباقي إلى الخزانة فأصبحت المحاكم من القنوات المهمة لتدفق الأموال على الخزانة العامة. واقتضى هذا الدور بناء كادر إداري كبير ضم جباة الضرائب ومخمّني أسعار العقار وخبراء بيع الممتلكات المحجوزة في المزادات العلنية والمحاسبين والإداريين وغيرهم. وهكذا تضخّم كادر محكمة التحقيق من بضع عشرات يوم ولادتها في عهد إيزابيلا إلى واحدة من المؤسسات البيروقراطية المهمة في إسبانيا.
    ومع ذلك لم تسمح الخزانة لمحاكم التحقيق ترحيل جزء من إيراداتها إلى صندوق احتياط تستخدم أمواله عندما لا تتمكن من تغطية نفقاتها. لذا وجدت المحاكم نفسها مضطرة إلى الصرف على نفسها أولاً بأول فارتبط جزء من عملها ليس بملاحقة الهرطقة بل بالبحث عن مصادر التمويل لتسديد رواتب العاملين فيها والمعرّفين وأحياناً خبراء التعذيب المحترفين. وأيضاً لم تكن هذه مشكلة كبيرة عندما كانت محاكم التحقيق تصادر أموال الأثرياء، لكن مع الزمن قلّ عدد هؤلاء وبات على محاكم التحقيق مضاعفة عمليات المصادرة والغرامات للحصول على المقدار نفسه من التمويل. ووصل الأمر في بعض الحالات إلى ان جرد ممتلكات بعض الضحايا وبيعها لم يكن يغطي نفقات هذه العمليات، وتطوّرت بعد ذلك سياسة جديدة قامت على إجبار الأندلسيين على المساهمة في تغطية نفقات محاكم التحقيق في شكل "أتاوات" خاصة. ولدينا أمثلة عدّة على ذلك منها أن أندلسيين في مدن أريفالو Arevalo وديل كمبو (وكانت مركزاً مالياً مهماً) وأبلة Avila طالبوا محكمة التحقيق بعد إعلان اعتناقهم الكاثوليكية حديثاً بخفض الأتاوات المفروضة عليهم من 5000 مرابطي الى 4000 في بعض الحالات ومن 2000 مرابطي إلى 1000 مرابطي في حالات أخرى مما يعني أن هؤلاء كانوا يدفعون الأتاوات على الرغم من أنهم لم يتعمّدوا وبالتالي لم تشملهم صلاحيات محاكم التحقيق. أما محكمة التحقيق في مدينة بلد الوليد "فتحصلت على أمر بإجبار الموريسكيين على دفع ضريبة مالية استجابة للحاجة الماسة التي تعيشها محكمة التحقيق في مدينة بلد الوليد".- وفي بلنسية "وجب على هاته المحاكم أن تعيش وعليه أجبر الموريسكيون على تسديد مبلغ 50.000 صولة بعملة بلنسية على دفعتين احداهما بتاريخ 30 أيلول (سبتمبر) والأخرى بتاريخ 30 آذار (مارس) من كل سنة وهذا يساوي بعملة قشتالة 2500 جنيه. وحتى يتمتعوا بالامتيازات هذه نفسها، وجب على موريسكيي أرغون أن يسددوا لمحكمة التحقيق في سرقسطة ما قيمته 32.171 صولة ودينارين".
    محاكم الشيطان
    «سوف تُفتح إسبانيا من جديد»، كان الأندلسيون يهتفون من عتمة الاضطهاد السياسي والديني والاجتماعي الذي أحاط بهم من كل جانب، «سوف تُفتح من جديد، وسوف يفتحها عرب المغرب. وساعة النجاة قريبة وسوف تأتي من شمال أفريقية وبجّاية ووهران. وسوف تُفتح سبتة أولاً ثم سوف تُغزى إسبانيا من جديد، وسيمشي الفاتحون في خطى طارق وسينفتح الطريق أمامهم في صورة خارقة، وفي مضيق جبل طارق سوف يظهر جسر من الحديد وسوف يعبر العرب فوقه، وسوف يفتحون إسبانيا وسوف يصلون إلى جليقية».
    وإلى يسار جليقية الواقعة في أقصى الشمال الغربي من إسبانيا إقليم مشهور هو الباسك تحالف أهله مرة مع الأندلسيين وهاجموا مؤخرة جيش شارلمان فمزّقوه وقتلوا رولان بعدما اجتاح جيشه العاصمة بمبلونة ونهبها. وقرب طرف المثلث الذي يجمع قشتالة القديمة ونافار وجليقية مدينة صغيرة تقع على نهر إبرة اسمها لوغرونيو Logrono، يسكنها نحو 82 ألف نسمة، وربما كان العدد نصف هذا عام 1576 عندما سلّم عمّال محاكم التحقيق إلى السلطات المدنية سيدة غرناطية اتهموها بالارتداد عن الكاثوليكية. ولا نعرف أين كانت هذه السيدة تسكن في غرناطة قبل نفيها إلى شمال إسبانيا بعد الثورة الكبرى، ولا نعرف إن كانت متزوجة ولها أولاد أم أن زوجها انتهى منفياً في مكان ما من قشتالة وانتزعت الكنيسة أولادها من بين يديها ووزعتهم على بيوت المسيحيين القشاتلة الذين اخذوا بيوت أهل غرناطة المنفيين. كل ما نعرفه عن حياة هذه السيدة الأندلسية الغرناطية أن أسقف مدينة كالهورة (قلهرة) فرض عليها توبة سرّية، ثم اعتقلتها محكمة التحقيق وأدانتها بالارتداد وسلمتها إلى السلطات المدنية "متوسلة إليها التصرف معها بكل رأفة وشفقة"، كما يرد في حاشية كل أوامر تنفيذ الإعدام بضحايا محاكم التحقيق كأن المحكمة لا علاقة لها بإعدام الضحايا.
    وفي ساحة لوغرونيو نصب الجلادون المشنقة لهذه السيدة المسلمة، ثم نقلوها بعد فيضان روحها إلى المنصة المعروفة وأضرموا فيها النار. وكان مضى على استشهاد هذه السيدة 180 سنة عندما ولد في تلك المدينة مؤرخ شغلت محاكم التحقيق الإسبانية تفكيره في معظم سنوات عمره الناضج، ووضع قبل وفاته عام 1823 مؤلفاً ضخماً من أربعة أجزاء عن محاكم التحقيق الإسبانية يُعتبر إلى اليوم مرجع مراجع تاريخ تلك المحاكم. ولنا أن نتساءل ماذا كان يدور في خلد خوان أنطونيو لورنتي Juan Antonio Llorente وهو يطالع ملف هذه السيدة الغرناطية التي قضت في مدينته. ربما كان ملفاً من آلاف الملفات التي اطلع عليها، أو مجرّد رقم في إحصاءات ضحايا محاكم التحقيق، وربما وقف في ساحة المدينة يوماً وتصور تلك المرأة الغريبة التي عاشت عمرها المقتطع في مكان غريب ولم يبق منها بعد الحرق ما يمكن دفنه. ربما تخيل سماع صراخها أو صراخ عشرات الالاف من ضحايا محاكم التحقيق، وربما نستطيع نحن أيضاً أن نتخيلها ورأسها يتدلى فوق صدرها بعد انكسار عنقها وشفتاها لا تزالان مفتوحتين على آخر كلمة نطقتها. ما هي تلك الكلمة يا ترى؟ ما هو آخر شيء رأته في خيالها قبل أن تغمض عينيها للمرة الأخيرة؟ ابنها؟ ما اسم ابنها يا ترى؟ ابنتها؟ ما اسم ابنتها يا ترى؟ هل كبرت وتزوجت وأصبحت أمّاً قشتالية صالحة أم أصبحت شيئاً آخر؟
    لا نعرف. لا نعرف ما هي آخر كلمة نطقها الأندلسيون الذين احرقتهم محاكم التحقيق، ولا نعرف عددهم بالضبط؟ لورنتي الإسباني الذي تمكّن من وثائق لمحاكم التحقيق لم يتمكّن منها غيره توصّل إلى أن عدد الأندلسيين الذين قضت محاكم التحقيق بحرقهم كان 31912 أندلسياً وأندلسية، واستنتج أن عدد الأندلسيين الذين أوقعت بهم محاكم التحقيق عقوبات وغرامات مختلفة كان271150 شخصاً فيما احرقت محاكم التحقيق تماثيل رمزية لـ7659 أندلسياً تمكّنوا من الفرار خارج إسبانيا أو اختفوا داخل تلك البلاد الشاسعة. هذه الأرقام المخيفة تعني ان مجموع ضحايا الأندلسيين، بين حرق وعقوبات، 302362 أندلسياً وأندلسية، أي واحد من بين كل ثلاثة أندلسيين كانوا يعيشون في إسبانيا. فهل نصدّق هذا المؤرّخ، حتى بعد الأخذ في الاعتبار ملاحظات المؤرخين الأحدث على عمله، أم الكتاب الباقين الذين زعموا أن عدد الأندلسيين الحرقى كان أقل من اليهود (2000 شخص تقريباً)، وأقل من البروتستانت (مئات فقط).وإذا لم يكن لورنتي يعرف وهو الذي شغل منصب الأمين العام لمحكمة التحقيق في مدريد فمن هو الذي يزيده معرفة؟
    ويقول المؤرخ أوين تشادوك إن الفرنسيين عندما دخلوا إسبانيا عام 1808 كلّفوا لورنتي مهمة ضبط أرشيف محاكم التحقيق فاستفاد من منصبه هذا لجمع مادة الكتاب الذي ألّفه في ما بعد. وعندما انسحب الفرنسيون غادر لورنتي البلاد معهم وظل خارج إسبانيا عشر سنوات وضع خلالها مرجعه المشهور ونشره في باريس بين عامي 1817 و1818. وأثار الكتاب استياء الكثيرين من الإسبان وحظرت محاكم التحقيق تداوله على الفور. ويضيف تشادوك: "إن ما ساقه لورنتي لم يكن عرضاً بلا انحياز لكنه كان العرض الأول حتى ذلك الوقت لشخص كانت بين يديه وثائق أصلية ولذا اعتبر هذا العرض مادة لا يمكن الاستغناء عنها".
    وحتى مع التسليم بأن مؤرخين مثل لورنتي وهنري تشارلز ليا (1825-1909) من بعده ربما بالغا في تصوير فظائع محاكم التحقيق الإسبانية يجب التأكيد أنهما لم يخترعا تلك الفظائع ولم يشهّرا بتلك المحاكم لأن شهرتها كانت ملأت الآفاق آنذاك. وهكذا تبقى تركة محاكم التحقيق تركة كاثوليكية وإسبانية ثقيلة، مثل تركة الحروب الصليبية المشرقية. ومن المهم التأكيد أيضاً أن الإسبان، وحتى معظم الأوروبيين قبل صعود البروتستانتية، لم يجرؤا على انتقادها أو الحديث عن جرائمها. لكن المؤيدين كانوا كثرة أحدهم هو المؤرخ الإسباني المعاصر لتوركيماده سباستيان دو أولميدو Sebastian de Olmedo الذي يصف توركيماده بأنه «المطرقة التي تضرب الهراطقة، ونور إسبانيا، ومخلّص الدولة، وشرف رهبانيته (الدومينيكية)».
    ولا يبدو لي بعيداً جداً عن المنطق والقبول إقتراح تقدير اعتباطي سنوي لعدد من حكمت عليهم محاكم التحقيق الإسبانية كلّها بالحرق بنحو 200 شخص فقط (عشرة لكل محكمة فرعيّة) على مدى النصف فقط من حياة هذه المحاكم التي استمرت 356 سنة بمجموع يبلغ 35600 ضحية، وهو رقم غير بعيد عن مجموع ضحايا المحاكم من اليهود والأندلسيين. ونجد أن مجموع الحرقى في مدينة مرسيّة الصغيرة مقارنة بغيرها من المدن الإسبانية، حسب احصاءات لورنتي، كان 132 شخصاً خلال سبع سنوات فقط بين 1557 و1563 (أي بمتوسط سنوي قدره 19 شخصاً) فيما كان عدد المعاقبين 227 شخصاً خلال الفترة نفسها.
    وتظهر وثيقة لمحكمة التحقيق في طليطلة أن محصلة الضحايا بين عامي 1575 و1610 كانت 411 شخصاً منهم 174 شخصاً اتهمتهم المحكمة بممارسة الشعائر اليهودية، و47 شخصا بممارسة البروتستانتية، إلا أن عدد المتهمين بممارسة الدين الإسلامي كان 190 شخصاً وهي نسبة لا تقل عن النصف كثيراً. ويبدو أن المتهمين بممارسة الإسلام كان يشكّلون جزءاً مهماً من المحكوم عليهم بالحرق حتى بعد أكثر من 100 سنة من تغريب الأندلسيين ولدينا مثال على ذلك في ما حدث عام 1827 عندما قضت محكمة التحقيق في غرناطة بحرق 73 من نسل الأندلسيين على دفعتين: الأولى في آيار (مايو) تألفت من 45 أندلسياً إلى جانب عدد آخر من المتهمين بالهرطقة، والثانية في تشرين الأول (أكتوبر) حين أحرق 28 أندلسياً. وجاء تنفيذ هذه العقوبة بعد عام تقريباً من التحقيق والتعذيب خضع لهما عدد من القساوسة والعسكريين والإداريين المسلمين ومجموعة كبيرة من المسلمات بعد مداهمتهم وهم يؤدّون الصلاة في منزل أحد الجماعة.
    وتنقل الكاتبة جين بليدي عن مؤرخ محاكم التحقيق الأميركي هنري تشارلز ليا عثور محاكم التحقيق في غرناطة على مسجد سرّي عام 1769. ولا تشير الكاتبة إلى مصدرها، لكن نعرف أن المؤلف الأميركي بحث جيداً في أرشيف مدينة بلنسية، ولم يجد أي إشارة إلى اعتقال محاكم التحقيق أي موريسكيين خلال فترة امتدت 40 عاماً بين 1780 و1820.
    ومن المهم جداً استمرار كل الجهود الممكنة للوصول إلى تقدير فعلي لفداحة المأساة التي تعرّضت لها الأمّة الأندلسية الشهيدة في إسبانيا. والرقم النهائي من وجهة النظر هذه بالذات ليس مهماً فربما كان إحراق امرأة واحدة فقط أو رجل واحد فقط لأنه لا يريد أن يفكّر مثل الآخرين جريمة لا يمكن تسويغها في أي مكان وزمان. وربما وجب التفريق بين شيء مثل العنف وشيء مثل القسوة. إن العنف شيء مؤسف مهما كان سببه لكنه من طبيعة الإنسان كما يبدو. أما القسوة فشيء آخر. يوجد شيء شيطاني في القسوة، ويوجد شيء شيطاني في إصرار محاكم التحقيق على قتل الأمل الذي ظل بريقه في عيون الأندلسيين قوياً يخطف الأبصار على رغم كل شيء وحتى اللحظة الأخيرة. لهذا اعتبر الأندلسيون حكّام محاكم التحقيق «حلفاء الشيطان»، ولهذا رأوا في محكمة التحقيق مكاناً يحكمه «الشيطان الذي اتخذ من الخديعة والتضليل مستشارين له» ولهذا قال أحد الأندلسيين لعمّال محاكم التحقيق «جلالة الملكة الكاثوليكية إيزابيلا ليست موجودة في الجنة كما يقول المسيحيون بل في الدرك الأسفل من جهنم لأنها أسست هذه "المظلمة"، ومعها اليهود الذين يجب ألا يخرجوا منها بل أن يبقوا تحت رحى الطاحونة التي تطحن رؤوسهم».
    المصـــــــــــــــــدر http://www.creativityinwriting.com/spip.php?article4

    التعديل الأخير تم بواسطة أماني أحمد عبدالله ; 17/02/2010 الساعة 05:33 AM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    أمـــــــــــــــــــــــانـــــــــــــــــي
    بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا
    نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا، يَقضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •