النص/القاريء /المنهج.
مقاربة نظرية
الدكتور حسين فيلالي- جامعة بشار- الجزائر,
يشكل المعجم اللغوي الخزان الحقيقي لثقافة الأمة. وهو دليل تقدمها، أو تخلفها عن ركب الحضارة. فالأمة المتحضرة هي التي تنتج مصطلحاتها، ومفاهيمها النابعة من بيئتها المحلية ذلك أن المصطلح يتجذر في الثقافة التي أنتجته، ويتغذى بتربتها ويرتوي بروحها.إن هذا الرأي لا ينكر لجوء الثقافات إلى الاقتراض من بعضها البعض ولكن ما يشين الثقافة الأمة أن تبقى تابعة لثقافات أخراه حتى في ما يشكل وجدانها وهويتها فتصاب بالمسخ .
إن الباحث في الثقافة الغربية يجدها مشدودة إلى الجذور، وهو سر قوتها ،وتطورها.
فالتطور لا بد أن يرتكز على شيء سابق يكون الزمن قد فعل فعله فيه، فأبلى بعضه، أو أغلبه، فلم يعد قادرا على التأثير في الحاضر بالقدر الذي أثره في زمانه.
كلما عدت إلى بعض المعاجم العربية القديمة، ونظرت في جهد أسلافنا تذكرت قول الشاعر غوته(..إننا غالبا ما نجد عند السلف-وهم يضعون أسس وجودنا- جدية أكبر مما هي عند الخلف الذين يقومون بتبذير هذا الإرث)
في هذا الدراسة سأحاول الاستفادة مما جاء في بعض المعاجم العربية القديمة، وأجعله مدخلا لمناقشة موضوع النص، ولأبين أنه كان بالإمكان استنباط رؤية عربية خاصة لمفهوم النص، لو تضافرت جهود الباحثين العرب على غرار ما فعل الشكلانيين الروس أو جماعة مو ببلجيكا أو حلقة براغ.
مفهوم النص: إن المتفحص للمعاجم العربية القديمة يقف على مدلولات مختلفة لمفهوم النص.
النص: التفريغ والاستخراج:
جاء في تاج العروس "نص الحديث نصا وكذا نص إليه إذا رفعه ونص ناقته ينصها نصا إذا استخرج أقصى ما عندها من السير".
فالنص الأدبي إذن عملية تفريغ واستخراج لأقصى ما عند الناص من معان، وإفراغها في قالب جمالي يأخذ شكلا من أشكال التعابير الأدبية المختلفة.
ومن المجاز نص فلان نصا إذا استسقى مسألته عن الشيء أي أخفاه فيها، ورفعه إلى حد ما عنده من العلم كما في الأساس وفي التهذيب والصحاح حتى استخرج كل ما عنده "
والأديب البارع يصطنع لغة تعلو على لغة الخطاب العادي وتنخرط في مجازات اللغة، يجتهد الأديب في تعمية المعاني، ولا يجعلها تطفو فوق السطح، بل يتنزل بها إلى قاع النص ليستدرج القاريء إلى بذل جهد إضافي لاكتشاف طبقات النص الدلالية. فالنص من منظورنا يشكل طبقات من المعاني يكسو بعضها بعضا، والقراء يشكلون طبقات من الغواصين الملوعين بصيد المعاني، فمنهم من يقف عند الطبقة الأولى من النص، يكد، يتعب حتى ينفد زاده ولا يتعداها، ومن القراء –وهم قلة- ممن يتعدى الطبقة الأولى، ويخترقها إلى طبقات أكثر عمقا، وخصوبة، طبقة أو طبقات لم يطلها التنقيب من قبل، أو لم يحسن ممن بلغوها الحفر، والكشف، فظلت روضة أنفا، فيظفر ببعض الدرر المخبوءة، وينتزع بعضا من أسرار النص المحجوبة.
والنص حسب رأينا صنفان:
1. النص الشفاف (le texte transparent)
2. النص المحجب (le texte cache)
ومن صفات النص الشفاف ظهور معانيه طافية على سطح النص لا تحتمل التأويل إلا تعسفا، والإقدام على تأويله معناه الكتابة على الهامش، أي التقول على النص. والنص المحجب (texte cache) نص خلافي، إشكالي، ومن صفاته: الاستدراج، الاستفزاز، وممارسة لعبة الغواية مع القارىء ليخرجه من حالة الحياد، والسكون ويدخله في حالة الانفعال، فالتفاعل، فالتورط، فالبحث عن منفذ إلى طبقات المعاني المضمرة في النص، فيكتسب بذلك صفة القارئ/الناص، أي الانخراط في إنتاج ما يسمى بنص القارئ.
النص: الظهور/الافتضاح/التعين:
نصص، النص، رفعك الشيء، نص الحديث ينصه نصا، رفعه، وكل ما أظهر فقد نص. ووضع على المنصة أي على غاية الفضيحة والشهرة، والظهور وكل شيء أظهرته فقد نصصته.
فالنص إذن إظهار، وافتضاح، وكشف للمستور إنه انتقال من حالة الإضمار، والكتمان إلى حالة البوح والتصريح، فالنص قبل الكتابة أو الإنشاد يكون سرا لا يعرفه إلا الناص، لكن بمجرد أن يخرج النص إلى الوجود، ويسمى (قصة، شعرا، رواية...) يفتقد صاحبه صفة التفرد بمعرفة السر.
والنص إذ ينفصل عن صاحبه يصبح في غاية الفضيحة، والظهور والشهرة، ويتخذ له موقعا (منصة) ما بين النصوص الأخرى التي من جنسه ليرى، أو ليسمع أو يتلمس بأصابع اليد. "والنص التعيين على شيء ما، وكل ذلك مجاز من النص بمعنى الرفع والظهور" .
النص: الدليل:
جاء في تاج العروس.. وكذا نص الفقهاء الذي هو بمعنى الدليل بضرب من المجاز كما يظهر عند التأمل.
فالنص من هذا المنظور حجة ودليل، وهو حسب رأينا أثر من آثار الناص الدالة عليه، ومستودع أفكاره.
والنص اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره. ومنه قول الفقهاء كما جاء في لسان العرب: " نص القرآن، ونص السنة أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام. "
النص/التعبير:
جاء في معجم المصطلحات العلمية والفنية مادة نصص: نص:عبر (مقابل énoncer الفرنسية- toenuciate – النص: التعبير:البيان enonce = enunciation).
فالنص حسب يوسف خياط تعبير، وبيان، والتعبير، والعبور هو الانتقال، والتحول من حالة الإضمار إلى حالة البوح، والكشف. والتعبير يكون بأساليب متنوعة(بالجسم كله- باليد –بالعين-بالوجه- بالكتابة بالصوت..)، والبيان من أبان، يبين، وهو بمعنى الظهور، أي الانتقال من حالة الستر إلى حالة الفضيحة، ومن السر إلى العلن.
والنص كما رأينا في المعاجم العربية القديمة لا يخرج معناه في أغلب الحالات عن أحد هذه المعاني.
هذا التعريف نراه قد استلهم مفهوم الجاحظ للبيان، ذلك أن البيان عند الجاحظ هو(كل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير كائنا ما كان ذلك البيان ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر، والغاية التي يجري إليها القائل والسامع، إنما الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان.)
فالنص/البيان عند الجاحظ هو أسلوب، و طريقة من الطرق التي يتوصل بواسطتها المتلقي إلى كشف قناع المعنى المتواري خلف قناع الذات الباثه للخطاب أو الرامزة له.
النص في المعاجم الغربية:
والنص(texte) في بعض المعاجم الغربية الحديثة يعود مفهومه إلى الأصل اللاتيني القديم de texere-tisser textus.Lat. ويعني نسج ينسج -النسيج.
فنحن إذن أمام نساج(الناص)- ومنسوج(النص)- ومادة النسج(اللغة). فالنسيج/ النص في هذه الحالة يحتاج إلى توفر براعة وفنية في النساج(الناص) لإثبات مقدرته على اختيار المادة (اللغة) المناسبة لكل قطعة ينسجها.
والنسيج معناه الظهور على هيئة ما، وشكل ما، بحيث يكون بارزا، وقابلا للإدراك.
مفهوم النص عند بعض الغربيين:
يقول بول ريكور: " لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة. "
فالنص من هذا المنظور هو الخطاب المحقق بفعل الكتابة، والكتابة تصبح في الحالة هذه تعيين، وإظهار، وافتضاح للمستور في الصدور، إنها لحظة الإعلان عن ميلاد النص، والاعتراف باستقلاليته عن صاحبه ووضعه على منصة القراءة.
ويذهب رولان بارت في تعريفه للنص إلى القول "ليس النص في نهاية الأمر إلا جسما مدركا بالحاسة البصرية" ونضيف نحن على ذلك أو يتلمس بأصابع اليد كما هو الشأن في منظومة برايل.
والجسم كي يدرك لابد أن يوضع على المنصة (منصة الكتابة) أي يصبح على غاية الفضيحة والشهرة كما رأينا عند ابن منظور.
فالنص جسد يرى بصريا حسب رولان بارت، أو يتلمس حسب رأينا عند فاقدي البصر، وتفك شفراته وفق منظومة "برايل"، وهو لا يتحقق إلا بفعل الكتابة (فالنص يشاطر الأثر الأدبي هالته الروحية وهو مرتبط تشكيلا بالكتابة (النص المكتوب)، ربما لأن مجرد رسم الحروف، ولو أنه يبقى تخطيطا، فهو إيحاء بالكلام، وبتشابك النسج (اشتقاقيا نص يعني نسيجا).
فالكتابة تشكل، ونسج، ورسم لجسد النص، فهي تعطيه هيئته، وصورته الأولى المعلنة التي يعرف بها كنسيج متشابك من الكلمات، والمعاني (إنه السطح الظاهري للنتاج الأدبي، نسج الكلمات المنظومة في التأليف، والمنسقة بحيث تفرض شكلا ثابتا ووحيدا ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.) . فالنص حسب بارت سطح ظاهري، ونظم منسق، وشكل ثابت بمعنى إننا نتلقاه في درجة الصفر للقراءة (degré zéro de lecture) أي مرحلة الإدراك البصري.
وإذ ينتقل النص من مرحلة سكون الكتابة إلى مغامرة القراءة الإبداعية المنتجة (lecture productive (يتحرك النص، يتحرر من جموده، وثباته، ويدخل في حياة جديدة، وهو ما يمكن تسميته بالقراءة فوق درجة الصفر*، أي القراءة التي تنتج نصها، وخطابها الخاصين، فيظل النص يتمنع، يراوغ، يغلق منافذه، يغلف معانيه بحجب كثيفة من الستر، يتجلى، ويتوارى حسب درجة استفزاز القارئ له وقدرته على إثارة بواطنه، واستدراجه للبوح بما أستودع فيه من أسرار المعاني، وإخراجه من حالة السكون التي تفرضها طبيعة الكتابة، أي تجاوز عملية الإدراك البصري إلى عملية التأويل، وإنتاج المعاني.
القراءة الخارجة عن النص أو وهم القراءة:
لا نقصد بالقراءة الخارجة عن النص تلك الشروح التي عهدنا ها في كتب التراث، والتي كانت توضع لتفسير غامض أو لتوضيح مبهم من المعاني أو الكلمات، أو لمحاورة رأي أو للاستدراك على قول أو محاولة تصويبه، والتي تكون عادة في ذيل الصفحة، أو على جانب النص، لأنها كانت تؤدي وظيفتها التعليمية التبسيطية. وإنما نقصد بها تلك القراءة النقدية المنحرفة والتي يحلو لمتعاطيها أن يسموها بالقراءة الحداثية في النقد العربي المعاصر، فهي قراءة مصاحبة للنص، وإن كانت لا تحسن صحبته، أو هي قراءة مجاورة للنص وإن كانت في حقيقتها لا ترعى حرمة الجوار، إننا نجدها تحاذي النص، وقد تتماس معه في نقط، ولكنها تظل برانية، تتقول على النص، وإن شئنا الدقة فهي تتحدث عن نفسها وإلى نفسها وهي تتوهم أنها تحاور النص، وتوهم المتلقي بأنها تدور في فلك معاني النص، وهي في الواقع لا تلج النص إلا لتخرج منه مرهقة، وتتركه بكرا، أو روضة أنفا.
إنها قراءة توازي اتجاه النص بلغة الرياضيات، ولا يهمنا إن كانت تسير في اتجاهه، أو تخالفه، مادام أن مسافة القراءة لديها تظل واحدة، بدايتها كوسطها، كنهايتها لا تتغير فيها المعالم، والأبعاد، والقياسات، إنها قراءة مصاحبة للنص، محاذية له لا تختلط به، ولا تجالسه، ولا تستمع إليه بقدر ما هي تظل تستمع لصوتها، تعشقه، تهيم به حد النرجسية، فتنتج صوتها، دلالتها، ذاتها المقعرة، وهي تتوهم أنها تحاور النص، إننا نجدها تنتحل هوية النص، تتحدث نيابة عنه، وهي لا تحسن الحديث إلا على نفسها، والتقول على الآخر (النص). هذه القراءة لا تضيف إلى النص شيئا، ولا تكتشف منه سرا، ولا تستكشف مجهولا، ولا تفتح منغلقا، وإنما تظل تعيد نفسها، هي رجع، أو صدى لإيقاعات ذاتها، تحاور نفسها، تنعزل، تتقوقع على ذاتها المريضة بهاجس القول، والتقول، فتظل جعجعة بلا طحين، بل تطحن نفسها، وتنتج لصاحبها سقط المتاع. هذه القراءة لاتضيء من النص شيئا بل تطفيء نوره، وتغرق القارئ في ظلمة، لا يجد ما يستهدي به إلى دروب النص المظلمة. إن القراءة على الهامش هي تدمير لبنية النص، وتقطيع لأواصر علاقاته، وتخريب لأنسجته، فتحدث بذلك إعاقة في النص، وتلحق به عاهات مستديمة، وتشوه خلقته، وتكون وسيطا خائنا، يحرف المعاني عن مواضعها، ويخرب موقع المباني، ويقوض أسس النص، وينتج ما نسميه بوهم القراءة، أو القراءة الخارجة عن النص،أو التأويل الذهاني كما يسميه أمبرطو يكو (الذهان paranoïa والمصاب بالذهان هو paranoïaque
النص/التناص، أو عولمة النص:
تقول كريستيفا (krestiva julia) : " كل نص فهو تناص". وهذا القول ينبني في جوهره على خطورة كبيرة، لأن فيه نفي لكل أصالة، ويخلع كل قداسة على النصوص. إن التناص بهذا المفهوم هو عولمة للنص، وتذويب لهويته، فالنص الذي ندعوه جزائريا أو فرنسيا هو في الواقع ليس إلا نتاج عملية تجميع لبقايا نصوص قديمة مختلفة الهويات بقيت مترسبة في الذاكرة، ولا يمكن أن تنسب هذه النصوص المتعددة إلى أب واحد أو هوية واحدة. ولعل الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى يكون له السبق الزمني في اكتشاف هذه العملية المتداولة بين الشعراء قبل كريستيفا بقرون حين قال:
ما أرانا نقول إلا معارا *** أو معادا من قولنا مكرورا
وإذا سلمنا بقول زهير، و(krestiva)، فإن ما يقوم به الكاتب في كل العصور لا يعدو أن يكون مجرد إعادة إنتاج ماضي النصوص، ويتوهم أنه ينتج نصا له حاضره، وزمنه، واسمه المؤرخ له بزمن ميلاد النص. والأكثر من ذلك فإن لقول" كريستيفا" خطورته الفكرية فهو يساوي بين النص البشري والنص الإلهي، إذ يصبح والحالة هذه لا فرق بين النص المقدس والمدنس. وعلى هذا الأساس قلنا إن النص يأخذ مفهومه ويصطلح على تعريفه داخل ثقافة كل أمة، ولا يمكن عولمة مفهوم النص. فالثقافة العربية الإسلامية على سبيل المثال تعرف نوعين من النصوص، النص المقدس: القرآن الذي هو أعلى النصوص، وهو النص المرجع، والتعامل معه يقتضي شروطا خاصة، ويعرف داخل الثقافة الإسلامية على أنه هو كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي، والسنة المطهرة التي تعرف على أنها كل فعل أو عمل صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والنص البشري الذي يمكن أن نتعامل معه كما قالت كريستيفا على أنه محصلة لخبرات ولقراءات متعددة تنصهر، وتتفاعل لتخرج في ثوب جديد (كتابة جديدة)، لأن الكتابة البشرية (الإبداع) لا يمكن أن تنطلق من فراغ، وإلا أصبحت وحيا، أي فعلا خارجا عن فعل وإرادة الذات.
مداخل النص: القراءة/المنهج :
لا نشك في أن المناهج النقدية الحديثة قد أولت اهتماما بالغا للنص الأدبي، وزودت الناقد بآليات، وأدوات إجرائية تمكنه – إن هو أحسن استغلالها- من اكتشاف طاقات النص الإبداعية اللامحدودة، وجعلت النص الأدبي يتجدد بتجدد القراءة، القراءة التي تضيء أمكنة الشك، وتوسع من دائرة أمكنة اليقين حسب تعبير ميشال أوتون (Michel oton)، غير أن أول ما يواجه القاريء العربي هو إشكالية اختيار، وتطبيق المنهج النقدي، ومدى القدرة على التحكم في آلياته. والسؤال الذي يظل يؤرق الدارس هل اختيار المنهج يكون قبليا أو بعديا؟ بمعنى هل نأتي بمنهج جاهز أفرزته ظروف ثقافية، واقتصادية، واجتماعية مغايرة للظروف التي أفرزت النص الأدبي العربي ونسقطه بحذافيره عليه نمطط النص متى احتجنا إلى ذلك، أو نقص منه أجزاء ليستقيم مع التأويل الذي نقترحه، فنقتل طاقاته، ونشوه جماله بدلا من أن نحييه ونزينه؟ أم نأتي إلى النص نحاوره نستدره، بل نشاكسه حتى إذا ما عثرنا على إشارة تفضح أسراره، وأمارة نهتدي بها إلى سراديبه، وخباياه، رحنا نكيف منهجنا مع معطيات النص الإبداعي العربي مراعين في ذلك خصوصياته الجمالية؟.
ومع إيماننا بضرورة تكييف المنهج مع طبيعة النص الأدبي، وإيماننا بتطور العلوم الإنسانية، فإن الدارس العربي اليوم يحتار في اختيار المنهج الذي يواجه به النصوص العربية، وتزداد صعوبته أكثر وهو يقف على هذا الحشد الهائل من الترجمات المختلفة للمناهج النقدية الحديثة، ذلك أن الثقافة هي التي تفرز المنهج، وتنتج المصطلح. والمنهج إذ يترعرع داخل ثقافة ما، فإنه يتجذر فيها، ويتشرب عناصر التربة التي غرس، ونما فيها، وحتى وإن بدا لنا ظاهريا أن المنهج مجرد من رواسب هذه التربة، ومتكيف مع كل المناخات الثقافية، فإن التحليل العميق يكشف لنا خلاف ذلك، ولذا لا يمكن نقل المنهج من تربة غريبة دون نقل رواسب هذه التربة مهما بلغنا من جهد، ومهما أوتينا من علم، وصدق النية، وهذا ما يوجب علينا العمل -إن أفلحنا- على تكييف المنهج المستورد قدر المستطاع مع النص العربي، وألا نرغم النص على الاعتراف القصري بسلطة المنهج والبوح بما هو ليس فيه إرضاء للمنهج، وتباهيا بمعرفة الجديد الوافد، فنغرب النص، ونباعد بيننا وبينه.
والنتيجة، أننا لا يمكن أن نعقد ائتلافا تاما بين النص، والمنهج المستورد دون الإضرار بأحد هما، والمخرج حسب رأينا لا يخرج عن أمرين:
1. إما أن يتنازل المنهج عن بعض خصائصه، ويخفف من صرامته، ويذعن لشروط إنتاج النص: شرط الثقافة، والبيئة، والرؤيا، لأن النص حسب رأينا يعرف بالثقافة التي نبت فيها، فنقول أدب أمريكي، وأدب إنجليزي، رغم أن اللغة تشكل قاسما مشتركا بين الأدبين، ونقول أدب أمريكا اللاتينية، وأدب أسباني رغم أن الشاعر التشيلي بابلو نيرودا يكتب باللغة الأسبانية التي يكتب بها الروائي الأسباني مانويل مونتالبان. ونقول أدب فرنكوفوني، وأدب فرنسي رغم أن اللغة الفرنسية تشكل قاسما مشتركا بين الأدباء الفرنسيين، والأدباء الناطقين باللغة الفرنسية كما تسميهم فرنسا(lesécrivains francophone) بل نجد فرنسا تستنكف حتى من أن تعتبر هذا الأدب أدبا فرنسيا -وهي محقة في ذلك- وحتى التسمية توحي بالكثير من المعاني الدالة على التفرقة، فالأدب الفرنكوفوني لا يحمل من اللغة الفرنسية إلا أصواتا ناطقة في ظاهرها باللغة الفرنسية، ولكن هي في جوهرها ناطقة بأحاسيس غريبة عن أحاسيس المتلقي الفرنسي، وبالتالي تصبح هذه الآداب الفرنكوفونية عاجزة عن التعبير على وجدان، وروح الثقافة الفرنسية.
2. وإما أن يتنازل النص عن نفسه كلية، ويخضع، ويسلم أمره لمبضع المنهج، يقص منه ما يشاء، ويرغمه على البوح بما لا يشاء. وفي اعتقادنا فإن المنهج هو الذي عليه أن يتنازل للنص حتى يستفيد من خدماته (اختبار افتراضاته)، وألا يأتيه من منطلق متعال، ويخاطبه من مكان بعيد، بل عليه أن يستمع إلى صوت النص، ويحسن الإنصات، لأن المنهج متحول والنص ثابت، والنص مستغن بذاته، والمنهج تابع متعلق بغيره لإثبات شرعية وجوده.
وإذا كانت كريستيفا (kristiva) تقول: بأن ليس هناك نص أدبي أصيل، بمعنى أن كل نص فهو تناص، فإن كل منهج –حتى وإن أدعى صفاء العرق– فهو في الحقيقة عبارة عن تجميع لعناصر بعض المناهج البائدة، أو المحدثة، فالمنهج لا يقوم من فراغ وإنما يقوم في الغالب بترميم بقايا بعض المناهج، ويتمم ما يراه ناقصا فيها. والمنهج لا يعرف الاستقرار بل هو في حركة، وصيرورة دائمتين، ومتى وصل إلى ذروة عطاءاته، وثبت، واستقر على حالة واحدة تفجر، ومن أشلائه نبتت عناصر منهج جديد. إن هذا الرأي يبدو في ظاهره مثبطا للعزائم، وداعيا إلى التقوقع على الذات، وهو يرفض كل اقتراض من الثقافات الأخرى، ويعادي كل دخيل على الثقافة الأم، ولكن في جوهره، هو دعوة إلى المصالحة مع النصوص العربية التي مافتيء بعض النقاد العرب يتلذذون بجلدها، وإرغامها على لبس لباس غريب عنها، لباس لا يواري سوأة، ولا يحمي عورة، فكان هذا الفعل أشبه بالطبيب الذي يداوي قرحة المعدة بالأسبرين، فلا مرضا أشفى، ولا جسما صحيحا أبقى، وإنما أحدث نزيفا داخليا قد يؤدي حتما إلى الموت المفاجيء. إن هذه الأخطاء ربما كانت معذورة في الممارسة الطبية قبل اكتشاف جهاز السكانير (scanner)، والفيبروسكوبي (fibroscopie) وكانت تعتبر أخطاء خارجة عن إرادة الطبيب، ولكنها الآن تعتبر أخطاء مهنية يجرم فاعلها ويعاقب مرتكبها، والنص الأدبي العربي كجسم الإنسان مورست عليه العديد من التجارب الفاشلة منذ عصر النهضة، وكانت تبدو مقبولة في وقتها، فهي مرحلة ضرورية من مراحل التقليد، والانبهار، أو استنساخ التجارب، وكان من المفروض أن تليها مرحلة الاستيعاب، ثم مرحلة الإضافة، وانتظرنا تعاقب هذه المراحل، لكن حمار النقد العربي الحديث وقف في الكثير من المرات في العقبة، عقبة استنساخ التجارب.
إن علينا اليوم أن نصنف هذه العملية على أنها أفعال يجرم صاحبها، كما تجرم بعض القوانين استنساخ البشر.
منذ فجر النهضة الغربية والنص الأدبي العربي مكمم الفم يرغم دائما على تسليم نفسه إلى النقاد يفعلون به ما يشاءون، ويأتونه من حيث لا يشاء، ويخضعونه عنوة لتجارب لا تلائم طبيعة تكوينه، وليس له الحق في أن يتألم، أو يتكلم، وقد حان الوقت الآن ليستمع النقاد العرب إلى صوت النص، وأن يسعوا إلى تجاوز استنساخ تجارب الآخرين، لأن جينات النص العربي تختلف عن جينات الثقافات الأخرى، واستنساخ المنهج النقدي العربي من جينات غريبة عنه يؤدي إلى ميلاد تطبيقات مشوهة كما هو الحال اليوم في العديد من التطبيقات العربية التي تدعي الحداثة.
إن النقد في جوهره تعريف للمنكر، واكتشاف للمضمر، وإبداع على إبداع، وحرف الجر هنا يدل على الارتقاء، أي الارتقاء بالنص النقدي في سلم طبقات النص الجمالية، واكتشاف مناطق مجهولة منه، مناطق لم يسبق للنقاد أن تسلقوها. وقد يعترض معترض على هذا الرأي بالقول: إن المنهج لا يقبل التجزئة، فهو سلسلة من الآليات، والإجراءات المتوالية التي لا يمكن التفريق بينها، أو الاستغناء عن حلقة من حلقاتها، وإلا اختل ميزان المنهج.
إن هذا التوالي المزعوم، قد يأخذ شرعيته في بعض العلوم المجردة، كالرياضيات مثلا، لأن جدول التغيرات له علاقة بمجال التعريف، والنهايات لها علاقة بالرسم البياني..، ويفقد هذا الزعم مبرراته في الأدب، لأنه يكون بمقدورنا عند ذلك أن نجمع بين عناصر أكثر من منهج واحد في الممارسات التطبيقية الواحدة، فنكون بنيويين، وسيميائيين، ونفسيين في الآن نفسه، أو نأخذ بمنهج تكاملي، بحيث نستفيد من آليات أكثر من منهج، وهو ما يقع بالفعل حتى عندما نتعصب لتطبيق منهج واحد، لأن الحدود بين المناهج تبقى افتراضات نظرية يستحيل احترامها في واقع التطبيق. والمؤسف عندنا أن تتحول تطبيقات بعض نقادنا على النصوص العربية إلى تنكير لها، ومسخ لخصوصياتها، وتقبيح لجمالياتها، وتبديد لأنسجتها، وبهذا يحتاج المتلقي العربي في الكثير من الأحيان إلى وسيط ثان يترجم له من لغة مكتوبة بأحرف عربية صيرها النقاد الحداثيون غريبة عنه إلى لغة عربية مألوفة، ويحتاج أيضا إلى نساج يرتق ما مزقه ساطور النقاد.
هكذا أضحت اللغة العربية على أيدي بعض النقاد المحدثين عاجزة حتى عن القيام بوظيفة التواصل مع القارئ العربي، وهكذا صار النقد التطبيقي عند بعض المحدثين يتكلم بلغة تستعمل حروفنا لكنها لا تنتج أساليبنا، ولا تراكيبنا، لغة مخشبة لا أحاسيس فيها، فغدت غريبة عنا، وغدونا في أمس الحاجة إلى من يترجم بيننا وبين ما يكتبون، وهم من بني جلدتنا، ويتكلمون لغة تشبه لغتنا في أبجديتها، لكنهم حرفوا أساليبها, وأبنيتها، وتراكيبها.
إن على المنهج أن يحاور النص دون استعلاء، أو وصاية، فالنص ليس قاصرا حتى يحجر عليه الكلام لخدمة المنهج،وعلى المنهج النقدي ألا يسعى إلى تجريد النص من خصوصياته بحجة علمنة النص. فالنص الأدبي لا يمكن أن يتحول إلى علم مجرد من الأحاسيس أو إلى رموز صماء، أو معادلات أو متراجحات رياضية خالية من الانفعالات، أو المرجعيات الأيديولوجية مهما أوهمنا أنفسنا بذلك، وصدقنا أوهام النقاد، وبذلك يصبح النص الأدبي في رأينا خارج عن دائرة العلم، وقوانينه الصارمة، ويتموقع خارج التقنين الجامد، لأنه لا يمكن لأي كان أن يدعي التفرد بمعرفة كامل أسرار النص حتى وإن كان كاتبه. إن على الدارس أن يحاور النصوص، ويحاول فك شفراتها اللغوية، رغم أن هناك من يعترض على هذا التعبير لاعتقاده – وهو حر في ذلك- أن المحاورة لا تكون إلا بين متكلمين، والنص في رأيه أخرس لا يجيد الكلام بل يتكلم الدارس نيابة عنه، ونحن إذ نخالف هذا الرأي لا نلغيه بل نقول ما نعتقده، وما نعتقده هو أن النص في جوهره كما يقول مارتن هايدجر " كلام متكلم" حتى وإن بدا لنا النص في ظاهره صامتا، وعلى الدارس أن يجيد الإنصات إلى صوت النص.
وعلى الدارس أن يعتبر اللغة كما يقول السيميائيون نظاما إشاريا يحرر الدلالة من قيد المعنى المعجمي المبثوث في بطون القواميس، كما إن الالتزام الصارم بالمنهج يجعل الدارس يفضل صوته على صوت النص، أو يضطر إلى خنق النص، وكتم صوته، أو يصبح عبدا للمنهج ينقاد إليه انقياد الأعمى إلى عكازه، بل على الناقد أن يأخذ ما يلائم طبيعة النص العربي، ولا يتوقف عند المعنى الحرفي للدال، بل عليه أن يتعدى ذلك إلى البحث عن طاقات النص الإيحائية للقبض على ظلال الدلالة، واكتشاف المضمر منها، والمستتر خلف الإشارات، لأننا نرى كما رأى رولان بارت من قبلنا " أن جزءا كاملا من البحث السيميولوجي المعاصر مرده بدون انقطاع إلى مسألة الدلالة:فعلم النفس، والبنيوية، وبعض المحاولات الجديدة للنقد الأدبي. كل ذلك لا يدرس أبدا الواقعة إلا باعتبارها دالة، وافتراض الدلالة يعني اللجوء إلى السيميولوجيا .
والبحث عن الدلالة معناه اللجوء إلى التأويل الذي هو إنتاج للمعنى، و(إذن فلا مهرب للأبحاث المعاصرة في العديد من الحقول المعرفية من الخوض مباشرة في مسألة الدلالة، وبالتالي فإن المقاربة السيميولوجية مقاربة ضرورية لأن كل الوقائع دالة) فالزمن في العمل السردي دال، والشخصية دالة، والمكان دال، وعنوان العمل الأدبي دال، واللغة في العمل الأدبي لها ظاهر، وباطن، لها خطاب صريح، وآخر مضمر.وهذه الدوال الكبرى تتفرع إلى دوال صغرى، وكلها مداخل أساسية يمكن الولوج عبرها إلى أعماق النص. وقد يجر تأويل دال من هذه الدوال إلى الوقوع في غواية النص والافتتان به، أو إلى النفور منه، وإضمار الكره له، وفي كلتا الحالتين نقع في ما يمكن أن نسميه التقول على النص والتحدث نيابة عنه، وبالتالي ننتج خطابنا الخاص ونغيب خطاب النص.
إن الحب في جوهره اتصال بالمحبوب وتعلق به، والكره انفصال عنه، وقد يتحول الحب في الدراسة الأدبية إلى انفصال عن النص، والكره إلى اتصال بالنص، إذ قد نحب نصا ما، ونفتتن به، ونكتب عنه بانبهار، وننطقه بما ليس هو فيه إرضاء للنص، أو لكاتبه فيكون ذلك انفصالا عن النص، أي نقع في ما نسميه الكتابة الخارجة عن النص، أو تكون الكتابة مجرد رجع لصوتنا. وقد نكره نصا ما، ونحاول الكتابة ضده فنخلق معه في البداية اتصالا غير بريء، ونرغم أنفسنا على الاستماع إلى صوته، فيستدرجنا شيئا فشيئا لاكتشاف جماليته، ويبدأ في الاشتغال على تغيير نظرتنا إليه، ويفرض علينا صوته، ويتسلل إلينا من منافذ غير محروسة، فنجد أنفسنا نستمع إليه دون وعي منا، فننتج في النهاية خطابا قد لا يعلو فوق خطاب النص، ويتحول رفضنا للنص إلى إقبال عليه، فالنص الجيد هو الذي يكون قادرا على الدفاع عن نفسه دون ما حاجة إلى الحضور الفعلي لمنتجه، فيكتب لصاحبه استمرار الوجود والخلود، و إلا لما كان مؤهلا لأخذ نسب كاتبه.
المصادر والمراحع
1. تاج العروس-محب الدين أبي فيض السيد محمد مرتضي الزبيدي.دار الجيل- دار لسان العرب- بيروت-1988
2. ابن منظور-لسان العرب-ت-يوسف خياط-مج6/دار الجيل – بيروت 1988.
3. مجلة العرب والفكر العالمي- التناص/التأويل-العدد الثالث- صيف 1988مركز الإنماء القومي - لبنان 1988.
4. أمبارك حنون- دروس في السيميائيات- دار توبقال المغرب- ط1- 1982.
5. ميشال عاصي- البيان والتبيين- منشورات مكتبة سمير- بيروت
6. أمبرطويكو- الـتأويل بين السيميائيات والتفكيكية- ترجمة سعيد بن كراد – المركز الثقافي العربي -2000
7. Le petit larousse-editions 84-paris –France