عهد الدولة العامرية والفتنة في الاندلـــــــــــــــــس
كيف نشأت الدولة العامرية؟ وكيف انتهت؟
يعتبر محمد بن أبي عامر هو مؤسس هذه الدولة، وتبدأ قصته عندما كان أحد الوصايا على هشام بن الحكم، وبدأ في التخلص من باقي مجلس الوصاية، وسيطر على الخليفة صغير السن، وبدأ يقوِّي نفوذه في الدولة، حتى إنه عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور. وتبدأ هذه الدولة فعليًّا منذ سنة 366هـ/ 976م، وظلت حتىسنة 399هـ/ 1009م ولكنها كانت تابعة للدولة الأموية؛ لأن هشام بن الحكم كان ما زال يحكم ولو بشكل رمزي، وبعد وفاة الحاجب المنصور سنة 392هـ/ 1002م تولى الحجابة بعده عبد الملك بن المنصور، وتوفي عبد الملك بن المنصور سنة 399هـ/ 1009م، وتولى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور، ولكنه كان ظالمًا فقتله الناس، وعزلوا هشام بن الحكم وتنتهي الدولة العامرية.
انتشار الفتن بعد سقوط الدولة العامرية ويبدأ عهد يعرف باسم ملوك الطوائف
تميزت هذه الفترة بكثرة الفتن والصراعات، مثل التي حدثت بين المهدي الذي تولى الحكم بعد هشام بن الحكم وبين سليمان بن الحكم الذي أعلنه البربر خليفة، وتحدث الكثير من النزاعات لتصل إلى الدرجة التي تجعل البعض يستعين بالنصارى، ثم يتدخل البربر ويعلنون خليفة منهم يسمى علي بن حمود، ولكن العامريين يتدخلون محاولين إعادة نفوذهم مرة أخرى، ويعلنون أحد الأمويين ويسمى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله خليفة، ولقبوه بالمرتضى بالله، وتدور الكثير من الصراعات بين البربر والعامريين، ويحاول العلماء التدخل لإصلاح هذه الأوضاع، ويعلنون قيام مجلس شورى لكي يحكم، وبالفعل يتولى الحكم ولكنه كان يسيطر على قرطبة فقط، أما باقي بلاد الأندلس فكانت تعيش في حالة من الفوضى والدمار، ومن ثَمَّ تنقسم الأندلس إلى دويلات متفرقة، ويبدأ عهد جديد يسمى "عهد ملوك الطوائف".
ولكن ما أسباب التحول من القوة إلى الضعف؟ وما مكانة المسلمين اليوم بين القيام والسقوط؟
إن التحول من القوة إلى الضعف سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، فإن أية دولة تبدأ من مرحلة النمو ثم تنمو هذه الدولة لتصل إلى مرحلة القوة والازدهار، ثم تبدأ الدولة في الانهيار تدريجيًّا حتى تصل إلى مرحلة الشيخوخة. والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائمًا في قيام، فإذا سقطت أتبعالسقوطَ قيامٌ، أما بالنسبة إلى الوضع اليوم في العالم الإسلامي فلا يوجد خلافة إسلامية ولا تطبيق للشرع، ولكن ما نراه اليوم من كثرة عدد المصلين والمحجبات، والصحوة الجهادية في البلدان المحتلة يشير إلى أن إصلاح هذه الأمة سيكون قريبًا بإذن الله سبحانه وتعالى.
مزيد من التفاصيل
مقدمة
الحَكَمُ بنُ عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وكبوة الجواد
بالرغم من أنه كان من أفضل الحكام المسلمين على الأندلس إلا أن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في آخر عهده قد أخطأ خطأ جسيمًا، فقد أصيب في آخر أيامه بالفالج (شلل) فقام باستخلاف أكبر أولاده هشام بن الحكم وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة فقط، استخلفه على بلاد الأندلس وفوقها بلاد النصارى في الشمال ومن تحتها الدولة الفاطمية في الجنوب، وكل ممالك أوروبا تتشوق إلى الكيد بهذه القوة العظيمة وهزيمتها.
وهي بلا شكٍ زلّة خطيرة من الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر؛ إذ كان عليه أن ينتقي من يستخلفه لهذه المهمة الجسيمة، ويولّي رجلًا آخر من بني أميّة، يستطيع أن يقوم بالأعباء الثقيلة لمهمة حكم دولة قوية، كثيرة الأعداء متسعة الأطراف، ومترامية الأبعاد كدولة الأندلس.
توفي الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر رحمه الله سنة 366 هـ= 976 م، مستخلفًا على الحُكم ابنه الطفل الصغير هشام بن الحكم، وقد جعل عليه مجلس وصاية مكون من ثلاثة أشخاص:
الأول: الحاجب: وهو جعفر بن عثمان المصحفي، والحاجب أي الرجل الثاني في الدولة بعد الخليفة مباشرة، وهو بمثابة رئيس الوزراء حاليًا.
الثاني: قائد الشرطة: وهو محمد بن أبي عامر، وكان من اليمن.
الثالث: أم هشام بن الحكم، وكان اسمها (صُبْح).
محمد بن أبي عامر ت 392 هـ= 1002 م
كان محمد بن أبي عامر يملك طموحات ضخمة وآمال كبيرة أطمعته في أن يكون واليًا على هذه البلاد، ولتحقيق هذا الحلم قام بعدة مكائد غاية في الظلم والقسوة، فعمل على الآتي:
أولًا:
فكر في التخلص من الوصيين اللّذَيْن كانا معه على هشام بن الحكم، فدبر مكيدة سجن فيها الحاجب (جعفر بن عثمان المصحفي) ثم قتله بعد ذلك، ثم نظر إلى أمر أم هشام بن الحكم فوجد أن موقفها ضعيف بالنسبة له كقائد شرطة فتركها في قصرها، ثم تقلّد هو الأمور وحده، وبدأ يحكم بلاد الأندلس باسم الخليفة الصغير هشام بن الحكم.
ثانيًا:
أراد محمد بن أبي عامر بعد ذلك أن يقوّي جانبه أكثر مما كان عليه، فتزوج من ابنة أمير الجيش غالب بن عبد الرحمن، وبذلك يكون قد حيّد جانب أمير الجيش، وضمن ولاء الجيش الأندلسي له، وحين انتبه غالب بن عبد الرحمن (أمير الجيش ووالد زوجته) له وعلم نيّاته وخطته وأفصح له عن ذلك، دبّر محمد بن أبي عامر له مكيدة أيضًا ثم قتله.
ثالثًا:
لم يكتف محمد بن أبي عامر بذلك، فقد قام باستدعاء جعفر بن علي بن حمدون قائد الجيش الأندلسي في المغرب، (كانت المغرب قد ضمت إلى بلاد الأندلس في عهد الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر كما ذكرنا) استدعاه إليه وقربه منه، واستفاد كثيرًا من قوته، ثم دبّر له مكيدة أيضا وقتله، وكان كلما قتل شخصا عيّن مكانه مَن يعمل برأيه وبوصاية منه، وبذلك يكون قد تملّك من كل الأمور في الأندلس.
رابعًا:
وبنظرة طويلة إلى الأمام بدأ محمد بن أبي عامر يقنع الخليفة الصغير هشام بن الحكم بالاختفاء في قصره بعيدًا عن العيون؛ وذلك - كما يزعم - خوفاً عليه من المؤامرات، وأن على الخلفاء أن يتفرغوا للعبادة ويتركوا أمور الناس لرئاسة الوزراء أو لقوة الشرطة أو غيرهما، وهكذا أقنعه، وقام هو بإدارة دفّة البلاد، ورُبّي ونشأ هشام بن الحكم الطفل الصغير على هذا الفهم.
بروز نجم محمد بن أبي عامر (الحاجب المنصور)
مرت السنوات ومحمد بن أبي عامر يتولى كل شيء في بلاد الأندلس، وهشام بن الحكم يكبر في السن لكنه لم يكن يعرف شيئًا عن الحكم وتحمُّل المسئولية، وفي 371 هـ= 982 م وبعد حوالي خمس سنوات من تولي هشام بن الحكم الأمور ووصاية محمد بن أبي عامر عليه، كان الأمر قد استَتَبَّ لمحمد بن أبي عامر ولقّب نفسه بالحاجب المنصور.
وكان من عادة الخلفاء قبل ذلك أن يطلقوا على أنفسهم ألقابًا تميزهم ويُعرفون بها وعليها كانوا يؤملون، وذلك مثل: الناصر بالله، الحاكم بأمر الله، المؤيد بالله، لكن هذه هي أول مرة يقوم فيها الوصي أو رئيس الوزراء أو الحاجب بأخذ لقب لنفسه وهو المنصور، الأمر الذي تطور كثيرًا حتى أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نقش اسمه على النقود وعلى الكتب والرسائل.
وإتمامًا لذلك وكما أنشأ عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر رحمه الله مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قرطبة لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة جديدة في شرق قرطبة سمّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية.
وبدأ محمد بن أبي عامر ينقل الوزارات ودواوين الحكم إلى مدينة الزاهرة، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، وبدأ يجمّل فيها كثيرًا، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحكم.
الدولة العامرية 366 - 399 هـ= 976 - 1009م
بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد من تاريخ الأندلس قام محمد بن أبي عامر بعمل الآتي:
أولًا: في سنة 381 هـ= 991 م قام بأمر لم يعهد من قبل في تاريخ الأندلس، بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن الخليفة وحده هو الذي يعهد بالخلافة من بعده.
ثانيًا: وتمهيدًا لإقامة مُلْك على أنقاض بني أمية، قام في سنة 386 هـ= 996 م بتلقيب نفسه بلقب الملك الكريم، كل هذا وهشام بن الحكم الخليفة يكبر في السن، لكن ليس له من الأمر شيء.
ثالثًا: قام محمد بن أبي عامر بعد ذلك بعمل خطير أدى - فيما بعد وعلى ما سنرى - إلى انقساماتٍ كثيرة في بلاد الأندلس، فقد كان محمد بن أبي عامر يمنيًا، واليمنيون في الأندلس ليسوا بكثرة، ولخشيته من الاستعانه بالقبائل المضرية وقبائل بني أمية معه في الجيش وبقية الأمور فكّر أن يستعين بعنصر آخر وهم البربر، فبدأ يعظّم من أمرهم ويرفع من شأنهم؛ حتى يضمن ولاءهم.
بدأ العامريون يكثرون في أماكن الحكم في بلاد الأندلس، وبدأ التاريخ يسجل لهم عهدًا جديدًا سماه: الدولة العامرية، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًا منذ سنة 366 هـ= 976 م، ومنذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظلت حتى سنة 399 هـ= 1009 م أي أنها استمرت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة، لكنها تعتبر داخلة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن هشام بن الحكم الأموي لا زال هو الخليفة حتى وإن كان رمزًا أو بعيدًا عن مجريات الأمور.
جوانب مضيئة في حياة محمد بن أبي عامر:
كما رأينا فقد تولّى محمد بن أبي عامر الحكم منذ سنة سنة 366 هـ= 976 م وحتى وفاته رحمه الله في سنة 392 هـ= 1002 م وقد بدأ عهده كما رأينا بمكائد ومؤامرات وقتلٍ - على الأقل - لثلاثة أنفس حتى وصل إلى تولّي كافة الأمور في الأندلس.
ومن العجيب حقًا أنه - بالرغم من أفعال محمد بن أبي عامر هذه - إلا أنه كانت له محامد وجوانب مضيئة في حياته، جعلت جميع المؤرخين يتعجبون من سيرته ويقفون في حيرة من أمره، ومن هذه الجوانب ما يلي:
أولا: كان مجاهدًا...
كان غريبا حقا أن يغزو محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل (الحاجب المنصور أو محمد بن أبي عامر) في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحد من قبل، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل مثل موسى بن نصير وطارق بن زياد، فقد وصل الحاجب المنصور إلى منطقة الصخرة، تلك المنطقة التي لم تُفتح من قِبَل المسلمين من قبل، واستطاع رحمه الله أن يغزو النصارى في عقر دارهم، وها هو قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال.
وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط، إلا إن الحاجب المنصور كان له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله، عُرفت هاتان المرتان باسم الصوائف والشواتي.
وهذه صور مشرقة من حياته الجهادية:
1- يُسيّر جيشًا جرارًا لإنقاذ نسوة ثلاث
جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سيّر جيشا كاملًا لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كن أسيرات لدى مملكة نافار، ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألا يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، فحدث ذات مرة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاثا من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجب لوجودهن، وحين سألهن عن ذلك قلن له إنهن أسيرات في ذلك المكان.
وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديدا وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلا أن سيّر جيشا جرارًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألا نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وبعزة نفس في غير كبر ردّوا عليه بأنكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات، فقالوا: لا نعلم بهن، فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وقد تم عقاب هذا الجندي، ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه الثلاث نساء.
2- يقطع النصارى عليه الطريق، فيُملي شروطه عليهم
مما ذُكر عن الحاجب المنصور أيضًا أنه - رحمه الله - وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا، فتركوه حتى عبر بكل جيشه وحين همّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قطع عليه، ووجد المضيق وقد أغلق تمامًا بالجنود.
فما كان من أمر الحاجب المنصور إلا أن عاد مرة أخرى إلى الشمال واحتلّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها، ووزّع ديارها على جنده، وتحصّن وعاش فيها فترة، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية، فأخذ يرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى، ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلّه النصارى ومنعوه من العودة منه.
وهنا ضج النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب حتى يعود إلى بلده مرة أخرى أو يجدوا حلًا لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم وعرضوا على الحاجب المنصور أن يخلوا بينه وبين طريق العودة ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلا أن رفض هذا العرض، وردّ عليهم متهكمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين، صيفًا وشتاءً، وأنه يريد هذه المرة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرة الثانية، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلا من الذهاب إلى قرطبة ثم العودة منها ثانية.
لم يكن مفر أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده وله ما يريد، فاشترط عليهم الحاجب المنصور في سبيل موافقته على عرضهم ما يلي:
أولا: أن تفتحوا المضيق ولا تبقوا فيه نصرانيا واحدًا، فوافقوه على ذلك.
ثانيا: أن ترفعوا جثثكم التي ألقيناها من أمام المضيق، فبدأوا يرفعون جثث الجنود الذين قتلوا من أمام المضيق وأبعدوها عنه.
ثالثا: أن تحملوا لي جميع الغنائم من هنا إلى مقري في قرطبة، وبالفعل أجابوا إلى ذلك، وحملوا الغنائم التي حصّلها من بلادهم من ليون في الشمال حتى أوصلوها إلى قرطبة في الجنوب.
3- يجمع ما علق على ثيابه من غبار ليدفن معه في قبره
مقتديًا بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: لَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ. (رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح). كان من عادة الحاجب المنصور رحمه الله في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى.
إلا أنه ومع كل هذه الحروب ومع كل هذا الجهاد، ورغم أنه غزا أربعًا وخمسين غزوة ولم يهزم في واحدة منها قط، فلم يكن سمت حروب الحاجب المنصور سمتًا إسلاميًا مثل التي كانت في زمن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر أو الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، فقد كان الحاجب المنصور يخترق بلاد النصارى ويصل إلى عمقها، ويقتل منهم ثم يعود فقط محملًا بالغنائم، ولم يكن من همه أبدًا أن يضم هذه البلاد إلى بلاد المسلمين، أو أن يُعلّم أهلها الإسلام، أو أن ينشر الدعوة في هذه البلاد، فبقي الحال كما هو عليه، بل إن الحمية زادت في قلوب النصارى وزاد حقدهم على المسلمين.
ثانيا: اهتمامه بالجوانب الحضارية في البلاد
من الجوانب الوضّاءة في حياة محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور أيضًا اهتمامه الكبير بالجانب المادي والحضاري في البلاد، فقد أسسّ مدينة الزاهرة على أحسن ما يكون - كما ذكرنا - وزاد كثيرًا في مساحة مسجد قرطبة، حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يشتري هذه المساحات ممن يقطنون حول المسجد وذلك بالمبلغ الذي يرضونه.
وقد ذُكر في ذلك أنه كانت هناك سيدة وحيدة تسكن في بيت فيه نخلة بجوار المسجد، وقد أبت هذه السيدة أن تبيع بيتها هذا إلا إذا أَتى لها الحاجب المنصور بمنزل فيه نخلة كالذي تملكه، فأمر الحاجب المنصور بشراء بيت لها فيه نخله كما أرادت حتى ولو أتى ذلك على بيت المال، ثم أضاف بيتها إلى حدود المسجد.
زاد الحاجب المنصور كثيرًا في المسجد بعد ذلك، حتى أصبح ولفترة طويلة من الزمان أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم، وهو لا يزال إلى الآن موجودًا في إسبانيا، ولكنه - وللأسف - قد حُوّل إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكذلك كانت العلوم والتجارة والصناعة وغيرها من الأمور قد ازدهرت كثيرًا في حياة الحاجب المنصور، وقد عمّ الرخاء وامتلأت خزانة الدولة بالمال، ولم يعد هناك فقراء تمامًا كما كان الحال أيام الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر أو أيام عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر نفسه.
ثالثا: عدم وجود ثورات أو خروج عليه طيلة عهده
كان الأمر اللافت للنظر أيضًا في حياة الحاجب المنصور أنه ورغم طول فترة حكمه التي امتدت من سنة 366 هـ= 976 م وحتى سنة 392 هـ= 1002 م لم توجد أي ثورات مطلقا، فلم تقم أي ثورة أو تمرّد في عهده على طول البلاد واتساعها واختلاف أمزجتها.
فقد كان الحاجب المنصور رجلًا قويًا، محكِمًا للأمن والأمان في البلاد، كما كان عادلًا مع الرعية، ومما جاء في ذلك ما ترويه بعض الروايات من أنه جاءه يومًا رجل بسيط من عامة الشعب، يبغي مظلمة عنده، وقال له: إن لي مظلمة وإن القاضي لم ينصفني فيها، وحين سمع منه مظلمته أتى بالقاضي مستوضحًا منه الأمر، وكيف أنه لم ينصف الرجل في مظلمته، فقال له القاضي: إن مظلمته ليست عندي وإنما هي عند الوسيط ( بمكانة نائب رئيس الوزراء في زمننا )، فأحضر الحاجب المنصور الوسيطَ وقال له: اخلع ما عليك من الثياب (يقصد ثياب التميز والحكم) واخلع سيفك ثم اجلس هكذا كالرجل البسيط أمام القاضي، ثم قال للقاضي: الآن انظر في أمرهما، فنظر القاضي في أمرهما وقال: إن الحق مع هذا الرجل البسيط، وإن العقاب الذي أقضيه هو كذا وكذا على الوسيط، فما كان من الحاجب المنصور إلا أن قام بإنفاذ مظلمة الرجل، ثم قام إلى الوسيط فأقام عليه أضعاف الحد الذي كان قد أوقعه عليه القاضي، فتعجب القاضي وقال للمنصور: يا سيدي، إنني لم آمر بكل هذه العقوبة، فقال الحاجب المنصور: إنه ما فعل هذا إلا لقربه منا، ولذلك زدنا عليه الحد؛ ليعلم أن قربه منا لن يمكّنه من ظلم الرعيّة.
الدولة العامرية بعد الحاجب المنصور
من خلف ستار الخلافة الأموية ظل الحاجب المنصور يحكم الأندلس ابتداءً من سنة 366 هـ= 976 م وحتى وفاته رحمه الله في سنة 392 هـ= 1002 م وقد استخلف على الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور، فتولّى الحجابة من حين وفاة والده وحتى سنة 399 هـ= 1009 م أي سبع سنوات متصلة، سار فيها على نهج أبيه في تولي حكم البلاد، فكان يجاهد في بلاد النصارى كل عام مرة أو مرتين، كل هذا وهو أيضا تحت غطاء الخلافة الأموية.
في هذه الأثناء وعند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور أمر الحجابة كان الخليفة هشام بن الحكم قد بلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما، ومع ذلك فلم يطلب الحكم ولم يحاول قط أن يُعمل نفوذه وسلطانه في بلاد الأندلس، فكان فقط قد تعود على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور ومن تلاه من أولاده.
تولي عبد الرحمن بن المنصور وانتهاء الدولة العامرية
في سنة 399 هـ= 1009 م من الهجرة وفي إحدى الحملات في الشمال يتوفي عبد الملك بن المنصور، ثم يتولى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور؛ حيث كان أولاد بني عامر يتملكون زمام الأمور في البلاد، وأخذ أيضًا يدير الأمور من وراء الستار، لكنه كان مختلفًا عن أبيه وأخيه، فبالإضافة إلى أن أمه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابًا ماجنًا فاسقًا شَرّابًا للخمر فعالًا للزنا كثير المنكرات، فكان الشعب يكرهه بدرجة كبيرة، ذلك الشعب الذي كان غالبيته من المسلمين كان يكره أن يتولى أمره من جاء من أم نصرانية.
وفوق ذلك فقد قام عبد الرحمن بن المنصور بعمل لم يُعهد من قبل عند العامريين، وهو أنه أقنع الخليفة هشام بن الحكم في أن يجعله وليًا للعهد من بعده، وبذلك لن يصبح الأمر من خلف ستار الخلافة الأموية كما كان العهد حال تولي والده محمد بن أبي عامر أو أخيه عبد الملك بن المنصور، فكان أن ضجّ بنو أميّة لهذا الأمر، وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على القيام بأي رد فعل؛ خاصة وأن عبد الرحمن بن المنصور قد جعل جميع الولايات في أيدي العامريين وفي يد البربر الذين هم أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور.
ومع كل هذا الفسق وهذا المجون الذي كان يعيشه عبد الرحمن بن المنصور إلا أن الشعب كان قد تعوّد حياة الجهاد، والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، وفي إحدى المرّات خرج عبد الرحمن بن المنصور على رأس جيش من الجيوش إلى الشمال، فانتهز الناس الفرصة وأرادوا أن يغيروا من الأمر، فذهبوا إلى هشام بن الحكم في قصره وخلعوه بالقوّة وعينوا مكانه رجلًا من بني أميّة اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر (من أحفاد عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر)، ثم دبّروا مكيدة لعبد الرحمن بن المنصور وقتلوه، وانتهى بذلك ما يسمى في تاريخ الأندلس بعهد الدولة العامرية.
قيام وسقوط الدول والحضارات... وقفة متأنية
بعد الوصول إلى هذه المرحلة من الضعف والتفتت والهوان، هناك تعليق عام، وتحليل، واستراحة على طول طريق الأندلس منذ الفتح وحتى هذه المرحلة، نستجلي فيه سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في كونه بصفة عامة، وفي الأمة الإسلامية بصفة خاصة، وهي سنّة قيام وسقوط الأمم، وسنة الارتفاع والهبوط، تلك التي لوحظت بشكل لافت في الدولة الإسلامية خاصة.
وحقيقةُ الأمر أنه منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، بل حتى قيام الساعة، اقتضت سنّة الله في الأمم والحضارات بصفة عامة أن تقوم ثم تسقط وتزدهر ثم تندثر، فمن سنن الله أن كانت هناك قوانين اجتماعية وإنسانية عامة تتصل مباشرة بضبط مسيرة الحياة الإنسانية ومسيرة الأمم والشعوب، فإذا ما التزمت الأمم والحضارات بهذه القواعد دامت وكانت في خير وسعادة، وإذا حادت عنها لقيت من السقوط والاندثار ما هي أهل له، قال تعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] {آل عمران:140}.
وليست الأمة الإسلامية بمنأى عن هذه السنن الكونية، فمنذ نزول الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية تأخذ بأسباب القيام فتقوم، ثم تحيد عنها فيحدث الضعف ثم سقوط.
وأسباب قيام الدولة الإسلامية كثيرة على نحو ما ذكرنا فيما مضى، والتي كان من أهمّها:
أولًا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى والاعتقاد الجازم بنصرته وقدرته.
ثانيًا: الأُخوة، والوحدة، والتجمّع ونبذ الفرقة.
ثالثًا: العدل بين الحاكم والمحكوم.
رابعًا: العلم، ونشر الدين بين الشعوب.
خامسًا: إعداد العدة، والأخذ بالأسباب [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ] {الأنفال:60}.
فإذا أخذ المسلمون بهذه الأسباب فإنهم سرعان ما يقومون، وغالب الأمر يكون القيام بطيئًا ومتدرجًا، وفيه كثير من الصبر والتضحية والثبات، ثم بعد ذلك يكون القيام باهرًا، ثم يحدث انتشار للدولة الإسلامية بصورة ملموسة، حتى تفتح الدنيا على المسلمين، وهنا يصبر القليل على الدنيا وزينتها ويقع الكثيرون في الفتنة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ.
ومن جديد يحدث الضعف فالسقوط، وعلى قدر الفتنة بالمادة والمدنية يكون الارتفاع والانحدار، والسقوط والانهيار.
وأمر الفتنة هذه هو الذي فقهه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في سنة 17 هـ= 735 م حين أمر بوقف الفتوحات في بلاد فارس، في عمل لم يتكرر في تاريخ المسلمين إلا لدى قليل ممن هم على شاكلته، وذلك حين فتحت الدنيا على المسلمين وكثرت الغنائم في أيديهم.
خاف عمر - رضي الله عنه - أن تتملك الدنيا من قلوب المسلمين، وخشي أن يُفتَنوا بالدنيا ويخسروا الآخرة فيخسروا دولتهم، وكان همه أن يُدخل شعبه الجنة لا أن يُدخله بلاد فارس، فإذا كان دخول فارس على حساب دخول الجنة: فلتقف الفتوح، ووددت لو أن بيني وبين فارس جبل من نار، لا أقربهم ولا يقربوني. ولم يعد رضي الله عنه إلى مواصلة الفتوح إلا بعد أن هجم الفرس على المسلمين وخاف على المسلمين الهزيمة والضياع.
والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائمًا في قيام، فإذا سقطت أتبع السقوط قيام،أما ألا يُتبَع السقوطُ قيامٌ فهذا ليس من سنن الله مع المسلمين، ولا يحدث إلا مع أمم الأرض الأخرى غير الإسلامية، تلك الأمم التي يغلب عليها سقوط واندثار لا يتبعه رجعة، حتى وإن طال أجل القيام والازدهار، ومن أصدق الأمثلة على ذلك حضارة الفراعنة، واليونان، وامبراطوريتي فارس والروم، وامبراطورية إنجلترا التي لا تغرب عنها الشمس...وهذه السُّنة الكونية يمثلها قوله تعالى: [كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {المجادلة:21}. [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55}. ومما يُثبت سنة الله هذه في الدولة الإسلامية ذلك الحديث الذي رواه أبو داود في سننه وصححه الحاكم ورواه في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا. فمعنى هذا أنه سيحدث سقوط، ومن بعد السقوط ارتفاع وعلو، وهذا الارتفاع سيكون على يد مجدد أو مجموعة مجددين، وهكذا إلى قيام الساعة.
والتاريخ الإسلامي مليء بمثل هذه الفترات، ففيه الكثير من أحداث الارتفاع والهبوط ثم الارتفاع والهبوط، ولم يكن هذا خاصًّا بتاريخ الأندلس فقط؛ بل إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدوا ذلك بأعينهم، فبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً حدث سقوط ذريع وانهيار مروّع، وردّة في كل أطراف جزيرة العرب التي لم يبق منها على الإسلام سوى مكة والمدينة وقرية صغيرة تسمى هَجَر (هي الآن في البحرين).
وبعد هذا السقوط يحدث قيام عظيم وفتوحات وانتصارات، كان قد جدّد أمرها وغرس بذرتها أبو بكر رضي الله عنه بعد أن أجهض على الردّة، ثم فتحت الدنيا على المسلمين في عهد سيدنا عثمان - رضي الله عنه - فحدثت الفتنة والانكسارات في الأمة الإسلامية، مما أدّى إلى مقتله - رضي الله عنه - وهو الخليفة الراشد وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلّت طيلة خلافة سيدنا علي رضي الله عنه.
ومن جديد يستتبّ الأمر وتقوم الدولة الأموية وتستكمل الفتوح، ثم فترة من الزمان ويحدث سقوط آخر حين يفسد أمر بني أمية، وعلى أَثَره يقوم بني العباس فيعيدون من جديد المجد والعزّ للإسلام، وكالعادة يحدث الضعف ثم السقوط، وعلى هذا الأمر كانت كل الدول الإسلامية الأخرى التي جاءت من بعدها، مرورًا بالدولة الأيوبية وانتهاءً بالخلافة العثمانية الراشدة التي فتحت كل شرق أوروبا، وكانت أكبر قوة في زمنها.
فهي إذن سنة من سنن الله تعالى ولا يجب أن تفُتّ في عضد المسلمين، ولا بدّ للمسلمين من قيام بعد سقوط كما كان لهم سقوط بعد قيام، وكما ذكرنا سابقًا فإنه ليس بين الله سبحانه وتعالى وبين أحد من البشر نسبًا، يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
فإن ضل المسلمون الطريق وخالفوا نهج نبيهم؛ فستكون الهزيمة لا محالة، وسيكون الانهيار المرّوع الذي شاهدناه في الأندلس، والذي نشهده في كل عهود المسلمين.
سقوط الخلافة الأموية وانتهاء الدولة العامرية
كأن مقتل عبد الرحمن بن المنصور واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قتل عبد الرحمن بن المنصور العامري انفرط العقد تمامًا في البلاد، وبدأت الثورات تكثر والمكائد تتوالى، وبدأت البلاد تُقسّم.
كان رأي بعض الباحثين أن سبب سقوط الدولة العامرية ومن ثَمّ سقوط الخلافة الأموية هو تولّي عبد الرحمن بن المنصور الحكم، ذلك الفاسق الماجن الذي أسقط بني أميّة وأحدَث هذه الاضطرابات الكثيرة في البلاد.
وحقيقة الأمر أنه ليس من سنن الله سبحانه وتعالى أن تهلك الأمم لمجرد ولاية رجل فاسق لشهور معدودات، فلم يمكث عبد الرحمن بن المنصور في الحكم إلا أقلّ من عام واحد، ومهما بلغ أمره من الفحش والمجون فلا يمكن بحال أن يؤدي إلى مثل هذا الفشل الذريع والسقوط المدوي للبلاد، فلا بدّ إذن أن يكون هناك أسباب وجذور أخرى كانت قد نمت من قبل وتزايدت مع مرور الزمن حتى وصلت أوجّها في فترة عبد الرحمن بن المنصور؛ ومن ثَمّ كان هذا التفتت وذلك الانهيار.
وكما رأينا سابقًا في تحليلنا لأسباب ضعف الإمارة الأموية وكيف كان لهذا الضعف أسباب وجذور تمتدّ إلى عهد قوة الإمارة الأموية ذاتها، فإن هناك ثلاثة أسباب رئيسية لسقوط الدولة الأموية ومن ثَمّ الدولة العامرية نذكرها فيما يلي:
السبب الأول:
يرجع إلى زمن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ذاته، ذلك الرجل الفذ الذي اتّسم عصره بالبذخ والترف الشديد، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا، ومن ثَمّ انشغال الناس بتوافه الأمور، وكانت الدنيا هي المهلكة، وليس أدلّ على ذلك من قصر الزهراء الذي أنشأه عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر وكان آية في الروعة والجمال وأعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت؛ فقد كان على اتساعه وكبر حجمه مبطنًا من الداخل بالذهب، بل كان سقفه أيضا مبطنًا بخليط من الذهب والفضة، بأشكال تخطف الأبصار وتبهر العقول، ومع أن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر لم يكن مُقَصّرًا في الإنفاق في أي ناحية من النواحي مثل الإنفاق على التعليم أو الجيش أو غيره، إلا أن فعله هذا يعد نوعًا من البذخ والترف المبالغ فيه، أدّى في النهاية إلى أن تتعلق القلوب بالدنيا وزخرفها.
ومما جاء في ذلك أن القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله دخل على عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في قصره وكان على هذا الوصف السابق، فقال له عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر: ما تقول في هذا يا منذر (يريد الافتخار)؟ فأجابه المنذر ودموعه تقطر على لحيته قائلا: ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ على ما آتاك الله من النعمة وفضلك على كثير من عباده تفضيلًا حتى ينزلك منازل الكافرين.
فقال عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر: انظر ما تقول، كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟! فردّ عليه المنذر: أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم:
[وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ] {الزُّخرف:33}.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى السُّقُف التي من فضة في هذه الآية على سبيل التعجيز، يعني لولا أن يكفر الناس جميعًا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله عز وجل، لكنّا لم نجعله، إلا أن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر فعله وجعل لقصره سقفًا من فضة.
وهنا وجم عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر بعدما سقطت عليه تلك الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه رحمه الله تنساب على وجهه، وقام على الفور ونقض ذلك السقف وأزال ما به من الذهب والفضة، وبناه كما كانت تبنى السُّقُف في ذلك الزمن، إلا أنه ولكثرة الأموال ومع مرور الوقت، كان مظهر الترف يعود ويبرز من جديد حتى أصبح الإنفاق في لا شيء، وقد قال الله سبحانه وتعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}.
السبب الثاني:
توسيد الأمر لغير أهله:
إضافة إلى الترف والإسراف فقد كان توسيد الأمر لغير أهله من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة العامرية والخلافة الأموية، ولقد تجسد هذا العامل واضحًا جليًا حين ولّى الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ابنه أمور الحكم في البلاد وهو ما زال طفلًا لم يتجاوز الثانية عشرة سنة بعد، فتحكم فيه الأوصياء وحدثت المكائد والمؤامرات، رغم ما كان من حياة الحَكَم الحافلة بالجهاد ونشر العلم والدين في البلاد.
وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك حين أجاب السائلَ عن أمارات الساعة بقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أماراتها: أَنْ تُضَيَّعَ الْأَمَانَةُ، فقال السائل: وكيف إضاعتها فقال صلى الله عليه وسلم: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.
وهكذا إذا تولّى من لا يستحق منصب من المناصب، فلا بد وأن تحدث الهزة في البلاد ويحدث الانهيار، فما البال وما الخطب إذا كان هذا المنصب هو منصب الخليفة أعلى مناصب الدولة؟ فقد ضيعت الأمانة ووسد الأمر لغير أهله، فكان لا بدّ أن تقع الأندلس والخلافة الأموية والدولة العامرية.
السبب الثالث:
انتفاء روح الجهاد الحقيقية ليصبح مجردًا للمادة وجمع الغنائم
كان أيضا من أهم أسباب سقوط الدولة العامرية الملحقة بالخلافة الأموية أن الدولة العامرية اعتمدت في جهادها على الناحية المادية من جند وعدد وعدة ومال ومعمار، ولم تصرف نواياها إلى رب العالمين سبحانه وتعالى ولم يجددوا تربية الشعب على الجهاد في سبيل الله طلبًا للجنة أو الموت في سبيل الله، فافتقد الشعب روح الجهاد الحقيقي ومعناه، وأصبح جلّ همّه جمع المال وعَدّ الغنائم.
المهدي وبداية الفتنة وعهد ملوك الطوائف
من قريب كنا نتحدث عن الجهاد والفتوحات وعصر القوة والنفوذ، وها هو التاريخ يدير لنا ظهره ويبدأ دورة جديدة من دوراته في الأندلس، اتُّفق على تسميتها بعهد ملوك الطوائف، فكان من سنن الله عز وجل في كونه ألا تقوم أمة إلا ويكون لها سقوط كما كان لها قيام، يطول عهدها أو يقصر بحسب قربها أو بعدها من منهج من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
بعد خلع هشام بن عبد الملك بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر وولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر الذي تلقب بالمهدي انفرط العقد تمامًا في الأندلس، فلم يكن يملك المهدي من لقبه إلا رسمه، فكان فتى لا يحسن قيادة الأمور وليس له من فن الإدارة شيء، فكان من أول أعماله في الحكم ما يلي:
أولًا: ألقى القبض على كثير من العامريين ثم قتلهم، وثانيًا: بدأ ينتقم من البربر الذين كانوا العون الرئيس لمحمد بن أبي عامر (الرجل الأول في الدولة العامرية) ولمن خلفه في الحكم من أولاده، فبدأ يقتّل أيضًا فيهم ويقيم عليهم الأحكام حبسًا وتشريدًا.
أثار هذا الفعل غير الحصيف من قبل المهدي غضبًا عارمًا لدى البربر والعامريين، بل وعند الأمويين أنفسهم الذين لم يعجبهم هذا القتل وذاك التشريد، وهذه الرعونة في التصرف، فبدأ يحدث سخط كبير من جميع الطوائف على المهدي.
لم يكن ليقف الأمر عند هذا الحد، فقد تجمع البربر وانطلقوا إلى الشمال وهناك أتوا بسليمان بن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وهو أخو هشام بن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر الخليفة المخلوع منذ شهور قليلة، فنصّبوه عليهم ولقبوه بخليفة المؤمنين، وبدأ يحدث صراع بين سليمان بن الحكم هذا ومن ورائه البربر وبين المهدي في قرطبة.
بين المهدي وسليمان بن الحكم وحدث غريب
وجد سليمان بن الحكم ومن معه من البربر أن قوتهم ضعيفة ولن تقوى على مجابهة قوات المهدي، فقاموا بعمل لم يُعهد من قبل في بلاد الأندلس، فاستعانوا بملك قشتالة.
كانت مملكة قشتالة هذه هي أحد جزئي مملكة ليون في الشمال الغربي بعد أن كان قد نشب فيها (مملكة ليون) حرب داخلية وانقسمت على نفسها في سنة 359 هـ= 970 م إلى قسمين، فكان منها قسم غربي وهو مملكة ليون نفسها، وقسم شرقي وهي مملكة قشتالة، وكلمة قشتالة تحريف لكلمة كاستولّة، وتعني أيضًا قلعة باللغة الأسبانية، فحرفت في العربية إلى قشتالة، وكانت قد بدأت تكبر نسبيًا في أول عهد ملوك الطوائف فاستعان بها سليمان بن الحكم والبربر على حرب المهدي.
وبين المهدي من ناحية وسليمان بن الحكم والبربر وملك قشتالة من ناحية أخرى دارت موقعة كبيرة، هُزم فيها المهدي أو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وتولى سليمان بن الحكم مقاليد الحكم في بلاد الأندلس، وبالطبع كانت فرصة من السماء لملك قشتالة لضرب الأندلسيين بعضهم ببعض ووضع قاعدة لجيشه وجنده في أرض الأندلس، تلك البلاد التي لطالما دفعت الجزية كثيرًا للمسلمين من قبل.
وفي فترة مدتها اثنتان وعشرون سنة يتولى حكم المسلمين في الأندلس ثلاثة عشر خليفة متتاليين، بدأت هذه الفترة بهشام بن الحكم في سنة 359 هـ= 970 م، ثم المهدي، ثم سليمان بن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر الذي تولى الحكم ولقب نفسه بالمستعين بالله (وكان قد استعان بملك قشتالة) وذلك في سنة 400 هـ= 1010 م.
بين المهدي وسليمان بن الحكم وحدث أغرب
وتدور الأحداث بعد ذلك، حيث يفرّ المهدي الذي انهزم أمام سليمان بن الحكم أو المستعين بالله إلى الشمال حيث طرطوشة، وفي طرطوشة وحتى يرجع إلى الحُكم الذي انتزعه منه سليمان بن الحكم والذي لم يبق فيه غير شهور قليلية فكّر المهدي في أن يتعاون مع أحد أولاد بني عامر، ذلكم الذين كان منذ قليل يذبّح فيهم جميعًا.
كان المهدي قد قابل في طرطوشة رجلًا من قبيلة بني عامر يدعى الفتى واضح، والذي أقنع المهدي بأنه سيتعاون معه ليعيده إلى الملك من جديد ويبقى هو على الوزارة كما كان عهد الدولة العامرية من قبل، الأمر الذي وافق قبولًا لدى المهدي، فقبل عرض الفتى واضح وبدأ يتعاونان سويًا لتنفيذ مخططهما هذا.
في بداية الأمر وجد الفتى واضح والمهدي أنهما لن يستطيعا أن يصمدا أمام قوة كبيرة مثل التي يملكها سليمان بن الحكم والبربر ومعهما ملك قشتالة، فهداهما تفكيرهما في الاستعانه بأمير برشلونة، وبرشلونة هذه كانت ضمن مملكة أراجون التي تقع في الشمال الشرقي للأندلس، والتي كان يدفع حاكمها الجزية لعَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ولابنه وأيضا للحاجب المنصور، فلما حدثت هذه الهزة في بلاد المسلمين انخلعت من هذه العباءة، وقامت من جديد، فكان أن استعان بجيشها المهدي والفتى واضح في حرب سليمان وملك قشتالة.
وافق أمير برشلونة على أن يساعدهم لكن على شروط هي:
أولا: مائة دينار ذهبية له عن كل يوم في القتال.
ثانيا: دينار ذهبي لكل جندي عن كل يوم في القتال، وقد تطوع الكثير لحرب المسلمين، فكان عدد الجيش كبيرًا.
ثالثا: أخذ كل الغنائم من السلاح إن انتصر جيش برشلونة مع المهدي والفتى واضح.
رابعا: أخذ مدينة سالم، وكانت مدينة سالم قد حررها قديما عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في عهد الخلافة الأمويّة، وهي بلا شك شروط قبيحة ومخزية، ولا ندري كيف يوافق مسلم على مثلها؟!
لكن الذي حدث هو أنهم وافقوا على هذه الشروط، وبدأت بالفعل موقعة كبيرة جدًا في شمال قرطبة بين المهدي (محمد بن هشام بن عبد الجبار) ومعه الفتى واضح العامري ومعهم أمير برشلونة من جهة، وسليمان بن الحكم الخليفة الملقب بالمستعين بالله ومعه البربر من جهة أخرى، انتصر فيها المهدي ومن معه، وانهزم سليمان بن الحكم وفرّ ومن بقي معه من البربر، وسلمت مدينة سالم لأمير برشلونة، ومثلها الغنائم، وتولى المهدي الحكم من جديد في قرطبة.
الفتى واضح وعودة هشام بن الحكم الخليفة المخلوع
ولأنه زمن فتنة، فما فتئ المهدي يصل إلى الحكم في قرطبة حتى انقلب عليه الفتى واضح ثم قتله، وبدأ هو في تولى الأمور.
كان الفتى واضح أذكى من عبد الرحمن بن المنصور، هذا الذي طلب ولاية العهد من هشام بن الحكم قبل ذلك، فقد رفض أن يكون هو الخليفة؛ حيث اعتاد الناس أن يكون الخليفة أموي وليس عامري، ومن ثم فإذا فعل ذلك فسيضمن ألا تحدث انقلابات عليه، وأيضا يكون محل قبول لدى جميع الطوائف.
ومن هنا فقد رأى الفتى واضح أن يُنصّب خليفة أموي ويحكم هو من ورائه، وبالفعل وجد أن أفضل من يقوم بهذا الدور ويكون أفضل صورة لخليفة أموي هو هشام بن الحكم الخليفة المخلوع من قبل، هذا الذي ظل ألعوبة طيلة ثلاث وثلاثين سنة في يد محمد بن أبي عامر ثم في يد عبد الملك بن المنصور، ثم في يد عبد الرحمن بن المنصور على التوالي.
ذهب الفتى واضح إلى هشام بن الحكم وعرض عليه أمر الخلافة من جديد، وأنه سيكون رجله الأول في هذه البلاد، وعلى الفور وافق هشام بن الحكم الذي كان ملقبًا بالمؤيد بالله، وعاد من جديد إلى الحكم، لكن زمام الأمور كانت في يد الفتى واضح.
سليمان بن الحكم وأعمال يتأفف من ذكرها التاريخ
كان سليمان بن الحكم لم يُقتل بعد وما زال في البلاد يدبر المكائد؛ يريد أن يعود إلى الحكم من جديد، لم يجد أمامه إلا أن يعود مرة أخرى إلى ملك قشتالة (المرة الأولى كان قد ساعده على هزيمة المهدي والوصول إلى الحكم) ويعرض عليه من جديد أن يكون معه ضد الفتى واضح وهشام بن الحكم حتى يصل إلى الحكم.
ولأن ملك قشتالة ذلك الخبيث كان يطمع فيما هو أكثر مما عند سليمان بن الحكم، فقد رد عليه بأن يمهله عدة أيام حتى يعطيه الجواب، وخلال هذه الأيام كان قد ذهب ملك قشتالة إلى هشام بن الحكم (الحاكم في ذلك الوقت) وأخبره بما كان من أمر سليمان بن الحكم منتظرا الجواب والمقابل في عدم مساعدته له (لسليمان) في حربه إياه، وهنا كان العجب العجاب، فما كان من هشام بن الحكم إلا أن خيّر ملك قشتالة بين عدة أمور، كان من بينها: إعطائه كل الحصون الشمالية التي كانت للمسلمين في بلاد الأندلس، ذلك الخيار الذي قبله ملك قشتالة؛ فتوسعت قشتالة جدا حتى أصبحت حدودها أكبر من حدود مملكة ليون، بالرغم من أنها كانت جزءا صغيرا منفصلا عن مملكة ليون، وعظمت بذلك البلاد النصرانية في الشمال.
وإنها لكارثة كبيرة قد حلت بديار الإسلام، فقد حدثت كل هذه الأحداث من القتل والمكائد والصراعات والاستعانة بالنصارى ثم دخولهم بلاد المسلمين، كل ذلك في ثلاث سنوات فقط.
وفي سنة 403 هـ= 1012 م حيث هشام بن الحَكم على الحُكم، قام سليمان بن الحكم ومن معه من البربر بعمل لم يحدث في تاريخ المسلمين من قبل وحتى هذه اللحظة، فقد هجموا على قرطبة وعاثوا فيها، فسادا، وقتلا، واغتصابا للنساء، ثم من جديد يتولى سليمان بن الحكم (المستعين بالله) الحكم في بلاد الأندلس، وطرد هشام بن الحكم من البلاد، ثم قتل بعد ذلك، وكان مقر الحكم آنذاك هو قرطبة، لكن البلاد كانت مفككة تماما، وقد فر العامريون إلى شرق الأندلس في منطقة بلنسية وما حولها.
المفاجأة الكبيرة والمثيرة حقا أن كل هذه الأحداث السابقة والمليئة بالمكائد والمؤامرات، والتي حملت الأسى والألم لكل المسلمين، كانت بين أخوين لأب واحد هو القائد المظفر الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وكان خطأه والذي يدركه الجميع الآن هو أنه وسد الأمر لغير أهله، واستخلف على الحُكم من لا يملك مؤهلات الحُكم، وهو هشام بن الحَكم.
البربر والانقلاب على سليمان بن الحكم وتأجج الصراعات
من سنة 403 هـ= 1012 م ظل سليمان بن الحكم يتولى الحكم، وكان غالبية جيشه من البربر، وفي سنة 407 هـ= 1016 م وبعد مرور أربع سنوات على حكمه، وفي هذا الزمن المثخن بالصراعات والفتن فكر البربر: لماذا لا نتملك نحن الأمور؟
وعلى الفور أسرعوا وكونوا قوة أساسية كبيرة، واستعانوا بالبربر من بلاد المغرب، ثم هجموا على سليمان بن الحكم وأخرجوه من الحكم، بل وقتلوه، وتولى الحكم في بلاد الأندلس علي بن حمود الذي كان من البربر، وتسمى بالناصر بالله.
استقر الأمر لعلي بن حمود في قرطبة وقام بتعيين أخاه القاسم بن حمود على إشبيلية في سنة 407 هـ= 1016 م، وأصبح البربر هم الخلفاء الذين يتملكون الأمور في قرطبة وما حولها.
لم يرض العامريون الذين فروا إلى شرق الأندلس بهذا الوضع، فما كان منهم إلا أن بحثوا عن أموي آخر وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، أحد أحفاد عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، ثم بايعوه على الخلافة، وقد تلقب بالمرتضي بالله.
جاء العامريون ومعهم المرتضي بالله إلى قرطبة لحرب علي بن حمود البربري، وبالفعل دارت حرب كبيرة بين العامريين وخليفتهم المرتضي بالله، والبربر وعلى رأسهم علي بن حمود، كان من أعجب ما نتج عن هذه الموقعة أن قُتل الخليفتان علي بن حمود والمرتضي بالله، لكن البربر تمكنوا من الانتصار في نهاية المعركة، وتولى حكم الأندلس منهم القاسم بن حمود الذي كان حاكما لإشبيلية من قِبَل أخيه الذي قُتل.
أحضر العامريون أمويًا آخر، وقامت بعد ذلك صراعات كثيرة، واستمرّ الوضع على هذا الحال حتى سنة 422 هـ= 1031م.
انتهاء عهد الخلفاء والأمراء وتولّي مجلس شورى للحكم
في محاولة لحل هذه الأزمة التي تمرّ بها البلاد، وفي محاولة لوقف هذه الموجة من الصراعات العارمة، اجتمع العلماء وعلية القوم من أهل الأندلس، وذلك في سنة 422 هـ= 1031م، ووجدوا أنه لم يعد هناك من بني أمية من يصلح لإدارة الأمور؛ فلم يعد من يأتي منهم على شاكلة من سبقوهم، فاتفقوا على عزل بني أمية تمامًا عن الحكم، وإقامة مجلس شورى لإدارة البلاد.
وبالفعل كونوا مجلس شورى في هذه السنة، وولوا عليه أبا الحزم بن جهور لإدارة البلاد، وكان أبو الحزم هذا من علماء القوم، كما كان يشتهر بالتقوى والورع ورجاحة العقل، وظل الحال على هذا الوضع ما يقرب من ثلاث سنوات.
لكن حقيقة الأمر أن أبا الحزم بن جهور لم يكن يسيطر هو ومجلس الشورى الذي معه إلا على قرطبة فقط من بلاد الأندلس، أما بقية البلاد والأقاليم الأخرى فقد ضاعت السيطرة عليها تماما، وبدأت الأندلس بالفعل تُقسّم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة ليبدأ ما يسمى بعهد دويلات الطوائف، أو عهد ملوك الطوائف.
وقد ذكرنا سابقا أن مساحة الأندلس كانت ستمائة ألف كيلو متر مربع، فإذا طرحنا منها ما أخذه النصارى في الشمال؛ فإن النتيجة هي أربعمائة وخمسون ألف كيلو متر مربع (أقل من نصف مساحة مصر) مقسمة إلى اثنتين وعشرين دولة، كل منها بكل مقومات الدولة المتكاملة من رئيس، وجيش، ووزارات، وعملة، وسفراء، فتفتت المسلمون في الأندلس تفتتا لم يُعهد من قبل في تاريخهم، وفقدوا بذلك عنصرا مهما جدا من عناصر قوتهم وهو الوحدة، فكان الهبوط على أشد ما يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المرحلة التي يعيشها المسلمون الآن وتصنيفها
قد يتساءل المرءُ: ما هو تصنيفنا كمسلمين في هذا العصر وفقًا للمراحل السابقة ما بين الارتفاع والهبوط أو القيام والسقوط؟
وواقع الأمر وكما هو واضح للعيان أن الأمة الإسلامية تمرّ الآن بمرحلة من مراحل السقوط، سقوط كبير وضعف شديد وفرقة للمسلمين، سقوط مباشر لسقوط الخلافة العثمانية في عشرينات القرن الماضي، وهو أمر طبيعي ودورة طبيعية من دورات التاريخ الإسلامي، وسنّة من سنن الله تعالى كما رأينا.
إلا أن مرحلة السقوط الأخيرة هذه قد شابها أمران لم تعهدهما الدولة الإسلامية ولم يتكررا من قبل في مراحل سقوطها المختلفة...
الأمر الأول
هو: غياب الخلافة، إذ حدث ولأول مرة في التاريخ أن يصبح المسلمون بلا دولة واحدة تجمعهم، فرغم ما كان وما يكون من السقوط والانهيار على مدى فترات الضعف التي مرت بها الأمة الإسلامية، إلا أنه لم تكن لتغيب صورة الخلافة عن الأذهان بحالٍ من الأحوال، منذ الدولة الأموية في القرن الأول الهجري وحتى سقوط الخلافة العثمانية في القرن الرابع عشر الهجري؛ حيث كان الإسلام سياسيًا (دين ودولة) طيلة أربعة عشر قرنًا من الزمان.
الأمر الثاني وهو: غياب الشرع الإسلامي، فلم يكن أيضًا في أي من عصور السقوط السابقة للدول الإسلامية، مع ما يصل المسلمون إليه من تدنٍ وانحدار لم يكن أبدا يُلغى الشرع أو يغيب، نعم قد يُتجاوز أحيانًا في تطبيق بعض أجزائه، لكن لم يظهر على الإطلاق دعوة تنادي بتنحية الشرع جانبًا، وتطبيق غيره من قوانين البشر مما هو أنسب وأكثر مرونة على حسب رؤيتهم.
وإن مثل هذين العاملين ليجعلان من مهمة الإصلاح والتغيير أمرًا من الصعوبة بمكان، ورغم ذلك فإنه وكما وضحنا ليس بمستحيل؛ لأن المستحيل هنا هو التعارض مع سنن الله سبحانه وتعالى التي تقول بأن دولة الإسلام في قيام حتى قيام الساعة.
وهناك من المبشّرات نحو قيام الدولة الإسلامية الآن الكثير والكثير، فمنذ سقوط الخلافة العثمانية سنة 1342 هـ= 1924 م كان قد حدث انحدار كبير - ولا شك - في معظم أقطار العالم الإسلامي إن لم يكن كله (بعد سقوط الخلافة العثمانية أُقيمت الدول العربية عدا السعودية على أساس علماني شبيه بالدول الغربية)، وظلّ هذا الوضع حتى أوائل السبعينيات، ثم كانت الصحوة في كل أطراف الأمّة الإسلامية في منتصف السبعينيات وإلى يومنا هذا.
ونظرة واحدة إلى أعداد المصلين في المساجد خاصة الشباب، وإلى أعداد المحجبات في الشوارع في كل أطراف العالم الإسلامي، وانتشار المراكز الإسلامية في كل بلاد أوروبا وفي أمريكا، والصحوة الجهادية في البلاد المحتلة مثل فلسطين والعراق والشيشان وغيرها، وحال الإسلام في جمهوريات روسيا السابقة بعد احتلال نصراني وشيوعي دام لأكثر من ثلاثمائة عام نظرة واحدة إلى مثل هذه الأمور وغيرها يبشر بالقيام من جديد.
وهو ولا شك قيام ينحو الخطى البطيئة المتدرجة لكنه لا ينفي العلو والانتشار المرجو منه، وهذه سنة أخرى من سنن الله عز وجل فلا يجب أن يُستعجل التمكين، ولنا فيما مضى من تاريخ الأندلس، وفي التاريخ الإسلامي بصفة عامة، ومنذ أن أسّس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من عشر سنين الدولة الإسلامية التي ناطحت أكبر قوتين في زمنهما، وكان قد أوذي وطرد وهو وأصحابه من بلدهم، منذ ذلك التاريخ وحتى سقوط الخلافة العثمانية لنا خير دليل ومعين. [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا] {فاطر:43}.
<
المصــــــــــــــــــــــــــــــــدر
http://www.islamstory.com/%D8%B9%D9%...AA%D9%86%D8%A9