الخلافة الأموية في الاندلس

من عبد الرحمن الناصر؟ وما نشأته؟
هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المرواني، وقد نشأ يتيمًا، وتولى جده عبد الله تربيته، فنشأ على التقوى والورع، وكانت النتيجة هي ظهور قائد مثل عبد الرحمن الناصر.
لماذا يُعدّ عبد الرحمن الناصر مثلاً يُحتذى به؟
يعدّ عبد الرحمن الناصر قدوة ومثلاً لكل المسلمين؛ لأن هذا الرجل تولى حكم الأندلس وهي في حالة من الفوضى والدمار، وتصير هذه الدولة في عهده من أقوى الدول على الإطلاق، ويصبح عبد الرحمن الناصر أعظم ملوك أوربا؛ لأنه عندما تولى الحكم قام ببناء الدولة من جديد، وقضى على الفتن والثورات، وعمل عبد الرحمن الناصر أيضًا على توحيد الأندلس تحت راية واحدة. ولم يكتفِ عبد الرحمن الناصر بذلك، بل حمل راية الجهاد ضد النصارى، الأمر الذي جعل شعوب المسلمين تتجه إليه؛ لأنه هو من يدافع عن الإسلام، ثم أعلن قيام الخلافة الأموية، وأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين.
إضافةً إلى ذلك فقد اهتم عبد الرحمن الناصر بالحضارة، فنمَى الجانب المعماري، وانتشرت الكثير من المدن. هذا إلى جانب انتشار الرخاء الاقتصادي، ونمو الكثير من الصناعات. ومن أهم الأمور التي يجب أن يشار إليها في عهد عبد الرحمن الناصر هي ازدهار الحركة العلمية.
الحكم بن عبد الرحمن الناصر 302 - 366هـ
بعد وفاة عبد الرحمن الناصر خلفه على الحكم ابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر، وتولّى من سنة 350هـ/ 961م إلى سنة 366هـ/ 976م. وفي عهده حدثت نهضة علمية غير مسبوقة، ولُقّب بعاشق الكتب، وأنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأمويّة، وقد اشتهرت مدينة قرطبة في عهده، وهي تقع في وسط الأندلس، وأشهر ما بالمدينة كان مسجد قرطبة، بالإضافة إلى وجود القنطرة.
وظنت الممالك النصرانية أن اهتمام الحكم بن عبد الرحمن الناصر بالعلم سيجعله يترك الجهاد، وخرجت لتهاجم أملاك المسلمين، فما كان من "الحكم" إلا أن ردَّهم وهاجمهم، وجعلهم يدفعون الجزية. ولقد ظلّ الحكم بن عبد الرحمن الناصر - رحمه الله - يحكم من سنة 350هـ/ 961م إلى سنة366هـ/ 976م، في فترة تُعدّ هي أقوى فترات الأندلس على الإطلاق، وأعظم عهودها.

مزيد من التفاصيل

مقدمة

عبد الرحمن الناصر ( 277 - 350 هـ= 891 - 961 م ) وتولي الحكم

رأينا سابقًا كيف كان الوضع أواخر عهد الضعف من الإمارة الأموية، وما هي السمات والملامح التي سادت ذلك العهد، ورأينا أيضًا كيف أن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت يرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأنه ما هي إلا بضعة شهور أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى إلى الأندلس ويحكموا قبضتهم عليها.

من هو عبد الرحمن الناصر

هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المرواني الناصر لدين الله أبو المطرف صاحب الأندلس الملقب أمير المؤمنين، وأمه أم ولد تسمى "ماريا" أو "مرته أومزنة"، وجده السادس هو عبد الرحمن بن معاوية الأموي - صقر قريش - ولد في قرطبة وعاش بها...

نشأ عبد الرحمن بن محمد يتيمًا، فعندما كان عمره عشرين يومًا قتل عمُّه أباه، لأنه كان مؤهلا للإمارة بعد أبيهما عبد الله الأمير السابع من أمراء الأمويين بالأندلس، وفتح الصبي عينه على الدنيا ليجد الحياة قاتمة أمامه، ولم يكن البلاط الأموي المشغول بكثير من الأحداث، من ثورات داخلية ومطامع خارجية ليشغل نفسه بطفل صغير كهذ، غير أن جدّه الأمير عبد الله والذي اتصف بالورع والتقوى والتقشف وحب الناس، وكان على درجة عالية من الإيمان - هذا الجد تولى هو تربيته، ونال الصبي الصغير نصيبًا كبيرًا من رعايته، فقد رباه جده الأمير ليفعل ما لم يستطع أن يفعله هو، رباه على سعة العلم وقوة القيادة وحسن الإدارة وسرعة الحسم وقوة العزم، رباه على التقوى والصلاح والورع وحب الناس، رباه على الصبر والحلم رباه على العزة والكرامة، رباه على العدل مع القريب والبعيد، وعلى الانتصار للمظلوم، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه التربية، والثمرة المتوقعة لها؛ أن وُجد عبد الرحمن الناصر، وكان جزاء عمه القتل، فقد قتله أبوه عبد الله، بعد أن تأكد من براءة أخيه مما عزاه إليه، واهتم الأمير عبدالله بحفيده اهتمامًا كبيرا وأولاه عناية خاصة، ولعل ذلك عطفًَا وشفقةً عليه بعد مقتل أبيه، ونشأ عبد الرحمن في هذا الجو المليئ بالأحداث المتتابعة، وعلم ما حدث لأبيه على يد عمّه، كما علم أيضًا أن جده عبد الرحمن الملقب بصقر قريش مؤسس الدولة الأموية في الأندلس علم أنه كان رجلا عظيمًا، تحمّل الكثير من أجل تأسيس هذه الدولة، وقاسى الصعاب والمشقات حتى تقام هذه الدولة، بل وواجه ثورات كثيرة ومطامع كبيرة أحاطت به من كل جانب، وبالفعل نجح في تأسيس هذه الدولة؛ والتي يتناوشها الأعداء ويكدر صفوها الثورات الداخلية والمطامع الكثيرة، بين أبناء البيت الأموي، ولكن هذه المشكلات كلها مجتمعة لا تكاد تصل إلى ما تحمّله الجد المؤسس صقر قريش من صعاب ومشقات، وبدأ الفتى الصغير يفكر كيف يتخلص من كل هذه المشكلات والأمور ليست بيده، بل بيد كبار بني أمية من أعمامه، وأقربائه، والذين يتبوأ كل منهم مكانة عالية ومنصبًا رفيعًا في هذا البلاط الملكي...

إنه أبدًا لم ولن يفقد الأمل فقد رباه جده على الصبر وقوة العزيمة وحسن الثقة بالله، واليقين بنصر الله...

إنه ينتظر الفرصة ليحقق المجد لأمته ويرفع عنها العناء...

وفي ظلّ هذا الجوّ المليء بالفتن، وهذه التركة المثقلة بالهموم، نفاجأ بأمر جلل، لكنه كان متوقعًا، فقد زهد جميع أبناء عبد الله بن محمد المرشحون للخلافة في الحكم، وذلك لِما رأوا من عبء هذه التركة المثقلة بالهموم، ولعدم توقع أحد منهم قدرته على التمكّن من الإصلاح...

الحكم بن عبد الرحمن الناصر 302 - 366 هـ

استخلف عبد الرحمن الناصر على الحكم ابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر، والذي تولّى من سنة 350 هـ= 961 م إلى سنة 366 هـ= 976 م وفي عهده حدثت في بلاد الأندلس نهضة علمية غير مسبوقة؛ ولا غرو فقد تولّى الحُكم وهو يبلغ من العمر سبعًا وأربعين سنة، وكان هو نفسه عالمًا من العلماء، ويكفي أنه لُقّب بعاشق الكتب.

أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأمويّة، تلك التي تعد أعظم مكتبات العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تنافس مكتبة قرطبة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمّال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإذا جاءوا بكتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي تُرجم على الفور وضُمّ إلى المكتبة الأموية.

كان رحمه الله يشتري الكتب مهما بالغ الناس في أسعارها، وقد أحضر في مكتبته هذه النسخة الأولى من كتاب الأغاني للأصفهاني (كتاب في الأدب) وأصفهان هذه الآن من مدن إيران، فأين إيران من إسبانيا الآن فالرجل لم تكن تقف أمامه التخوم ولا الحدود!!

كثر النسخ في عصره وصار وظيفةً للنساء في البيوت، واشتهرت نساء الأندلس بحسن الخط وجماله؛ حيث كان الرجال مشغولون بالجهاد ونشر العلم والبناء والمعمار وغيره، وكانت قد ازدهرت كثيرًا في الأندلس صناعة الكتب والورق والتجليد والأحبار، الأمر الذي كان فيه باباوات إيطاليا يشترون الورق من الأندلس ليكتبوا عليه أناجيلهم، وكذلك كانت كل أوروبا تستورد الورق وغيره من بلاد الأندلس.

وسّع الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله في المكتبة كثيرًا، وجعل لها أروقة عظيمةً حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين، وأنشأ أيضًا دارًا لتعليم الفقراء بالمجان، وخصّص المعونات والمكافآت لطلاب العلم، حتى انتشر التعليم بصورة ملفتة، واختفت الأمّية تمامًا في هذا العهد السحيق - منذ أكثر من ألف عام - وأصبح كل أهل الأندلس يعرفون القراءةَ والكتابةَ.

أنشأ أيضًا رحمه الله جامعة قرطبة، وقد كان العلماء قبل إنشائها يشتغلون بالتجارة أوالزراعة أوالصناعة أو غيرها من الحرف اليدوية، إضافة إلى كونهم يتعلمون ويُعلّمون، لكن الحكم بن عبد الرحمن الناصر جعل وظيفة التدريس وظيفة خاصة قائمةً بنفسها، فكان يجعلهم يفرغون للتدريس والتعليم فقط؛ وذلك حتى يستطيعوا أن يبدعوا فيه.

قرطبة المدينة الإسلامية النموذجية

أصل التسمية:

قال ياقوت الحموي: قُرْطُبة: بضم أوله وسكون ثانيه وضم الطاء المهملة أيضاً والباء الموحدة كلمة فيما أحسب عجمية رومية ولها في العربية مجال يجوز أن يكون من القرطبة وهو العدو الشديد. قال بعضهم: إذا رآني قد أتيت قَرْطب... وجالَ في جحاشه وطرطبَا

وقال الزَّبيدي في تاج العروس قَرْطَبَهُ: إِذَا صَرَعَهُ يُقَالُ: طَعَنَهُ فَقَرْطَبَهُ وقَحْطَبَه وقولُ أَبي وَجْزَةَ السَّعْدِيّ: والضَّرْبُ قَرْطَبَةُ بِكُلِّ مُهَنَّدٍ... تَرَكَ المَداوِسُ مَتْنَهُ مَصْقُولاَ قال الفَرّاءُ: قَرْطَبْتُهُ: إِذا صَرَعْتَهُ أو قَرْطَبَه: إِذا صَرَعَهُ على قَفَاهُ. وتَقَرْطَبَ على قَفَاهُ: انْصَرعَ.

ولا زالت مدينة قرطبة محتفظة باسمها إلى اليوم فهي بالاسبانية Crdoba، وبالإنجليزية Cordova أو Cordoba

قرطبة تدخل في الإسلام

كانت قرطبة من أوائل المدن التي دخلها الإسلام ففي العام 93 هـ= 711 م أرسل طارق بن زياد القائد مغيثًا الرومي ومعه سبعمائة رجل لفتح المدينة العظيمة وبعث مغيث الأدلاء كي يلقون من عنده خبر؛ فألقوا راعي غنم، فأتوا به إليه، وهو في الغيضة؛ فسأله عن قرطبة؛ فقال له: انتقل. عنها عظماء أهلها، ولم يبق فيها إلاَّ بطريقها في أربعمائة فارس من حماتهم مع ضعفاء أهلها.

ثم سأله عن حصانة سورها؛ فأخبره أنه حصين، إلا أن فيه ثغرة فوق باب الصورة، وهو باب القنطرة، ووصف لهم الثغرة.

فلما جنَّ الليل، تحرك مغيث بمن معه، وعبروا النهر، وقابلوا السور، وراموا التعلق به؛ فتعذر عليهم؛ فرجعوا إلى الراعي، وأتوا به معهم؛ فدلهم على الثغرة؛ فراموا التعلق بها؛ فصعب عليهم، حتى صعد رجل من المسلمين في دروتها، ونزع مغيثٌ عمامته، فناوله طرفها، وارتقوا بها حتى كثروا بالسور؛ ثم جاء مغيث إلى باب القنطرة، وهي يومئذ مهدومة، وأمر أصحابه بالحوم على أحراس السور، فكسروا الأقفال، ودخل مغيث بمن معه. البيان المغرب في أخبار الأندلس و المغرب - ابن عذاري

لقد نجحوا في مهمتهم بعد أن دخلوا من الأسوار وفتحوا الأبواب وأُسر أمير المدينة الذي حاول الفرار ولكنه لم ينجح في ذلك...

موقع قرطبة:

قال "الإصطخري" في "المسالك والممالك": وأما الغربي من المغرب فهو الأندلس، والأندلس بلدان عريضة كثيرة المدن خصبة واسعة، ومدينتها العظمى تسمى "قرطبة"، وهي من الأندلس في وسطها...

وقال "ابن سعد المغربي" في كتابه "الجغرافيا": وطول "قرطبة"، قاعدة الأندلس في مدة بني أمية، عشر درجات، وعرضها ثمان وثلاثون درجة ونصف. وهي على غربي النهر الكبير الذي عليه إشبيلية.... هـ

وقرطبة اليوم مدينة وعاصمة مقاطعة في جنوب اسبانيا تحمل اسمها وتقع على نهر يسمى (جواداالكبير ) أو نهر الوادي الكبير...

قالوا عن قرطبة:

قال "الحِميري" صاحب "الروض المعطار في خبر الأقطار":

قُرْطُبة: قاعدة الأندلس وأم مدائنها ومستقر خلافة الأمويين بها وآثارهم بها ظاهرة، وفضائل قرطبة ومناقب خلفائها أشهر من أن تذكر، وهم أعلام البلاد وأعيان الناس، اشتهروا بصحة المذهب وطيب المكسب وحسن الزي وعلو الهمة وجميل الأخلاق، وكان فيها أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وتجارها مياسير وأحوالهم واسعة، وهي في ذاتها مدن خمس يتلو بعضها بعضاً، وبين المدينة والمدينة سور حاجز، وفي كل مدينة ما يكفيها من الأسواق والفنادق والحمّامات وسائر الصناعات، وطولها من غربيها إلى شرقيها ثلاثة أميال، وعرضها من باب القنطرة إلى باب اليهود ميل واحد وهي في سفح جبل مطل عليها يسمى جبل العروس، ومدينتها الوسطى هي التي فيها باب القنطرة.

وقال عنها "ياقوت الحموي" في "معجم البلدان": مدينة عظيمة بالأندلس وسط بلادها وكانت سريراً لملكها وقصبتها وبها كانت ملوك بني أمية ومعدن الفضلاءِ ومنبع النبلاءِ من ذلك الصقع وبينها وبين البحر خمسة أيام. قال ابن حوقل التاجر الموصلي: وكان طَرَقَ تلك البلاد - في حدود سنة 350 هـ= 961 م - فقال: وأعظم مدينة بالأندلس قرطبة وليس لها في المغرب شبيه في كثرة الأهل وسعة الرقعة ويقال: إنها كأحد جانبي بغداد وإن لم تكن كذلك فهي قريبة منها وهي حصينة بسور من حجارة ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة والرصافة مساكن أعالي البلد متصلة بأسافله من ربضها وأبنيتها مشتبكة محيطة من شرقيها وشماليها وغربها وجنوبها فهو إلى واديها وعليه الرصيف المعروفُ بالأسواق والبيوع مساكن العامة بربضها وأهلها متمولون متخصصون وأكثر ركوبهم البغلات من خَوَرهم وجبنهم أجنادهم وعامتهم ويبلغ ثمن البغلة عندهم خمسمائة دينار وأما المائة والمائتان فكثير لحسن شكلها وألوانها وقدودها وعلوها وصحة قوائمها.

وقال "أبو الحسن بن بسام" رحمه الله في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة":

وحضرة قرطبة، منذ استفتحت الجزيرة، هي كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأم القرى، وقرارة أهل الفضل والتقى، ووطن أولي العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم، وقبة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمرة الخواطر، وبحر درر القرائح؛ ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر، وفرسان النظم والنثر؛ وبها انتشأت التأليفات الرائقة، وصنفت التصنيفات الفائقة؛ والسبب في ذلك، وتبريز القوم قديماً وحديثاً هنالك على من سواهم، أن أفقهم القرطبي لم يشتمل قط إلا على أهل البحث والطلب، لأنواع العلم والأدب. وبالجملة فأكثر أهل بلاد هذا الأفق أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها؛ فبقي النسل فيها بكل إقليم، على عرقٍ كريم، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر...

وقال عنها "ابن الوردي" في كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب":

ومن أقاليم الأندلس إقليم الكنانية ومن مدنه المشهورة قرطبة وهي قاعدة بلاد الأندلس ودار الخلافة الإسلامية، وهي مدينة عظيمة وأهلها أعيان البلاد، وسراة الناس في حسن المآكل والملابس والمراكب وعلو الهمة، وبها أعلام العلماء وسادات الفضلاء وأجلاء الغزاة وأمجاد الحروب...

من علماء قرطبة:

قال ياقوت الحموي" في "معجم البلدان": وينسب إليها - أي إلى قرطبة - جماعة وافرة من أهل العلم منهم أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمامٍ الأزدي القرطبي قرأ عليه كثير من شيوخنا وكان أديبا فاضلاً مقرئاً عارفاً بالنحو واللغة سمع كثيراً من كتب الأدب وورد الموصل فأقام بها يفيد أهلها ويقرؤون عليه فنون العلم إلى أن مات بها في سنة 567 هـ= 1172 م، وممن ينسب إليها أحمد بن محمد بن عبد البر أبو عبد الملك من موالي بني أمية سمع محمد بن أحمد بن الزرَّاد وابن لُبابة وأسلم بن عبد العزيز وغيرهم وله كتاب مؤلف في الفقهاءِ بقرطبه ومات في السجن لليلتين بقيتا من رمضان سنة 338 هـ= 950 م قال ابن الفرَضي: وأحمد بن محمد بن موسى بن بشير بن حَناذ بن لقيط الرازي الكناني من أنفسهم من أهل قرطبة يكنى أبا بكر وفد أبوه على الإمام محمد وكان أبوه من أهل اللسانة والخطابة وولد أحمد بالأندلس وسمع من أحمد بن خالد وقاسم بن أصبغ وغيرهما وكان كثير الرواية حافظاً للأخبار وله مؤلفات كثيرة في أخبار الأندلس وتواريخ دُول الملوك منها توفي لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة 344هـ= 955 م ومولده في عاشر ذي الحجة سنة 274 هـ= 25 - أبريل - 888 م قاله ابن الفَرَضي، وحباب بن عُبَادة الفَرَضي أبو غالب القرطبي له تآليف في الفرائض، وحسن بن الوليد بن نصر أبو بكر يعرف بابن الوليد وكان فقيهاً عالماً بالمسائل نحويا خرج إلى الشرق في سنة 362، وخالد بن سعد القرطبي أحد أئمة الأندلس كان المستنصر يقول إذا فاخرَنا أهل المشرق بيحيى بن مروان أتيناهم بخالد بن سعد وصنف كتاباً في رجال الأندلس ومات فجأة سنة 352 عن ابن الفرضي وقد نيف على الستين، وخلف بن القاسم بن سهل بن محمد بن يونس بن الأسود أبو القاسم المعروف بابن الدَباغ الأزدي القرطبي ذكره الحافظ في تاريخ دمشق وقد سمع بدمشق أبا الميمون بن راشد وأبا القاسم بن أبي العَقب وبمكة أبا بكر أحمد بن محمد بن سهل بن رزق الله المعروف ببكَير الحداد وأبا بكر بن أبي الموت وبمصر عبد الله بن محمد المفسر الدمشقي والحسن بن رشيق روى عنه أبو عمر يوسف بن حمد بن عبد البر الحافظ وأبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الفرضي وأبوعمرو الدانىِ كان حافظاً للحديث عالماً بطرقه ألَّف كُتباً حسانا في الزهد ومولده سنة 325 ومات سنة 393 في ربيع الآخر....

بعض مدن قرطبة:

قَنبَان: قرية من قرى قرطبة بالأندلس. ينسب إليها أبو عبد الله محمد بن عبد البر القنباني المعروف بالكشكيناني كان من الثقات في الرواية والمجودين في الفتاوى وله حظوة عند الحكم المستنصر أحد خلفاء بني أمية بالأندلس ودخل المشرق، وكتب عنه عبد الرحمن بن عمر بن النحاس عن عبد الله بن يحيى الليثي... معجم البلدان - ياقوت الحموي

الزهراء:

مدينة في غربي قرطبة بناها الناصر عبد الرحمن بن محمد، كذا قالوا، ولا أدري أهي الزاهرة المتقدمة الذكر، أو غيرها وبينها وبين قرطبة خمسة أميال.

وكانت قائمة الذات بأسوارها ورسوم قصورها، وكان فيها قوم سكان بأهاليهم وذراريهم، وكانت في ذاتها عظيمة، وهي مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى على الحد الأوسط، وسطح الثلث الأوسط على الثلث الأسفل، وكل ثلث منها له سور، فكان الحد الأعلى منها قصوراً يعجز الواصفون عن وصفها، والحد الأوسط بساتين وروضات، والحد الأسفل فيه الديار والجامع... الروض المعطار في خبر الأقطار

مسجد قرطبة:



قال صاحب الروض المعطار في وصف هذا المسجد العظيم: وبها الجامع المشهور أمره الشائع ذكره من أجل مساجد الدنيا كبرَ مساحة وإحكامَ صنعة وجمالَ هيئة وإتقان بنية تهمم به الخلفاء المروانيون فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميماً إثر تتميم، حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف ويعجز عن حسنه الوصف وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقاً وطولاً وعرضاً، طوله مائة باع وثمانون باعاً ونصفه مسقف، ونصفه صحن بلا سقف، وعدد قسي مسقَّفه أربع عشرة قوساً، وسواري مسقفه بين أعمدته وسواري قببه صغاراً وكباراً مع سواري القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثريا للوقيد أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلها تحمل اثني عشر مصباحاً، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي، ارتفاع الجائزة منه شبر في عرض شبر إلا ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبراً وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يشبه بعضها بعضاً، قد أحكم ترتيبها وأبدع تلوينها بأنواع الحمرة والبياض والزرقة والخضرة والتكحيل، فهي تروق العيون وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها وسعة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبراً وبين العمود والعمود خمسة عشر شبراً ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.

ولهذا الجامع قبلة يعجز الواصفون عن وصفها وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها،، وفيها من الفسيفساء المذهب والبلور مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله، وعلى وجه المحراب سبع قسيّ قائمة على عمد طول كل قوس أشف من قامة، وكل هذه القسي مزججة صنعة القوط، قد أعجزت المسلمين والروم بغريب أعمالها ودقيق وضعها، وعلى أعلى الكل كتابان منحوتان بين بحرين من الفسيفساء المذهب في أرض الزجاج اللازوردي، وعلى وجه المحراب أنواع كثيرة من التزيين والنقوش، وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران واثنان زرزوريان لا تقوم بمال، وعلى رأس المحراب خَصّة رخام قطعة واحدة مسبوكة منمقة بأبدع التنميق من الذهب واللازورد وسائر الألوان واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريبة، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعة، خشبه أبنوس وبقس وعود المجمر، يقال إنه صنع في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير من يخدمهم تصرفاً، وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطسوت ذهب وفضة وحسك، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي خطه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويخرج هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولى إخراجه قوم من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسي يوضع عليه، فيتولى الإمام قراءة نصف حزب فيه، ثم يرفع إلى موضعه.



وعن يمين المحراب والمنبر باب يفضي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط متصل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر وأربعة تنغلق من جهة الجامع. ولهذا الجامع عشرون باباً مصفحة بصفائح النحاس وكواكب النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصّ المتخذ من الآجر الأحمر المحكوك، أنواع شتى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.

وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي، منها ثمانون ذراعاً إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعاً، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلا إذا وصلا الأعلى. ووجه هذه الصومعة مبطن بالكذّان منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.

وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صفان من قسيّ دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مؤذنان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهباً واثنتان من فضة وأوراق سوسنية، تسع الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستون رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم فهذا ما حكاه محمد بن محمد بن إدريس.... هـ

ووصف "ابن الوردي" هذا المسجد في كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" فقال:



وبها - أي بقرطبة - الجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله، طوله ذراع في عرض ثمانين ذراعاً وفيه من السواري الكبار ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثريا للوقود، أكبرها يحمل ألف مصباح، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه، وبقبلته صناعات تدهش العقول، وعلى فرجة المحراب سبع قسي قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة، تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها. وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة، اثنان أخضران واثنان لازورديان، ليس لها قيمة. وبه منبر ليس على معمور الأرض مثله في حسن صنعته، وخشبه ساج وأبنوس وبقس وعود قاقلي. ويذكر في كتب تواريخ بني أمية أنه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه ثمانية صناع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي، وكان جملة ما صرف على المنبر أجرة لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسي مثقال. وفي الجامع حاصل كبير ملآن من آنية الذهب والفضة لأجل وقوده. وبهذا الجامع مصحف فيه أربع ورقات من مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخطه، أي بخط يده، وفيهن نقط من دمه. وله عشرون باباً مصفحات بالنحاس الأندلسي، مخرمات تخريماً يعجز البشر، وفي كل باب حلق، في نهاية الصنعة والحكمة. وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مائة ذراع بالملكي المعروف بالرشاشي، وفيها من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته. وبهذا الجامع ثلاثة أعمدة حمر مكتوب على أحدها اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح. والجميع خلقة ربانية.

وصف مسجد قرطبة في الوقت الحالي:



المسجد مستطيل الشكل يمتاز بصحنه الفسيح، ويضمّ العديد من الأروقة يعتبر الرواق الأوسط المؤدي إلى المحراب أوسعها، ويمتاز المسجد بمحرابه البديع الصنع حيث توجد فوقه سبعة أقواس قائمة على أعمدة، ويوجد فيه منبر نفيس مصنوع من خشب الساج النفيس وتعتبر منارة الجامع ( المسماة بمنارة عبد الرحمن الناصر ) من المنائر البديعة التي تحتوي على سلمين ولها (107درجات) وفي أعلاها ثلاث مظلات اثنتان من الذهب والثالثة من الفضة فوقها سوسنة من الذهب يوجد فوقها رمانة ذهبية صغيرة وقد حوّل الأسبـان هذه المنارة إلى برج للأجراس الكاتدرائية، ويبلغ طول باب المنارة النحاسي (8م) وارتفاعه (20م) وواجهة البناء من الرخام المنقوش بنقوش عربية بديعة. وفي الزاوية الجنوبية للمسجد توجد منارة أخرى مربعة الشكل طول ضلعها (12م) وارتفاعها (93م) وهي مكونة من خمسة طوابق في كلّ طابق عدد من الأجراس. وفي (19) باباً مصنوعاً من صفائح النحاس القوي وتقوم قبته على (365) عموداً من المرمر، وعدد قناديلـه نـحو (4700 قنديل وكان للجامع 1293 عموداً من الرخام بقي فيها (1093) عموداً...



ومما يحزن القلب ويدمع العين أن هذا المسجد العظيم المهيب قد تحوّل عقب سقوط الأندلس إلى كاتدرائية وأصبح تابعًا للكنيسة مع احتفاظه باسمه وهو من أشهر المواقع التاريخية في العالم كله وتستطيع دخوله مقابل دفع 6 يورو...

قنطرة قرطبة:





وصفها "ابن الوردي" في كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" فقال:

وبمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسناً وإتقاناً، وعدد قسيها سبعة عشر قوساً، كل قوس منها خمسون شبراً وبين كل قوسين خمسون شبراً...

وقال "الإدريسي" في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق "

ولقرطبة القنطرة التي علت القناطر فخراً في بنائها وإتقانها وعدد قسيها سبع عشرة قوساً بين القوس والقوس خمسون شبراً وسعة القوس مثل ذلك خمسون شبراً وسعة ظهرها المعبور عليه ثلاثون شبراً ولها ستائر من كل جهة تستر القامة وارتفاع القنطرة من موضع المشي إلى وجه الماء في أيام جفوف الماء وقلته ثلاثون ذراعاً وإذا كان السيل بلغ الماء منها إلى نحو حلوقها وتحت القنطرة يعترض الوادي رصيف سد مصنوع من الأحجار القبطية والعمد الخاشنة من الرخام وعلى هذا السد ثلاث بيوت أرحاء في كل بيت منها أربع مطاحن...

جامعة قرطبة:

كان مسجد قرطبة هو أكبر جامعة إسلامية، وفيه كانت تلقي الدروس في مختلف العلوم، حتى تحوّل إلى أكبر مركز علمي في أوروبا، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوروبية، على مدى قرون، حتى سقوط مدينة "قرطبة" على يد فرناندو الثالث ملك قشتاله عام 633هـ=1236م، فتحول المسجد إلى كاتدرائية وأصبح تابعًا للكنيسة، ولا يزال الأسبان يطلقون عليه اسم (مثكيتا) Mezquita أي مسجد، وهو اليوم أبرز موقع تاريخي يميّز مدينة قرطبة...

وقد عَهِدَ الحكم بن عبد الرحمن الناصر أحد خلفاء الدولة الأموية بالأندلس إلى أخيه المنذر بالإشراف على جامعة قرطبة...

التعليم والمكتبات في قرطبة:

امتاز عصر الحكم بن عبد الرحمن الناصر أحد خلفاء الدولة الأموية بالأندلس بازدهار العلوم والآداب وخاصة في قرطبة بصورة كبيرة، فقد كان أكثر خلفاء بني أمية حبًّا للكتب، وكان يبعث الرجال بالأموال الطائلة لاستجلاب نفائس الكتب إلى الأندلس، وأنشأ مكتبة قرطبة التي وصلت محتوياتها إلى أربعمائة ألف مجلد...

وقد شهد التعليم في عهد الحكم نهضة عظيمة، فانتشرت بين أفراد الشعب معرفة القراءة والكتابة، بينما كان لا يعرفها أرفع الناس في أوربا باستثناء رجال الدين، وقد بَنَى الحكم مدرسة لتعليم الفقراء مجانًا، كما أسّس جامعة قرطبة أشهر جامعات العالم آنئذٍ، وكان مركزها المسجد الجامع، وتدّرس في حلقاتها كل العلوم ويختار لها أعظم الأساتذة.

وقد احتلّت حلقات الدرس أكثر من نصف المسجد، وتم تحديد مرتبات للشيوخ ليتفرّغوا للدرس والتأليف، كما خصصت أموال للطلاب ومكافآت ومعونات للمحتاجين، ووصل الأمر بنفر من الأساتذة إلى ما يشبه منصب الأستاذية اليوم في مجالات علوم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والنحو وغير ذلك من العلوم، وقد عهد الحكم بمهمة الإشراف على المكتبة الأموية إلى أخيه عبد العزيز...

أسواق قرطبة:

كانت قرطبة تتميّز بأسواقها الممتلئة بكافة السلع وكان لكل مدينة سوقًا خاصأ بها كما يذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم البلدان والإدريسي في نزهة المشتاق وغيرهما...

سكان قرطبة:

تميّز سكان قرطبة خاصة بأنهم أشراف الناس وعلمائهم وأرفعهم مكانةً قال أبو الحسن بن بسّام: وبالجملة فأكثر أهل بلاد هذا الأفق يعني قرطبة خاصة والأندلس عامة أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها؛ فبقي النسل فيها بكل إقليم، على عرقٍ كريم، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر، وشاعر قاهر...

ووصفهم ابن الوردي في خريدة العجائب وفريدة الغرائب بقوله: وأهلها أعيان البلاد، وسراة الناس في حسن المآكل والملابس والمراكب وعلو الهمة، وبها أعلام العلماء وسادات الفضلاء وأجلاء الغزاة وأمجاد الحروب....

وقال "الإدريسي" في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق": ولم تخل قرطبة قط من أعلام العلماء وسادات الفضلاء وتجارها مياسير لهم أموال كثيرة وأحوال واسعة ولهم مراكب سنية وهمم علية...

ويبلغ عدد سكان قرطبة حاليًا حوالي 310،000 نسمة.

جهاد الحكم بن الناصر وتوسعاته

وسط هذه الأجواء العلمية، وهذا الاهتمام الكبير من قِبَل عاشق الكتب بالعلم والتعليم، ظنت ممالك أوروبا الشمالية وممالك الأندلس النصرانية الشمالية أن الحكم بن عبد الرحمن الناصر يهتمّ بالعلم على حساب الجهاد، وعلى خلاف عهدهم الذي كانوا قد أبرموه مع أبيه عبد الرحمن الناصر قاموا بمهاجمة مناطق الشمال، فما كان من الحكم إلا أن ردّ كيدهم في نحورهم، وهاجمهم بغزوات كغزوات أبيه، وانتصر عليهم رحمه الله في مواقع عدّة، حتى رضوا بالجزية من جديد عن يدٍ وهم صاغرون.

ومن منطلق إسلامي بَحْت بدأ عبد الرحمن الناصر رحمه الله في حرب الدولة الفاطمية في بلاد المغرب، كان الأندلسيون لا يملكون سوى مينائي "سبتة وطنجة" في عهد عبد الرحمن الناصر، وفي عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر انضمت كل بلاد المغرب إلى الأندلس تحت حكم الخلافة الأمويّة.

ظلّ الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله يحكم من سنة 350 هـ= 961 م، وحتى سنة 366 هـ= 976 م، في فترة هي أقوى فترات الأندلس على الإطلاق وأعظم عهودها.

<
عبد الرحمن الناصر: بداية حياته وتوجهه نحو الإصلاح

إن دراسة كافة جوانب حياة عبد الرحمن الناصر لتحتاج إلى دراسة جادّة متأنّية، وعناية خاصّة تفوق هذه الأسطر، إلا أن هناك بعض الإشارات العامة رأينا أن نقف أمامها بعض الشيء، فهو رحمه الله حين تولّى الحكم كان يبلغ من العمر اثنتين وعشرين سنة هجرية، أي إحدى وعشرين سنة ميلادية، وبلغة أخرى فهو طالب بالفرقة الثالثة أو الرابعة بالجامعة، هذه واحدة.

أما الثانية فإنه يخطئ من يظن أن تاريخ عبد الرحمن الناصر رحمه الله يبدأ منذ هذا السن أو منذ ولايته هذه على البلاد، فقد رُبّي عبد الرحمن الناصر منذ نعومة أظافره تربية قلما تتكرر في التاريخ.

لم يكد يرى عبد الرحمن الناصر نور الدنيا حتى قتل أبوه وهو بعد لم يبلغ من العمر إلا ثلاثة أسابيع فقط، ومن ثم قام على تربيته جدّه الأمير عبد الله بن محمد، فربّاه رحمه الله ليقوم بما لم يستطع هو القيام به، رباه على سعة العلم وقوة القيادة وحب الجهاد وحسن الإدارة، ربّاه على التقوى والورع، ربّاه على الصبر والحلم، على العزة والكرامة، ربّاه على العدل مع القريب والبعيد، ربّاه على الانتصار للمظلوم، ربّاه ليكون عبد الرحمن الناصر.

وهي رسالة إلى كل آباء المسلمين وأولي الأمر منهم: إن لم نكن نحن عبد الرحمن الناصر فليكن أبناؤنا عبد الرحمن الناصر، وإذا كان كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه فما بال تربية أبنائنا اليوم؟! هل نأمرهم بالصلاة عند سبع ونضربهم عليها عند عشر؟! هل نُحفّظ أبناءَنا القرآن، أم ندعهم يتعلمون فقط اللغات ويحفظون الأغاني وينشغلون بالكرتون؟! وتُرى ما هي قدوة أولادنا وبمن يتمثلون ويريدون أن يكونوا مثلهم؟! أعباء ضخمة ولكن: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.

والثالثة أنّ عبد الرحمن الناصر رحمه الله حين تولّى الحكم كان على ثقةٍ شديدةٍ بالله سبحانه وتعالى وفي ذات الوقت ثقةٍ شديدةٍ بنفسه وأنه قادر على أن يغيّر، فهو يعي قول الله تعالى: [إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ]{آل عمران:160}. فلم يدخل قلبه يومًا شكّ أو يأسٌ أو إحباطٌ من صعوبة التغيير أو استحالته، أو أنّه لا أمل في الإصلاح... فقام وهو ابن اثنين وعشرين عامًا وحمل على عاتقه مهمّة ناءت بها السموات والأرض والجبال، مهمّة هي من أثقل المهام في تاريخ الإسلام.

عبد الرحمن الناصر وتغيير التاريخ

يتولى عبد الرحمن الناصر الحكم ويقوم بأمر الإمارة، فإذا به - وسبحان الله - يحيل الضعف إلى قوة، والذل إلى عزة، والفُرقة إلى وحدة، ويبدد الظلام بنور ساطع يشرق في كل سماء الأندلس تحت مجدٍ وسيادةٍ وسلطان.

بعد تولي عبد الرحمن الناصر الحكم وبهذه المؤهلات السابقة، وبهذه التربية الشاملة لكل مقوّمات الشخصية الإسلامية السوّية، وبهذه الثقة الشديدة بالله وبنفسه، أقدم على تغيير التاريخ، فقام بما يلي:

أولا: إعادة توزيع المهام والمناصب، أو ما يمكن تسميته "تنظيف قرطبة":

حين تولّى الحكم لم يكن عبد الرحمن الناصر يملك من بلاد الأندلس سوى قرطبة وما حولها من القرى، ورغم أنها تعدّ أكبر بلاد الأندلس وتمثّل مركز ثقل كبير لكونها العاصمة، إلا أنها لم تكن لتمثّل أكثر من عشر مساحة الأندلس، بدأ عبد الرحمن الناصر من هذه المساحة الصغيرة يغيّر من التاريخ.

قام بتطهير المراكز المرموقة في قرطبة، من وزراء وقوّاد للجيش وغيرهم من رموز الفساد التي استولت عليها، واستبدلهم بمن يتصفون بالتقوى والورع ونظافة اليد وسعة العلم، وهكذا في كل المراكز القيادية في قرطبة.

ثم أعلى من شأن العلماء، ورفع منزلتهم فوق منزلته نفسه، ورضخ لأوامرهم ونواهيهم، فطبّق ذلك على نفسه أولًا قبل أن يطبّقه على شعبه، ثم طبّق الشرع الإسلامي بكامله، ولم يتنازل ولو عن نقطة واحدة من أحكام الشرع الكريم، سواء أكان ذلك في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قدوةً في كل أفعاله وأعماله.

ورد أنه رحمه الله كان يحضر خطبة الجمعة، وكان يخطبها المنذر بن سعيد من أكبر علماء قرطبة وكان شديدًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى على عبد الرحمن الناصر رحمه الله الخليفة والأمير، وكان عبد الرحمن الناصر قد بنى لنفسه قصرًا كبيرًا، فأسرف المنذر في الكلام وأسرع في التقريع لعبد الرحمن الناصر لبنائه ذلك القصر.

وحين عاد عبد الرحمن الناصر إلى بيته قال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري، فأسرف عليّ، وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي؛ فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني. وهنا أشار عليه رجل ممن كانوا حوله بعزله عن خطبة الجمعة، فردّ عليه عبد الرحمن الناصر قائلا: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يعزل؟! يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير قصد؟! هذا والله لا يكون، وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه سبحانه وتعالى في صلاة الجمعة شفيع مثل منذر في ورعه وصدقه، وما عزله حتى مات.

وعلى مثل هذه المبادئ وهذه المعاني بدأ عبد الرحمن الناصر رحمه الله يربّي أهل قرطبة، وكان في انصياعه هو أفضل قدوة للناس جميعًا.

ثانيًا: الاتّجاه إلى الثورات ومحاولة ترويضها

بعد الانتهاء من الشأن الداخلي في قرطبة وتهيئته تمامًا بدأ عبد الرحمن الناصر رحمه الله يتجه إلى المحيط الخارجي، حيث الثورات المتعددة في كل أرض الأندلس، هداه تفكيره إلى أن يبدأ بعمر أو صمويل بن حفصون (240 - 306 هـ= 855 - 919 م )؛ وذلك لسببين:

الأول: أن هذا الرجل لا يختلف اثنان على أنه يستحق القتل؛ وذلك لأنه ارتدّ عن دين الله سبحانه وتعالى ومن ثَمّ فقد أصبح قتاله فرضًا على المسلمين. والسبب الثاني: أنه يستطيع بذلك أن يحفّزَ أهل قرطبة الذين كانوا قد ألفوا الثورات في هذه الآونة؛ حيث المعركة في منتهى الوضوح هي بين المسلمين والمرتدين.

في الطريق للقضاء على ثورة صمويل بن حفصون

بعد نحو شهرين فقط من توليه الحكم قاد عبد الرحمن الناصر أول حملة له لقتال المرتدين استردّ فيها مدينة أَسْتُجّه، وكانت من أحصن مدن الأندلس- كما علمنا عند بداية الفتوحات- ثم بعد ذلك بنحو شهرين أو ثلاثة أشهر قاد بنفسه حملة كبيرة على صمويل بن حفصون استمرّ مداها طيلة ثلاثة أشهر كاملة، هي شعبان ورمضان وشوال من سنة 300 هـ= 913 م من نفس العام الذي تولّى فيه رحمه الله فاسترد جَيّان، وهي أيضًا من المدن الحصينة في الأندلس، ويكفي لمعرفة هذا أنه استردّ فيها سبعين حصنًا من حصون صمويل بن حفصون.

ما زالت قوة صمويل بن حفصون كبيرة جدًا؛ فالمدد يأتيه من الشمال من دول النصارى، ويأتيه أيضًا من الجنوب من الدولة الفاطمية، هذا فضلًا عن إمدادات مدينة إشبيلية والتي كان عليها حاكم مسلم من أولاد ابن حجاج، لكنه كان متمردًا على سلطة قرطبة، وكان يملك جيشًا مسلمًا كبيرًا.

فكّر عبد الرحمن الناصر كثيًرا في كيفية قطع هذه الإمدادات على صمويل بن حفصون، اهتدى أخيرًا في أن يبدأ بالهجوم على مدينة إشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قرطبة؛ وذلك بمنطق النزعة الإسلامية التي غلبت عليه، حيث أمّل إن هو ذهب إلى إشبيلية واستطاع أن يُرغم حاكمها على الانضمام له أو الانصياع إليه بالقوة أن ينضم إليه جيش إشبيلية المسلم الكبير، وبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية، وتقوى شوكته.

وبالفعل وبعون من الله كان له ما أمّل، حيث ذهب إلى إشبيلية بعد أقل من عام واحد من ولايته في سنة 301 هـ= 914 م، واستطاع أن يضمّها إليه؛ فقويت بذلك شوكته وعظم جانبه، فعاد إلى صمويل بن حفصون بعد أن قطع عنه المدد الغربي الذي كان يأتيه من إشبيلية، واستردّ منه جبال رندة ثم شذونة ثم قرمونة، وهي جميعًا من مدن الجنوب.

تعمّق عبد الرحمن الناصر بعد ذلك ناحية الجنوب حتى وصل إلى مضيق جبل طارق فاستولى عليه، ويكون بذلك أيضا قد قطع الإمدادات والمساعدات التي كانت تأتيه من الجنوب من الدولة الفاطمية عن طريق مضيق جبل طارق، وسعى عبد الرحمن الناصر إلى أكثر من هذا حيث قطع أيضا طريق الإمدادات التي كانت تأتيه من الدول النصرانية في الشمال عن طريق المحيط الأطلسي، ثم مضيق جبل طارق، ثم البحر الأبيض المتوسط حتى تصله، وبذلك يكون عبد الرحمن الناصر قد قطع عن صمويل بن حفصون كل طرق الإمدادات والمساعدات التي كانت تمدّه وتقوّيه.

لم يجد صمويل بن حفصون بدًا من طلب الصلح والمعاهدة من عبد الرحمن الناصر على أن يعطيه اثنين وستين ومائة حصنًا من حصونه، ولأن البلاد كانت تشهد موجة من الثورات والانقسامات يريد عبد الرحمن الناصر أن يتفرغ لها، فضلًا عن أنه سيضمن في يده اثنين وستين ومائة حصنًا وسيأمن جانبه فقد قبل المعاهدة ووافق على الصلح من صمويل بن حفصون.

عبد الرحمن الناصر يفاجأ الجميع ويتجه نحو الشمال الغربي

أصبحت قوة عبد الرحمن الناصر رحمه الله تضم قرطبة وإشبيلية وجيان وأستجّة، وهي جميعًا من مدن الجنوب، بالإضافة إلى حصون أخرى كثيرة - كما ذكرنا - وكل هذه المساحة كانت تمثّل تقريبا سدس مساحة الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت، هذه واحدة.

الأمر الثاني أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصونًا كثيرة ويسيطر سيطرة كاملة على الجنوب الشرقي من البلاد، لكن قطعت عنه الإمدادات الخارجية سواء من النصارى أو الدولة الفاطمية أو إشبيلية.

والأمر الثالث أنه كان هناك تمرّد في طليطلة (تقع في شمال قرطبة)، ورابعًا: تمرّد في سرقسطة في الشمال الشرقي، وخامسًا: تمرّد في شرق الأندلس في بلنسية، وسادسًا: تمرّد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجليقي.

أي أن الأندلس في عام 302 هـ= 915 م كانت مقسمة إلى ستة أقسام، قسم واحد فقط في يد عبد الرحمن الناصر، ويضم قرطبة وإشبيلية وما حولها بما يقارب سدس مساحة الأندلس كما ذكرنا، والخمسة الأخرى موزعة على خمس متمردين، والمتوقع - إذن - هو أن يحاول عبد الرحمن الناصر من جديد مقاومة إحدى مراكز التمرّد هذه إن لم تكن الأقرب إليه.

وإن المرء ليقف متعجبًا حين يعلم أن عبد الرحمن الناصر ترك كل هذه التمرّدات، واتّجه صوب الشمال الغربي صوب مملكة ليون النصرانية مباشرة. ترك عبد الرحمن الناصر كل شيء وأخذ جنده من قرطبة وإشبيلية وصعد في اتجاه الشمال الغربي ليقابل قوات النصارى هناك، والتي كانت تهاجم منطقة من مناطق المتمردين غرب الأندلس.

ظل عبد الرحمن الناصر في حرب مع قوات النصارى تلك في أرض المتمردين عامين كاملين، عاد بعدها منتصرا محملًا بالغنائم، تاركًا البلاد راجعًا إلى قرطبة وإشبيلية، وكأنه أراد أن يعلم الناس أمرًا ويرسل إليهم برسالة في منتهى الوضوح كانت قد خفيت عليهم، مفادها أن الأعداء الحقيقيين ليسو المسلمين في الداخل، إنما هم النصارى في الشمال، إنما هم في مملكة ليون، ومملكة نافار، ومملكة أراجون.

بهذا العمل استطاع عبد الرحمن الناصر رحمه الله إحراج المتمردين إحراجًا كبيرًا أمام شعوبهم، كما استطاع أن يحرك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه، وكذلك تتحرك عواطف الشعوب نحو من يدافع عن قضاياها الخارجية، ونحو من يحارب أعداءها الحقيقيين.

وهي نصيحة إلى أولياء أمور المسلمين بألا يتهاونوا بعواطف الشعوب، وأن يقدّروها حق قدرها، وأن يستميلوها بالتوجه نحو الأعداء الحقيقيين بدلًا من الصراع مع الجار أو القطر المسلم، فإذا كانت القضية هي فلسطين، أو هي الشيشان، أو هي كشمير، أو هي غيرها من قضايا المسلمين كان التوحّد والتجمّع، وكان الانسجام وعدم الفُرقة.

نتائج توجه عبد الرحمن الناصر نحو الشمال الغربي

فقِه الدرس ووعاه جيدًا عبد الرحمن الناصر، وبعد عامين من مهاجمة النصارى في الشمال في واحدة هي من أكبر الحملات التي قادها رحمه الله والتي انتهت في سنة 304 هـ= 917 م عاد بجيشه القليل نسبيًا محملًا بالغنائم، وذلك بعد انتصارات عديدة على النصارى هناك.

كانت نتائج أخرى ليست أقل من سابقتها في انتظاره رحمه الله كانت أولاه أن أذعنت سرقسطة وانضمت إليه دون قتال، وكانت الثانية بمثابة هدية من رب العالمين لمن التزم دينه وجاهد في سبيله وثبت عليه، وهي موت صمويل بن حفصون مرتدًا وعلى نصرانيته في سنة 306 هـ= 919 م عن عمر يناهز ست وستين سنة.

وفي سرعة يحسد عليها قام عبد الرحمن الناصر مستغلًا هذا الحدث، وضمّ إليه كل مناطق الجنوب الشرقي، وفي خطوة تالية استتاب النصارى الذين كانوا قد ارتدوا مع صمويل من الإسلام إلى النصرانية ثلاثة أيام، فمن تاب منهم وعاد إلى الإسلام قبله في جيشه، ومن أبى إلا أن يظل نصرانيا قتله ردة، وكان من هذا الصنف الأخير ابنة صمويل بن حفصون، وقد كانت تحفّز الناس على ألا يتركوا دين الآباء ودين النصرانية.

عبد الرحمن الناصر والطريق إلى راية واحدة للأندلس

لم يلتقط عبد الرحمن الناصر رحمه الله أنفاسه، وقام في سنة 308 هـ= 921 م بالتحرك نحو واحدة من مراكز التمرد وهي طُلَيْطِلَة، تلك التي لم تستطع أن تقف أمام هذه القوة الجارفة فضمها إليه في سهولة، بعدها أصبح الطريق آمنًا نحو الشمال مباشرة؛ حيث سُرْقُسْطَة في الشمال الشرقي، وطُلَيْطِلَة في وسط الشمال قد أصبحتا في يده.

وفي نفس العام 308 هـ= 921 م وعمره آنذاك ثلاثون سنة فقط، قام عبد الرحمن الناصر على رأس حملة ضخمة جدا باتجاه نصارى الشمال، فكانت غزوة موبش الكبرى بين عبد الرحمن الناصر من جهة، وجيوش ليون ونافار مجتمعة من جهة أخرى، واستمرّت هذه الغزوة طيلة ثلاثة أشهر كاملة، حقق فيها عبد الرحمن الناصر انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة، وضمّ إليه مدينة سالم وكانت تحت يد النصارى.

بعد أربعة أعوام من غزوة موبش وفي سنة 312 هـ= 924 م قاد عبد الرحمن الناصر بنفسه رحمه الله بحملة ضخمة أخرى على مملكة نافار، واستطاع في أيام معدوداتٍ أن يكتسحها اكتساحًا، ويضم إلى أملاك المسلمين مدينة بمبلونة عاصمة نافار، ثم بدأ بعدها يحرر الأراضي التي كان قد استولى عليها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأموية.

وفي سنة 316 هـ= 928 م يقود عبد الرحمن الناصر حملة أخرى على شرق الأندلس ويقمع التمرد الذي كان هناك ويضمها إلى أملاكه، ثم في نفس العام حملة أخرى على غرب الأندلس وهزيمة لعبد الرحمن الجليقي ومن ثم يضم غرب الأندلس إلى أملاكه من جديد.

وبذلك وبعد ستة عشر عامًا من الكفاح المضني، يكون رحمه الله قد وحّد الأندلس كله تحت راية واحدة، وحّدها جميعا ولم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية وثلاثين عامًا بعد، رحمه الله رحمة واسعة.

عبد الرحمن الناصر.. الإنسان

من يقرأ أو يسمع عن مثل ما سبق يجول في خاطره أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلا طريقًا واحدًا، هو طريق العظمة والجدية التامّة، طريق العزّة وعدم الخنوع، وهذا وغن كان صحيحًا إلا أن من ينظر إلى شخص عبد الرحمن الناصر رحمه الله والذي ظلّ يحكم البلاد من سنة 300 هـ= 913 م إلى سنة 350 هـ= 961 م (نصف قرن كامل) ليرى العجب العجاب، فقد كان رحمه الله مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائم الذكر لربه سبحانه وتعالى سريع الرجوع إليه.

فقد حدث ذات مرة قحط شديد في الأندلس، وقام الناس للاستسقاء، ولكنهم نظروا فلم يجدوا الخليفة معهم، فذهبوا يبحثون عنه، وكان يقوم بالصلاة المنذر بن سعيد رحمه الله فأرسل غلامًا للبحث عن عبد الرحمن الناصر، فذهب الغلام إلى القصر فوجده منفردًا بنفسه حائرًا، لابسًا أخشن الثياب، جالسًا على التراب، ودموعه قد بللت لحيته، يعترف بذنوبه ويقول: يا رب، هذه ناصيتي بيدك، أتُراك تعذّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! يا رب، لن يفوتك شيء مني، فتركه الغلام وذهب إلى المنذر بن سعيد وأبلغه بما رأى، فقال المنذر: يا غلام، أبشر، احمل المطر معك؛ فقد أذن الله سبحانه وتعالى بالسقيا، فإذا خشع جبّار الأرض (يقصد من يملك الناس) فقد رحم جبّار السماء.

وكان يقول الشعر أيضًا، ومن شعره:

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها من بعدهـم فبألسـن البنيـان

إن البنـاء إذا تعاظـم شأنه أضحى يدل على عظـيم الشان

وكان حكيما ذا فطنة وذكاء في تصرفاته، حتى أن الأمراء الأسبان بعد استقرار ملكه، كانوا يحتكمون إليه في خلافاتهم الداخلية.

ومن سياساته الحسنة أنه رفع إليه أن تاجراً زعم أنه ضاعت له صرة فيها مائة دينار وأنه نادى عليها وجعل لمن يأتيه بها عشرة دنانير فجاءه بها رجل عليه سمة خير وذكر أنه وجدها فلما حصلت في يد التاجر ادعى أنها كانت مائة وعشرة وإن العشرة التي نقصت منها أخذها وغرضه أن لا يعطيه ما شرط له. فوقع الناصر: صدق الرجلان فناد على مال التاجر فإنه مائة وعشرة واترك المائة مع الذي أخذها إلى أن يجيء صاحبه.

عهد جديد.. عهد الخلافة الأموية

نظر عبد الرحمن الناصر رحمه الله إلى العالم الإسلامي من حوله فوجد الخلافة العباسية قد ضعفت، وكان قد قُتل المقتدر بالله الخليفة العباسي في ذلك الوقت على يد مؤنس المظفر التركي، وقد تولى الأتراك حكم البلاد فِعْليا وإن كانوا قد أجلسوا الخليفة العباسي القادر بالله على كرسي الحكم.

ثم نظر رحمه الله إلى الجنوب فوجد الفاطميين قد أعلنوا الخلافة وسمّوا أنفسهم أمراء المؤمنين، فرأى أنه وقد وحّد الأندلس وصنع هذه القوة العظيمة أحق بهذه التسمية وبذلك الأمر منهم فأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين، وسمى الإمارة الأمويّة بالخلافة الأموية.

ومن هنا يبدأ عهد جديد في الأندلس هو عهد الخلافة الأموية، وذلك ابتداء من سنة 316 هـ= 928 م وحتى سنة 400 هـ= 1010 م أي نحو أربع وثمانين سنة متصلة، وهو يعد (عهد الخلافة الأموية) استكمالا لعهد الإمارة الأموية، مع فروق في شكليات الحكم وقوة السيطرة والسلطان لصالح الأخير.

عبد الرحمن الناصر يتابع سياسته العسكرية التوسعية

بعد ثلاث سنوات من إعلان الخلافة الأموية، وفي سنة 319 هـ= 931 م يتجه عبد الرحمن الناصر جنوبًا نحو مضيق جبل طارق، ويقوم بغزو بلاد المغرب ويحارب الفاطميين هناك فيضم سبتة وطنجة إلى بلاد الأندلس، وتتم له بذلك السيطرة الكاملة على مضيق جبل طارق، فيبدأ بإمداد أهل السنة في منطقة المغرب بالسلاح، لكنه لم يشأ أن يمدّهم بالجنود تحسبًا لهجمات ممالك النصارى في الشمال.

وفي سنة 323 هـ= 935 م تحدث خيانة من حاكم مملكة الشمال الشرقي "سرقسطة" محمد بن هشام التجيبي، حيث ينضم إلى مملكة "ليون" النصرانية لحرب عبد الرحمن الناصر، وبكل حزم وقوة يأخذ عبد الرحمن الناصر جيشًا كبيرًا يتصدى به لهذه الخيانة ويهاجم مدينة "سرقسطة"، وعند أطراف المدينة يهاجمه جيش "سرقسطة"، فيغزو عبد الرحمن الناصر قلعة حصينة ويمسك بقوّاد هذا الجيش، ويقوم بإعدامهم على الفور وأمام أعين الجميع في عمل لا يوصف إلا بالكياسة والحزم.

وهنا أعلن حاكم "سرقسطة" محمد بن هشام التجيبي ندمه وعودته إلى عبد الرحمن الناصر، وكعادة الأبطال الدهاة والساسة الحكماء قبل منه رحمه الله اعتذاره ثم أعاده حاكمًا على "سرقسطة"، رابحًا بذلك كل قلوب التجيبيين بعد أن كان قد تملك منهم، متشبهًا أيضًا برسول الله صلى الله عليه و سلم حين قال لأهل مكة بعدما دخلها فاتحًا، وكانوا قد طردوه منها وآذوه هو وأصحابه: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ.

وبمنطق الحزم وقت الحزم والعفو عند المقدرة عمل عبد الرحمن الناصر، فأطلق حكّام "سرقسطة" بعد أن أعلنوا توبتهم وأعاد التجيبيين إلى حكمهم؛ فأثّر ذلك كثيرًا في المدينة كلها، فما ارتدت بعد ذلك على عهدها مع عبد الرحمن الناصر رحمه الله.

وفي سنة 325 هـ= 937 م هجم عبد الرحمن الناصر على مملكة "أراجون" النصرانيّة في الشمال الشرقي بجوار مملكة "سرقسطة" وضمّها إلى أملاك المسلمين، وكذلك ضم "برشلونة" والتي كانت قد سقطت منذ سنوات كثيرة.

زلّة لا تخطئُ البشرَ ولا تعرفُ النسبَ

أن تسير الأمور هكذا على الدوام أمر في غاية الصعوبة، ألّا تحدث زلّة فليس هناك بشر لا يخطئ، ولكل جوّاد كبوة، هذه ليست مبررات لما سيأتي بقدر ما هي بحث في العلّة والسبب في محاولةٍ لتجنّبه وتفاديه طالما سلّمنا أنه من شِيَم البشر.

في سنة 327 هـ= 939 م وبعد سبع وعشرين سنة من بداية عهد عبد الرحمن الناصر كانت قوّة الجيش الإسلامي قد بلغت شأوًا عظيمًا، حيث ناهزت المائة ألف مقاتل، والأندلس آنذاك تحت راية واحدة، أخذ عبد الرحمن الناصر هذا الجيش العظيم متجهًا إلى مملكة "ليون" النصرانية ليحاربهم هناك.

وفي زلةٍ لا تعرفها السنن الكونية راح عبد الرحمن الناصر يعتقد في جيشه وقوة عدده، ونسوا جميعًا الدعاء الذي كانوا يتضرعون به لرب العالمين وهم عَالةٌ ضعفاءُ أن ينصرهم على أعدائهم، وفي درسٍ قاسٍ له ولجيشه الجرّار، وفي حنين أخرى تدور واحدة من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين، سميت بموقعة الخندق أو موقعة سامورة.

وإذا بالتاريخ يعيد نفسه، وإذا بسامورة تنقلب حُنَيْنًا، والله سبحانه وتعالى ليس بينه وبين أحد من البشر نَسَبًا، فإذا أخطأ العباد وبعدوا عن ربهم سبحانه وتعالى تكون الهزيمة محققة لا محالة، فانهزم جيش المسلمين في موقعة الخندق أو موقعة سامورة، وبانتهاء المعركة كان نصف عدد الجيش (خمسون ألفا) بين القتل والأسر، وفرّ عبد الرحمن الناصر رحمه الله مع النصف الآخر عائدين بأكبر خسارة وأثقل هزيمة.

عبد الرحمن الناصر والعودة إلى سابق عهده

بعد موقعة سامورة لم يستسلم عبد الرحمن الناصر رحمه الله، وهو الذي رُبّي على الجهاد والطاعة لربه ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فعلم مواضع الخلل ومواطن الضعف، ومن جديد تدارك أمره وقام ومعه العلماء والمربّون يحفّزون الناس ويعلمونهم الإسلام.

ومن جديد أعدوا العدة وقاموا بحرب عظيمة على النصارى في سنة 329 ه، 941 م تلتها حملات مكثفة وانتصارات تلو انتصارات، ظلّت من سنة 329 ه، 941 م إلى سنة 335 هـ= 947 م حتى أيقن النصارى بالهلكة، وطلب ملك "ليون" الأمان والمعاهدة على الجزية، يدفعها لعبد الرحمن الناصر عن يدٍ وهو صاغر.

كذلك فعل ملك نافار، ومثلهما مملكة "أراجون" النصرانية التي كانت في حوزة عبد الرحمن الناصر رحمه الله فدفعوا جميعًا الجزية ابتداءًا من سنة 335 هـ= 947 م إلى آخر عهده رحمه الله سنة 350 هـ= 961 م

عبد الرحمن الناصر وفكره العسكري

ورث الأمير عبد الرحمن الناصر عن جده المؤسس للدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن الداخل مباديء أساسية للحرب ومنها:

مبدأ المباغته: وقد ظهرت المباغته في الأعمال القتالية للخليفة الناصر بشكل معقد جدًا مما يشير إلى درجة التعقيد التي وصلتها الأعمال القتالية في أيامه، فهو يعتمد أحيانًا على المباغتة الزمنية، حيث يعمل على حشد القوات في ظاهر قرطبة خلال مرحلة مبكرة عما هو معهود في توجيه الصوائف للغزو، وفي أحيان أخرى يلجأ إلى المباغتة المكانية حيث يضلل أعداءه ليظهر في مكان غير متوقع من مسرح العمليات، بحيث لا يعرف أعداء الشمال نوايا الناصر، وإلى اين سيوجه ثقل قوات الهجوم، وفي أحيان أيضًا تأخذ المباغتة عند الناصر شكل مباغتة على مستوى العمليات وأحيانًا على المستوى الاستراتيجي، إذ لم يكن التوجه إلى عواصم دول الشمال "ليون ونافار" إلا نوعا من المباغتة الاسترتيجية، كما أن طريقة زجّ القوات وحجمها كان نوعًا من المباغتة على مستوى العمليات، وكانت مباغتة العمليات والمباغتة الاستراتيجية مميزة بشدة تعقيدها لما تبرزه متابعة مسيرة الأعمال القتالية حيث تمتزج فيها المباغتة الزمانية بالمكانية بطرائق زجّ القوات لتأخذ شكلًا متقدمًا ومتطورًا لمفهوم المباغتة.

الموازنة بين إدارة الحرب وقيادة الأعمال القتالية:

أراد الخليفة الناصر في بداية حكمه إعطاء أمثولة للجهاد بنفسه، فكان يقود المعارك بنفسه مدفوعًاإيمان الشباب وحماسته للحرب وممارستها بصورة فعلية، إلى جانب توافر الرغبة لحشد قوى المسلمين وتوجيهها وإثارة حميتها، وقد حقق نجاحًا رائعًا في هذا المضمار، حتى إذا استقامت له الأمور، لم تعد هناك حاجة للإقدام على مجازفة غير محسوبة، تضر بالإسلام والمسلمين بأكثر مما تفيدهم، فكان إمساك الخليفة الناصر بالإدارة العليا للحرب أكثر أهمية من قيادته للأعمال القتالية بنفسه؛ إذ سمح له ذلك بالإشراف على تنظيم الجيوش بصورة مستمرة، وإعادة تنظيمها كلما تطلبت الحاجة، وتزجيهها إلى ميادين القتال وتحديد واجباتها بدقة، وتامين متطلباتها من الإمداد والتموين.

لقد بقيت الأندلس طوال عهد الناصر لدين الله في حرب مستمرة ومتواصلة وعلى كافة الميادين والجبهات، وكان ذلك يتطلب تأمين موارد غير محدودة، وقد أظهرت مسيرة الأعمال القتالية أن قوات المسلمين كانت في تعاظم مستمر، وأن متطلباتها كانت متوافرة، ولم تظهر ولو مجرد ظاهرة واحدة تشير إلى عيب أو خلل في التنظيم الإداري، وفي تأمين الإمداد للمقاتلين، وليس ذلك إلا برهانًا ساطعًا على تلك الكفاءة العالية التي ضمنت حشد الموارد الضرورية للقوات، الأمر الذي يعتبر في الجيوش القديمة والحديثة مقياسًا لكفاءة الإدارة المشرفة على الحرب، وهكذا فإن تخلّي الخليفة الناصر عن إدارة القتال قد ساعده على تحقيق واجب أكبر وهو الإدارة الشاملة للحرب، وتأمين متطلباتها، وضمان الظروف الموضوعية لتحقيق النصر.

وقد تميز الفكر العسكري للخليفة الناصر لدين الله بملامح كثيرة وهامة مما يضيق المقام عن ذكره في هذه العجالة....

مظاهر الحضارة في عهد عبد الرحمن الناصر

ما سبق كان من التاريخ السياسي والعسكري لعبد الرحمن الناصر رحمه الله وواقع الأمر أن جهده لم يكن كله موجهًا فقط إلى الجيوش والحروب، بل إنه كان متكاملًا ومتوازنًا - رحمه الله - في كل أموره.

فقد قامت في عهده أروع حضارة عرفتها البشرية في تاريخها القديم، استهلّها رحمه الله بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأكثر من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولًا ولكل مسئول وزارة كبيرة تضمّ عمالًا كثيرين وكتَبَة، وهذه نبذة عن أهم جوانب الحياة الحضارية في عصره:

الجانب المعماري:

كان من أهم ما يميز الناحية المعمارية في عهد عبد الرحمن الناصر تلك المدينة العظيمة التي أنشأها وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء، وهي تقع في الشمال الغربي لمدينة قرطبة، وكان قد اضطر لإنشائها حتى يتسنّى له استقبال الوفود الكثيرة التي كانت تأتي إليه من كل بلاد العالم تخطب ودّه رحمه الله.

كانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدًا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر رحمه الله موادًا من القسطنطينية ومن بغداد ومن تونس ومن أوروبا، وقد صُمّمت على درجات مختلفة: فكانت هناك درجة سفلى وهي للحراس والكتبة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير.

وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء، ذلك القصر الذي لم يبق في التراث المعماري الإسلامي أبدًا مثله، فقد بالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، فكان الناس يأتون من أوروبا ومن كل أقطار العالم الاسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء في مدينة الزهراء.

وهذه أيضا مدينة قرطبة وقد اتسعت جدًا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم، وكانت بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين.

ضمت مدينة قرطبة ثلاث عشرة آلاف دار، والدار بلغة العصر هي المكان الواسع الفسيح الذي يضم بيتا وحديقة من حوله، وكان فيها ثمان وعشرون ضاحية، فضلًا عن ثلاثة آلاف مسجد، حتى أُطلق عليها في ذلك العصر وبحق جوهرة العالم.

ثم هو أيضًا مسجد قرطبة وقد وسّعه رحمه الله حتى أصبح آية من آيات الفن المعماري، وكان محرابه عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارةٍ كان قد أتى بها من إيطاليا، وأنشأ أيضا حدائق للحيوان في كل أرض الأندلس ومسارح للطيور.

الجانب الاقتصادي:

كانت البلاد في عهده رحمه الله تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارًا ذهبًا، كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدّه عبد الرحمن الداخل رحمه الله ثلث للجيش وثلث للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادّخار لنوائب الزمن.

وكان قد اهتمّ رحمه الله اهتمامًا كبيرًا بالزراعة، وكانت قد كثرت الفواكه في عهده، وأولى رحمه الله زراعة القطن والكتّان والقمح عناية خاصّة لم تفق عنايته بقوانين الزراعة نفسها.

مجال الصناعة والمناجم:

كان من اهتماماته أيضًا استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث وكذلك صناعة الأدوية، وقام رحمه الله بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك - على سبيل المثال - سوق للنحاسين، وأخرى لللحوم، بل كان هناك أيضًا سوق للزهور.

الناحية الأمنية:

عمّ الأمن والأمان عهد عبد الرحمن الناصر، فلم تقم أي ثوراتٍ عليه طيلة عهده الثاني، فكان جهاز الشرطة قد قوي كثيرًا، وكانت هناك الشرطة التخصصية، شرطة للنهار وأخرى لليل، وثالثة للتجارة ورابعة للبحر وهكذا، وكان البريد قد انتشر كثيرًا.

كما أنشأ رحمه الله ما يُعرف بمحاكم المظالم، وهي شبيهة جدًا بمحاكم الاستئناف اليوم، وقد طوّر من شكل المحاكم، وحكّم الشرع وأقامه إقامة دقيقة، وما فرّط أبدًا في كلمة من كلمات الله سبحانه وتعالى أو سنّة من سنن رسوله صلى الله عليه وسلم.

الناحية العلمية:

في عهده رحمه الله ازدهر العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمّ كثيرًا بمكتبة قرطبة، تلك التي كانت قد تأسّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعد، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي.

ومن أجل هذا فقد ظهرت وظائف جديدة للمسلمين لم يعتادوا عليها قبلًا، فظهرت مثلًا وظيفة النسّاخين، فإذا أراد أحد من الناس أن يمتلك كتابًا ما عليه إلا أن يذهب إلى نَسّاخ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قرطبة فينسخ له ما يريد...

كذلك أيضا ظهرت وظيفة الباحثين، فمثلًا لو وجدت مسألة من مسائل الفقه أو مسائل العقيدة أو السيرة، وصعب عليك أن تبحث عنها في أربعمائة ألف كتاب، فما عليك إلا أن تذهب إلى باحثين خبراء، فيبحثون لك عن كل ما تريد...

السياسة الخارجية:

ذاع صيت عبد الرحمن الناصر رحمه الله في الدنيا جميعًا، ورضيت منه ممالك الشمال بالعهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوروبا تطلب ودّه، فجاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوروبا من بيزنطة، وهي بعيدة جدًا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب ودّه وتهدي إليه الهدايا، وأشهرها كانت جوهرة ثمينة وضخمة جدًا، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره الذي يقع في مدينة الزهراء.

من ضمن ما جاءه من الرسائل كانت رسالة من ملك إنجلترا يرجوه فيها أن يعلّم أربعةً من علماء إنجلترا في مكتبة قرطبة أو في جامعة قرطبة، طلب منه ملك إنجلترا هذا الطلب ثم وقّع في آخر الرسالة: (خادمكم المطيع ملك إنجلتر).

وهكذا كان عزّ الاسلام ومجده متمثلًا في عهد عبد الرحمن الناصر رحمه الله حتى أصبح بلا منازع أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى، الأمر الذي جعل إسبانيا في سنة 1963 م تحتفل وهي على نصرانيتها بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مرّ العصور، فلم يستطيعوا أن يخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، والتي كانت الأندلس في عهده وبلا جدال أقوى دولة في العالم.

قالوا عن عبد الرحمن الناصر...

قال عنه الذهبي:

كان شجاعا شهما محمود السيرة،لم يزل يستأصل المتغلبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره. وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة. قال ابن عبد ربه: قد نظمت أرجوزة ذكرت فيها غزواته. قال: وافتتح سبعين حصنا من أعظم الحصون ومدحه الشعراء.

وقال عنه الصفدي:

ولم يكن بعد عبد الرحمن الداخل أجزل منه - أي الناصر - في الحروب وصحة الرأي والإقدام على المخاطرة والهول حتى نال البغية وبنى المدينة الزهراء فراراً بنفسه وخاصة جنده عن عامة قرطبة الكثيرة الهرج الجمة سواد الخلق فرتب الجيوش ترتيباً لم يعهد مثله قبله وأكرم أهل العلم واجتهد في تخيّر القضاة وكان مبخلاً لا يعطي ولا ينفق إلا فيما رآه سداداً...

وقال اليسع بن حزم: نظر أهل الحل والعقد، من يقوم بأمر الإسلام، فما وجدوا في شباب بني أمية من يصلح للأمر إلا عبد الرحمن بن محمد، فبايعوه...

وها هو يتوفي رحمه الله سنة 350 هـ= 961 م عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدّ فيها الأيام التي صفت له دون كدر فقال: في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم، فعدّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط.

المصـــــــــــــــــــــــــــــــــدر
http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%...AF%D9%84%D8%B3