ملوك الطوائف في زمن ضياع الأندلس أداموا أيضاً حكمهم ببيع الشعب والامة

تكمن وراء نهوض الممالك الشمالية في الأندلس عوامل عدة تطورت مع الزمن استجابة لمتطلبات اقتصادية واجتماعية وسكانية محددة. وبما أن الأنظمة في كل مكان لا تقوم إلا على هذه العوامل فإن كل ما سواها، مثل العوامل الدينية والفكريّة والسياسية وغيرها، رديف أو حتى هامشي إلا في حالات بعينها لأن جلّ البشر يريد أن يأكل ويشرب ويتزاوج قبل أي شيء آخر، أي أنه يريد، باختصار، اشباع حاجات بطنه وفرجه.
وخلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين سجل عدد سكان الممالك المسيحية في الأندلس ارتفاعاً كبيراً نتيجة ثلاثة أسباب رئيسة: الأول تدفق المهاجرين الأوروبيين لاستيطان المناطق الجديدة التي احتلتها الممالك الشمالية، والثاني نزوح جماعات من النصارى المستعربين الذين كانوا يقيمون في الجنوب ثم فضّلوا الانتقال إلى الشمال لسبب أو آخر، والثالث ازدياد ملحوظ في نسبة التزايد السكاني في الشمال بعد مرحلة من الاستقرار النسبي التي أعقبت عجز قرطبة عن التصدي للشمال لانشغالها بالفتن الداخلية في عهدي الولاية والأمارة.
وفي البداية كان التحرك الشمالي نحو الجنوب استجابة لحاجة ملحة اقتضت مزيداً من الاراضي لاستيعاب العدد المتزايد من السكان، لكنه أصبح مع الزمن سياسة مرسومة سارع ملوك الشمال إلى تطبيقها كلما ضعفت مقاومة الأندلسيين خصوصاً عند نشوب الحروب الأهلية أو شيوع الفتن. وحيثما تمكن ملوك الشمال من تحقيق مكاسب جديدة على الأرض عمدوا بسرعة إلى إسكانها ليساهم المستوطنون في الدفاع عنها وابقائها بيد الشماليين.
وبحلول بداية العقد الثاني من القرن العاشر الميلادي كان ملوك أسترياس بسطوا سلطانهم على خُمس آيبرية فحققوا مطالب السكان الذين كانوا ينظرون إلى الملوك في تلك الحقبة من الزمن على أنهم مفتاح الخير والثراء. إلا أن هذا لا يستثني وجود عوامل أخرى ساهمت في الاندفاع نحو الجنوب مثل الجفاف أو المجاعة أو السعي إلى تحقيق انتصار إضافي لنصرة الدين أو إبعاد الأنظار عن المشاكل الداخلية وغيرها من الأسباب التي كمنت دائماً وراء نشوب الحروب في العالم، وفي صورة لا تختلف كثيراً عما يحدث اليوم.
وتتصف المناطق الجبلية التي قامت فيها الممالك الشمالية بوعورتها وفقرها وقلة خصوبتها مما يفسر سبب تجنّب معظم الغزاة الذين دخلوا آيبرية هذه التخوم منذ أقدم العصور. وعكس اقتصاد الممالك الشمالية الأولى أوضاعها الجغرافية والمناخية فتألفت عناصره الأساسية من تربية الماشية والاتجار بالصوف الخام والتجارة المحدودة وبيع العبيد الصقالبة إلى أن فتح ضعف الأندلسيين بوابة هائلة أمام مصدر لا ينضب من الثروة التي تدفقت على الشمال. ولم يملك الشماليون في أي وقت من الأوقات التي سبقت القرن العاشر قوة كافية لاكتساح الجنوب.
والسبب ليس عسكرياً فقط لأن الشماليين ما كانوا سيتوغلون في الجنوب كثيراً حتى لو قدروا وحسبهم إذ ذاك السعي إلى الإغتراف من ثروة الجنوب. وعندما بدأ الشماليون النزول إلى سهول نهر دويرة وجدوا الأراضي الخصبة لكن قسماًً كبيراً منهم كان ينأى عن مزاولة هذه الحرفة وظل هكذا في القرون اللاحقة. أما الخيار الأسهل من صنع الثروة فهو اقتناصها لكنّ اقتناصها لم يكن ممكناً قبل الوصول إلى تخوم وديان النهر الكبير حيث الثروة الأندلسية الكبيرة. وهذا ما حدث في صورة ملفتة أيام ملوك الطوائف عندما صارت الأندلس »بنك« ملوك الشمال يتلقون منه التحويل بعد الآخر في أوقات معلومة ويلوّحون بسيوفهم كلما تأخّر فيأتيهم متعجلاً نفسه حتى باتت الجزية أكبر مصدر دخل للممالك الشمالية.
وماذا كان ملوك الشمال يفعلون بكل ذلك المال؟
كانوا ينفقون جزءاً منه على بناء القصور وتجميلها بأيد أندلسية في حالات كثيرة، وكان جزء منه يتسرب إلى العامة إلا أن جزءاً كبيراً كان يُصرف على الجيش والمرتزقة، أي في الاستثمار في أدوات الحصول على مزيد من الجزية. وكان ملوك الطوائف في معظم سنوات القرنين الحادي عشر والثاني عشر يرشون الشمال خوفاً على عروشهم، إلا أنهم كانوا في الوقت نفسه يغذّون الحرب ضدهم صاغرين. وإذا اخذنا في الاعتبار المبالغ الهائلة التي دفعها ملوك الطوائف لقشتالة فربما أمكن القول إن العصور الوسطى لم تعرف إلا في حالات قليلة جداً وضعاً يماثل وضع الملوك الأندلسيين الذين وجدوا أنفسهم يموّلون الحرب ضد أنفسهم بأموال الشعوب التي حكموها.
وخلال القرنين المذكورين والعقد الأول من القرن الثالث عشر دخل الشمال والجنوب في الأندلس في حلقة عجيبة فصار التهديد بالحرب ضد الجنوب يغذّي الخزائن في الشمال ثم تعود الخزائن فتغذي التهديد بالحرب. وكلما ازدادت نفقات التهديد ازدادت الجزية وهكذا تسارع انتقال الثروة من الجنوب إلى الشمال وعجز ملوك الطوائف عن دفع المستحقات وبدأ غش العملة والتلاعب بأوزانها.
وماذا يحدث عندما يتوقف البنك عن إرسال التحويلات؟
يعلن متلقي التحويلات الإفلاس أو يفتّش عن مصدر آخر. وأحياناً يحدث شيء ثالث مختلف تماماً فيذهب الشخص الذي كان يتلقى التحويلات إلى البنك بنفسه ويستولي عليه كاملاً غير منقوص. وهذا ما فعله ألفونصو السادس عندما ذهب بنفسه إلى واحدة من أغنى مدن الأندلس هي طليطلة وأخذها عنوة، وحلتّ محل سياسة استدرار الثروة من مصادر الثروة سياسة جديدة قامت على الاستيلاء على مصادر الثروة نفسها.
معالم الاقتصاد الأندلسي

كان استتباب الوضع السياسي في الأندلس في عهد الإمارة بمثابة ضوء أخضر اعطى اشارة بدء عملية بناء الاقتصاد الأندلسي إذ أغلق عبدالرحمن الداخل باب السلطة في وجه الفئات المتنازعة والشخصيات الطموحة وتحولت القوى المهدورة في النزاعات السياسية إلى المساهمة في زيادة الانتاج وتحقيق الرخاء الذي قام على الزراعة والتجارة والصناعة المتوافرة في ذلك الوقت. لكن أسس قيام تلك النهضة الزراعية والتجارية وُضعت عندما تقوض حكم القوط الغربيين في آيبرية (عام 711)، وانتهى وجودهم الذي فرضوه على السكان المحليين فترة زادت على قرنين من الزمن.
ولم يكن الفلاحون بمنأى عن السياسة القوطية المتبعة في آيبرية، إذ كانوا عبيدا أجراء لدى النبلاء يقدمون لهم بين 50 و80 في المئة من المحصول. ولم تكن حصة الفلاحين تكفي أحيانا لبذار الموسم التالي أو لسد حاجة العاملين في الحقول، الأمر الذي أدى إلى تضاؤل الاهتمام بالأرض فأهملتهم عندما أهملوها. ونزلت بآيبرية قبل ثلاث سنوات من الفتح العربي مجاعة شديدة، وعصف بالسكان وباء فأودى بحياة الكثيرين.
وأعيد توزيع الاراضي الأندلسية بعد الفتح طبقا للطريقة التي سقطت بها هذه الاراضي، فمنها ما استبقاه السكان المحليون على صلح، ومنها ما ملكه الفاتحون بعد حرب أو بعدما فر أصحابها، ومنها أيضاً ما مُلك بطرق مختلفة أخرى. أما السكان المحليون الذين استمروا في العمل أو السكنى في أراضيهم، فكانوا عموماً يدفعون جزية وخراجاً على أرضهم من الغلة يراوح بين 20 و53 في المئة وأحيانا 50 في المئة طبقاً لنوع المحصول وفترة إثماره والكمية الفائضة عن الاستهلاك والبذار.
وتوضح المعلومات الاقتصادية المتوافرة عن تلك الفترة من تاريخ الأندلس أن القمح كان المحصول الرئيسي، ويبدو انه كان يزيد على حاجة السكان في أغلب الاحايين. كما احتل الزيتون مرتبة مهمة فعُمد إلى توسيع نطاق زراعته وتحسينه لا سيما في المناطق المحيطة بمدينة جيان التي لا تزال حتى اليوم تعيش على الزيتون مصدراً رئيسيا لاقتصادها. وأدخل العرب في سنوات ما بعد الفتح مزروعات جديدة إلى الأندلس شملت الحمضيات واللوز والتين والدراق والرمان والموز والزعفران والحلفاء والقطن والكتان وقصب السكر والمشمش ومع الزمن أصبحت بلاد الأندلس كأنها بستان واحد متصل، كثيرة المبنى والثمار، وإذا سافر المرء من مدينة إلى أخرى، سار في مناطق عامرة مأهولة تتخللها قرى كثيرة نظيفة ومبيّضة الدور من الخارج، ولم يحتج المسافر أن يحمل معه زاداً أو ماءً.
وحيثما وجد عرب أو بربر في منطقة أو أخرى، اعطى هؤلاء المكان سمات متميزة كما حدث بالنسبة للسوريين في كورة البيرة (غرناطة) والمصريين في باجة وتدمير (مرسية) والفلسطينيين في مناطق شذونة، والاردنيين في رية، وأهل حمص في إشبيلية، والبربر في المناطق المرتفعة التي تلائم طبيعتهم وتتشابه مع المناطق التي قدموا منها قبل الفتح. وكان لادخال الحمير إلى الأندلس بعد جلبها من مصر مفعول هائل في «تثوير» طرق الفلاحة والحصاد وارتفاع حجم المحصول. وربما بدا هذا غريباً اليوم، لكن أحد مفاهيم الرخاء في ذلك العصر، كان توافر حمار لكل شخص يستخدمه في غاياته المختلفة.
وسدّ تطوّر الزراعة في الأندلس حاجة الاستهلاك المحلي وقدم جزءاً كان يُصدر إلى الشمال الافريقي ومنه إلى مصر وربما وصل بعض المنتوجات إلى بغداد.لكن هذا لا يعني ان الخير كان عاماً إذ تسببت عوامل كثيرة في إضعاف المحصول في بعض السنين وحتى في وقوع مجاعات عدّة، كما حدث عام 815 (199) و915 (302) عندما مات أكثر الخلق جهداً. أما في الأوقات غيرها فقد استطاعت الأندلس النهوض من محنتها ومتابعة صنع الرخاء الذي عرفته حتى في أوقات ضعف سلطتها السياسية. واستفاد الأندلسيون في نشاطهم الزراعي من القنوات التي بناها الرومان في القرن الأول المسيحي لكنهم زادوا عليها وأصلحوا القديم منها وحسّنوه وشقوا قنوات جديدة.
واتقن الأندلسيون التعامل بفنون السقاية وجلب المياه من مسافات بعيدة. كما استخدموا النواعير، وكانت من النوع الذي تربط إلى إطاره قلال من نوع لا يزال موجوداً في بعض مناطق الصعيد المصري حتى الآن. ومع انحسار الوجود العربي في منطقتي غرناطة وبلنسية تكثّفت الخبرة وتحولت المنطقتان إلى اثنتين من أخصب بقاع أوروبة، وبقيتا كذلك حتى رحّلت السلطات القشتالية الأندلسيين في بداية القرن السابع عشر. وتعرض النشاط الزراعي إلى كارثة نتيجة الاهمال استمرت حتى مطلع القرن التاسع عشر عندما تجدّد الاهتمام به اعتماداً على الكتب الزراعية التي وضعها الأندلسيون. ومع الزمن أصبحت إسبانيا من بين أكثر الدول انتاجاً للزيتون والدرّاق، وهي اليوم أكبر مصدر للزعفران ومركز الاتجار به مدينة البسيط جنوب غربي بلنسية.
الصناعة

وفّر تطور زراعة القمح والقطن والكتان والتوت وازدياد الاعتناء بتربية الماشية المواد الأولية اللازمة لقيام صناعات خفيفة، لقيت تشجيعا مناسباً فنمت في معظم أرجاء الأندلس مستفيدة من الخبرات التي توافرت لدى السكان المحليين في بداية عهد الفتح، ومن الخبرة التي حملها العرب الذين استوطنوا الأندلس في سنوات لاحقة. وبتوافر المواد الأولية والخبرة تطورت صناعة المنسوجات والسكر والخزف والسجاد والعطور والمواد الكيماوية المختلفة لا سيما الاصباغ، وكذلك صناعة الزجاج والصناعات اليدوية الأخرى.
وترد إشارات كثيرة إلى هذه الصناعات إذ أنشأ عبدالرحمن الداخل داراً خاصة للطراز، تُصنع فيها ملابس أصحاب الخدمة. وتطورت صناعة الملابس في ما بعد لتغطي الاستهلاك المحلي مع تخصيص قسم كان يُصدّر إلى المغرب أو الشمال. وربما اعتبرت مدينة شقوبية من أهم مراكز صنع الملابس في الأندلس حتى سقطت بأيدي الشماليين عام 1085 (478). أما غرناطة فكانت أهم مراكز تربية دود القزّ وصناعة المنسوجات والملابس الحرير في أوروبة حتى أمر فيليب الثاني بتغريب معظم سكان المملكة بعد الثورة الكبرى إلى مناطق منحوسة كثيرة في القشتالتين القديمة والجديدة.
وأحسن الأندلسيون استغلال عدد كبير من المعادن المحلية مثل الحديد والزئبق والنحاس، فكان ذلك عاملاً مهماً في تطوير صناعة الأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى التي كانت مستخدمة في ذلك الوقت. وشجع عبد لرحمن الثاني هذه الصناعة وذاع صيت طليطلة كمركز رئيس لصناعة الأسنّة والرماح والسيوف وغيرها من الأسلحة، ثم تطورت هذه الصناعة في العصور الأحدث فصارت تُنتج البنادق والأسلحة الفردية وغيرها.
ومع تقدم الصناعة في القرن التاسع الميلادي تمكّن الأندلسيون من انتاج الزجاج المعروف بالظرابي الصواني والزجاج الشفاف والورق. ولمع اسم مدينة شاطبة Jativa مركزاً مهماً لانتاج المادة الاخيرة، مما ساهم إلى حد كبير في تطوير صناعة الوراقة. ونشطت هذه الصناعات على نطاق »ورشات« صغيرة يعمل فيها عدد محدود من الاشخاص، سواء كان ذلك في ورشات صناعة الأسلحة أو المصابيح أو في معاصر الزيتون والمطاحن التي لا تزال انقاض بعضها باقية حتى اليوم في قرطبة على رغم مرور أكثر من الف سنة على بنائها.
أما الصناعات الاثقل فشملت السفن بكل أنواعها السفري والتجاري والحربي استجابة لمتطلبات الدفاع والتجارة والتنقل، وتركزت في الجنوب الأندلسي، وعلى الساحل الشرقي في مدن مثل المرية ولقنت ودانية وغيرها. ويبدو أن انتاج السفن كان كبيراً نظراً إلى توافر معظم المواد الأوليّة اللازمة لذلك في الأندلس وبلاد المغرب وصقليّة التي كانت تُجلب منها أخشاب السفن مثل الصنوبر والأرز والبلّوط. ومن هذه الأخشاب كانت تُصنع ألواح السفن والصواري والمجاذيف، فيما توافرت المواد الأخرى بكثرة مثل الحديد لعمل المسامير والمراسي والروابط والخطاطيف والعرادات والفؤوس واللتوت والدبابيس والجواشن وغير ذلك من الآلات والأسلحة، والنحاس الذي تصنع منه السلاسل، والألياف لعمل حبال المراسي، والقطران والزفت لقلفطة السفن حتى لا تؤثّر المياه في ألواحها المغمورة في البحر، والقطران والكبريت اللازمين لصناعة النفط البحري وهو نوع لا ينطفىء إذا سقط في الماء، وكذلك القطران والكتّان لصناعة النار الحارقة.
وتذكر وثائق تاريخية أن عدد السفن التي استخدمت في إخضاع سكان جزيرتي ميورقة ومنورقة عام 849 (234) كان نحو 300 سفينة مما يدّل على اتساع صناعتها. كما استخدم عدد كبير من السفن لحراسة الشواطئ الأندلسية، لا سيما إثر الهجمات التي شنها النورمان اعتباراً من عام 844. ولا شك في ان توافر مثل هذا الاسطول لغرضي الدفاع والتجارة كان سبباً مهماً في إيجاد الاستقرار المطلوب للاستمرار في تطوير البنية الصناعية الأندلسية وزيادة رخاء البلاد.
التجارة

ساهم وجود فائض في المنتوجات الزراعية والصناعية في تشجيع تجارة نشطة عادت على الأندلس بالرخاء ومنحتها القوة التي مكنتها من التصدي للشماليين حتى بعد انهيار الخلافة، وإن كان هذا الرخاء أجّج أطماع الممالك الشمالية. ومنذ نشوء الأمارة القرطبية تكاملت القدرات الإدارية اللازمة لبدء عملية بناء الاقتصاد الأندلسي، فاعتمد الناس في بداية الأمر الأوزان والمقاييس ذات الأصل الروماني. وسك عبدالرحمن الداخل الدينار القرطبي فأصبح عملة مقبولة في كل الأندلس، وفي كثير من دول أوروبة.
وكانت المبادلات التجارية الدوليّة تتم بالدينار العربي ودينار بيزنطة ودينار غالة الذي سكّه للمرة الأولى الملك شارلمان. ولم تكن العملة التي سكت بأمر عبدالرحمن الأولى التي تضرب في الأندلس إذ سعى موسى بن نصير في بداية عهد الفتح إلى إبراز مظهر السلطة الإسلامية في آيبرية فضرب أول النقود التي كانت صورة عن النقود المستخدمة في آيبرية قبلا، سواء من ناحية المعدن أو الكتابة بالحروف اللاتينية مع استبدال المعاني المسيحية بأخرى إسلامية وإضافة التاريخ الهجري عليها. وتطورت عملية سك العملة في عهد عبد الرحمن فأنشأ داراً خاصة لها في عاصمة الامارة. ولا تتوافر احصاءات تجارية يُعوّل عليها عن تلك الفترة لكن كتب التاريخ تذكر أنّ السفن التجارية كانت تبحر بين الموانىء الأندلسية وموانىء المغرب والاسكندرية والشام وصقلية والجزر الأخرى في البحر الأبيض المتوسط وبعض الموانىء الأوروبية القريبة. وكان الأندلسيون يصدّرون إلى المغرب ومصر والشام وغيرها المنسوجات والوشي والبسط والزجاج والزعفران والورق والجلود وزيت الزيتون والأسلحة والزئبق والتوتياء والعنبر والعبيد الصقالبة، فيما كان التين يُحمل من مالقة ويباع في بغداد.
واستوردت الأندلس عدداً كبيراً من المصنوعات والمواد الأوليّة والفستق والجلود والزنوج الأفارقة، وظل الميزان التجاري لصالحها في أغلب الأوقات. وكان التجار الأندلسيون يحملون إلى قرطبة وإشبيلية وبلنسية وغيرها الذهب الذي كان يُستخرج من ضفاف أنهار غرب افريقيا ويُنقل عبر المغرب. وظل ذاك المصدر أهم مصادر المعدن الثمين إلى حين اكتشاف الذهب والفضة في بلاد أفريقية أخرى والعالم الجديد.
ولعبت الأندلس أيضاً دوراً رئيسياً كمصدر ومستورد مع الممالك الأوروبية فشملت الصادرات المنسوجات والملابس والمصنوعات اليدوية المتنوعة وغيرها الكثير. ولا شك ان تجارة العبيد الصقالبة كانت اهم تجارة تعاملت بها الممالك الشمالية الصغيرة، وكان هؤلاء يُؤسرون من مناطق وسط أوروبة ودول البلقان حاليا، وينقلون إلى الأندلس ومنها إلى المغرب ومصر والشام وباقي الدول و«جميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان فمن جلب الأندلس لأنهم عند قربهم منها يُخصون ويفعل ذلك بهم تجار اليهود والصقالبة».
وكانت هذه التجارة مصدر رخاء كبير لمدن مثل بمبلونة وبرشلونة، وعادت على الشماليين بدخل استخدموا بعضه لشراء المنتوجات الأندلسية المتنوعة، والبعض الآخر للإنفاق على الجيوش. فالتجارة في تلك الفترة، كما هي اليوم، كانت تتم من دون الالتفات كثيراً إلى بعدها العسكري، حتى أن ملوك الشمال الآيبري درجوا على شراء ملابسهم من الجنوب، لا سيما الحريرية، خلال فترات اندلاع الحروب بين الجهتين.
كما أدّت الأندلس دوراً رئيسياً كمركز لإعادة تصدير البضائع الشرقية والمغربيّة إلى الشمال وأوروبة خصوصاً التوابل والأفاوية والمكسرات والعطور وغيرها من المواد. وكان الأمان النسبي الذي ساد البحر الابيض المتوسط عاملاً مهماً في زيادة التبادل التجاري مع الأندلس، إذ كان هذا البحر خاضعاً للنفوذ العربي اعتباراً من منتصف القرن السابع الميلادي في إثر معركة ذات الصواري (654)، لكن الحركة التجارية كانت أنشط مع المغرب لا سيما المغربين الاوسط والاقصى لسعة أسواقهما وارتفاع عدد سكانهما.
ووفر هذا الوضع الاقتصادي الجيد للأندلس رخاء كبيراًً ربما فاق في بعض الفترات رخاء المشرق في القاهرة وبغداد ودمشق، ومكّن الأندلسيين من تطوير الزراعة والصناعة والتعامل التجاري تحت غطاء الأمن والاستقرار. إلا أن الأمر بدأ يتغير بعد انهيار الخلافة واهتزاز الأمن في الأندلس، على رغم ان وضع الأندلسيين ظل جيداً في صورة عامة حتى بعد تراجعهم وانحسار سلطتهم تدريجاً. ثم تكررت القصة ذاتها في مملكة غرناطة كما تشهد بذلك المزارع والأقنية والصناعات التي لا يزال بعضها، أو آثارها الدارسة، باقياً حتى اليوم.
اقتصاد الممالك الشمالية

كان الشماليون يتعاملون بدينار بيزنطة (دولار ذلك الزمان) وديناري قرطبة وغالة. وكان المصدر الرئيس للدخل الماشية التي يملكونها بالإضافة إلى دخل محدود من الزراعة والصناعة وتجارة العبيد الصقالبة. واستمر التعامل التجاري ضمن المناطق الشمالية بالمقايضة، إلى ان أدخل هؤلاء بعض مظاهر النظام المالي من عاصمة الأندلس.
كما ساهم بعض من رحل إلى الشمال من المستعربين واليهود في ايجاد نشاط أفضل، سواء في تطوير الزراعة أو الصناعات. وتوافر للشماليين بعد انهيار الخلافة وقيام ممالك الطوائف دخل جديد سهل جاء عن طريق فرض الجزية. وفي القرن الثالث عشر انهت ممالك الشمال احتلال معظم اراضي الأندلس واتبعتها باحتلال غرناطة عام 1492. وخلال تلك الفترة الطويلة من الزمن طرأت جملة تغييرات على طبيعة اقتصاد البلاد.
في أرغون مثلاً بقي عدد كبير من العرب، خصوصاً المزارعين الذين تابعوا فلاحة اراضيهم وانتاج المحاصيل والاستمرار في الصناعات التي اتقنوها، فلم تتضرر تلك المملكة كما تضررت المناطق التي احتلها ملوك قشتالة. ولا ينطبق هذا الوضع على كل الحالات فالمعروف ان خايمي الأول الأرغوني طرد عدداًً كبيراًً من المزارعين من أراضي مرسية مما أدّى إلى خرابها.
وانفصل اقتصاد أرغون عن قشتالة منذ القرن الثالث عشر حين بنت أرغون أمبراطوريتها في البحر الابيض المتوسط، فطورت أسطولها التجاري وأقامت أمبراطورية تجارية زاحمت الإيطاليين حتى تعرضت إلى الاضمحلال في القرن الخامس عشر قبل ان تلتهمها قشتالة، كما التهمت الأندلس، وكما حاولت بعد ذلك التهام البرتغال. ثم نزلت بأرغون نازلة كبيرة عندما نفت إسبانيا معظم الأندلسيين الجدد في مطلع القرن السابع عشر لم تتخلّص منها إلا بعد فترة طويلة.
ويعود اعتماد اقتصاد قشتالة على الماشية إلى إخفاقها في تطوير أي صناعة حقيقية. فمعظم ما وجد من صناعات في الشمال كان في صورة أساسية في أيدي المستعربين النازحين من الأندلس، أو اليهود. ومع احتدام القتال مع الأندلس اعتباراً من القرن الثاني عشر أضحى الاعتماد على الماشية امراً فرضته طبيعة الحرب فلو حدث مثلاً وأغار جيش على قلعة أو مدينة ما فمن السهل على الرعاة جمع ماشيتهم خلال ساعات والعودة بها إلى داخل اسوار المدينة. وكان المحاربون في تلك الفترات يعرفون أهمية الحرب الاقتصادية في إنهاك قوى الخصم وإضعاف قدرته على الصمود. وكانوا في الغالب يستعملون أسلوب الأرض المحروقة لتسريع سقوط المدينة، إذ كان عامل تجويع سكان المدينة أو القلعة وقطع الماء عنهم من أهم عوامل إنهاكها.
وكان الهجوم المباشر على الاسوار يسبب في العادة خسائر كبيرة في الأرواح، وكان معظم المدن قادراً على الصمود في وجه هجوم مباشر أو حصار قصير الأمد نسبيا. يُضاف إلى ذلك ان الجيوش المحاصرة كانت قلما تستطيع الصمود نتيجة حصار طويل الاجل ما لم يكن المدد مضموناً في صورة دائمة. وعلى هذا فإن اسقاط مدينة معينة كان يتم في العادة على ثلاث مراحل: الأولى الإغارة على المنازل المكشوفة المحيطة بتلك المدينة، وإحراق الزرع وقطع الأشجار والماء أو تحويل الجداول الصغيرة. ويشير بعض المعلومات إلى ان إيزابيلا وفرناندو وظفا أكثر من نصف القوات المحشودة للحرب مع غرناطة لشن حرب اقتصادية شاملة ضد غرناطة، أحرقوا خلالها الزرع والمحاصيل حتى قلّت الأقوات وارتفعت أسعارها.
أما المرحلة التالية من الحصار فهي الاستيلاء على نقاط التحصين القريبة أو المنابر، وقطع طرق التموين المستخدمة لنقل المؤن على البغال والحمير في العادة كما بين مدينة غرناطة وقرى جبل شلير (الثلج). وإذا انتهت المرحلة الثانية ضرب الجيش المحاصر النطاق حول المدينة إلى ان يجوع أهلها وربما اضطروا بعد ذلك إلى الاستسلام. وهكذا كان حصار مدينة متوسطة الحجم يستغرق سنوات عدّة في بعض الاحايين قبل سقوطها لكن معظم المدن كان يستعصي ويضطر الجيش في النهاية إلى رفع الحصار.
ولم يملك القشاتلة في بداية نهوضهم الخبرة اللازمة لإدارة اقتصاد معقد يقوم على دعائم مشتركة ذات أداء يعتمد قسمه على القسم الآخر. وتوغّل القشاتلة في الأندلس خلال القرن الثالث عشر فدخلوا مناطق لا يعرفون كيف يديرون عجلة الزراعة والتجارة فيها، ويعرفون الأقل من ذلك عن الصناعة. وأدى احتلال المدن الأندلسية الكبيرة إلى تقويض دعائم الصناعة والتجارة فيها على الفور تقريباً، وكان همّ النبلاء الذين يحصلون على قطع من الأرض بعد احتلالها التمكن من الاحتفاظ بالمزارعين الأندلسيين.
وفي الحالات التي بقي فيها عدد كاف من المزارعين الأندلسيين، كما حدث في أرغون مثلاً وبعض مناطق الأندلس، تابعت الأرض انتعاشها. أما في معظم الحالات الأخرى فإن الأرض تحولت إلى بلقع من الزمن فباع أصحابها الأرض التي أقطعهم الملك إياها ورحلوا إلى الشمال ثانية في انتظار حرب أخرى يشاركون فيها للحصول على أراض غنيّة جديدة. واستفاد من تخريب الأرض عمداً أصحاب الماشية التي ملكها الافراد أو الفرق الدينية أو الرهبانيات أو الكنيسة، خصوصاً وسط البلاد الذي لا يزال إلى اليوم يبدو كأنه ساحة قتال فقيرة بالشجر والخضرة بسبب كثافة الرعي في أراضيه آنذاك.
على الساحل الشرقي لشبه جزيرة آيبرية أدى انهيار مدن مثل المرية ومرسية وغيرها إلى مساعدة مدن شمالية مثل برشلونة على تطوير تجارتها مع أوروبة والمشرق. وتوجد سجلات تشير إلى ان أرغون كانت تتاجر مع تونس ومصر وتلمسان اعتباراً من القرن الثالث عشر عندما قررت الاتجاه إلى منطقة البحر الابيض المتوسط لتنافس البندقية وفلورنسا وجنوة حتى وصل التنافس إلى حرب سافرة. ثم نمت برشلونة إلى ان أصبحت خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر واحدة من أكبر ورشات صناعة السفن في البحر الابيض المتوسط.
وكانت برشلونة مركزاً مهماً لتصدير عدد كبير من المنتجات الزراعية والصناعية الأندلسية قبل سقوط معظم مناطق الأندلس في القرن الثالث عشر، بل ان دورها يمتد إلى فترة الخلافة القرطبية. ولأن الوجود الأندلسي فيها كان كبيراًً، تمكنت برشلونة من تصدير الأسلحة والجلود والأقمشة وجميع ما تحتاج اليه السفن، بالإضافة إلى عدد من المنتجات الزراعية من المناطق المحيطة ببلنسية مثل الزبيب والجوز، وكذا إعادة تصدير التوابل إلى فرنسا وإنكلترا وهولندا وغيرها من الدول قبل أن تضيف إلى صادراتها العبيد خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
لكن أوج الرخاء الذي عرفته أرغون كان في القرن الثالث عشر والقسم الأعظم من القرن الرابع عشر حينما حاولت اللحاق بركب الممالك الايطالية التي كانت أول من استفاد من «الثورة التجارية» التي قامت في آخر القرن الحادي عشر استجابة لمتطلبات الحروب الصليبية ومد خطوط التموين والنقل بين أوروبة والمشرق.
وما ان جاء عام 1381 حتى نزلت بأرغون مشاكل مالية معقدة اضطرت بعدها إلى التقهقر أمام تقدم التجار الايطاليين. ومنذ اكتشاف العالم الجديد ساهمت أرغون في الاتجار مع المستعمرات في ما وراء الاطلسي، لكن التجارة المباشرة كانت محصورة بقشتالة التي احتكرتها فترة طويلة إلى أن بدأ الهولنديون والانكليز في كسر هذا الاحتكار.
وفي قشتالة نفسها ظلت آثار عملية تخريب الاقتصاد الأندلسي التي رافقت اجتياح القرن الثالث عشر واضحة المعالم، وبقيت الزراعة بدائية للغاية. لكن بعض الصناعات الأساسية نما في القرن الرابع عشر، مثل صناعة الصابون والورق والجلود وغيرها من الصناعات الخفيفة. كما تطورت صناعة السفن في مدينة سنتندير الواقعة على خليج بسقاية في الشمال وكذلك في إشبيلية. ومع ذلك ظلّت قشتالة تعتمد على تصدير الصوف الخام كدخل رئيسي بعدما حسّنت نوع الصوف القشتالي نتيجة نجاح تهجين نوع الخراف المغربي المعروف باسم مورينو مع الأنواع المحلية آخر القرن الثالث عشر.
وخلال تلك الفترة تفوقت قشتالة في حجم صادراتها من الصوف على إنكلترا التي كانت قبل ذلك أكبر مُصدّر لهذه المادة. وبحلول القرن الرابع عشر باتت قشتالة أهم مصدري الصوف الجيد، وساهم ارتفاع حجم الصادرات في مطلع القرن الخامس عشر في بناء اسطول تجاري قشتالي كبير كانت سفنه تحمل الصوف والجلود إلى إيطاليا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية.
وعملت إيزابيلا في نهاية القرن الخامس عشر على سك عملة رئيسية هي »الاكسلنته« التي ساوت الدوقة المعتمدة في البندقية. ووحّدت المقاييس والأوزان وحسّنت الطرق والموانئ، ثم حدّدت كمية الصوف الممكن تصديرها بثلثي الانتاج لتشجيع صناعة المنسوجات. لكن إيزابيلا أصرت على الاهتمام بتربية المواشي دون سائر القطاعات الأخرى وأصدرت عام 1491 مرسوماًًًًً منع إقامة الحواجز في غرناطة كي لا تعيق رعي الماشية. وكان لسياسة إيزابيلا المعادية للزراعة أثر كبير في إضعاف الثروة الزراعية، وفضّل الإسبان في تلك الحقبة توظيف الاستثمارات في الماشية على الزراعة والتجارة والصناعة.
ووراء هذه السياسة خلفية نفسانية مهمة ميزت القشتاليين عن غيرهم إذ كان هؤلاء يترفعون عن القيام بالأعمال اليدوية، ويعتبرونها تحقيراً لشأنهم لذا ظلت الأقليات تسيطر على جزء مهم من النشاطات الصناعية والزراعية. وبقي القشتاليون يعتقدون أن وظيفة الآخرين فلاحة الأرض وانتاج المصنوعات لكن رسالتهم هي القتال والسيطرة على شعوب الأرض الأخرى وتسخير ثرواتها لخدمة أهدافها إلى أن بدأ نجم قشتالة في الهبوط في القرن السابع عشر.
المصدر: http://www.creativityinwriting.com/spip.php?article57