موجز تاريخ سقوط الأندلس

موجز تاريخ سقوط الأندلس
بقلم عادل بشتاوي
مؤلف: ”الأندلسيون المواركة“ و”الأمة الأندلسية الشهيدة“
مقدمة:
يا أهل أندلس حثوا مطيّكمُ فما المقام بها إلا من الغلـط
الثوب ينسل من أطرافـه وأرى ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
لا يوجد في التاريخ الأندلسي ما يلخّص أبعاد سقوط طليطلة أكثر من هذين البيتين المنسوبين إلى الفقيه الزاهد ابن العسال. وإذا أضفنا إليهما قولين مشهورين آخرين هما ”رعي البعير ولا رعي الخنازير“ و”الأمارة لو على الحجارة“ فربما اكتملت سيرة ملوك الطوائف الذين تقاسموا حكم الأندلس بعد انهيار الخلافة الأموية. ولم تكن السيرة المقابلة للممالك الشمالية خلال القسم الأعظم من تلك الفترة سيرة الوحدة والقوة إذ كانت لا تزال على التنازع والتفرّق اللذين طبعا معظم تاريخها. لكن ما حدث في منتصف القرن الحادي عشر كان تبادلاً واضحاً في المواقف فصار الشمال فجأة أكثر وحدة، أو أقل تفرّقاً، من الجنوب الذي تقاسم سادته ألقاب الفخامة والعظمة والتمجيد والانتصارات التي لم تكن يوماً .
وفي التاريخ الأندلسي أن ألفونصو السادس) أسبغت عليه البابوية صفة القداسة عام 1671(تظاهر بالنوم وهو في حمى طليطلة هرباً من أخويه وراح يصغي إلى حديث دار بين حاكم المدينة المأمون يحيى بن ذي النون وبعض وزرائه عن مناعة طليطلة، الواقعة على تل مرتفع يحيط به نهر تاجه العظيم، وانتهوا إلى التقرير بأن أخذ هذه المدينة يستوجب سبع سنوات من الحصار المسبوق بتخريب الأرض والأحواز وحرق الغلال وانقطاع المؤونة. ولا نعرف إن كانت هذه الحادثة وقعت فعلاً لأن أمراً عظيماً مثل الوضع العسكري لطليطلة لا يُبحث في حضور شخص مثل ألفونصو نائماً كان أو صاحياً، إلا أن الثابت أن ألفونصو كان يعرف المدينة جيداً .
ونهج ألفونصو السادس في البداية نهج سابقيه فأنفق على نفسه وزوجاته الكثيرات وجيشه من الجزية السنوية التي كان يحملها إليه ملوك الطوائف، إلا أنه صار يكثر في المطالب فقل الذهب وبدأ غش العملة ولمس ضعف هؤلاء الملوك وحاجتهم إلى المهادنة فعاث في بلادهم كما شا. وحدث في ذلك الوقت أن فلت زمام الأمور من يد حاكم طليطلة القادر ذي النون بعد مقتل أحد الفقهاء المحبوبين فثار الناس وخلعوه وأجلسوا مكانه المتوكل بن الأفطس لكنّ الأخير ترك المدينة لمصيرها عندما سمع بقدوم ألفونصو ومعه القادر. ولم يجد أهل طليطلة نصيراً في باقي ملوك الطوائف فسلّموا المدينة لألفونصو بعد سبع سنوات من الحصار. وما كاد ألفونصو يستقر في عاصمته الجديدة حتى بدأت الهدايا والتهاني على هذا النصر المبين تفد إليه من بعض ملوك الطوائف. ومن هؤلاء حسام الدين بن رزين حاكم شنتمرية الذي حمل له هدية سنية فجازاه عليها ألفونصو بقرد. ولم ييأس بعض ملوك الطوائف من استعطاف ألفونصو وكسب ودّه ورضاه إلا عندما بدأ يغير سياسته مطالباً بالحصون والقلاع والأراضي. وعندما رد ألفونصو الجزية التي بعث بها المعتمد بن عباد اللخمي، حاكم أكبر دول الطوائف، لم يعد أمامه مفر من مواجهة الواقع فانصاع للضغط الشعبي ووافق وغيره من الحكام على استدعاء المرابطين وبدا له الخيار واضحاً بين رعي الخنازير عند ألفونصو أو رعي البعير عند سلطان المرابطين يوسف بن تاشفين .
وفي الثلاثين من حزيران عام 1086 عبر يوسف العدوة على سفن اسطول إشبيلية ونزل الجزيرة الخضراء قرب جبل طارق، ثم سار إلى بطليوس ومعه جيوش من إشبيلية وغرناطة ومالقة وبطليوس. والتقى الجمع بجيش ألفونصو في منطقة تبعد ثمانية كيلومترات شمال شرقي بطليوس ونشبت معركة كبيرة تُعرف باسم”الزلاقة“ انتهت بهزيمة ألفونصو. غير أن المرابطين والأندلسيين لم يستثمروا هذا الانتصار ليأخذوا طليطلة فظلت في يد ألفونصو وتحولت إلى قاعدة مهمة كان يثب منها إلى المراكز الأندلسية كما حدث عندما بدأ يهدد مرسية. واستدعى المعتمد يوسف بن تاشفين ثانية بعد استفحال خطر ألفونصو وحاصر جيش المرابطين والأندلسيين حصن لييط Aledo قرب مرسية فاستعصى فانسحب قبل وصول ألفونصو لنجدة قواته .
وجاز ابن تاشفين إلى الأندلس مرة ثالثة وحاصر طليطلة فاستعصت عليه أيضاً فارتد إلى غرناطة وملكها من عبدالله بن بلقين. وترك ابن تاشفين لقادته تصفية ملوك الطوائف فملكوا قرطبة بعد قتل حاكمها الفتح بن المعتمد فوضعت زوجته سائدة نفسها في حمى ألفونصو. وانتقل جيش المرابطين إلى المعتمد في إشبيلية فخف ألفونصو لنجدته بحملة أوكل بها أحد قادته لكن الأخير انهزم. وقاوم المعتمد جيش المرابطين عبثاً وحُمل إلى أغمات عاصمة المرابطين الأولى الواقعة جنوب شرقي مراكش، ومات هناك أسيراً عام 1095. أما سائدة فأصبحت زوجة ألفونصو وحملت له ابنه الوحيد سانشو (شانجة( الذي قتل وهو في الحادية عشرة من عمره عام 1108/501 في معركة أقليش Ucles التي انتصر فيها المرابطون . ودهم ألفونصو غم عظيم لخسارة صغيره ففاضت روحه بعد سنة من ذلك تاركاً عرش قشتالة وليون وأشتوريش لابنته أراكة .
واكتشفت أراكة وغيرها مع مرور الوقت عقم محاولة التصدي للمرابطين لأن هؤلاء أدخلوا فنونا حربية لم تعرفها الأندلس من قبل مثل الجمّالة واستخدام الطبول لإصدار الأوامر والإشارات الحربية، والهجوم العريض بالفرسان بدلاً من الزحف، واشتراك الزنوج وغير ذلك من المفاجآت التي دبّت الذعر في الشمال الأندلسي والدول الأوروبية. ولم يتمكن الشمال من تحقيق أي تقدم حاسم خلال فترة طويلة، إلا أن أحوال المرابطين آلت إلى الضعف مع الزمن فتمكن الشماليون عام 1118/512 من احتلال سرقسطة والمدن الرئيسية الأخرى التي تقع في الثغر الأعلى بمساعدة الفرنسيين والإيطاليين وغيرهم، وتضاعفت بذلك الرقعة التي سيطر عليها الشماليون معززين مركزهم باحتلال طرطوشة عام 1148 /543. وبعد سنة من ذلك احتلت مملكة أرغون لاردة وافراغة ووسّعت حدودها حتى نهر ابرة. لكن العمليات القتالية الشمالية لم تكلل كلها بالنجاح إذ حاول ألفونصو السابع احتلال قرطبة بمساعدة سكانها من النصارى المستعربين فأخفق، لكنه توج حكمه باحتلال المرية، فبقيت تلك العملية أوج انجازاته، كما كان إحتلال طليطلة أوج انجازات ألفونصو السادس. أما باقي الصورة فكانت تراجعاً جديداً أمام قوة جديدة نهضت على أنقاض المرابطين هي دولة الموحدين 1123-1245/540-620.
وبدأ الموحدون فترة سيادتهم بانهاء ما بقي للمرابطين من سلطة في الأندلس واستعادوا مدينة المرية بعد عشر سنوات من سقوطها. وفي الشمال جدد ألفونصو الثامن (1214-1158) الحملات على الجنوب، وبات يشكل خطراً كبيراًً فجاز الخليفة الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور العدوة إلى طريف في الثلاثين من نيسان 1195 ((جمادى الآخرة 591) ومنها إلى إشبيلية ثم قرطبة فقلعة رباح التي تقع على بعد عشرة كيلو مترات إلى الشمال الشرقي من المدينة الملكية وسط الأندلس. وفي الثامن عشر من تموز التقى الخليفة الموحدي جيش ألفونصو في معركة سميت بالأرك، نسبة إلى حصن استخدمه الملك القشتالي لشن هجماته المتكررة على الأراضي الأندلسية، فكانت هزيمة ساحقة لألفونصو الذي انسحب من المعركة جريحاً، وفر إلى طليطلة ومعه 20 فارساً. أما الناجون فهربوا إلى الحصون القريبة واستسلم معظمهم بعد ذلك.
ولم تلجم هذه النكسة ألفونصو الثامن طويلاً إذ شرع اعتباراً من عام 1209 في مهاجمة بعض القواعد الأندلسية القريبة من منطقة سلطانه في فترة تميزت بتأجج الحماس الديني في أوروبة. وتنادت الكنيسة لنجدة الممالك المسيحية في الشمال الأندلسي، وأصبحت الفرصة مواتية لشن هجوم واسع النطاق على الدولة الإسلامية. وفي العشرين من حزيران عام 1212 انفتحت أبواب طليلطة وخرجت جيوش قشتالية وأرغونية وفرنسية ومعها أوروبيون آخرون قصدوا سهلاً يقع جنوب غربي حصن العقاب شمال مدينة جيان. والتقت هذه الجيوش مع جيش الموحدين والأندلسيين في السادس عشر من تموز (41 صفر سنة 609) فدارت معركة شرسة انتهت بهزيمة الموحدين والأندلسيين وانفتح الباب على مصراعيه لاجتياح الجنوب. أما الخليفة الموحدي محمد الناصر لدين الله فعاد إلى إشبيلية فمراكش وتوفى بعد سنة.
وحقق ألفونصو الثامن الموصوف بالنبيل انتصاره الحاسم في معركة العقاب لكن الفتوحات الشمالية العظمى التي لم تعرفها الأندلس من قبل كانت من نصيب فرناندو الثالث 1217-1252) الذي نزل على قرطبة في التاسع والعشرين من حزيران عام 1236 واتبعها بجيان (1246)) فاشبيلية ( (1248) ولم يتوقف إلا والسلطة الإسلامية مقصورة على الرقعة الجنوبية من البلاد، وانتقلت عاصمة قشتالة إلى إشبيلية. وخلال هذه الفترة كانت أرغون والبرتغال تتقدمان في اتجاه الجنوب لترسما حدودهما الجديدة.
وكما توافر لقشتالة ملك مهم مثل فرناندو الثالث، توافر لأرغون ملك لا يقل أهمية هو خايمي الاول 1213-1276) الذي احتل جزيرة ميورقة بمساعدة الايطاليين عام 1229، واستكمل في السنوات الخمس التالية احتلال الجزائر الشرقية قبل ان يسجل انتصاراً كبيراً باحتلال بلنسية عام 1238.
القرن الأسود حلّت بالعرب نكبات لا تُعد ولا تحصى وعرفوا كذلك انتصارات لا تُعد ولا تحصى هي الأخرى إلا أنه لا يوجد في التاريخ العربي أكثر حلكة ويأساً من القرنين الثالث عشر والسادس عشر الميلاديين فكلاهما شهد هجوماً واسع النطاق استهدف المشرق والمغرب معاً ولم تعد هناك قوة كافية لايقافه. وحل منتصف القرن الثالث عشر في الأندلس فإذا مئات الألوف من الأندلسيين إما قتلى أو أسرى أو مشردين أو لاجئين فتمزّق النسيج الاجتماعي وانهار الاقتصاد وضاعت الثروات بين ليلة وأخرى وعمّ الجوع. وخلال تلك الفترة الحالكة من التاريخ الأندلسي وجد الأندلسيون أنفسهم في وضع تحرّك دائم مدفوعين أبداً نحو الجنوب أمام جيوش فرناندو الثالث وخايمي الأول فلا يكادون يحلّون في المدينة التالية حتى يكون دورها جاء فتبدأ دوّامة الجلاء مرة أخرى. وفي سنوات الكارثة تلك تفرّق الأطفال عن الامهات والأباء عن الأولاد والزوجات عن الأزواج وانفرط عقد المجتمع وعصفت الفوضى بكل ما كان إلى الجنوب من وسط الأندلس، ولم يعد مُتاحاً لجمهور الأندلسيين خيار”رعي البعير“ ولا حتى خيار”رعي الخنازير“ بعد تنفيذ سياسة قامت على تفريغ معظم الأراضي والمدن الأندلسية.
أما مدد العدوة فتوقف هو الآخر ولم يعد المغرب قادراً على حشد القوات الكافية لوقف الاجتياح الشمالي بعدما كان دفع الجيش تلو الآخر إلى الأندلس حتى انهكت قواه وعجز عن صد الشمال المتحالف مع البابوية والمدعوم بصليبيي فرنسا وإيطاليا.أما قشتالة فتحوّلت إلى آلة حرب يسيّرها مجتمع مؤلف إما من مقاتلين أو كهنة لا تعرف الفئة الاولى منه سوى الحرب مصدراً رئيساً للثروة، ولا تريد الثانية التوقف قبل طرد العرب والإسلام من شبه جزيرة آيبرية. هذا في المغرب، إلا أن المشرق لم يكن أفضل حالاً إذ كانت الحروب مستمرة هناك ضد الممالك الصليبية.
وفي عام 1258/656 دهم الوطن العربي خطر هائل عندما زحف المغول في اتجاه العراق واقتحموا ”مدينة السلام“ وأزالوا ما بقي من الخلافة العباسية. وعندما انسحب المغول من عاصمة المشرق لم يعد وصف”مدينة السلام“ مناسباً. أما الدمار الذي نالها وأهلها فكان هائلاً واستمر عشرات السنين حتى أن الرحالة ابن بطوطة وجد بعض الخراب قائماً عندما زارها في القرن الرابع عشر .
وعلى رغم المقاومة الخارقة التي أبداها الأندلسيون بات واضحاً أن قواتهم العسكرية الذاتية كانت أضعف من ان تتصدى للمد الشمالي نتيجة 120 سنة من الاتكال على الآخرين لحمايتها، وهكذا بدأت الأندلس تدخل مرحلة التصفية قبل النهائية. وإزاء تردي الأوضاع إلى هذا الدرك جمع الأندلسيون كل ما تبقى من قوتهم وهاجوا في انتفاضة شعبية شاملة في حزيران/يونيو 1264 واستعادوا مناطق كثيرة بينها مدينة مرسية التي احتفظوا بها نحو سنتين. غير أن تلك القوة الجديدة لم تحتمل الجيوش التي سيّرها خايمي الأول فسقطت مرسية ثانية. ولم يبق لأرغون بعد ذلك ما تحتله فانصرفت إلى بناء امبراطوريتها في البحر الابيض المتوسط تاركة استكمال احتلال الأندلس لملوك قشتالة، وان كان دعم أرغون لجارتها في الحروب التي دارت في فترات لاحقة مع الأندلسيين لم يتوقف.
ونهجت البرتغال هي الأخرى نهجاً منفصلاً عن قشتالة، وبرزت كياناً متميزاً منذ اعترف البابا بها مملكة مستقلة عام 1179. وما ان حلت سنة 1236 حتى كانت البرتغال أخذت مدينة طبيرة الساحلية في الجنوب منهية بذلك توسعها وراسمة حدودها التي بقيت في صورة عامة على تلك الحال.
وفي الفترة بين 1297 و1325 عمل الملك البرتغالي ديونيسوس الاول الملقب بـ”العامل“ على تطوير البنية الاقتصادية لمملكته معتمداً على توسيع نشاطات التعدين والتجارة، وتابع من جاء بعده الطريق نفسه واستمر الصراع مع قشتالة للاحتفاظ باستقلالية البرتغال حتى عام 1385، عندما انتصر البرتغاليون على القشتاليين في المعركة المعروفة بإسم”الجبروت.
وفي عهد الملك يوحنا الاول (5831-3341) بدأت فترة توسع كبيرة نحو أفريقية كانت فاتحتها احتلال مدينة سبتة عام 1415، ثم كان للبرتغال بعد ذلك دورها المعروف في الاهتداء إلى طريق التوابل بمساعدة ملاح عربي مشهور في نهاية القرن الخامس عشر، وبناء أمبراطوريتها في أفريقية والمحيط الهندي والبرازيل .
أحوال مملكة غرناطة بين سقوط مرسية واستسلام غرناطة 226 سنة خرج خلالها العالم من حقبة ودخل أخرى وتبدلت مواقع القوى وتغيرت الأولويات. وانحسر شأن البلاد العربية المشارقية التي حكمتها مجموعة أخرى من سلاطين وملوك وأمراء الطوائف فانحسرت مخاوف المسيحية وخمد توقّد الروح الصليبية. ولم يعد للبابوية دورها المهم فانصرف أمراء الفاتيكان إلى الاهتمام بالدنيا وشؤونها.
وفي الأندلس كانت قشتالة وأرغون قضمت في القرن الثالث عشر لقماً فاضت بكثير عن قدرتها على الابتلاع فلم تستطع إعادة إعمار معظم المدن الرئيسية التي اجتاحتها. واتسعت آنذاك رقعة الأراضي في صورة بات معها توفير الحماية المناسبة لها صعباً لذا كان استئناف الحرب مع غرناطة جهداً لم تكن قشتالة قادرة عليه فعاد الطرفان إلى النهج المعروف في الأندلس وارتضت قشتالة قبول جزية السلام من غرناطة وتقلبت العلاقة بينهما بين الصداقة والعداء والهدنة والقتال. ولم يكن انشغال ملوك غرناطة بأنفسهم أقل حدة مما كان يحدث في قشتالة ولطالما توجه هذا الطرف أو ذاك إلى الآخر طلباً للمساعدة على قهر الخصوم أو دعم السلطة .
ولا تخفي هذه الصورة الكبيرة من الهدنة والسلام صوراً حربية أقل حجماً وأقصر عمراً حاولت مملكة غرناطة الالتفاف عليها عن طريق تجنّب الصدام مع قشتالة بوسائل شتى بما في ذلك التنازل، ولو موقتاً، عن المناطق الاستراتيجية بل حتى التعاون العسكري مع القشتاليين كما حدث آخر أيام الشيخ محمد الأول بن الأحمر”الغالب بالله“ مؤسس مملكة غرناطة 1238-1272، وكثيرين ممن خلفوه في حكم آخر الممالك الإسلامية في الأندلس. ونجحت هذه السياسة حيناًًًًً وأخفقت حيناًًًًً آخر.
وفي لحظات اشتداد الضغط القشتالي لجأ حكام غرناطة إلى الاستنجاد بسلاطين المغرب كما حدث عندما قاد السلطان المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق الملقب بـ”المنصور“ جيشا عام 1275 (673) عبر به الزقاق وهزم القشتاليين قرب مدينة استجه، ثم عبر الزقاق ثلاث مرات بعدها لوقف القشتاليين عند حدود غرناطة. وفي فترات أخرى ساهمت مشيخة الغزاة المغربيّة في مساعدة أهل غرناطة على صد الشماليين. وكان قادة المشيخة من أقارب السلطان المريني لكن العلاقات بين السلطتين، الغرناطية والمغربيّة، لم تكن جيدة على الدوام. ونمت في أوقات أخرى أزمة من عدم الثقة شبيهة بأزمات مماثلة سابقة بين الأندلسيين وكل من المرابطين والموحدين الأمر الذي زاد ضعف غرناطة وفتح الطريق أمام الشماليين ثانية .
وفي بداية القرن الرابع عشر دخلت غرناطة وقشتالة مرحلة جديدة من الصراع أحرزت خلالها قوات بحرية مشتركة من قشتالة وأرغون والبرتغال انتصاراً حاسماً على غرناطة عام 1340 (740) وتوغلت قوات برية مشتركة من الممالك المسيحية الثلاث في أراضي غرناطة فاستنجدت بالسلطان المريني ابي الحسن علي بن ابي يعقوب. وخاض الطرفان معركة ضارية مع القوات المسيحية في الثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر(السابع من جمادى الأولى) انتهت بهزيمة القوات الإسلامية في وقعة طريف التي يُقال إن المرينيين فقدوا خلالها مصحف عثمان. ‬وانقطع المدد المغربي عن الأندلس بعد ذلك، وضعف شأن السلطان في المغرب واقتصرت مساعدة غرناطة على إمدادات محدودة .
وعلى رغم هذه النكسات تمكّنت غرناطة من الاستمرار 152 سنة تلت معركة طريف، ونعمت بفترات طويلة من السلام والإزدهار الحضاري والتجاري، وتطورت فيها العلوم والآداب والصناعات والعمارة التي تشهد عليها الآثار المتبقية حتى اليوم في عاصمة بني الاحمر الذين اكتسبوا صفتهم هذه بسبب شقرة شعر مؤسسها.
وتقوّت هذه المملكة بالنازحين إليها من المدن والمناطق التي وقعت تحت سيطرة ممالك الشمال ممن رغبوا في البقاء في الأندلس وعدم جواز العدوة، فتجمّع في غرناطة على مدى السنين أكثر من مليون أندلسي انضمّ اليهم في القرن الثالث عشر نحو نصف مليون أندلسي آخر جاء أكثر من نصفهم من مدن قرطبة وإشبيلية وشريش وقادس ( (300.000 تقريباً، ونحو 50.000 شخص من مملكة بلنسية وما حولها.
ولم تكن هذه القوة كافية لانتزاع الأراضي التي احتلتها قشتالة وأرغون إلا أنها كانت قادرة على صد الشماليين فترة طويلة من خلال مجموعة من الحصون كانت من بين الأمتن في أوروبة آنذاك. وفي بعض الحالات استغل الغرناطيون ضعف قشتالة فتوقفوا عن دفع الجزية التي وصلت أحياناً إلى 12.000 قطعة ذهب سنوياً، ونشبت بسبب ذلك معارك متفرقة أثبت الأندلسيون فيها قوتهم لذا احتفظت هذه المملكة عموماً بمعظم الاراضي التي قامت عليها دولة بني الأحمر في البداية .
الحرب ضد غرناطة اضطربت التوازنات الدولية بعنف في بداية النصف الثاني من القرن الخامس عشر عندما أخذ محمد الخامس القسطنطينية عام 1453 وبدأ يدق أبواب جنوب أوروبة فتخلّعت مفاصلها وبات العثمانيون خلال وقت قصير نسبياً أكبر خطر يتهدد أوروبة والمسيحية. وعلى رغم تحرّك ملوك أوروبة والبابوية لحشد الصفوف بغية وقف تقدم العثمانيين فإنّ معظم تلك المحاولات انتهى إلى الإخفاق. ولم تتمكن أوروبة والبابوية من الرد على انتصارات العثمانيين إلا عندما دخلت قوات قشتالة غرناطة مطلع 1492 تتقدمها ملكة ولدت قبل سنتين من سقوط القسطنطينية لذا هيمن على وعيها منذ بداية طفولتها أكبر هزيمة لحقت بالمسيحية على يد الإسلام بسقوط عاصمة الكنيسة الشرقية وما تلاها من الانكسارات التي أوقعها العثمانيون بأوروبة بعد ذلك .
وماتت إيزابيلا في الثالثة والخمسين من العمر وهاجس محاربة الإسلام، أو الدفاع عن قشتالة، لا يزال يسيطر على تفكيرها. وحدث هذا في وقت لاحق برعاية البابوية التي أججت التعصب للكاثوليكية والحقد على الإسلام، أما قبل ذلك فربما لم يكن تفكير إيزابيلا يختلف عن تفكير الفتيات في عمرها عندما تزوجت وهي في الثامنة عشرة من العمر قريبها الأرغوني الأمير فرناندو الذي كان أصغر سناً منها(17) سنة.
ولم تمض خمس سنوات على زواجهما حتى ورثت إيزابيلا عرش قشتالة وليون، وصار زوجها ملكاً لقشتالة باسم فرناندو الخامس. وبعد خمس سنوات من ذلك آلت إلى فرناندو مملكة أبيه فجمع إلى اسمه الملكي القشتالي لقب فرناندو الثاني الأرغوني لكنه عُرف عموماً وحتى موته عام 1516 باسم فرناندو الخامس. وكانت البرتغال وقتها مملكة ناهضة، إلا أن حجمها لم يزد كثيراً على سُدس مساحة شبه جزيرة آيبرية التي عرفت للمرة الأولى في تاريخها اتحاداً حقيقياً ضمّ القوة البحرية الكبيرة التي تمتعت بها أرغون والقوة البرّية التي سيطرت عليها قشتالة .
ولا يوجد سبب واحد وراء اندلاع الحرب بين قشتالة المُتحدة مع أرغون وبين مملكة غرناطة يمكن اعلاؤه على الأسباب الاخرى كافة. وبرزت في تلك الفترة مخاوف قشتالية من احتمال استخدام العثمانيين أو الفرنسيين مملكة غرناطة للضغط على قشتالة وأرغون. كما أن بعض الاصلاحات التي أقدمت عليها إيزابيلا بهدف تدعيم سلطتها أضرّت بالنبلاء وكان توجيه كل الانظار إلى العدو الغرناطي المشترك وسيلة لاسكات أصوات المعارضة. ولا يمكن التقرير بالضبط ماهية العامل الأقوى، إلا أن الظاهر أن الأزمة بين قشتالة وغرناطة تطورت بين الجانبين في بداية الثمانينات من القرن الخامس عشر مثلما تطورت بين ألفونصو السادس وملوك الطوائف في بداية الثمانينات من القرن الحادي عشر وكان أساسها الجزية.
وكما غالى ألفونصو في مطالبه آنذاك نجد إيزابيلا تفعل الشيء نفسه فرفض أبو الحسن علي بن سعد دفع الجزية وأبلغ إلى سفير إيزابيلا أن سلاطين غرناطة الذين تعودوا دفع الجزية ماتوا، وان دار السك لا تنتج إلا السيوف هذه الأيام .
ولما سمع فرناندو ردّ السلطان صاح:
Yo arrancaré uno a uno los granos de esa Granada
أي ” سانتزع حبّات غرناطة واحدة واحدة “ ، مستخدماً المعنى المجازي لأن كلمة Granada تعني بالقشتالية الرمّانة.
ويبدو من سير العمليات العسكرية الأوليّة بين الجهتين أن إيزابيلا وفرناندو كانا يريدان تشديد الضغط على غرناطة لاستئناف دفع الجزية والتنازل عن بعض القلاع والحصون المنيعة. لذا أخذت العمليات شكل المناوشات والإغارات المتبادلة على المواقع فكانت الغلبة لهذا الفريق مرة وللثاني مرة أخرى إلى أن تمكن مركيز قادس من تحقيق أهم انتصار عندما احتل قلعة الحمة (الحامة) الواقعة جنوب غربي غرناطة عام 1482.
وخلال هذه الفترة نشب نزاع بين أبي الحسن وابنيه أبو عبدالله محمد، ويوسف سببه استنصارهما لأمّهما عائشة من ضرتها القشتالية الحسناء إيزابيلا دي سوليس (ثريا) التي أسرها أبو الحسن خلال احدى غاراته. ولم تعد عائشة تحتمل البقاء في الحمراء فانتقلت إلى رباض البيازين مع ولديها اللذين رفعا راية العصيان ضد أبيهما. وخلال المعارك التي دارت بين الطرفين بعد ذلك قُتل يوسف، ثم نظّم بنو السرّاج حركة عصيان في مدينة غرناطة فأبعدوا الأب، وأحلّوا محله ابنه أبا عبدالله .
وقاد السلطان الجديد الغرناطيين في القتال ضد قشتالة لكنّه وقع في الأسر جنوب شرقي قرطبة عام 1483. ويبدو أن أسر الملك أبي عبدالله محمد ساهم في انتقال تفكير إيزابيلا وفرناندو من مجرد إخضاع غرناطة وإجبارها على استئناف دفع الجزية إلى محاولة شن حرب شاملة لانهاء وجود هذه المملكة.
وكان تحت إمرة فرناندو جيش ضخم قوامه نحو 52.000 جندي إلا أنه كان يفتقر إلى المدفعية الثقيلة لدك أسوار القلاع والحصون، وإلى شقّ الطرق لنقل تلك المدافع في المناطق الغرناطية المعروفة بوعورتها. وتطلب هذا كله توفير مبالغ طائلة لم تكن قشتالة تملكها فعمدت إيزابيلا إلى الحصول على تمويل من بعض الأثرياء اليهود والألمان والإيطاليين وكتبت إلى البابا تعرض عليه الخطة وتطلب منه المساعدة على تمويل هذه الحرب.
أما أهم أوراق إيزابيلا خلال تلك المرحلة فكانت أسيرها الملكي أبو عبدالله المعروف في الروايات الأندلسية والإسبانية باسم ”الملك الصغير“. وفي عام 1485 أطلقت إيزابيلا أسيرها فقام يطلب الملك من أبيه.
واستمر القتال بين الأب وابنه حتى أصيب الأب بالعمى والصرع ومات، فآل السلطان إلى أخيه الملقّب بـ”الزغل“. واستمر الخلاف بين الملك الصغير وعمه، وتطور إلى حرب شطرت في وقت متقدم مدينة غرناطة إلى نصفين أولهما في قصبة الحمراء وثانيهما في رباض البيازين قبالتها. وضج الناس من هذه الحرب الأهلية، ويئس الزغل من الاستمرار فعمد إلى ابرام اتفاق مع إيزابيلا عام 1489 (895) لضمان سلامته وحاشيته وهجر غرناطة إلى تلمسان حيث سجنه سلطان المغرب محمد الشيخ وسمل عينيه وأخذ أمواله .
وخلال سنوات الاقتتال الداخلي الحاسمة دار اقتتال أشدّ ضراوة منه بين جيش فرناندو الذي قاد دفة المعارك وبين المدافعين عن المدن والحصون الغرناطية، فيما ضربت أساطيل البرتغال وأرغون وإيطاليا الحصار على السواحل الغرناطية لقطع خطوط الإمداد. وبعد عدد من المعارك الطاحنة التي لم تعرف شبه جزيرة آيبرية مثيلاً لها من قبل، احتلت جيوش فرناندو رندة عام 1485 (890) ومالقه عام 1487 (892) وبدأت تنصب مدفعيتها حول غرناطة اعتباراً من نيسان /إبريل 1490، أي 895 هجرية.
وفيما لجأ قسم من سكان مملكة غرناطة إلى الجبال، احتمى أهل غرناطة بأسوار مدينتهم الحصينة فأسند فرناندو إلى نحو 30 ألف جندي مهمة تخريب الحقول والمروج وقطع الشجر وحرق المحصول لتشديد الضغط على المحاصرين لأن هذا الجهد كان من الجهود الرئيسية لاخضاع المدن. لكن الماء ظل يتدفق إلى غرناطة من الجبال المحيطة بها عبر قنوات سرّية مدفونة تحت الأرض لذا لم يكن الوضع يائساً .
وكان العقد الممتد بين 1481 و1491 دامياً وعصيباً وحاسماً. وكانت المعارك تدور عادة خلال فصلي الربيع والخريف، وكان قسم منها لا يزال تقليدي الطابع مثل الكر والفر والزحف والمبارزات الفردية بين الفرسان بالسيوف والرماح، بينما عكس القسم الثاني تطور آلة الحرب في تلك الفترة خصوصاً البنادق الأوّلية والمدفعية ”الثقيلة “ التي استخدمتها قشتالة على نطاق واسع بإدارة خبراء استقدمتهم من ألمانيا وايطاليا . ويبدو أن تأثير المدفعية لم يكن كبيراً إذ ظلت الأسوار صامدة وبقيت معنويات المدافعين عن غرناطة عالية. وفي هذه الأثناء اشتدت الضغوط على الخزانة القشتالية، وبدأ الشك يتسلل إلى كل من إيزابيلا وفرناندو باحتمال تحقيق النصر على مملكة غرناطة قبل نفاد ما تبقّى من التمويل في تلك الفترة .
ولعب عاملان آخران دورهما في تغيير استراتيجية إيزابيلا وفرناندو تجاه غرناطة خلال المرحلة الأخيرة من الحرب: الأول توجيه غرناطة الرسل الى الدول العربية والإسلامية القوية لمساعدتها وارتفاع الأصوات في العالم الإسلامي للتدخل لوقف الهجوم القشتالي، والثاني تسبب استمرار الحرب مع غرناطة في إعاقة جهد قشتالة دخول السباق الحاسم مع البرتغال للوصول إلى مصادر التوابل في الهند حيث الثروة الهائلة التي كانت تنتظر أول الواصلين إليها. ولم يأت المدد العربي أو الإسلامي الذي توقعته غرناطة وكان هذا خطأ كبيراً لم ينتبه إليه العرب إلا بعدما بدأ الإسبان مهاجمة السواحل المغاربية واحتلال عدد منها. لكن أسباب السباق مع البرتغال وارتفاع تكاليف الحرب واحتمال صمود غرناطة ست أو سبع سنوات أخرى كانت كافية لإعلان إيزابيلا وفرناندو رغبة قوية في بدء المفاوضات مع المملكة العربية.
تسليم غرناطة ورحيل الملك الصغير جرى معظم مفاوضات تسليم غرناطة سراً، وكان أغلبها ليلاً في غرناطة نفسها أو في قرية قريبة منها. ومثّل الملك الصغير في هذه المفاوضات عدد من وزرائه بينما مثّل إيزابيلا أمين سرها فرناندو دي زفره ومسؤول رفيع آخر هو غونثالو القرطبي الذي كان ناطقاً بالعربية عارفاً بعادات العرب وتقاليدهم .
وساهم في الترجمة بين الجانبين يهودي هو جبرائيل إسرائيل Gabriel Israel. وبعد عدد من الاجتماعات توصل الطرفان إلى الاتفاق على شروط المعاهدة في الخامس والعشرين من تشرين الثاني /أكتوبر عام 1491 (21 محرم897) على ان تدخل قوات قشتالة المدينة بعد 60 يوماًًً.
ولما تسربت أنباء هذه المعاهدة ثار أهل مدينة غرناطة فعُرضت عليهم بنود المعاهدة وبُيّن لهم”أن صاحب رومة (البابا) يوافق على الالتزام والوفاء بالشروط إذا أمكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون، ويحلف على عادة النصارى في العهود، وتكلم الناس في ذلك، وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما خرجوا للكلام في ذلك أمتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر، ثم عقدت بينهم الوثائق في شروط قرئت على أهل غرناطة، فانقادوا إليها ووافقوا عليها.“
ولم يبق بعد ذلك ما يمنع تنفيذ المعاهدة فاتفق الملك الصغير وإيزابيلا على تقديم أجل تسليم المدينة إلى الثاني من كانون الثاني / يناير عام 1492.
وفي الموعد المحدد دخلت طلائع جيش قشتالة المدينة ورفعت العلم على قصبة (قلعة) الحمراء وبدأ الملك الصغير تجهيز نفسه وحاشيته لإخلاء المدينة لإيزابيلا وفرناندو استعداداً لدخولهما إليها. وبعد ستة أيام من دخول الجيش القشتالي غرناطة وقف فرناندو وحاشيته أمام مسجد يقع جنوب غرناطة حوّله فرناندو إلى كنيسة تُعرف باسم”كنيسة القديس سباستيان“، وانتظر الملك الصغير الذي عبر نهر شنيل ومعه كوكبة من نحو 50 فارساً وحاشية بعدد مماثل وتبادلا التحية لحظات، ثم أمر فرناندو بتسليم أبي عبد الله ابنه الأسير ونحو 400 من أعيان غرناطة احتفظ بهم فرناندو رهائن خوف انقلاب أهل غرناطة عليه.ولم يبق عندها سوى الوداع فأكمل الملك الصغير طريقه إلى سكناه الجديد في أندرش في جبل البشرات. وفي الروايات الإسبانية والأندلسية أن الملك الصغير توقف عند نقطة مرتفعة في الطريق تطل على غرناطة وتنهّد وبكى فنهرته أمه عائشة وقالت بيتها الشهير:
ابك مثل النساء ملكا مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
ولم تطل إقامة الملك الصغير في أندرش إذ باعت إيزابيلا الضيعة التي أقطعتها له وهو لا يزال يعيش فيها، وسلمته ثمن الأرض الذي يزعم مؤرخون إسبان إنه وصل إلى نحو 80.000 دوقة ذهبية. وعرف الملك الصغير ان إيزابيلا لم تعد تريده في البلاد فعبر الزقاق عام 1493 إلى مليلة في المغرب. ويروي لنا المقري ما حدث لهذا الملك بعد ذلك فيقول إن أبا عبد الله الصغير”استقر في فاس بأهله وأولاده معتذراً عما أسلفه، متلهّفاً على ما خلّفه. وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس، رأيتها ودخلتها، وتوفي رحمه الله تعالى بفاس عام أربعين وتسع مئة (1518، ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة وخلّف ولدين اسم أحدهما يوسف والآخر أحمد، وعقب هذا السلطان بفاس إلى الآن. وعهدي بذريته بفاس عام 1027، يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين، ويُعدّون من جملة الشحاذين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم“.
ولم يكن تسليم غرناطة خيار الجميع إذ فضل موسى بن أبي الغسان ترك المدينة وخرج من باب البيرة ولم يُسمع عنه بعد ذلك . وينقل ارفنج عن القس أنطونيو أجابيدا2 مصير موسى فيقول إن سرية من فرسان قشتالة التقت به على ضفة نهر شنيل ”فلما رأوه يعدو على ذلك النحو طلبوا اليه ان يقف وان يعرّف بنفسه فلم يجب الفارس المسلم، لكنه وثب إلى وسطهم، وطعن أحدهم برمحه وانتزعه من سرجه فألقاه على الأرض، ثم انقض على الباقين. وكانت ضرباته ثائرة قاتلة، كأنه لم يشعر بما أثخنه من جراح، ولم يرد إلا ان يقتل دون رغبة في ان يعيش لينعم بظفره. وهكذا لبث يبطش بالفرسان حتى أفنى أكثر من نصفهم. غير أنه جرح في النهاية جرحاً خطراً، ثم سقط جواده من تحته قتيلاً بطعنة أخرى، فسقط على الأرض، لكنه ركع على ركبتيه واستل خنجره وأخذ يناضل عن نفسه، فلما رأى قواه نضبت، ولم يرد أن يقع أسيراً في يد خصومه ارتد إلى ورائه بوثبة أخيرة، والقى بنفسه إلى مياه النهر، فابتلعه لفوره، ودفعه سلاحه الثقيل إلى الأعماق“.
ويروي القس أجابيدا إن هذا الفارس هو موسى بن أبي الغسان، وأن بعض العرب المتنصّرين في المعسكر الإسباني عرفوه من جواده المقتول. لكننا لا نجد أي ذكر لهذا الفارس في المصادر العربية، ولا نعرف ماذا جرى لكل اولئك الذين عارضوا تسليم غرناطة.